استيقظت ذات صباح على نظرات قطتي الصغيرة الوديعة تحملق في بطريقة لم أعهدها فيها.. كنت قد بت فوق سطح المنزل رغم البرد الشديد، ولعل المسكينة باتت بجواري بعد أن سدت جميع منافذ الدخول إلى المنزل في وجهها..
كنت أهوى النوم في البرد وأجد في مطابقة الأغطية على جسدي النحيل لذة.. أما القطة المسكينة فقد بدا من شعرها المنفوش، ونظراتها الغاضبة أنها لم تستمتع بذلك البرد مثلي.. فداخلني شعور غريب بأنها تحسدني على الأغطية التي حميت بها نفسي منه.. فسألتها مستغربا:
– لماذا تحملقين فيّ كشاحنة مبهورة في ليلة ظلماء؟
أجابتني بالهدوء الذي يسبق العاصفة:
– معذرة أيها المحترم.. كنت فقط أفكر في حظوظ المخلوقات في هذه الدنيا..
– ألا يمكنك التفكير في ذلك دون أن تأكليني بعينيك الكبيرتين..
ازدادت نبرة صوتها حدة وهي تقول:
– لو كنت أريد أكلك لفعلت ذلك منذ زمن بعيد..
– ألا تلاحظين أنك قد أصبحت كثيرة العصبية والشرود في هذه الأيام؟
– ذلك شأن لا يعنيك..
– ولكنك أصبحت مجنونة..
صاحت في مكشرة عن أنيابها نافشة لشعرها:
– دعني أيها الأناني أنام الضحى على الأقل بعد أن حرمتني من النوم ليلا..
– ألا يمكنك أن تناديني باسمي الذي تحفظين..
– ألست أناني؟ أم أن ذلك يخجلك؟
حاولت تغيير دفة الحديث قائلا:
– ما سبب كل هذه العصبية الآن؟
أجابت وهي تشيح بوجهها بعيدا:
– الأغطية التي ترادف على جسدك دون حساب لمن حولك من المخلوقات..
– ولكن شعرك المنفوش الجميل يحميك من البرد..
– أريد معه غطاء من أغطيتك الدافئة هذه.. أريد الإستمتاع قليلا مثلما تستمتعون، أريدكم أيها البشر أن تفكروا فينا نحن الحيوانات قليلا بدلا من التفكير في أنفسكم على الدوام..
– ولكننا نفكر فيكم.. ألم تسمعي بمنظمة الرفق بالحيوان، ألم تسمعي بحب العلوج للقطط والكلاب؟ إنهم يقتلون البشر ويتركونكم!
– مجرد أكاذيب ومسرحيات، حبر على ورق.. كل ما يصدر من أولئك الكذبة مجرد الأكاذيب.. هؤلاء لم يرحموا الناس فكيف يرحمون الحيوانات؟
– ألم تسمعي بالطب البيطري..
– مجرد شركات ربوية أخرى تدر النقود على أصحابها الكفار، كفار النعمة..
– ألم تسمعي عن توريث الكلاب في أوروبا وأمريكا؟
– اللعنة عليهم وعلى كلابهم الكئيبة مثلهم، ألم تسمع أنت عن صيد الثعالب في بريطانيا التي تتشدق بها .. ألم تسمع عن شي الأسماك وهي حية في الصين.. ألم تسمع عن ابتلاع الحشرات الراقصة في تايلاندا.. ألم تسمع عن شنق الأطفال للقطط وللكلاب في موريتانيا؟
قلت مندهشا من ذلك الغضب الدفين:
– يبدو أنك تكرهيننا ..
أجابت بخجل:
– أنت لا.. لا أكرهك لأنك طيب.. أما البقية، فأمقتهم.. لا أحبهم يا أخي، ثقلاء على الأرض والنفوس..
– إذن لماذا انفجرت في وجهي غاضبة وانت تعلمين أني لا أحرمك مما هو أهم عندك من هذه الأغطية، وهو قطع اللحم اللذيذة التي تموتين فيها ألف موتة؟
– ليس بيني وبينك إلا مشكلة الأغطية، وأعتقد أن حلها بسيط يا أخي، إن لم يكن عندك مانع..
– يجب أن تعرفي أن الناس مثلكم أيها القطط، فيهم الجيدون وهم قلة، وفيهم اللئام، كقط الجيران النتن، ألا توافقيني الرأي في أنه لئيم ولص ثقيل؟
– لا تذكرني بذلك الكلب..
– القط..
– بل الكلب..
مضت لحظات من الصمت هتفت بعدها ممازحة:
– أنتم أسوأ منه أيها البشر، لا أعتقد ان فيكم خيّرا لشدة لئامتكم.. يا أدنياء.
– لا اوافقك الرأي..
– إذن ما تبريرك للقتل الجماعي في كل مكان، الظلم والتعذيب والاغتصاب، إلى آخر تلك الرذائل التي يترفع عنها قط الجيران الخسيس. ألم تسمع بما حصل في يوغسلافيا من إبادات، وما يحصل في غزة؟ هل يوجد على الأرض كلها من هو أكثر شرا وخبثا من الإنسان الفاسد.. ما أسهل وأسرع فسادكم، إنه أسرع من تعفن اللبن الرائب الموضوع تحت الشمس بعيدا عن القطط المتلصصة.
أحرجتني بكلماتها، لكني تشبثت بحبل الجدال خوفا من الإنهزام أمام قطة..
قلت بثقة مصطنعة:
– أنت تبالغين أيتها الظالمة..
أجابت بغضب:
– بل أنت الذي يكابر مثل أخوك الحيوان الإنسان.. اذهب إلى فلسطين أو العراق، وستدرك السبب الحقيقي لوجد تلك الوحوش المحتلة على تلك الأراضي.. إنه الشر يا صديقي.. الشر الذي يغرس رايته في كل مكان يطؤه البشر بأقدامهم.. والآن دعني أنام الضحى فمحاورتك المملة غير مجدية، وقد أضاعت علي وقتا ثمين من الراحة..
قلت محمسا:
– لقد بدأت تقنعيني بأن الإنسان شرير.. هيا استمري..
كان النعاس في آخر خطواته إلى إغلاق عينيها الصغيرتين فاعتدلت جالسة وقد أحست بنشوة الانتصار، وهتفت بسعادة:
– إذن بدأت تقتنع بأن أخوك الحيوان، شرير.. كنت أعرف أنك ستفعل لأنك طيب.. سامحني على ما بدر مني سلفا في حقك من كلمات فأنت روحي وحياتي وقطي المفضل..
كان لكلماتها وقع الانفجار علي.. المسكينة في منتهى الوضوح والبراءة ككل الحيوانات.. أما نحن فيجب أن نخجل من أنفسنا، ونصفع عقولنا على قفاها.. هذا ليس من العقل في شيء، بل خبث ومكر وشر، لا يمكننا الإستمرار في التفكير في أنفسنا وحدها، وتحقيق نزواتنا التي لا نهاية لها..
قلت متأثرا:
– كم هو أناني الإنسان..
قالت باستغراب :
– ولكنه ذكي كان بإمكانه أن يوظف عقله فيما ينفعه ويريحه ويريح غيره ممن يشاركه هذه الأرض؟ حتى على مستوى البيوت التي فيها شخصين أو ثلاث، لا تجد راحة مطلقة، لابد أن يتشيطن بعضهم على بعض ولو بالحسد وثقل الظل..
– هوى الإنسان وشيطانه هما سبب كل المصائب..
– كنت أعتقد أن بطنه وفرجه أدعى للشر منهما..
– كلها عناصر يقوي بعضها بعضا على الخبث والزلل، العقل عبد للهوى، وكلاهما حمار للشيطان..
– من حسن الحظ أني مجرد قطة صغيرة..
– نعم ذلك أفضل بكثير..
– والأغطية.. لماذا لا تصنعون لنا نحن القطط أغطية خاصة بنا على غرار الأطعمة المعلبة المتعفنة التي تقتلوننا بها.. على كل حال لا أريد إلا غطاء واحدا من التي تطابق على جسدك أيها الأناني..
قلت بعجالة وقد أعمتني الأنانية عن مزحتها:
– أتريدين أن تحرميني من هوايتي؟
أجابتني متهكمة:
– أرأيت.. ها نحن ثانية إلى مربع الأنانية البغيض.. يبدو أنني سأغير رأيي وأضمك إلى إخوتك البشر الوحوش..
صحت بأعلى صوتي:
– لا.. لا تفعلي.. خذي كل الأغطية، وفوقها قبلة حارة، ولا تفعلي..
أكملت وهي تغلق عينيها من شدة النعاس:
– اطمئن، لن أفعل.. فأنت أولا و أخيرا صاحبي الذي يطعمني ويحبني..
تأملتها في إشفاق وهي ترخي ستائر عينيها المنسدلة..
المسكينة على حق..
كان النعاس بدوره يداعبني فأغلقت عيني باستسلام، وعندما استيقظت الواحدة زوالا ككل العاطلين عن العمل، اكتشفت أن ذلك الحوار لم يكن إلا جزء من حلم ذكرني بحقيقة البشر الكلاب.. الديمقراطيين بعد ذلك..
ألقيت نظرة على قدمي فإذا بها نائمة حولهما في دعة وسكون.. اقتربت منها وطبعت على شدقها قبلة حارة فتمددت بحنان وشكر وامتنان..