تأملات وخواطر من مدينة أطار عاصمة ولاية آدرار شمال موريتانيا بقلم أخوكم سيدي ول أخليل
الرحلة الأولى
كانت رحلتي الأولى صغيرا في أواخر الثمانينات رفقة أخي محمد وأختي مريم مع الأب وصديق له تغمد الله صديقه ذلك بالرحمة والغفران.
سافرنا مساء أو ليلا في سيارة تويتا هلوكس للوالد، وبتنا في وسط الطريق، لا أعرف أين بالضبط وإن كنت أرجح أنه بعد مدينة أكجوجت التي تقع في منتصف الطريق على بعد 250 كلم من العاصمة نواكشوط طالع خاطرتي الرحلة العجيبة التي وصفت فيها الطريق بين نواكشوط وأطار وما يتضمنه من قرى وأماكن بعنوان “رحلة من الخيال إلى مدينة أطار” هنا.
المهم، بتنا في ذلك المكان الجميل الموجود على الطريق حول بعض الجبال، والجبال لا تظهر إلا عند الإقتراب من أكجوجت أي دخول ولاية اينشيري التي هي عاصمتها، يعني بعد 200 كلم من نواكشوط يظهر أول جبل، لتبدأ أرض الصخور الموصلة إلى أطار.
والذي علق بذاكرتي حتى الآن هو ذلك الصباح المبلج في ذلك المكان حيث صلينا الفجر في ذلك الإنبلاج وأمامنا تجلى جبل جميل في ذلك الوقت المميز لا زلت أذكره رغم الصغر. ما أجمل الخلاء والأفق الممتد والصحراء والجبال.
وبعد الوصول لأطار لا أذكر أين سكنا ربما في منزل للوالد أو في فندق (سكن)، لكني أذكر أننا زرنا أهلنا أهل أخليل، كانت لدي سبع عمات في سن متقدمة يعني لكل منهن أبناء لهم أسر وأحفاد، وكذلك أعمام، زرناهم جميعا، وزرنا مكتبتنا فجدنا سيد ولد محمد ولد اخليل كان عالم وإمام لمسجد أطار، زرت قبره في 2025، وبجانبه قبر أحمدو المتوفى 2011، أحد الأعمام!
تخيل أن تواكشوط وهزلته فصلتنا عن أهلنا، فيا للعار، وبعضهم أصبح في ولايات أخرى دون نعلم حتى، ولم أستطع زيارتهم والبحث عنهم في زيارتي 2025 نتيجة بعد المكان الذي سكنت من العاصمة والحرارة وعدم وجود من يدلنا عليهم!
صلة الرحم مهمة، لكن تصرف المشاغل عنها أحيانا، ويجرفنا سيل الحضارة الغربية البائسة بعيدا عن فعل الصواب حتى كدنا نتحول إلى أوروبيين بألوان داكنة شيئا ما!
وزرت زَرايِبَهُم – جمع زريبة أي واحة نخيل، أي واحات نخيلهم – وكانت في المدينة في الواحات الواقع غربها خلف الرًّبْط – وهو السد، أما الأقرباء الذين زرتهم في 2025 وهم بنو عم لنا أهل حامدينو وأهل انتهاه فكنت في تويزكت التي فيها زرايب أهل انتهاه، وأعتقد كذلك أهل حامدينو لم أتحقق، وزرايب آخرين على بعد 13 كيلومتر من المدينة.
كانت هذه رحلتي الأولى صغيرا علق بذهني منها ذلك الصبح الجميل وجبله الشاهق الذي حبب الجبال إلى قلبي، وكذلك دور الأعمام والعمات ونخيلهم الواقع خلف الربط!
الرحلة الثانية
كانت في سيارتي المرسيدس 200D وكانت المرسيدس أيامها سيارة الشباب (2003) فضلتها على التويوتا، ثم أصبحت الآن تاكسي لا تصلح لمن لا يستخدمها في ذلك! وهكذا تتغير أحوال هذه الدنيا!
سافرنا فيها بقيادتي أنا ومحمد وبلال والتقينا في اطار بمينو وقطب وغيرهم، كنا شبابا فأحتجزنا غرفة مكيفة فيها حمام في سكن جميل يقع في مدخل المدينة أراني إياه مينو في 2025 في مكان ربما يكون أغْسَيْسِيلَة – في مدخل المدينة غير بعيد من ملتقى الطرق المشرف على السوق.
وهذا المدخل فيه كَنوالْ وأَتْوَيْرْسات وتِينِيرِي وارْقيْبَة إلخ، ويقع عند دخول المدينة قبل الوصول للملتقى حيث السوق، وما وراء السوق شمالا وحوله يسارا أقرب للأحياء الشعبية اي الأحياء الأقدم وهي جميلة وبسيطة نوافذ غرفها شبه ملامسة للأرض، وبعضها من الطين لا يسخن في الحرارة ولا يبرد.
والمدخل مكان رحب متسع يصلح كسكن لمن لا يعرف المدينة، وفيه بعض دور الأغنياء كما قال لي أحدهم، أي ربما مثل تفرغ زين التي عندنا في نواكشوط، وفيه المطار.
كانت هذه الرحلة رحلة شباب جميلة دونتها حينها في مذكرة عندي في أكثر من 50 صفحة، وضمنتها بعض المغامرات الشبابية التي علقت بالذاكرة، لا أدري هل من المناسب ذكرها أم الأفضل ترك ذلك؟! أجيبوني في التعليقات.
وإن ذكرت بعضها فالرجاء التجاوز عن ذلك باعتباره نوع من القصص للعبرة فقط، وسأحاول النصح بما ينفع في ذلك قدر الإمكان.
لكن لن أنقل هذه الرحلة إلا بعد أن أرى رغبتكم في ذلك من خلال التعليقات، فاكتب لنا رايك بذلك.
الرحلة الثالثة
في سبتمبر 2025، سافرت مرتين الأولى مع محمد في سيارته لمدة أسبوع في مهمة له، فسكنا في وادي تيارت على بعد 5 كيلومترات من العاصمة في مدخله أو بدايته، ويسمى أَزُوكِي (الكاف معقودة كالجيم المصرية) في فندق أو سكن وادي إيِلِيجْ، وكان سكنا رائعا في أول بنائه جديدا، اعطونا غرفة متسعة بسريرين تتضمن حماما نظيفا ومكيفا، فامضينا فيه 5 أيام ثم عدنا إلى نواكشوط.
ثم بعدها دعاني مينو إلى إمضاء ايام معه في تويزكت على بعد 13 كلم من أطار شمالا، فذهبنا في سيارة محمد الكورولا لأنه ترك سيارته هنالك، لم أفهم ما الحكمة من تركهم لسياراتهم هنالك وأخذ الباص؟! أليس الأفضل أن يذهبوا بأنفسهم في سياراتهم؟ ما المربوح من ذلك غير توفير البنزين الذي تكفي منه 13 ألف أوقية لسيارة الديزل أي ضعف تذكرة الباص تقريبا! ربما لهم حكمة في ذلك لم أفهمها لأني رأيت أكثر من واحد منهم يفعل ذلك، أي يترك سيارته في أطار ويأخذ الباص إلى نواكشوط ليقضي مهامه ثم يرجع فيه!
مختصر الرحلة:
ذهبت مع محمد إلى تيارت وأقمنا 5 أيام في سكن “وادي إيليج” (فندق)، وكان حديث البنيان نظيفا، وضعوا لنا سريرين في الغرفة، وكانت مكيفة وبها حمام جيد، وب 15 ألف أوقية لليوم، والفطور ب 2500، والعشاء ب 3000، ووجبة يسمونها الكَيْطْنَة (الكاف كالجيم المصرية) عبارة عن نَشَاءْ مع زْرِيكْ (لبن حامض) وتمر تَكْلَاعْ (الكاف كالجيم المصرية والتكلاع هو الرطب أي التمر المنزوع لتوه من النخل) ب 2000.
لكن صاحب الفندق رغم دماثة خلقه كان حريصا على فندقه أكثر من اللام لدرجة اغضاب الزبائن، وذلك اعتبرته خطأ منه، وهو أدرى، فقد عاتبنا على أكل طعام في الغرفة بحجة تحمل القماش برائحة الطعام! فكانت النتيجة نفورنا من طلب طعام منه مع برمجتي لطلبه منه خلال إقامتي، وقد ناقشته في الرقي الغربي التافه الذي ربما يكون سببا في تشدده، فالبعض مغتر جدا بحضارة هؤلاء الظلمة رغم تفاهتها، وإن كان طيبا ودمث الخلق، وربما معه حق فيما ذهب إليه.
وفتدقه جميل ونظيف ومتسع، لكن يقولون أن فندق نجم الشمال الموجود دونه هو الأفضل، وقد أكد ذلك محمد الذي كان يجتمع بأصحابه فيه. وهو الفندق الأشهر.
وتيارت كبيرة وجميلة لم نتجاوز فيها في هذه الرحلة ازوكي (مدينة المرابطين) التي هي مدخلها فقط أي ما يلاقيك عند النزول من الجبل. ونخلها رائع وافر، فيها عدة واحات، وقيل لي أن تمورها من أجود تمور المنطقة، ومنها تشرب المدينة كلها أي لا مشكلة فيها في الماء ولا في الكهرباء، وكذلك شبكة الإنترنت قوية في بدايتها في الفندق مثلا، لكن تضعف عند التوغل داخلا.
وقد قدمت في الرحلة التالية أي بعد أسبوعين من ذلك التاريخ إلى تيارت مع مينو وزينب أبناء حامدينو، قدمنا إلى أهل اليزيد اهل الكرم والسخاء والأخلاق العالية، وموقعهم جميل متوغل في الداخل على الطريق الذي يشقها نصفين، وهو طريق ماض حتى شوم والزويرات أي يركب على الطريق الأساسي.
وذلك المكان أخصب وأوفر نخلا وأجمله لأن الماء يهبط إليه أولا من وادي إيليج الموجود بعده بكيلومترات قليلة.
وأسرة اليزيد أسرة طيبة، قدمنا إليها بعد أسبوع من ذلك وقضينا المقيل معهم، واستقبلونا بناتها بحفاوة وإكرام، وذبحوا لنا جديا، وهي الذبيحة الوحيدة التي قدمت لي في هذه الرحلة، مع الإشارة إلى عدم ضرورة ذلك حيث أسكن إذ قُدم لي ولغيري كل أنواع الإكرام في منزل والدتي فطمة منت انتهاه (مرضعتي).
وأهل الزّْرَايْبْ (جمع زريبة وتطلق عندنا على واحة النخيل مش زي اللي عندكو) يكافحون من أجل الحفاظ عليها خاصة بعد موجة جفاف امتدت لسنين، قل فيها المطر والماء، ولا زال الجيل المتوسط جيل السبيعانات والثمانينات متمسكا شيئا ما بتراث الآباء (واحاتهم وأرضهم) صابرا على ذلك محبا له، لكن جيل الإنترنت لا يهتم إلا بالعاصمة وما فيها من تناقضات، لا اعتقد انه سيصبر أو يحن على ذلك النخيل وتلك الأرض، بل سيعتبر ذلك شقاء وبلا مردودية بل قد يتخلص من كل ما يملك عند أول عقبة مادية، إلا ما رحم ربي، والله أعلم!
وقد رأيت في تزويزكت العلوية حيث أقمت (الرَّكْ، الكاف كالجيم المصرية) واحات شبه مهملة، ولقريب لي منزل وواحة في تويزكت التحتانية قيل لي انها أيضا مهملة لا احد يعمل فيها، والرجل يُكَيْطِنُ (الكاف كالجيم المصرية. أي يذهب إلى أطار في فترة التمور) مرة ويترك ذلك مرة كما قيل لي، وهو الذي قدمنا إليه في الرحلة الثانية ولنا ذكريات رائعة في منزله الرائع والواحات المحيطة به.
كما توجد منازل مغلقة خلال موسم التمور نتيجة عدم قدوم أهلها، ومع ذلك لا زال الناس متمسكون بأرضهم محبون لها لا يقدمون عليها شيئا آخر، وهذا تلامسه في فلتات أسنتهم وبغضهم لكل ما سواها.
وتبدأ الحرارة في أطار من الشهر ستة حتى أكتوبر تبرد لياليه ثم يبرد النهار.
ملاحظة: في تويزكت النهار حار وفيه هواء جاف حار يسمى عندنا ب “إِرِيِفِي”، بل يكون في الليل أيضا، بل لاحظة مرة أنه يبدأ أحيانا في الليل أو يشتد فيه مع تلطيف الليل له!
ومع هذا لا يوجد عرق مثلما هو الحال في نواكشوط زمن الحر، ولا ذهاب كثير للمرحاض للتبوزل رغم كثرة الشرب مما يدل على امتصاص الجسم للماء، وإذا وضعت هاتفك في البيت نهارا تحس به ساخنا كما لو كان موضوعا على فرن، لذا يلجئون لتبليل قطعة قماش احيانا وتبريده بها! وهذا لا نلاحظه في حر نواكشوط!
ونجلس في بيت فيه نوافذ عديدة، ويضعون النوافذ في مستوى الأرض، فيدخل ذلك الهواء الحار، فلا يكون عرق بل لا نحس بالحر أصلا، ونخرج للصلاة للمسجد في ذلك الغيظ دون أن نحس به، فسبحان الله كأن الجسم يعتاد على ذلك، وكله خير وبركة كأنه تنظيف له.
قلت لصديقي نحن مثل هذه الهواتف لكن لا نحس بالحرارة جيدا، وهذا يدل على أن حرارة أطار (والجبال) مختلفة عن حرارة المدن الشاطئية كانواكشوط مثلا، وهي أصح في رأيي.
ومثلما يسخن جدا كذلك يبرد جدا، وفي الحالتين يمتدحه أهله. وفترة البرد طوال السنة الدراسية مثل نواكشوط، ولا أعرف هل هو متقلب لأن انواكشوط متقلب المناخ يأتي فيه الحر أحيانا في غير وقته والعكس.
وفي بداية الحر في أطار يؤتي النخل أكله ثم يستمر ذلك حتى يبدأ المطر في الإنهطال (سبتمبر غالبا) فينتهي التكلاع (الرطب) لأن المطر يفسده.
بعدها ينتج ما يسمة بالنْفَاظَة وهي التمر اليابس الذي يمكن أن يُحفظ على مدى العام، وفيه تمور ضخمة ونوعيات رائعة، وسعره مثل سعر الرطب (التكلاع) أو أعلى.
وفي فترة الرطب أي فترة التكلاع، يأتي التمر للعاصمة أطار من مختلف الوديان صباحا بعد صلاة الفجر، فتراهم يبيعونه في السوق بأسعار معقولة بهدف إما بيعه لجمع النقود أو جمع ما يشترون به متطلباتهم الغذائية وغيرها من الدَّشْرَة (المدينة) قبل العودة إلى الوديان. فكأن الأمر يشبه المقايضة.
وهم كرماء بينهم فمن لديه واحة يرسل تمورا كثيرة لمن لا واحة لديه من جيرانه أو نفاظة كثيرة.
وللوصول إلى تويزت الفوقانية تأخذ طريق شوم وازويرات، وتصل لتويزكت بعد 13 كيلومتر (13 دقيقة عند صعود طريق شوم، و5 دقائق بين ذلك وقلب المدينة أي 18 دقيقة تقريبا انطلاقا من ملتقى الطرق الذي يتوسط مدينة أطار) بعد تجاوز او هضبة صخرية صغيرة (أو كدية أي جبل صغير، هو الأول لأن ما قبله على الطريق حتى اطار عبارة عن كثبان عالية ترى عليها صخور قليلة لا تشبهه فهو شبه جبل لكن صغير) تجد بعدها قليلا منعطف على اليسار يسمى طريق خطرة تنزل منه إلى تويزكت.
وخطرة هذا هو صاحب اول سيارة في الواد، ويوجد بقية بنائه طلل بالي، هو مؤسس المكان ، ومع ذلك ذهب الناس وبقي الأثر.
وفي مقبرتهم وهي على بعد أمتار خلف الواحات، توجد قبور منها قبر ولد انويكظ الذي له دار غير بعيدة من هنالك، فتأمل في ذلك، هذا أغنى رجل في مكان ظاهره الفقر! رحمه الله وعفا عنه، وحيد في ذلك المكان، فبماذا نخرج من هذه الدنيا غير الأعمال الصالحة؟ جعلنا الله وإياكم من المهتدين العاملين الناصحين وأحسن خواتيمنا.
وعند الصعود على طريق شوم تجد أولا على الطريق صالة، وهي أول بطحة وسد وأقربها للمدينة، وهو مكان جميل يأتيه أهل المدينة للراحة وبعضهم يبيت فيه، آمن، وجدنا فيه مرة واحدا يصنع الشاي مفترشا فراشا فجلس معه بعض الأصدقاء، فلما أراد الذهاب قال لهم ابقوا على الفراش وسأرجع له غدا، يعني أن المكان آمن، وهذا عام على الوديان بحسب ملاحظتي.
وتظهر من هذا المكان سلسة جبال تسمى ظهر آدرار، جلست فيه ليلة مع رفيق ورفيقة، فكانت جلسة رائعة في ضوء القمر.
وعلى نفس الطريق الفاصل بين المدينة وتويزكت توجد أماكن منها تَرْوَنْ وعين أهل سويدي (وهو سد ومكان للإستجمام أيضا)، ولَمْعَيْذِرْ وهي قرية على الشارع بسيطة وجميلة، تشبه أَكْصَيْرْ الطَّرْشَانْ الذي يأتي بعد تويزكت بعدة كيلومترات (قيل لي انها 13 كلم)، فهو يشبه لمعيذر إلا أنه أكبر وبطحته وسده وواحاته هي الأفضل عندي على ذلك الطريق، إلا أنه يتردد أن أهل أهل عين، لكن أعتقد أن هذا من المبالغات، ربما هنالك قصة أو قصص في ذلك، فهذه الأشياء في كل مكان، وأهلها قلة أو معروفون لا يمكن ربطها بمكان أو منطقة.
أما تويزكت الفوقانية فقد رجعت إليها رفقة قريبي وسكنا في منزلهم، وهو لوالدته الطيبة التي من أهل المكان وتحبه ولها فيه ذكريات، فيه ترعرعت، وكانوا يسكنون بين النخيل على الرمال لكن تحولوا عنه إلى العلو حيث الأرض الطينية الصخرية بسبب السيول، وفي المكان نخلة قالت إن والدها هو الذي زرعها، وهي نخلة ذكر ضخمة تسمى أَمَسِّينْ، كانوا يستظلون بظلها ويحلسون تحتها للإستجمام والمشاورة.
وأعتقد أن الوالدة هي التي تدفع الشباب حتى من جيلنا إلى القدوم إلى الكيطنة (أي إلى المكان) لأن الشباب لم يعد يصبر عليها، وغير مجدية عند الكثيرين، وذلك خطأ كبير لأن أقل ما فيها هو تغيير الجو المهم والمفيد، والراحة من أجواء العاصمة المكتظة ومشاكلها، كيف لا والحر في ذلك المكان مفيد وكذلك الصلاة في المسجد أصل، فما أجمل صلاة الصبح في الغسق في الأماكن البسيطة المتواضعة.
ورغم الحر لا أنزع جلابيتي ولا يوجد عرق، ولا تبول كثير رغم شرب الماء مما يدل على أن الجسم يتفاعل جيدا مع الحرارة.
وإذا نام الواحد 12 ليلا فإنه يستيقظ الخامسة والنصف صباحا وهو في قمة النشاط، فيصلي الصبح في المسجد – على بعد مائتي متر تقريبا – ويرجع وقد ذهب النعاس من عينيه.
وترى في صلاة الفجر صغارا دون السادسة! وبعضهم يحفظ القرآن فيه في ذلك الوقت المبارك.
ويغلب على الساكنة التواضع والميل للفقر رغم الإستغناء الظاهر، والمستغني هو الغني. وتراهم متواضعين في المسج ليست فيهم نفخة الكبر التي في بعض الأفراد من قبائل أو مناطق أخرى.
وترى في المكان وفي اطار عموما سيارات فارهة مما يدل على الإقبال عليه من أبنائه المقيمين في العاصمة وغيرهم.
وهو محل استجمام بمعنى الكلمة، اهله بسطاء وكرماء ولا عقد فيه ولا اككتظاظ ولا ضجيج، بل ما زالت الطبيعة موجودة والأفق الممتد في كل مكان دن تشويش من طرف العمارات أو المشاريع التي لا يربح منها غير أصحابها الأنانيون.
وفي أطار قبائل منها أسماسيد المؤسسون للمدينة، وإيديشلي، وفيهم نخوة كغيرهم، وأولاد غيلان والطرشان الذين لهم مكان معروف باسمهم وهو اكصير الطرشان ويقع بعد تويزكت بعدة كيلومترات على طريق شوم (انظر مقاطع القناة ففيها بعض الفيديوهات التي تتضمن بعض الأماكن). ويوجد الأشياخ وتيزكه (الكاف معقودة). وكذلك للعرب السود (الحراطين) وجود ملاحظ، وهم من شتى القبائل. أما الزنوج فقلال جدا، أمضيت أسبوعين دون أن أرى امرأة منهم تلبس لباسهم المعروف الذي لا تخرج في نواكشوط إلا التقت واحدة به (ما شاء الله على جميع المسلمين).
ويوجد اسفل تويكزت العلوية تويزكت السفلية ويفصل بينهما فضاء طيني يسمة القِيعَة (القاف كالجيم المصرية)، وهو مكان يحكون عنه قصصا لها علاقة بالجن، بل يروي بعضهم قصصا حدثت له معهم مصل قريبي الذي ذكر ان بعض شجيراته يخرج منها رجل على ظهر فرس غير معروف، وقد رآه، وآخر قال انه ظهر له شكل لا يعرف ما هو، ووصف وصفا مرعبا، لكن الملاحظ أنهم لا يرون قصة تأذى فيها أحد منهم مما يدل على أن أقصى فعل بعضهم هو الظهور أو الإضلال في حال تضييع الطريق، ويفصل بين المنطقتين 3-4 كلم تقريبا.
ومع هذا بدأ الناس يسكنون المكان، وإن كانوا قلة كسكان المنطقة كلها.
وقد دخلت القيعة ليلا في سيارة قريبي لإيصال أحد المعارف، فأصبت برهبة بسبب الظلام الشديد، ومن لا يعرفها لا يدخلها وحده وإلا كان احتمال أن يضل الطريق كبيرا!
أما دخولها نهارا فلا شيء فيه.
والمشهور عندهم النصح بعدم الإلتفات فيها خشية فقد الطريق والضلال، أو السهو، أو التركيز على ما يبد غير الطريق، لكي يمر الواحد بسلام دون أن يضللوه.
وفي أسفلها تويزكت السفلية (التحتانية)، وهي واقعة بين الواحات أي على أرض رملية، ليست كالعلوية (الفوقانية) التي أقمت فيها فهي خارج الواحات.
والتي بين الواحات أقرب للنخيل والطبيعة من التي خارجها، لكن ربما أكثر حشرات (كالعقارب التي لم أر منها واحدة في الفوقانية، وغيرها). وقد ذكر بعضهم أنها أكثر بساطة نتيجة ملامستها للنخيل.
وفيها منزل قريبي الذي أقمنا عنده شهرا ونحن صغار، وكانت تجربة ممتعة، أذكر أننا ذهبنا منها في مساء يوم غائظ إلى اتويزمت الفوقانية للعب مباراة في الكرة، وأصبت يومها بزغللة بسبب الحرارة الشديدة. وهذا الملعب هو الذي نقطع يومين بين المنزل والمسجد كما أخبرني القريب.
ورغم السكن خارجالعاصمة ب 13 كلم تقريبا، أخرج ليلا بالسيارة إلى الدشرة (المدينة) حيث الناس والحركة، وأمضي فيها ساعتين اتصل فيهما بالإنترنت وأتجول ثم أرجع للمبيت في تويزكت.
وأهل المدينة يسهرون ليلا، وعندهم بساطة في اللهو، وفضاء لذلك فتراهم كثيرا ما يخرجون للبطاح لشرب الشاي والتسامر، متعودون على ذلك.
وقد عرفت في هذه الرحلة حقيقة نتائج تحديث قوم بما لا يعقلوه! فمثلا انتقاد الجزيرة عندهم أو انتقاد بعض طوائف البدع التي يرون أنها على صواب أو حتى القول بأن الأرض مسطحة، هذا كله يخرج عند من لا يعلمه من أمر قابل للطرح والنقاش إلى جدل عقيم ممل كأنني انا أول القائل بذلك عنده! ينسى أنه واقع وقائلوه كثر، ولا يعلم وليتهعلم ليرحني أنه الحق، وأنني سبقته إلى القول بما يقول، وكنت على خطأ بذلك!
فالناس أعداء لما يجهلون، وهما صنفان صنف يسمع ويناقش بهدوء، وهذا هو الصنف الممكن الكلام معه! وصنف آخر يحملك مسؤولية ما تقول كأنك صاحبه أو تفتري على الناس! فيواجهك بعنف وربما يخطئ في حقك بكلمة أو يضحك الناس عليك، وقد أضحك بعضهم علي الصغار مرة!
فهذا النوع هو المعاند والمجادل جدلا مذموما، وهذا متعود على ذلك، وهدفه ليس معرفة الحق بل أن يجادل فقط، وأن يهزم محاوره ولو كان يحدثه بالقرآن، لذا ترى هذه النوعية مغترة دائما ومتكبرة،وقد يكره الحق لمجرد أنه ليس صادرا منه!
فهذا النوع الأفضل عدم مجادلته، وإذا فعلت أن توضح عوره وجهله وقلة عقله للسامعين لأن يسعى لنفس الهدف! فإذا اضطرك لذلك فكنت الضارب لا المضروب، وخير من مناقشته السكوت عنه.
ومن العبارات الملفتة قولهم:
– نلود لوحدة نظحك امعاها! أي ابحث عن تسلية.
– عينيهم من كاوتشوا: أي قادرون على طول السهر.
– ذوك يطيحوا: للمراهقين الذين أصبحوا رجالا، وضوك يتكو: للمراهقات اللواتي أصبحن نسوة.
– عسك لا يخبط بعمارة: في التحذير من العين. قيلت لمن يتحدث عن ما ينوي فعله أو يصور ما يأكله، فهذه الخصوصيات الأفضل عدم ذكرها أو عرضها للناس.
والدور منها ما هو طيني يصنع من اللبن الطيني (رأيت آلة تصنعه بعد استخراج الطين من أرض طينية)، وهو أضعف من الإسمنت إلا أنه بارد صيفا ودافئ شتاء، وقد يجلدونه بالإسمنت لكي لا يفسده المطر أو بطين.
ولديهم التيكيت والمحمل، من النخل وغيره، وهي باردة مريحة مناسبة للحر لا أعرف لماذا لا يستوردونها لنواكشوط، قال قريبي ان السبب هو أن من مواد صنعها عشبة نادرة محرم قطعها اسمها أَسْبَطْ. وغالية أيضا. ومع هذا التيكت هنالك متوفة عند الجميع حتى الفقراء، لكن فيها ما هو صغير.
ويوجد بالقرب من المنزل بقايا مكان لا زالت الصخور التي بنيت عليها تيكته متراصة في دائة لها باب، قال انها تيكت عمة الوالدة، وبجوارها مكان كان سكن لعمها، وحوله حوض مائه، وقد أصبح الكل طللا باليا، فسبحان الله لا دوام لشيء في الدنيا، يذهب الناس ويبلى المكان ويتهدم بعد أن كان ينبض بالحياة كأن لم يسكنه أحد من قبل!
والأطلال كثيرة في المكان وفي أطار ككل!
ولم أبحث عن أقرباء في المدينة نتيجة صيق الوقت والحر نهارا والبعد عنها.
والناس في أطار بسطاء يذكروني بناس انواكسوط التسعينات، النساء بسيطات والثقة موجود.
وعند الوصول للملتقي – للقادم من ناكشوط – يوجد فندق على اليسار غير بعيد من الملتق اسمه فندق أطار قيل لي أنه رائع وغرفته ب 25 ألف لليلة، اشترينا منه صاندويش ب 800 أوقية.
وبعده بقليل أي في اتجاه اليسار (طريق تيارت)، يأتي الربط، وهو جسر صغير ممتد غرب المدينة يحول بينها وبين النخيل لمنع الماء، أي خلفه واحاتهم. وأمامه بطحة أطار.
وعند الإستمرار في اتجاه تيارت يتم قطع البطحة على جسر، ثم ياتي حي أدباي، ثم مقبرة أولاد مَيْجَهْ وفيها أبو السماسيد أحمد ولد شمس الدين، وكذلك سيد ولد اخليل الذي كان من علماء المنطقة وإمام مسجد اطار ولديه مكتبة تسمى المكتبة الخليلية، والإمام المجذوب.
ثم بعدها على الطريق تأتي تيارت وفيها مقرة أزوكي عند مدخل تيارت، وفيها قبور المرابطين وغيرهم، ومنها قبر قاضيهم افمام الحضرمي، وواحد مشهور بالولاية يقال له ولد كنكو.
وواحات أزوكي هي أول واحات تيارات على اليمين عند النزول إليها من الجبل، سرت إليها على قدمي مع محمد في إقامتني الأولى في فندق إيليج الغير بعد من الطريق المؤدي إليها، سرنا إليها متبعين الحدس فقط لأننا لا نعرف المكان.
وتيارت ممتدة على طريق يفصل بين يمينها ويسارها لمن يسير فيه صاعدا، واليمين أكثر دورا وواحات، وبعدها ياتي وادي إيليج (صورت له فيديو) الجميل، وهو المصب يعني أن أواخر تيارت يحصل على النصيب الأوفر من المياه!
ويستمر الطريق إلى أن يركب على الطريق المعبد الذاهب إلى شوم ومنها إلى مدينة ازويرات، ودونه تيارت أصدر (الشجر) التي تعتبر باديتهم، وهي أرض رملية منبسة بتنا فيها ليلة.
وتوجد طريق من تيارت إلى تويزكت مباشرة لكنها عبرة الصخور، وتتطلب معرفة بالجبل، قال الشباب انه صعدوها مرة لكن وجدوا ثعبانا بين الصخور، وتلك مشكلة لأن الثعابين موجودة ولونها مشابه للون الصخور لذا يجب على الواحد النظر أمامه وأين يضع قدمه.
أما آمدير والطواز فعلى الطريق الذاهب من المدينة إلى اتويزت، تنحرف بعد صالة يمينا، وهي وديان، والأخير لا تصله السيارات الصغيرة، وهو مشهور جدا (لم أزره في هذه الرحلة). أما آمدير فاثنان واحد دون الآخر، وقد زرت الأول مرة ليلا لإيصال سيدة ومعي صديق زعم أنه يعرف الطريق فضللنا حتى دخلنا بالسيارة على قوم، فأرسلوا معنا من يدلنا على الطريق، وذلك في الرحلة الثانية.
أما تَرْجِيبتْ فتوجد قبل دخول مدينة أطار دون مكان الشرطة للقادم من انواكشوط، تدور يمينا، ولا تصلها السيارات الصغيرة.
والعجيب أن في رحلة الإياب طلب من رجل الدرك حمل حرطاني معي للأمام، فوافقت فنزل في تلك الأنحاء، ولا اعرف هل يقصد حيا هنالك أم لشغل له، لم أسأله. والمكان خلاء بين الجبال كما يبدو، لكن ربما تكون فيه أماكن مأهولة إذا تم التوغل فيه.
أما أحياء قلب المدينة، أي ابتداء من السوق، فيوجد على يسار السوق حي قَرْنْ القَصْبَة (القاف معقودة)، وفيه المسجد العتيق الذي تم بناؤه منذ 500 سنة. وهو مسجد رحب جميل، ودور هذا الحي تاريخية قال أحدهم انه كان من الأفضل تركها على حالها. ويوجد الربط يسار الحي محيطا بجزء كبير من غرب المدينة.
ويتميز أطار بالدروب أيضا وهي الطرق الضيقة بين المنازل، وذلك مميز، ونوافذ منازلة مصممة قريبا من الأرض، ودوره صغيرة ومميزة.
وأعلى هذا الحي للمتجه شمالا يوجد حي أمْبِارْكة واعْمارَة الذي ينتهي بزاوية ولد أمم (الصوفي الذي كان شيخا في المدينة).
وتكلفة السفر 17000 ألف تقريبا من البنزين، أو 13 ألف من الديزل للذهاب أو الإياب (يعني نصف ملء الخزان). ويكفي نصف أخر أو نصف وثلث للتجول البسيطة مرة يوميا في المدينة وانحائها لمدة اسبوعين.
أما الكراء فتنتشر الإقامات في مدخل أطار قبل الوصول إلى الملتقي، وكذلك موجودة في تيارت، وربما غيرها.
وبالنسبة لكراء المنازل يمكن العثور على منزل قبل دخول الملتقى، قال لي قريبي لا يوجد، فقت له وماذا عن الأساتذة فقال يمكن أن توجد منازل أو بيوت دون الملتقى في مدخل المدينة (ليست عنده معلومات بخصوص هذا الأمر).
ومن البقالات المهمة بقالتين موجودتين عن الملتقى هما بقالة 24 وبقالة تَزَكْرَزْ (مكان صعب الإسم)، والثانية أحدث. وأمامهما قليلا بعض الحوانيت التي اسعارها أقل، وفي مقابلها تجد مكانا لشحن الهاتف بالإنترنت والكريدي، كل ذلك على الطريق المعبد على بعد 100 متر من البقالات للمتجه شمالا (وهو أشهر طرق المدينة ويتجه لدار الشباب بعد كيلومتر تقريبا عليه، ومنها إلى طريق شوم الذي عليه صالة وترون وتويزكت وغيرها)، وعند الوصول إلى دار الشباب يمكن الإنعطاف يسارا عند بيت الضوء لسلوك طريق الدائرة وسيخرج على طريق شوم، أو الإستمرار في نفس الطريق كيلومتر آخر تقريبا حتى تصل لمعطف على اليسار عند بقالة لها لافتة حمراء كبيرة، اعتقد أنه المنعطف المعبد الوحيد هنالك، وهو في اليسار فتدور معه وسيصعدك إلى طريق شوم، وهذان المنعطفان مفضلان عند الساكنة لأنهما يجنبانها الوصول لوقفة الشرطة عالتي على طريق دار الشباب إذا استر الواحد صاعدا ولم ينعطف عند بيت الضوء ولا عند البقالة ذات اللافتة الحمراء، ففي هذه الحالة يصل لطريق شوم بعد كيلومترين تقريبا، وعليه الشرطة التي تعتبر ذلك خروجا من المدينة لأنه طريق سفر موصل حتى للزويرات، فتأتي لافتات الوقف من بعيد ثم الأسئلة أين أنت ذاهب وغير ذلك مما تفضل الساكنة عنه الإنعطاف لربح الوقت.
والشرطة في المدينة لا زالت على طبيعتها يعني غير مزعجة مثلما هو الحال في نواكشوط، ولم تصلهم ضرائب السوء التي يعذبون بها الناس في نواكشوط بعد. فهم في رحمة.
إذن على بعد 100 متر من البقالات التي عند الملتقي يوجد يمين الطريق المعبد سيارت النقل والوراقات، وكذلك البلدية للمتوغل يمينا، ويسارا السوق وفي أعلاه (كل ذلك يسارا) مخبزة زَدْفَة المشتهرة بجودة خبزها.
وذلك الطريق عامر بالمحال وفيه أنواع المنتجات وعليه مصلحي السيارات، يعني أنه شارع رئيسي في المدينة، وعليه حانوات لزنجي يبيع بَلْبَصْتِيكْ مشهور هنالك.
وفي مدخل السوق عند الملتقى مباشرة تدخل من مكان بيع التمور، وحوله الحوانيت التي تبيع شتى المنتجات الغذائية والمتعلقة بالطبخ وغيره.
ومن بقالة 24 يتجه الطريق المعبد يمينا إلى حي أَغْنَمْرِيتْ.
وعلى طريق المدخل أي قبل الملتقى للقادم من نواكشوط محظة ستار وهي الأكثر موثوقية في المدينة، وعليه أيضا محل شركة موريتل، والثكنات العسكرية.
بالمناسبة رأيت سيارات عسكرية مصفحة محمولة من طرف بعض الجرارات في المدخل، وموضوعة بجوار الثكنات، ثم بعد أيام في تيارت رأيتها يقودها جنود اسبان يرفعون العلم الإسباني وبأرقام اسبانية (يدربوننا في الظاهر لكن ربما يتدربون هم على الصحراء ويطمعون في المنطقة التي ربما تكون استراتيجية لهم عندما يأتي دورها الذي ربما هو مكتوب الآن، لا كتب الله لهم التوفيق فيه ولا في غيره، وقد حصلوا على الأقل على كل المعلومات المتعلقة بتيارت وأطار!).
كانت عشرات المدرعات وهم كثر، ومعهم بعض جنودنا (تيارت منطقة يستغل العسكر أعاليها ونواحيها للتدريب)، يبدو أن الأمر كان مناورة، لكن ما لم يعجبني فيه هو أنه رغم كل ما فعله هذا الغرب للإسلام والمسلمين، وما يفعله الآن بقيادة أمريكته المجرمة بإخواننا الفلسطينيين، لا زلنا نثق فيه، ونتبعه اتباعا اعمى كأنه مفروض علينا! كأنهم يحتلونا بالضبط! وربما، من يدري؟!
هذا بدل طرد سفاراتهم وحرمانهم من جني أي فلس من بلدنا، على الأقل!
ثرواتنا لهم، وأراضينا حتى العميق منها يمرون عليه، فإلى أين نتجه معهم؟! سلمنا الله وسلم المسلمين من شرهم.
هذا ما سَاويتُ الدبلوماسية ولا المصالح المشتركة ولا الحضارة ولا التدريب ولا التعليم ولا أي شيء آخر!
فسبحان الله كم هم ضعاف المسلمون في هذا الزمن!
لكن لابأس ما دام الأمر علاقات دولية فهو لا يعنينا، نتمنى لبلدنا ولجيشه كل الخير، وللمسلمين!
لكنه تساؤل فقط! لماذا ما زالت سفاراتهم مفتوحة في بلداننا ترفرف راياتهم في سمائنا متحدية كأنها ألسنتهم يخرجونها لنا ساخرين منا شامتين!
كان المفروض عند أول مخالفة خطيرة مثل الدس لدولنا (وهو كثير) والسعي في تدميرها بل وتدميرها، أن يتم طردهم جميعا ومباشرة، ويكفي ما فعلوه في غزة، لكن العكس هو الحاصل، نحن لا نزداد إلا إكراما لهم وتبجيلا وتمجيدا كأنهم لم يفعلوا شيئا، بل هم شيوخنا وأساتذتنا ومدربونا!
كأن من حقهم الكيد لدولنا وتخريبها لمجرد أنهم أقوياء! (منطق سياسة آخر زمن)
لم نعد قادرين حتى على الإستغناء عنهم رغم يقيننا بأنهم يتجسسون علينا ويتحينون الفرص للإيقاع بيننا وإفساد بلداننا، رغم ذلك كله لا زلنا نحترمهم، ورواتب عمالهم العاملين في بلدنا – الذين ربما يكونون جواسيس في أكثرهم – أضعاف أضعاف ما ندفع لوزرائنا وكبارنا!
فيا له عار، يا له من أمر معيب محزن، ومذل!
المهم، سمعت أحدهم يقول إن دارا بسيطة من الدور الممتدة على الطريق دون صالة، تباع ب 1.8 مليون أوقية، وذلك رخيص، ولم اتأكد، لكن أخبرني أحدهم أن ذلك سعر الأرض، ولا أعتقد. فالمكان أولا بعضه محتل من طرف بعض القبائل والجهات، ولا يسكنه إلا أهله وهم قلال، والأرض واسعة فالراجح أن ذلك رخيص.
وقد ذهبت شمالا على طريق شوم انطلاقا من تويزكت إلى جبل تَنْكْرَادَة (الكاف معقودة، وبينهما 25 كلم) ونزلنا منه إلى طريق بين جبلين تقع عليه البادية وفيها تيارت أصدر (وهي مكملة تيارت يمكن الوصول إليها أيضا منها).
وفي الطريق بعد اتويزكت يأتي اكصير الطرشان وهو ملتف على الشارع المعبد لذا وضعوا عليه حواجز كثيرة مزعجة للسيارات لإرغام السائقين على تخفيض السرعة، وحوله بطحته وسده، وهما رائعين مميزين، فبطحته بيضاء كبيرة، وكذلك سده كبير، وكذلك واحاته وافرة ممتدة جميلة.
أما أهله فيشتهر عنهم أنهم يصيبون بالعين، لكني أعتقد أن ذلك مجرد قصص، وليس على إطلاقه، والله أعلم.
قال لي أحد المراهقين الذين معنا أوقف التصوير فقد دخلنا إلى لَكْصَيْر إن كنت تحب هاتفك!
وبعد هذه البطحة مباشرة قريبا منها قرية تسمى تَضْ بسيطة وموقعها جميل.
ثم بعده يأتي جبل تنكرادة، وهو مهبط يشبه مهبط عين أهل الطائع، مرتفع جدا ومميز، أكثر ارتفاعا من مهبط تيارت، وعند النزول منه ندخل البادية وهي ارض رملية منبسطة لا كثبان فيها، فيها شجيرات جميلة، وفيها باعة ألبان الإبل أي منمون لها.
ومن المناظر الجميلة التي رأيت مشهد فتيات يقطعن مساء ذلك القفر بين مكانين بينهما مسافة كيلومتر ونصف تقريبا، يراهم الواحد كأنه مراقب مما يذكر بأجواء البادية البديعة، توقفن تحت شجرة عملاقة وأطلن الوقوف ثم واصلن المسير!
ويمكن من هذه البادية العودة إلى تيارات عبر ذلك الخلاء لمن لديه سيارة كبيرة 4*4.
وهذا المكان من أجمل الأماكن التي زرتها، مريح وهادئ، وبلا كثبان، جميل في الليالي خاصة المقمرة.
توقف الرفيق بسيارته بين شجرتين، في مكان مجلد بطين يابس بين الرمال، فقلت لهم ممازحا لما رجعنا:
“توقف بنا في صالون دار أسرة من الذين لا نسميهم” (الجن)!
فضحكنا، ولم أكن أعتقد أننا سنرجع إليه لأنه مسافة 50 كلم ذهابا وإيابا، وإلا ما قلت ذلك.
فنشرنا الحصير على بعد أمتار من الشجرتين وأوقدوا النار وعملوا الشاي، وأرادوا المبيت فقلت لهم لدي شيء أصنعه في المدينة، وبعد كثرة لجاج واعتراض على رغبتي تلك رجعنا، وأنا لم أحسب المبيت وكان لدي برنامج في المدينة اما الرفيق فمتقلب كل ما يدخل رأسه هو الحق المبين والصواب المعين، فطاحت عليه – كما يقول المغاربة – فكرة المبيت!
ثم عدنا إلى ذلك المكان في اليوم الموالي بنية المبيت، وبتنا فيه، وبصراحة في البداية لم استطع النوم لوحشة المكان، ثم تبين لي في الصباح أنه الرعيان أيضا وهم حولنا يبيتون على الرمل، يعني لا يخافون من عقارب ولا الحيات ولا الجن، الناس متعودون على ذلك، والتحصينات كافية والحمد لله.
فلم استطع النوم في البداية، أو نمت ساعة أو ساعتين واستيقظت بسبب الرياح وصوت بعض الكلاب الذي طمأنني (لكني قالوا صباحا أنها كلاب برية وأن أحدها أقبل على الصحن فطرده واحد من الحضور)، وكذلك كانت الرياح شديدة، والرياح في المنطقة كلها (أطار) قوية أحيانا.
فأثارت الحصير على سريري فأعدته إلى مكانه ووضعت قنية الماء الكبيرة عليه ليسكن، وكنت في الطرف، وقد اقترحوا علي أن أكون في الوسط، فقلت لهم لا، أنا لا أخاف مثلكم.
وايقظني خنفس كبير صعد على السرير فدفته بعيدا وعدت للنوم، ثم قمت مرة على مرور شخص بيننا، بين اثنان نائمان أمام الحصير ونحن أصحاب الحصير، فاستغربت لذلك، وكان يلبس قميصا وبنطلونا ويشبه في شكله وحجمه ولباسه أحد الشباب الذين معنا، فحسبته هو رغم غرابة التصرف، ولم أتبين وجهه، بدا لي مسودا كأنه أسود اللون، واعتقد أني سمعت خطواته، ورغم كل ذلك ظننت أن طريقة مشيه غريبة.
تجاوزنا إلى الشجرتين اللتين بينهما السيارة ومر بينهما متجها للغرب، فتابعته ببصري قليلا ثم صرفت عنه نظري، وقلت في نفسي: لا يهم، مهما كان هو غير مهم، أنا قرأت تحصيناتي فليكن ما شاء سأتركه في حاله، وعدت للنوم، وهذه المرة بنية أن لا خوف إلا من الله وأن التفكير في هذه الأشياء هو الذي يجلب القلق والسهد، فنمت بسهولة.
وفي الصباح قلت لهم الحكاية، فلم يتجاوب الكبار (الأقران) معي، ولا اعرف لماذا؟! بدا لي صمتهم أو محاولتهم تغيير الموضوع غريبا.
أحد الشباب فقط هو من ذكر القصة بعد ذلك وبإيجاز، أما الآخرون فلم يذكروها.
ربما لا يريدون تخويفي أو يحسبون حسابا آخر، وقالت الوالدة أنه قطعا شخص من الحية (أي الحي) مر فقط، وبعد ملاحظتي عدم تحمسهم للحديث في الموضوع رغم أنه يستحق، تركت الحديث فيه، بل أكدت لهم أنه إنسي لأني بالفعل سمعت له صوت خطوات، ولا أدري هل ذلك دليل؟
وقلت لهم في البداية انه عندما اتجه إلى السيارة ظننت أن يصغر شيئا فشيئا، وأني صرفت عنه نظري لتركه في حاله وعدت للنوم، لكني لست متأكدا من ذلك فربما صغر حجمه لإبتعاده فقط أو توهمت ذلك لن الأجواء تدفع للتوهم فالمكان خلاء موحشة وبجوار شجرتين غريبتين، وجميلتين، وجدنا حولهما مكان ايقاد نار مما يدل على أن بعض الناس انتجع فيه. والليل فيه رياح شديدة والكلاب تنبح فكان لابد من الأرق قليلا، وربما توهم تلك الأشياء. لكن المهم أني رأيت شخصا أرجح أنه غنسي، ولا أعرف.
ولولا تخلف سكان المنطقة لقطعت بأنه غير إنسي، لأن الإنسي المار أمامه متسع من الأرض وليس مضطرا للمرور بيننا ونحن نيام كمن يريد سرقة شيء! ولا بين الشجرتين (بينهما مسافة 10 أمتار)، بل سيجاوزنا ويجاوزهما من اليمين أو اليسار، والمكان متسع جدا لذلك!
كيف يذهب إلينا ونحن نيام؟ أيعقل أن يمر بجانب الحصير على بعد سنتمترات منه والأرض فضاء كبير ممتد؟
ألم يخش ازعاجنا أو إخافتنا على الأقل، أو رحمة نفسه من أن نسيء به الظن كسارق!
هذا مثل الرعاة الذين رأيت نائمين بجانب تكيت لهم على بعد 150 متر أو أكثر منا، عندما تجولت مع انبلاج الصبح أقرأ قرآني في ذلك المكان الرائع، هل من المنطقي أن اترك المتسع حولهما وأمر من بينهما مباشرة؟
الأمر غير معقول إلا إذا كان صاحبه قمة في التخلف والفضول وذلك احتمال مطروح جدا.
هذا مر بيننا على بعد متر أو أقل من كل فريق منا كأنه مستقصد لنا!
لكن في الصباح أقبل واحد داكن البشرة من نفس طريقه ومر من بين الشجرتين مثله ومر بيننا مثله أيضا، فسلم على الأوائل ثم علي، وقال إنه متجه للجبل وذهب دون زيادة، يعني أنه مر من بيننا ليُسلم فقط !
وهذا عندهم يسمى أخذ الأخبار، فعقولهم تأبى عليهم رؤوية أشخاص سواء كانوا نائمين او مستيقظين دون ان ياتوهم لأخذ الأخبار ومعرفة أشكالهم واعراقهم وما معهم وعندهم، ولكنك جائنا أحد رعيانهم في أول ليلة وعرف من نحن، وذلك يكفي في انتشار الخبر.
إذن مرورهم بين الناس أمر عادي للفضول وحب المعرفة وأخذ الأخبار وغير ذلك.
الناس بسطاء في ذلك المكان وفي اطار عموما ليسوا كالحُمْر التي في العاصمة، ممن لا ينظر أحدهم إلى الآخر أحرى بالسلام عليه، أقصد سكان الأحياء الراقية الذين يشبهون الآلات، لا ينظرون إليك حتى ولا يكلمونك، وهذا مريح للبعض لكنه مزعج للبسطاء.
ومن الأمور التي رأيت في هذه الرحلة في المكان الذي أقمت فيه أننا كنا 3 أقران و3 مراهقين، وعندما يوضع الطعام لا يتسابقون في الأكل لكن في نفس الوقت لا يتوانى الصغار عن أخذ ما ليس بحوزتهم!
فلعل القاعدة عندهم هي أن تقتلع نصيبك، وهي قاعدة عند أكثر أهل الريف، لكنها ليست عند المتحضرين من أهل المدينة، فنحن لا نتجاوز ما أمامنا، وهذا هو المأمور به في الحديث “كل مما يليك”، أما من فيه بداوة وجلافة فلا يحسب، بل يأكل بشراهة ظاهرة وإن حاول إخفائها، فيضع لقمة في فمه ثم يبدأ في تكوير الثانية، وإذا كانت أمامك لحمة ربما نقرها كالديك، لا يستحي من ذلك باعتبار أنه في سباق، ورجل لأن الرجل لا يستحي مثل العذراء.
وإذا كان الصحن مليئا وجانبك منخفض وظهر فيه فراغ لن يدفع لك أحد شيئا ولو كان كل الطعام أمامه، وهذا ليس من الأخلاق، وليس من الكرم والأدب، وصاحبه على أولى طريق الأنانية وقلة الإعتبار إن كان صغيرا.
وإذا قمت لا يقول لك أحد منهم من باب الأدب لماذا قمت اجلس وكل! أبدا.
هؤلاء هم الذين اتعبت نفسي بمناقشتهم!
وهذا ليس نقدا لهم، ففي الحقيقة ليسوا شرهين لكن من الضروريات عندهم أنه عند التواجد بين المجاهيل إذا كنت أنثى بالتواضع أكلوك. يعني قلة الأدب المبررة بمثل هذا.
وبعد رجوعي إلى نواكشوط تغديت مع أحد الأقران من الأصدقاء من أهل المدينة، وهم غير متعبين في النقاش وكرماء أيضا في التصرفات، فلم ينتظر أن يكون هنالك أي فراغ أمامي بل بادر بدفع كل ما أمامه إلى جانبي، فتذكرت الموقف السابق، وكتبت هذه الملاحظة لأبرز الفرق بين من ينطلق من الصواب ولو خسر – مثلي – وبين من يبالغ وهو يعتقد أنه على صواب، سواء في الأكل أو النقاش، وطبعا مثل هذا أخطاؤه كثيرة في كل أموره حتى التافه منها.
كانت رحلة جميلة ومميزة، ولولا أن صديقي كان مكثرا من الحسابات لا يقدر على التحرك خطوة واحدة خشية تبعاتها، لكانت رحلة ممتعة، لكن الحسابات جعلته يعتزل، وذلك حقه، ولا يغير شيئا بالنسبة لي.
لو كانت عنده مثلا عقلية وتواضع الصديق الآخر الذي ذكرت لكم لكان الحال أفضل، ومع هذا كانت رحلة جميلة ممتعة دخلنا فيها في بعض المغامرات المضحكة، فوجد مثلا واحدة أطول منه لسانا، ووجدت أنا واحدة جميلة أرادتني زوجا وركزَّت على ذلك، وركز هو على انتقاد أسلوبي معها. أشرت إليها في الفيديو التالي هنا.
ومن ايجابياته محاولته المرور بي على أكثر الأماكن كالبادية ووادي إليج الذي قطعه في سيارته الصغيرة على الرمال ذهابا وإيابا، مما يدل على أنه يعرف طريقة قطع الرمال بها، وتلك ميزة لا أعرفها شخصيا لأني لم أجرب مجالها من قبل فأنا من أهل المدينة الذي لا يخرجون منها إلا نادرا، فكيف بالذهاب إلى الصحاري وتجربة السيارات الصغيرة فيها والكبيرة، لكل منها قواعدها وفنها؟
وهذه الخرجات مثل أي خروج تدفع الواحد إلى مخالطة الناس، وهو أمر لابد منه، وإذا انقطعت عنه لسنين بسبب المدينة ومشاغلها مثلا وقلة معارفك ستتوحش، ولن تعود قادر على فهم تصرفات الناس وطرق التعامل معهم مهما بلغ ذكاؤك!
فلابد من أخذ دورات متكررة في الناس ولو بالخروج إلى المقهى، والسير بينهم مع مكالمتهم أي الإنفتاح عليهم، بذلك وحده تكون لك ملكة فهم أنواعهم، وكما أن لكل مقام مقال لكل شخص أيضا مقال!
فمثلا الجاهل لا يعامل كشخص يمكنه أن يستوعب أو تكون ردود أفعاله مضبوطة.
الجاهل إذا لم يفهم قصدك ربما يغلط فيك بعمد أو بغيره!
ومحادثته بكل شيء خاصة الأمور الخلافية التي تبين لك فيها الحق بعد دراسة وتبصر، وهذا وارد جدا فأكثر المسلمات المتعارف عليها باطلة أو كاذبة، سواء في الدين أو الفلك أو السياسة أو غيرهما، لذا إذا جئت تحدث جاهلا ببدعة أو بسطحية الأرض أو احتمال أن يخطأ عالم أو شيخ معظم عنده، ربما يأكلك بأسلوبه الفظ لأنه سيجعلك أنت القائل، لن يرى بعقله وثقافته أنك مجرد ناقل لقول موجود له أنصار كثر، بل سيعتبرك أنت القائل، وسيعتبر نفسه صاحب القول المنتقد وينصب نفسه مدافعا عنه ولو بأسنانه، وأقل ما في الأمر أنه سيسخر منك وتسقط قيمتك عنده باعتبارك مارق، ويضحك عليك الحضور الذين أكثرهم على مذهبه أي جهلة مثله بالحقيقة!
وبعد أن كان يحترمك أصبح يحتقرك ويعد نفسه اعقل وأعلم منك! كل ذلك بسبب وضوحك واعتبارك الناس كأسنان المشط، وذلك خطأ.
لا تنس أن الإنسان أناني ومنافس، مهما حاولت إقناعه إن لم يكن تابعا لك لن يسلم ويطأطأ رأسه أبدا، وإن أخذته العزة بأمر ما فلن يرضخ ولن يقتنع ولو أتيته بكل براهين الدنيا، لذا لا غرابة أن يكون هدف المحتالون من شيوخ وغيرهم هو فرض التبعية على الناس، هذه هي الخطوة الأولى حتى يقبلوا منهم ويحترموهم صاغرين، وبالتالي كلما أراد احدهم الإعتراض قال لنفسه اسكت يا حمار هذا شيخ هذا عالم هذا دكتور متخصص في المسألة!
وهذا ملاحظ في التيكتوك في بعض الدكاترة والأزاهرة وغيرهم، يدخلون البثوث، وقبل أن يتكلموا يعملوا على تعبيد من فيها لمكانتهم بعرض علومهم وشهاداتهم، وتبجيل بعضهم بعضا حتى تقتنع الحمر الموجودة في البث من متابعين أنها أمام عالم أو شيخ أو شخصية عظيمة من الخطأ عدم اعتبارها أو الإنصات إليها، فلا يعترض أحدهم عليه أبدا ولا يرد كلامه ولو كان خطأ، وإذا اعترض وجدته يعترض بأدب جم كأنه يقف بين يدي نبي أو رسول! عجبا للبشر.
لهذا يصعب أن تجد عالما أو شيخا أو كبيرا متواضع حقا مع الناس! لابد أن يلاعبهم وإلا ضاعت قيمته بينهم!
أما عندما تتواضع مع الجاهل وتخاطبه بلغة “أنا وأنت”، فلا تنتظر منه أن يفهمك أو يقبل منك، بل ودع احترامه لك وتقديره السابق.
ومع هذا أقول بالتواضع، لكنه مع طريقة معرفة كيف تحادث الناس، فالجاهل المعاند يحادث بالأدلة الصارخة مع تذكيره دائما بجهله بطريقة ملساء أو خشنة، لا يهم، المهم أن لا تتكلم معه أصلا في الموضوع إذا تبين لك أنه معاند، لأنك ستكون أنت الخاسر فالأفضل تجاوز ذلك صيانة لماء الوجه على الأقل، وقبل أن يتجرأ عليك، أي في البداية، لاحظ ذلك في ردوده وتعبيرات وجهه، وقف مباشرة عندما تعرف أنه من النوع الذي لا يفهم ولا يتقبل الرأي الآخر.
إلا إذا كان صديقا وقرينا، فهذا انت معتاد على ذلك منه فلا يضر. المهم الجاهل المجهول أو البعيد، هذا هو الخطير على أعصابك ومعلوماتك وحضورك وقيمتك.
واذا خاطبته بالأدلة الصارخة، مع أنه قد لا يفهمها، سيرجع إلى قمعه، لكن إن لم يفهمها أو سلك سبيل العناد والجدال، أوقف الحديث مباشرة فلا خير فيه، أو غيره.
وحتى إن فهم انك قد ترفعت عن الكلام مع أمثاله، أنت الرابح دائما، فمشاعره غير مهمة، ولا هو، لو كان مهما لكان صالحا للحديث على الأقل.
ويوجد المراهقون، وهؤلاء نعمة لبساطتهم ووضوحهم وعدم فساد أجوائهم بالتجارب السلبية التي مر بها الكهول، مع وجود بعض السلبيات، لكن من الكامل في الناس؟!
فهؤلاء متواضعون لأنهم يعتبرون فارق السن، وينطلقون من ضرورة الإحترام، فهم كأتباع أولئك المحتالون الذين في التيكتوك في هذه الحالة، سيسمعون منك بتركيز وربما اعجاب، وإذا عارضك أحدهم سيعارضك بأدب المثقف لأنه أولا يحترمك وثانيا هو مثقف فمن في الباكلوريا وما بعدها متعلم.
لكن مشكلة الصغار هي أنهم يصاحبونك غالبا، وفي هذه الحالة إن كانت شخصيتك متواضعة ستتعب لأن ذلك قد يزعجك أحيانا خاصة إذا دخله ضحك السخرية والمزاح الثقيل، لأن أكثرهم لا يحسب.
لكن ان استطعت قمعهم أحيانا ببعض الأوامر والنواهي التي تذكرهم بأنك أكبر منهم يكون أفضل، لأن ذلك ضروري مع اللعب معهم ومحادثتهم في كل الأمور، فهذا هو الذي يحقق التوازن.
ويوجد المثقفون، ومثالهم الأصدقاء والأقران، فهؤلاء عندما تعود إليهم من تلك البيئة الجاهلة المعاندة المتعبة، تحس أنك قد عدت إلى الجنة، فهم ينطلقون من احترامك لأنهم يعرفون قدرك، ولا يحتدون عند المخالفة لدرجة تجاوز الحدود لأنهم يعلمون أن الأمر كله مجرد نقاش عابر لا يقدم ولا يؤخر، ومجرد قضاء وقت.
فهذا النوع هو المريح الذي يستفيد منك وتستفيد منه، وهو موجود حتى في الغرباء، أي المثقفين حقا، أما بقية الأنواع جميعا فلا يجب تكليمها إلا ببرهان ساطع، والعمل على بناء مكانة قبل ذلك بين الصغار والجهلة والعوام، ذكرهم دائما بأنك أستاذ أو صحفي أو مؤلف أو أي شيء آخر من امور التخصص يرفع من قيمتك بينهم ويذكرهم بدونيتهم وحاجتهم لما عندك من معلومات، لأن الإنسان ضعيف وتابع، عندها سيسمعون منك دون اتعاب، ويكونوا في المرتبة التي يستحقون وهي مرتبة التعلم لا مرتبة إقامة الحجة عليك وإثبات أنك غبي ساذج معاند مخالف للحق.
وكذلك في التيكتوك لابد من بناء المرتبة والمكانة في بثك، لا تخجل من قول الحقيقة بقوة، وهي أنك تعلمت كذا وكذا، واعط البراهين بالحديث عما تعلم، والإكثار من ذلك حتى يحترمك الآخرون ويسمعوا منك، وإلا لن يحترمك أحد!
الناس لا يفهمون المبالغة في التواضع بل يعتبرون صاحبها إما مراهق لا يفهم لأنه بريء وهم وحوش، والوحش عندهم هو القوي المتمكن القادر (حتى النساء يفضلنه)، أو جاهل لا يعلم، يغطي على جهله بالكلام الكثير الذي لا دليل عليه!
إذن الخروج للناس يعلم الواحد طرق التعامل معهم، فلا تخرج إليهم ببرائة الحمل ولا بشراسة الذئب، بل كن وسطا بين ذلك بحسب الموقف، وارفع من شأنك واعل قيمة نفسك بينهم، لا تضعها لأنك إن فعلت متعقدا أنه تواضع أكلوك.
وكما قال أحدهم: كن مع الغرباء متجاهلا لأنهم غرباء، لا تتأثر بنظراتهم ولا كلماتهم ولا أخطائهم، اتركها تعبر مثلهم فلن يلبثوا في عالمك كثيرا، أما المقربون فكل معهم متغافلا لتسلم من صداع الرأس بسبب التناقر معهم.
يتبع…