ملخص من افضل كتب السيرة النبوية​

افضل كتب السيرة النبوية.. مختصر من كتب السيرة يجمع أبرز الفوائد والعبر.


1- أهمية السيرة

أرسل الله تعالى الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. فأولهم: نوح، وآخرهم نبينا صلى الله عليه وسلم. فاحرص يا عبد الله على معرفة هذا الحبل، الذي بين الله وبين عباده، الذي من استمسك به سلم، ومن ضيعه عطب.

واعرف ما قص العلماء عن أصحابه وأحوالهم وأعمالهم. لعلك أن تعرف الإسلام والكفر. فإن الإسلام اليوم غريب وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر. وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح.

والدين الإسلامي له شرائع ونظم، منها ما يتعلق بالعبادة ومنها ما يتعلق بالأخلاق والمعاملات والسياسة وغيرها، وهذه كلها مجموعة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقواله وتقريراته، ولا تُعْرَفُ تلك الشرائع إلا باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال جل شأنه: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

وقال سبحانه وتعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ». بل وحَذَّر الله من مخالفته، فقال عز من قائل: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

وقال صلى الله عليه وسلم: “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ”. وقال عليه الصلاة والسلام: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ”.

خصائص السيرة النبوية: السيرة النبوية نبراس لكل من أراد النور في الدنيا والآخرة.

ولا تكاد تجد سيرةَ لنبي من أنبياء الله السابقين وصفت وصفاً دقيقاً ابتداء من ولادته حتى وفاته، وبقيت بعده، فضلاً عن غيرهم من البشر، لكن سيرة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم شملت جميع مراحل حياته، بل وقبل ولادته حتى وفاته عليه الصلاة والسلام.

المراحل الدعوية

تعدُّ السيرة النبوية لب الإسلام وروحه، وتجسيداً حيًّا لجميع تعاليم الإسلام، وقد وضع صلى الله عليه وسلم أسساً للمنهج الدعوي يتمثل فيما يلي:

– دعوة الأقارب، فإذا أصلح الإنسان من نفسه وأهل بيته انتقل إلى المرحلة التالية وهي:

– إنذار العشيرة، وقد استمر صلى الله عليه وسلم في دعوته لقريش ولم يخرج منها إلى أي بلد حتى أكمل عشر سنين، بعد ذلك انتقل إلى قبيلة أخرى تعد من أقرب القبائل العربية لقريش نسباً وصهراً وجواراً، وهي قبيلة ثقيف في الطائف التي ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم أروع الأمثلة لبذل الجهد وتحمّل الأذى.

– ثم بذل الجهد وتحمل الأذى والصبر عليه.

– ثم لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وبعد أن فرض الجهاد بدأ عليه الصلاة والسلام يرسل السرايا والبعوث إلى القبائل العربية لنشر الإسلام تارة، ويخرج هو بنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم تارة أخرى.

التركيز على الجانب العقدي

ظلّ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد الخالص. وكان أيضا يدعو إلى محاسن الأخلاق إلاّ أن تركيزه صلى الله عليه وسلم على الجانب العقدي كان أكثر.

وعلى هذا فالواجب على الدعاة اليوم غرس العقيدة الصحيحة في النفوس أولاً مع الاهتمام أيضاً بالجوانب الأخرى.

تعامله صلى الله عليه وسلم مع خصومه

سلك النبي صلى الله عليه وسلم طريقة عجيبة في كيفية دعوة الناس إلى الإسلام، وهي طريقة الصابرين «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ».

الغاية من إنشاء الجيوش العسكرية

اختلفت أهداف إنشاء الجيش الإسلامي عن بقية الجيوش، فغاياته سامية، وغرضه نبيل، فالغرض ديني بحت لنشر الإسلام وإقامة شرع الله في الأرض لا لشيء آخر «الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ».

ومما يدل على أن الدين الإسلامي دين العدل والرحمة والمساواة، تلك الضوابط التي وضعها الشارع على الجيوش الإسلامية، وهي ضوابط وقيود خاصة لا يشاركه فيها أي جيش في العالم، والسيرة النبوية مليئة بذلك، فلا قتال دون سابق إنذار إلا لمن بلغتهم الدعوة، ولا قتال يتسم بالعنف الهمجي الذي يجهز على إزهاق الأنفس بحق وبغير حق.

وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم رايات يحملها جماعة من أصحابه، فقد كانت للمهاجرين راية، وللأنصار رايتان واحدة للأوس وأخرى للخزرج .

والهدف من حمل الرايات – والله أعلم- التميّز عن الغير من جهة، ومن جهة أخرى حتى تقاتل كل فئة تحت رايتها فتستميت دونها، وحتى لا تأتي الهزيمة من قِبَلها، وبما أنّ حامل الراية هو الأكثر عرضة للقتل، فلا بد أن يكون متصفاً بالشجاعة والإقدام؛ لأنّ الراية إذا سقطت انهار الجيش. وقد كانت بعضُ راياتِ النبي مكتوباً عليها: لا إله إلا الله.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استنفر الناس وتجهزوا، استعرضهم حتى لا يخرج معه إلا من كان قادراً على القتال، فكان صلى الله عليه وسلم لا يسمح باصطحاب الغلمان، والعجزة كما حصل في غزوة أحد ، ولا يسمح للمشركين بالقتال مع المسلمين جنباً إلى جنب.

وهذا يدل على أخذ الحيطة والحذر؛ لأنّ المشركين يخشى منهم الغدر والخيانة وهم مظنة ذلك مع إخوانهم المنافقين.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وصل أرض المعركة اتخذ له مكاناً مناسباً وجعل جيشه في صفوف حتى لا يخترق، ثم يوصيهم بتقوى الله والصبر والسمع والطاعة، وكان يجعل لهم شعاراً يَعرف به بعضهم بعضاً، وهذا الشعار يكون في كلمة أو كلمتين.


2- العرب قبل البعثة

جغرافية العرب

العرب لغة الصحاري والقفار والأرض المجدبة. وجزيرة العرب محاطة بالصحاري والرمال أنقذت سكانها من هجمات الإمبراطوريات وجعلتهم أحرارا منذ أقدم العصور. وهي تقع بين القارات المعروفة في العالم القديم .

وشبه جزيرة العرب عبارة عن الجزء الذي يقع في الجنوب الغربي من قارة أسيا، وهي أكبر جزيرة في العالم، تحيط بها البحار والأنهار من جميع نواحيها إلا جزء قليلا منها، وهي أرض صحراوية تتخللها جبال كثيرة، وتحصر بينها وبين ساحل البحر الأحمر أرضا سهلة ضيقة تعرف بتهامة (أي الأرض المنخفضة) تشرف عليها المرتفعات وتنحدر إليها انحدارا شديدا قصيرا.

وسواحلها المهيمنة على البحر الأحمر يصعب رسوّ السفن فيها لخلوّها من المرافئ الصالحة، ولوجود الشعب المرجانية.

وفي شبه جزيرة العرب حرارة شديدة، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة، واحدتها حرّة، وتسمى لابة ولوبة، وقد تكونت من فعل البراكين.

وقد اشتهر كثير من مناطق الحِرار بالخصب، والنماء، وبكثرة المياه، ولاسيما حِرار المدينة التي استغلت استغلالا جيدا، ومنها خيبر حيث كانت واحة عظيمة، تضم قرى كانت تشتهر بأنواع المزروعات من قديم الزمان.

وليس في بلاد العرب نهر واحد بالمعنى المعروف من الأنهار، وإنما هي جداول غير صالحة للملاحة، وهي إما قصيرة سريعة الجريان، شديدة الانحدار، وإما ضحلة تجف في بعض المواسم، وبها كثير من العيون العذبة، وتنتشر حول هذه العيون الواحات، والوديان ذات الأشجار الوارفة، وتوجد بها بعض المزروعات، والخضر، والفاكهة.

والأمة العربية من أقدم الأمم وأشهرها، كان لها في التاريخ القديم والحديث آثار لا تزال باقية إلى الآن، وقد خلّد الله سبحانه وجودها بأن اختار منها خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فكان شاهد صدق على أنها الأمة الجديرة بقيادة العالم إذا عضّت بالنواجذ على هذا الدين الذي هو خاتم الأديان وأوفاها بحاجة البشرية، كما خلّد لغتها حينما جعل آية خاتم أنبيائه العظمى وحيا يتلى، وقرانا عربيا مبينا، باقيا.

وقد قسّم جغرافيو العرب شبه الجزيرة إلى خمسة أقسام: الحجاز، وتهامة، ونجد، والعروض، واليمن. وزاد الأصطخري وابن حوقل ثلاثة أصقاع وهي: بادية العراق، وبادية الجزيرة، وبادية الشام..

وقد نشأت من قديم الزمان ببلاد العرب حضارات أصيلة، ومدنيات عريقة من أشهرها حضارة سبأ باليمن، وقد دل القران الكريم على أنه كان في بعض بلاد العرب حضارات قديمة، وعمران، وخصب، ونماء، ورخاء، وتقدم.

ففي اليمن استفادوا من مياه الأمطار والسيول التي كانت تضيع في الرمال، وتنحدر إلى البحار، فأقاموا الخزانات والسدود بطرق هندسية بديعة، وأشهر هذه السدود (سد مأرب)، قال الله تعالى: “لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ”.

كما دل القران الكريم أيضا على أنه كانت هناك في هذا الزمن الغابر قرى متصلة، ما بين اليمن، إلى بلاد الحجاز، إلى بلاد الشام، وأن قوافل التجارة والمسافرين كانوا يخرجون من اليمن إلى بلاد الشام، فلا يعدمون ظلا، ولا ماء، ولا طعاما، قال عزّ شأنه: “وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ”.

كما قامت حضارات أخرى في غير اليمن، فقد كان في الأحقاف شمال حضرموت قبيلة عاد ، وهم الذين أرسل إليهم نبي الله هود عليه السلام، وكانوا أصحاب بيوت مشيدة، ومصانع متعددة، وجنات، وزروع، وعيون.

قال تعالى: ” كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ”.

وكذلك كانت حضارة في بلاد الحجر حيث تسكن ثمود، وقد دلّ القرآن الكريم على ما كانوا يتمتعون به من القدرة على نحت البيوت في الجبال (توجد لهم بئر عمقها 30 مترا وعرضها 5 أمتار تقريبا محفورة في الجبل ! أما بيوتهم ودار الندوة التي كانوا يجتمعون فيها فأعجوبة شاهد ذلك هنا !!).

وعلى ما كان يوجد في بلادهم من عيون وبساتين وزروع، قال تعالى: “كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ”.

وقد اضمحل كل ذلك من زمان طويل، ولم يبق منه إلا آثار ورسوم، فقد درست القرى والمدن، وتخربت الدور والقصور، ونضبت العيون، وجفت الأشجار، وانمحت البساتين والزروع.

يقول بعض الباحثين: «وتدل البحوث والدراسات التي قام بها السياح والعلماء عن بلاد العرب على أن تغييرا كبيرا طرأ على جوها، وأن هذا الجفاف الذي نعهده الآن في هذه البلاد لم يكن على النحو الذي كان عليه في العصور التي سبقت الإسلام، وأن ذلك الجفاف أثر في شبه جزيرة العرب، فجعل أكثر بقاعها صحارى جرداء، كما أثّر في حالة سكانها، فقاوم نشوء المجتمعات الكبرى، وأثر تأثيرا خطيرا في تاريخ الأمة العربية، وفي حدوث الهجرات».

ويميل كثير من السياح، وعلماء طبقات الأرض الذين جابوا أنحاء شبه الجزيرة العربية إلى تأييد القول بظهور الجفاف في الألف الثانية قبل الميلاد.

ولا يفوتني في هذا المقام أن أنبه إلى أن هذه الحقائق جاء بها القران منذ قرابة أربعة عشر قرنا على لسان النبي العربي الأمي، ثم جاء علماء الآثار وطبقات الأرض في العصر الأخير، فوصلوا إلى ما أيّد هذه الحقائق كل التأييد، وهذا من أكبر الأدلة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم.

وقد شاء الله تبارك وتعالى ألا تطأ الحجاز قدم دخيل قط أو مغير، ولا كان لأحد من الدول المجاورة القوية عليها سلطان، ولعل ذلك لوعورة الأرض وكثرة الجبال، وضيق المسالك، وسعة مغاورها، كما أن حالته الاقتصادية لم تكن لتطمع أحدا فيه، فمن ثمّ بقي أهله على ما فطروا عليه من الحرية، والانطلاق، وما اتصفوا به من الخلال الكريمة، وبقيت أنسابهم سليمة من الهجنة، ولغتهم سليمة من العجمة.

أقوام العرب

ينقسم العرب إلى 3 أقسام:
العرب البائدة: وهم العرب القدامى، ولم يحصل على تفاصيل كافية عن تاريخهم مثل عاد وثمود وعملاق…

العرب العاربة: وهم المنحدرون من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان، وتسمى بالعرب القحطانية. قال البخاري في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه”. قال السهيلي: وقحطان أول من قيل له “أبيت اللعن”، وأول من قيل له “أنعم صباحا”.

العرب المستعربة: وتنحدر من صلب إسماعيل وتسمى بالعرب العدنانية.

القبائل العربية: ومن العرب العاربة “حمير” ومن بطونها قضاعة (مع اختلاف في نسبتها إلى حمير)، وكهلان، ومن بطون الأخيرة طيء والأوس والخزرج.

وهاجرت بطون كهلان عن اليمن وانتشرت في أنحاء الجزيرة العربية، وذلك بسبب فشل تجارتهم بسبب ضغط الروم.

أما العرب المستعربة فأصل جدهم الأعلى، وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام، من العراق، من بلدة يقال لها “آر”، هاجر إلى حاران ومنها إلى فلسطين.

ابراهيم وبناء البيت: وقدم مرة إلى مصر فحاول فرعونها كيدا وسوءا بزوجته سارة، ولكن الله رد كيده في نحره، فأخدمها فرعون هاجر، وزوجتها سارة لإبراهيم، ورجع إبراهيم إلى فلسطين، ورزقه الله من هاجر إسماعيل، وغارت سارة حتى ألجأت إبراهيم إلى نفي هاجر مع ولدها الصغير، فقدم بهما الحجاز، واسكنهما بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم الذي لم يكن في ذلك الوقت إلا مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله.

وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ورجع إلى فلسطين. ونفذ الماء والزاد، وتفجرت بئر زمزم بفضل الله فصارت قوتا لهما.

وجائت قبيلة يمانية هي جرهم الثانية، فقطنت مكة بإذن من أم إسماعيل، يقال انهم كانوا في الأودية في أطراف مكة.

وكان ابراهيم يرحل إلى مكة بين آونة وأخرى، وتم حفظ أربع رحلات له. ذكر الله تعالى في القرآن أنه رآى أنه يذبح اسماعيل فقام بتنفيذ الأمر ليفديه ربه بذبح عظيم.

ولما شب اسماعيل وتعلم العربية من جرهم، زوجوه امرأة منهم، فجاء ابراهيم فلم يجد اسماعيل، فسأل امرأته عن أحوالهما، فشكت إليه ضيق العيش، فأوصاها أن تقول لإسماعيل أن يغير عتبة بابه، وفهم اسماعيل ما أراد أبوه فطلق امرأته، وتزوج ابنة مضاض بن عمرو، كبير جرهم وسيدهم.

وجاء ابراهيم مرة أخرى فلم يجد اسماعيل، فسأل زوجته عن حالهما، فأثنت على الله، فأوصى إلى اسماعيل أن يثبت عتبة بابه.

وجاء مرة ثالثة فوجد اسماعيل وهو يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فبنيا الكعبة ورفعا قواعدها، وأذن ابراهيم في الناس بالحج كما أمره الله.

عدنان: رزق الله اسماعيل من ابنة مضاض 12 ولدا منهم نابت وقيدار، وتشعبت منهم 12 قبيلة سكنت مدة في مكة ثم انتشرت في أنحاء الجزيرة العربية ثم ضاعت أخبارهم إلا أولاد نابت وقيدار.

ولم يزل أولاد قيدار في مكة حتى كان منهم عدنان وولده معد، وعدنان هو الجد ال 21 للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول: “كذب النسابون، فلا يتجاوزه”.

وكان لنزار ابن معد 4 أولاد تشعبت منهم 4 قبائل عظيمة هي : إياد وأنمار وربيعه ومضر، وتشعبت منهم شعب عظيمة.

وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها: جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة، وبطون قصي بن كلاب وهي: عبد الدار بن قصي، وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي.

وكان من عبد مناف: أربع فصائل هي: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله اصطفي من ولد إبراهيم اسماعيل، واصطفى من ولد اسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم”.

ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب متتبعين مواقع القطر ومنابت العشب‏.

وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق، لأنهم كانوا متفرقين فجمعهم قصى بن كلاب بالحرم. قال حذافة ابن غانم العدوى:
أبوكم قصى كان يدعى مجمعا …. به جمع الله القبائل من فهر
وقال بعضهم: كان قصى يقال له قريش.

وقيل: سميت قريش من التقرش، وهو التكسب والتجارة. قال الفراء: وبه سميت قريش، وهى قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة، فكل من كان من ولده فهو قرشي دون ولد كنانة فما فوقه.

وقيل: من التفتيش، قال هشام بن الكلبى: كان النضر بن كنانة يسمى قريشا لأنه كان يقرش عن خلة الناس وحاجتهم، فيسدها بماله، والتقريش هو التفتيش.
ويقال في النسبة إلى قريش: قرشي وقريشي.

وقال أبو عمر بن عبد البر: يقال: بنو عبد المطلب فصيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو هاشم فخذه، وبنو عبد مناف بطنه، وقريش عمارته، وبنو كنانة قبيلته، ومضر شعبه، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

الحكم والإمارة في العرب

كان حكام جزيرة العرب عند ظهور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين‏:‏
ملوك مُتَوَّجُون إلا أنهم في الحقيقة كانوا غير مستقلين‏.‏ ورؤسـاء القبائـل والعشائر وكـان لهم مـن الحكم والامتـياز مـا كـان للملـوك المتوجين، ومعظم هـؤلاء كانـوا على تمـام الاستقـلال، وربمـا كانت لبعضـهم تبعية لملك متـوج‏.‏

الملك في اليمن

كان لقوم سبأ قبل 650 ق.م ملوك يلقبون ب”مكرب سبأ” وعاصمتهم “صرواح”، وقد بدأ بناء السد في زمنهم. وعُرفت دولتهم في الفترة ما بين 620 ق‏.‏ م إلى سنة 115 ق‏.‏ م بدولة سبأ، وتركوا لقب ‏‏”مكرب‏” وعرفوا بـ‏”‏ملوك سبأ”‏، واتخذوا ‏”‏مأرب‏”‏ عاصمة لهم.

ومنذ سنة 115 ق‏.‏ م إلى سنة 300 م غلبت قبيلة حمير (الدولة الحميرية الأولى) واستقلت بمملكة سبأ، وقد عرف ملوكها بـ‏”ملوك سبأ وذى ريدان”‏، وهؤلاء الملوك اتخذوا مدينة “‏ريدان” كعاصمة لهم. وفي هذا العهد بدأ فيهم السقوط والإنحطاط.‏

ومن 300م إلى أن دخل الإسلام في اليمن عرفت الدولة في هذه الفترة بالدولة الحميرية الثانية، وقد توالت على هذه الدولة الإضطرابات، ففي هذا العهد دخل الرومان في عدن، وبمعونتهم احتلت الأحباش اليمن لأول مرة سنة 340 م؛ مستغلين التنافس بين قبيلتى همدان وحمير، واستمر احتلالهم إلى سنة 378 م‏.‏

ثم نالت اليمن استقلالها، ولكن بدأت تقع الثلمات في سد مأرب، حتى وقع السيل العظيم الذي ذكره القرآن بسيل العرم في سنة 450م، أو 451 م‏، ‏وكانت حادثة كبرى أدت إلى خراب العمران وتشتت الشعوب‏.‏
وفي سنة 523م قاد ذو نُوَاس اليهودى حملة منكرة على المسيحيين من أهل نجران، وحاول صرفهم عن المسيحية قسرًا، ولما أبوا خدّ لهم الأخدود وألقاهم في النيران.

وهذا الذي أشـار إلـيه القـرآن في سـورة الـبروج بقـوله‏:‏ ‏”وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏”‏.‏

وكان هذا الحادث هو السبب في نقمة النصرانية (تحت قيادة أباطرة الرومان) على بلاد العرب، فقد حرضوا الأحباش، وهيأوا لهم الأسطول البحرى، فنزل سبعون ألف جندى من الحبشة، واحتلوا اليمن مرة ثانية، بقيادة أرياط سنة 525 م، وظل أرياط حاكمًا من قبل ملك الحبشة حتى اغتاله أبرهة بن الصباح الأشرم ـ أحد قواد جيشه ـ سنة 549م، ونصب نفسه حاكمًا على اليمن بعد أن استرضى ملك الحبشة وأرضاه.

وأبرهة هذا هو الذي جند الجنود لهدم الكعبة، وعرف هو وجنوده بأصحاب الفيل‏.‏ وقد أهلكه الله بعد عودته إلى صنعاء عقب وقعة الفيل، فخلفه على اليمن ابنه يَكْسُوم، ثم الابن الثانى مسروق، وكانا ـ فيما يقال ـ شرا من أبيهما، وأخبث سيرة منه في اضطهاد أهل اليمن وقهرهم وإذلالهم‏.‏

أما أهل اليمن فإنهم بعد وقعة الفيل استنجدوا بالفرس، وقاموا بمقاومة الحبشة حتى أجلوهم عن البلاد، ونالوا الإستقلال في سنة 575 م بقيادة معد يكرب سيف بن ذى يزن الحميرى، واتخذوه ملكًا لهم، وكان معد يكرب أبقى معه جمعًا من الحبشة يخدمونه ويمشون في ركابه، فاغتالوه ذات يوم.

وبموته انقطع الملك عن بيت ذى يزن، وصارت اليمن مستعمرة فارسية تتعاقب عليها ولاة من الفرس، حتى كان آخر ولاة الفرس، فإنه اعتنق الإسلام سنة 628م، وبإسلامه انتهي نفوذ فارس على بلاد اليمن‏.‏

الملك في الحيرة

كانت الفرس تحكم بلاد العراق وما جاورها منذ أن جمع شملهم قوروش الكبير ‏(‏557 ـ 529 ق‏.‏م ‏)، حتى قام الإسكندر المقدونى سنة 326 ق‏.‏ م فهزم ملكهم دارا وبددهم، فتجزأت بلادهم، وتولاها ملوك عرفوا بملوك الطوائف، وقد ظل هؤلاء الملوك يحكمون البلاد مجزأة إلى سنة 230م‏.‏

وفي عهد هؤلاء الملوك هاجر القحطانيون، واحتلوا جزءًا من ريف العراق، ثم لحقهم من هاجر من العدنانيين فزاحموهم حتى سكنوا جزءًا من الجزيرة الفراتية‏. وأول من ملك من هؤلاء المهاجرين هو مالك بن فَهْم التَّنُوخى من آل قحطان، وكان منزله الأنبار أو مما يليها، وخلفه أخوه عمرو بن فهم في رواية‏، وجَذِيمة بن مالك بن فهم ـ الملقب بالأبْرش والوَضَّاح ـ في رواية أخرى‏.‏

وعادت القوة مرة ثانية إلى الفرس في عهد أردشير بن بابك ـ مؤسس الدولة الساسانية سنة 226 م ـ فإنه جمع شمل الفرس، واستولى على العرب المقيمين على تخوم ملكه، وكان هذا سببا في رحيل قضاعة إلى الشام، ولكن دان له أهل الحيرة والأنبار‏.‏

وفي عهد أردشير كانت ولاية جذيمة الوضاح على الحيرة وسائر مَنْ ببادية العراق والجزيرة من ربيعة ومضر، وكأن أردشير رأى أنه يستحيل عليه أن يحكم العرب مباشرة، ويمنعهم من الإغارة على تخوم ملكه، إلا أن يملك عليهم رجلًا منهم له عصبية تؤيده وتمنعه، ومن جهة أخرى يمكنه الاستعانة بهم على ملوك الرومان الذين كان يتخوفهم، وليكون عرب العراق أمام عرب الشام الذين اصطنعهم ملوك الرومان.

وكان يبقى عند ملك الحيرة كتيبة من جنود الفرس؛ ليستعين بها على الخارجين على سلطانه من عرب البادية، وكان موت جذيمة حوالى سنة 268 م‏.‏

وبعد موت جذيمة ولى الحيرة والأنبار عمرو بن عدى بن نصر اللخمى ‏[‏ 268ـ 288م‏]‏ وهو أول ملوك اللخميين، وأول من اتخذ الحيرة مقرًا له، وكان في عهد كسرى سابور بن أردشير، ثم لم يزل الملوك من اللخميين من بعده يتولون الحيرة حتى ولى الفرس قُبَاذ بن فيروز ‏[‏448ـ 531م‏]‏ وفي عهده ظهر مَزْدَك، وقام بالدعوة إلى الإباحية، فتبعه قباذ كما تبعه كثير من رعيته.

ثم أرسل قباذ إلى ملك الحيرة ـ وهو المنذر بن ماء السماء ‏[‏512ـ 554 م‏]‏ ـ يدعوه إلى اختيار هذا المذهب الخبيث، فأبي عليه ذلك حمية وأنفة، فعزله قباذ، وولى بدله الحارث بن عمرو بن حجر الكندى بعد أن أجاب دعوته إلى المذهب المزدكى‏.‏
وخلف قباذ كسرى أنوشروان ‏[‏531ـ 578م‏]‏ وكان يكره هذا المذهب جدًا، فقتل المزدك وكثيرًا ممن دان بمذهبه، وأعاد المنذر إلى ولاية الحيرة، وطلب الحارث بن عمرو، لكنه أفلت إلى دار كلب، فلم يزل فيهم حتى مات‏.‏

واستمر الملك بعد المنذر بن ماء السماء في عقبه حتى كان النعمان بن المنذر ‏[‏583 ـ605 م‏]‏ فإنه غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها زيد بن عدى العبادى، فأرسل كسرى إلى النعمان يطلبه، فخرج النعمان حتى نـزل سـرا عـلى هانئ بن مسعود سـيد آل شيبان، وأودعه أهله وماله.

ثم توجه إلى كسرى، فحبسه كسرى حتى مات‏،‏ وولى على الحيرة بدله إياس بن قَبِيصة الطائى، وأمره أن يرسل إلى هانئ بن مسعود يطلب منه تسليم ما عنده، فأبي ذلك هانئ حمية، وآذن الملك بالحرب، ولم يلبث أن جاءته مرازبة كسرى وكتائبه في موكب إياس، ودارت بين الفريقين معركة هائلة عند ذي قار، انتصر فيها بنو شيبان وانهزمت الفرس هزيمة نكراء‏.‏

وهذا أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم، وهو بعد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وولى كسرى على الحيرة بعد إياس حاكمًا فارسيًا اسمه آزادبه بن ماهبيان بن مهرابنداد، وظل يحكم 17 عاما‏ [‏614ـ 631م‏]‏، ثم عاد الملك إلى آل لخم سنة 632م، فتولى منهم المنذر بن النعمان الملقب بالمعرور، ولكن لم تزد ولايته على ثمانية أشهر حتى قدم عليه خالد بن الوليد بعساكر المسلمين (والله أكبر).‏

الملك في الشام

في عصر هجرات القبائل سارت بطون من قضاعة إلى مشارف الشام وسكنت بها، وكانوا من بنى سُلَيْح بن حُلْوان الذين منهم بنو ضَجْعَم ابن سليح المعروفون باسم الضجاعمة، فاصطنعهم الرومان؛ ليمنعوا عرب البرية من العبث، وليكونوا عدة ضد الفرس، وولوا منهم ملكًا.

ثم تعاقب الملك فيهم سنين، ومن أشهر ملوكهم زياد بن الهَبُولة، ويقدر زمنهم من أوائل القرن الثانى الميلادى إلى نهايته تقريبًا، وانتهت ولايتهم بعد قدوم آل غسان، الذين غلبوا الضجاعمة على ما بيدهم وانتصروا عليهم، فولتهم الروم ملوكًا على عرب الشام، وكانت قاعدتهم مدينة بصرى، ولم تزل تتوالى الغساسنة على الشام بصفتهم عمالًا لملوك الروم حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13هـ، وانقاد للإسلام آخر ملوكهم جَبَلَة بن الأيهم في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

الإمارة في الحجاز

ولي إسماعيل عليه السلام زعامة مكة وولاية البيت طول حياته، ثم ولى واحد وقيل‏‏ اثنان من أبنائه‏ نابت ثم قَيْدار، ويقال العكس، ثم ولى أمر مكة بعدهما جدهما مُضَاض بن عمرو الجُرْهُمِىّ، فانتقلت زعامة مكة إلى جرهم.

وظلت في أيديهم، وكان لأولاد إسماعيل مركز محترم؛ لما لأبيهم من بناء البيت، ولم يكن لهم من الحكم شيء،‏ ‏ثم ضعف أمر جرهم قبيل ظهور بُخْتُنَصَّر، وتفرقت بنو عدنان إلى اليمن عند غزوة بختنصر الثانية ‏(سنة 587 ق‏.‏ م‏)، وذهب برخيا ـ صاحب يرمياه النبي الإسرائيلى بَمَعَدّ ـ إلى حران من الشام.

فلما انكشف ضغط بختنصر رجع معد إلى مكة فلم يجد من جرهم إلا جَوْشَم بن جُلْهُمة، فتزوج بابنته مُعَانة فولدت له نزارًا‏، ‏وساء أمر جرهم بمكة بعد ذلك وضاقت أحوالهم، فظلموا الوافدين إليها، واستحلوا مال الكعبة، الأمر الذي كان يغيظ العدنانيين ويثير حفيظتهم.

ولما نزلت خزاعة بِمَرِّ الظَّهْران ورأت نفور العدنانيين من الجراهمة استغلت ذلك، فقامت بمعونة من بطون عدنان ـ وهم بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ـ بمحاربة جرهم حتى أجلتهم عن مكة واستولت على حكمها في أواسط القرن الثانى للميلاد‏.

‏ولما لجأت جرهم إلى الجلاء سدوا بئر زمزم ودرسوا موضعها ودفنوا فيها عدة أشياء، قال ابن إسحاق‏:‏ فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمى بغزالى الكعبة وبحجر الركن الأسود فدفنهما في بئر زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنًا شديدًا.

وفي ذلك قال عمرو‏:‏
وقائلة والدمع سكب مبادر …. وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجُون إلى الصفا …. أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لها والقلب منى كأنما …. يلجلجه بين الجناحين طائر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا …. صروف الليالى والجُدُود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت …. نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
إلى قوله:
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة …. بذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكى لبلدة …. بها حرم أمن وفيها المشاعر
وتبكى لبيت ليس يؤذى حمامه …. يظل به أمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة …. إذا خرجت منه فليست تغادر

واستبدت خزاعة بأمر مكة دون بنى بكر، إلا أنه كان إلى قبائل مضر ثلاث خلال‏:‏
الأولى‏:‏ الدفع بالناس من عرفة إلى المزدلفة، والإجازة بهم يوم النفر من منى، وكان يلى ذلك بنو الغَوْث بن مرة من بطون إلياس بن مضر، وكانوا يسمون صُوفَة، ومعنى هذه الإجازة أن الناس كانوا لا يرمون يوم النفر حتى يرمى رجل من صوفة، ثم إذا فرغ الناس من الرمى وأرادوا النفر من منى، أخذت صوفة بجانبى العقبة فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلون سبيل الناس، فلما انقرضت صوفة ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من تميم‏. ‏

الثانية‏:‏ الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، وكان ذلك في بنى عدوان‏.‏
الثالثة‏:‏ إنساء الأشهر الحرم، وكان ذلك إلى بنى فُقَيْم بن عدى من بنى كنانة‏.‏
وقالوا: وإنما سميت خزاعة خزاعة لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به. قال عون بن أيوب الانصاري ثم الخزرجي في ذلك:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت …. خزاعة منا في حلول كراكر (كراكر: أي جماعات)

وكانوا مشئومين في ولايتهم وذلك لان في زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحى لعنه الله فإنه أول من دعاهم إلى ذلك وكان ذا مال جزيل جدا. يقال: إنه فقأ أعين عشرين بعيرا وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير. قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم ومحلته عندهم وكرمه عليهم.

قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه.

واستمرت ‏ولاية‏ خزاعة على مكة ثلاثمائة سنة‏.‏ وفي وقت حكمهم لم يكن للعدنانين من أمر مكة ولا البيت الحرام شيء حتى جاء قصى بن كلاب‏.‏

قصي بن كلاب: ويذكر من أمر قصي‏‏ أن أباه مات وهو في حضن أمه، ونكح أمه رجل من بنى عُذْرَة ـ وهو ربيعة بن حرام ـ، فاحتملها إلى بلاده بأطراف الشام، فلما شب قصي رجع إلى مكة، وكان واليها إذ ذاك حُلَيْل بن حَبْشِيَّة من خزاعة، فخطب قصي إلى حليل ابنته حُبَّى، فرغب فيه حليل وزوجه إياها، فلما مات حليل قامت حرب بين خزاعة وقريش أدت أخيرًا إلى تغلب قصي على أمر مكة والبيت‏.‏

ولما مات حليل وفعلت صوفة ما كانت تفعل، أتاهم قصي بمن معه من قريش وكنانة عند العقبة، فقال‏:‏ نحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه، فغلبهم قصي على ما كان بأيديهم، وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي فبادأهم قصي وأجمع لحربهم، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا.

ثم تداعوا إلى الصلح فحكَّموا يَعْمُر بن عوف أحد بنى بكر فقضى بأن قصيًا أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة، وكل دم أصابه قصي منهم موضوع يشدخه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية، وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة، فسمى يعمر يومئذ‏:‏ الشداخ‏.‏

وبذلك صارت لقصي ثم لقريش السيادة التامة والأمر النافذ في مكة، وصار قصي هو الرئيس الديني لهذا البيت الذي كانت تفد إليه العرب من جميع أنحاء الجزيرة‏. وحكى الأموى قال: وزعم قوم من خزاعة أن قصيا لما تزوج حبى بنت حليل، وثقل حليل عن ولاية البيت جعلها إلى ابنته حبى واستناب عنها أبا غبشان سليم بن عمرو، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وقعود، فكان يقال: ” أخسر من صفقة أبى غبشان “.

ولما رأت خزاعة ذلك اشتدوا على قصي، فاستنصر أخاه فقدم بمن معه، وكان ما كان.

وأنزل قصي قبائل قريش أباطح مكة، وأنزل طائفة منهم ظواهرها، فكان يقال قريش البطاح، وقريش الظواهر.

فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة، من حجابة البيت وسدانته واللواء، وبنى دارا لإزاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة، إذا أعضلت قضية اجتمع الرؤساء من كل قبيلة فاشتوروا فيها وفصلوها، ولا يعقد عقد لواء ولا عقد نكاح إلا بها، ولا تبلغ جارية أن تدرع فتدرع إلا بها.

وكان باب هذه الدار إلى المسجد الحرام، ثم صارت هذه الدار فيما بعد إلى حكيم بن حزام بعد بنى عبد الدار، فباعها في زمن معاوية بمائة ألف درهم، فلامه على بيعها معاوية وقال: بعت شرف قومك بمائة ألف. فقال: إنما الشرف اليوم بالتقوى، والله لقد ابتعتها في الجاهلية بزق خمر، وها أنا قد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها صدقة في سبيل الله، فأينا المغبون؟

وكان قصي أول من أحدث وقيد النار بالمزدلفة ليهتدى إليها من يأتي من عرفات.
والرفادة وهى إطعام الحجيج أيام الموسم إلى أن يخرجوا راجعين إلى بلادهم.
وذلك أن قصيا فرضه عليهم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنكم جيران الله، وأهل مكة وأهل الحرم، وإن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم. قال فيه القائل:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
هم ملئوا البطحاء مجدا وسؤددا * وهم طردوا عنا غواة بني بكر

ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح بين ربيعة إلى بلاده بمن معه وإخوته من أبيه الثلاثة، وهم حن ومحمود وجلهمة.

وقال رزاح في إجابته قصيا:
ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول أجيبوا الخليلا
نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيلا
نسير بها الليل حتى الصباح * ونكمى النهار لئلا نزولا (نكمى: نستتر ونختبئ)
فهن سراع كورد القطا * يجبن بنا من قصي رسولا

ثم لما كبر قصي فوض أمر هذه الوظائف التى كانت إليه، من رئاسات قريش وشرفها من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد الدار، وكان أكبر ولده. وإنما خصه بها كلها لان بقية إخوته عبد مناف وعبد شمس وعبد كانوا قد شرفوا في زمن أبيهم وبلغوا في قوتهم شرفا كبيرا، فأحب قصي أن يلحق بهم عبد الدار في السؤدد، فخصه بذلك، فكان إخوته لا ينازعونه في ذلك.

فقال له قصي فيما يقال‏:‏ لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك، فأوصى له بما كان يليه من مصالح قريش، فأعطاه دار الندوة واللواء والقيادة والحجابة والسقاية والرفادة، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه.

وكان أمره في حياته وبعد موته كالدين المتبع، فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم، ولكن لما هلك عبد مناف نافس أبناؤه بني عمهم عبد الدار في هذه المناصب، وافترقت قريش فرقتين، وكاد يكون بينهم قتال، إلا أنهم تداعوا إلى الصلح واقتسموا هذه المناصب، فصارت السقاية والرفادة والقيادة إلى بني عبد مناف، وبقيت دار الندوة واللواء والحجابة بيد بني عبد الدار‏.‏

وقيل‏:‏ كانت دار الندوة بالإشتراك بين الفريقين، ثم حكم بنو عبد مناف القرعة فيما أصابهم، فصارت السقاية والرفادة لهاشم والقيادة لعبد شمس، فكان هاشم بن عبد مناف هو الذي يلي السقاية والرفادة طول حياته.

فلما مات خلفه أخوه المطلب بن عبد مناف، وولى بعده عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعـده أبنـاؤه حتى جـاء الإسلام والولاية إلى العبـاس‏.‏

ويقـال‏:‏ إن قصيًا هـو الذي قسم هذه المناصب على أولاده، ثـم توارثـها أبناؤهـم حسـب التفصيل المذكور، والله أعلم‏.‏

قال ابن هشام: فولد عبد مناف بن قصى أربعة نفر: هاشما، وعبد شمس، والمطلب، وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال. ونوفل بن عبد مناف، وأمه واقدة بنت عمرو المازنية.

وولد لعبد مناف أيضا: أبو عمرو، وتماضر، وقلابة، وحية، وريطة، وأم الأخثم، وأم سفيان.

وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة: عبد المطلب، وأسدا، وأبا صيفي، ونضلة، والشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وحية.

فأم عبد المطلب ورقية هي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار من المدينة. وذكر أمهات الباقين.

قال: وولد عبد المطلب عشرة نفر وست نسوة، وهم: العباس، وحمزة، وعبد الله، وأبو طالب – واسمه عبد مناف، لا عمران-، والزبير، والحارث – وكان بكر أبيه وبه كان يكنى-، وجحل – ومنهم من يقول حجل، وكان يلقب بالغيداق لكثرة خيره-، والمقوم، وضرار، وأبو لهب – واسمه عبد العزى- ، وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة، وذكر أمهاتهم.

إلى أن قال: وأم عبد الله وأبى طالب والزبير وجميع النساء إلا صفية، هي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة ابن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

قال: فولد عبد الله محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى.

ثم ذكر أمهاتها فأغرق، إلى أن قال: فهو أشرف ولد آدم حسبا وأفضلهم نسبا، من قبل أبيه وأمه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

الديانة في سائر العرب

أصنام العرب

كان معظم العرب يدينون بدين إبراهيم عليه السلام منذ أن نشأت ذريته في مكة وانتشرت في جزيرة العرب، حتى طال عليهم الأمد ونسوا حظًا مما ذكروا به، إلا أنهم بقى فيهم التوحيد وعدة شعائر من هذا الدين، حتى جاء عمرو بن لُحَيٍّ رئيس خزاعة، وكان قد نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس ودانوا له، ظنًا منهم أنه من أكابر العلماء‏.

ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقًا، فقدم معه بهُبَل وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله فأجابوه، ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة؛ لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم‏.

‏وكان هبل من العقيق الأحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدًا من ذهب، وكان أول صنم للمشركين وأعظمه وأقدسه عندهم‏.‏
ومن أقدم أصنامهم مَناة، كانت لهُذَيْل وخزاعة، ثم اتخذوا اللات في الطائف وكانت لثقيف، ثم اتخذوا العُزَّى بوادى نخلة الشامية فوق ذات عِرْق وكانت لقريش وبني كنانة مع كثير من القبائل الأخرى‏.‏

ويذكر أن عمرو بن لحي كان له رِئْي من الجن، فأخبره أن أصنام قوم نوح ـ ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا ـ مدفونة بجدة، فأتاها فاستثارها، ثم أوردها إلى تهامة، فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل، فذهبت بها إلى أوطانها‏. فأما ود‏ فكانت لكلب في أرض الشام، وأما سواع‏‏ فكانت لهذيل في أرض الحجاز، وأما يغوث‏‏ فكانت لبني غُطَيف بالجُرْف عند سبأ، وأما يعوق‏ ‏فكانت لهمدان في اليمن، وأما نسر‏ ‏فكانت لحمير لآل ذى الكلاع في أرض حمير‏.‏

وقد اتخذوا لهذه الطواغيت بيوتًا كانوا يعظمونها كتعظيم الكعبة، وكانت لها سدنة وحجاب، وكانت تهدى لها كما يهدى للكعبة، مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها‏.
وهكذا انتشرت الأصنام ودور الأصنام في جزيرة العرب حتى صار لكل قبيلة، ثم في كل بيت منها صنم، أما المسجد الحرام فكانوا قد ملأوه بالأصنام، ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنمًا، فجعل يطعنها بعود في يده حتى تساقطت، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏”‏رأيت عمرو بن عامر بن لحى الخزاعى يجر قَصَبَه – ‏أي أمعاءه – في النار”‏؛ لأنه أول من غير دين إبراهيم فنصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامى‏.

وكانت العرب تفعل كل ذلك بأصنامهم معتقدين أنها تقربهم إلى الله وتوصلهم إليه وتشفع لديه كما في القرآن‏:‏ “‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله ِ زُلْفَى”.‏

وكان في جوف الكعبة أيضًا أصنام وصور منها صنم على صورة إبراهيم، وصنم على صورة إسماعيل ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وبيدهما الأزلام، وقد أزيلت هذه الأصنام ومحيت هذه الصور أيضًا يوم الفتح‏.‏

يقول أبو رجاء العُطاردى رضي الله عنه‏:‏ “كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثْوَةً من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه، ثم طفنا به”‏.‏

أما فكرة الشرك وعبادة الأصنام فقد نشأت فيهم على أساس أنهم لما رأوا الملائكة والرسل والنبيين وعباد الله الصالحين أقرب خلق الله إليه، وأكرمهم درجة وأعظمهم منزلة عنده، وأنهم قد ظهرت على أيديهم بعض الخوارق والكرامات، ظنوا أن الله أعطاهم شيئًا من القدرة والتصرف في بعض الأمور التي تختص به ولذلك يستحقون أن يكونوا وسطاء بين الله سبحانه وتعالى وبين عامة عباده، فلا ينبغى لأحد أن يعرض حاجته على الله إلا بواسطة هؤلاء لأنهم يشفعون له عند الله، وأن الله لا يرد شفاعتهم لأجل جاههم.

كذلك لا ينبغى القيام بعبادة الله إلا بواسطة هؤلاء لأنهم بفضل مرتبتهم سوف يقربونه إلى الله زلفي‏،‏ فنحتوا لمعظمهم صورًا وتماثيل إما حقيقية تطابق صورهم التي كانوا عليها وإما خيالية تطابق ما تخيلوا لهم من الصور في أذهانهم، وهذه الصور والتماثيل هي التي تسمى بالأصنام‏. ‏

وجعلوا قبورهم وأضرحتهم وبعض مقراتهم ومواضع نزولهم واستراحتهم أماكن مقدسة، وقدموا إليها النذور والقرابين، وأتوا لها بأعمال الخضوع والطاعات، وهذه الأضرحة والمقرات والمواضع هي التي تسمى بالأوثان‏.‏

وكان من جملة عبادتهم للأصنام والأوثان أنهم‏:‏ كانوا يعكفون عليها ويلتجئون إليها‏ ويهتفون بها، ويستغيثون بها في الشدائد معتقدين أنها تشفع عند الله وتحقق لهم ما يريدون‏. وكانوا يحجون إليها ويطوفون حولها ويتذللون عندها ويسجدون لها‏ ويتقربون إليها بأنواع من القرابين، فكانوا يذبحون وينحرون لها على أنصابها كما كانوا يذبحون بأسمائها في أي مكان‏.‏

وكان من أنواع التقرب إلى هذه الأصنام والأوثان أنهم كانوا يخصون لها شيئا من مآكلهم ومشاربهم حسبما يبدو لهم، وكذلك كانوا يخصون لها نصيبا من حرثهم وأنعامهم، ومن الطرائف‏ ‏أنهم كانوا يخصون من ذلك جزءًا لله أيضًا‏.‏

وكانت عندهم عدة أسباب ينقلون لأجلها إلى الأصنام ما كان لله، ولكن لم يكونوا ينقلون إلى الله ما كان لأصنامهم بحال، قال تعالى‏:‏‏ “‏وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله ِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ”.

وكان من أنواع التقرب إليها النذر في الحرث والأنعام قال تعالى‏:‏ “‏وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏”.

وكانت منها البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى. قال سعيد بن المسيب‏:‏ البحيرة‏:‏ التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس‏. ‏والسائبة‏:‏ كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شىء‏.

‏والوصيلة‏:‏ الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر‏.‏ والحامى‏:‏ فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ‏(العشر من الإبل)‏ فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامى‏.‏

وكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده.
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: “وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون”. وقد ذكر السهيلي وغيره أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحى وأن إبليس تبدى له في صورة شيخ، فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه ويقول كما يقول، واتبعه العرب في ذلك.

وكانت العرب تستقسم بالأزلام، والزَّلَم‏ ‏القدح الذي لا ريش له. وكان منها نوع فيه ثلاثة أسهم، أحدها‏:‏‏ نعم‏، وثانيها‏:‏ ‏لا‏، وثالثها‏:‏‏ غُفْل‏، كانوا يستقسمون بها فيما يريدون من العمل من نحو السفر والنكاح وأمثالهما‏.‏

فإن خرج “نعم‏” عملوا به، وإن خرج ‏”لا” أخروه عامه ذلك حتى يأتوه مرة أخرى، وإن طلع ‏”غفل‏” أعادوا الضرب حتى يخرج واحد من الأولين‏.‏

ويقرب من هذا “الميسر والقداح”، وهو ضرب من القمار، كانوا يقتسمون به لحم الجزور التي كانوا يتقامرون عليها؛ وذلك أنهم كانوا يشترون الجزور نسيئة، فينحرونها ويقسمونها ثمانية وعشرين قسمًا، أو عشرة أقسام، ثم يضربون عليها بالقداح وفيها “الرابح” و”الغفل”، فمن خرج له قدح “الرابح” فاز وأخذ نصيبه من الجزور، ومن خرج له “الغفل” خاب وغرم ثمنها‏.‏

وكانوا يؤمنون بأخبار الكهنة والعرافين والمنجمين. والكاهن‏ هو من يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل ويدعى معرفة الأسرار، ومن الكهنة من يزعم أن له تابعًا من الجن، ومنهم من يدعى إدراك الغيب بفهم أعطيه، ومنهم من يدعى معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا القسم يسمى عرافًا، كمن يدعى معرفة المسروق ومكان السرقة والضالة ونحوهما‏.‏

والمنجم‏:‏ من ينظر في النجوم (أي الكواكب) ويحسب سيرها ومواقيتها ليعلم بها أحوال العالم وحوادثه التي تقع في المستقبل‏.، والتصديق بأخبار المنجمين هو في الحقيقة إيمان بالنجوم، وكان من إيمانهم بالنجوم الإيمان بالأنواء (النَّوْء هو النجم إِذا مال للمَغِيب) فكانوا يقولون‏‏ مطرنا بنوء كذا وكذا‏.‏

وكانت فيهم الطِيرة (بكسر ففتح) وهي التشاؤم بالشيء، وأصله أنهم كانوا يأتون الطير أو الظبي فينفرونه، فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا وعدوه حسنًا، وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك وتشاءموا، وكانوا يتشاءمون كذلك إن عرض الطير أو الحيوان في طريقهم‏.‏

ويقرب من هذا تعليقهم كعب الأرنب، والتشاؤم ببعض الأيام والشهور والحيوانات والدور والنساء، والإعتقاد بالعدوى والهامة، فكانوا يعتقدون أن المقتول لا يسكن جأشه ما لم يؤخذ بثأره، وأن روحه تصير هامة (أي بومة) تطير في الفلوات، وتقول‏ “صدى صدى” أو “اسقونى اسقونى”، فإذا أخذ بثأره سكن واستراح‏.‏

وكان لبنى ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له سعد، صخرة بفلاة من أرضهم طويلة فأقبل رجل منهم بإبل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته فيما يزعم فلما رأته الإبل وكانت مرعية لا تركب وكان الصنم يهراق عليه الدماء، نفرت منه فذهبت في كل وجه، وغضب ربها فأخذ حجرا فرماه به ثم قال: لا بارك الله فيك نفرت على إبلي. ثم خرج في طلبها حتى جمعها فلما اجتمعت له قال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا …. فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة …. من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد

قال ابن إسحاق: واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما، ثم ذكر أنهما كانا رجلا وامرأة فوقع عليها في الكعبة فمسخهما الله حجرين، وقد قيل إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها بل مسخهما قبل ذلك، فعند ذلك نصبا عند الصفا والمروة فلما كان عمرو بن لحى نقلهما فوضعهما على زمزم وطاف الناس بهما وفى ذلك يقول أبو طالب:
وحيث ينيخ الاشعرون ركابهم …. بمفضى السيول من إساف ونائل

وقد ذكر الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتدعو بالويل والثبور.

قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب.

وكانت لقريش وبنى كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وقد خربها خالد بن الوليد زمن الفتح.

قال: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب من ثقيف، وخربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة بعد مجيء أهل الطائف.

قال: وكانت مناة للاوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل المدينة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، وقد خربها أبو سفيان أيضا وقيل على بن أبى طالب.

وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، وكان يقال له الكعبة اليمانية، ولبيت مكة الكعبة الشامية. وقد خربه جرير بن عبد الله البجلى كما سيأتي.

كان أهل الجاهلية على ذلك وفيهم بقايا مـن ديــن إبراهيم لم يكونوا قد تركوه كلـه مثـل تعظيم البيت والطـواف بـه والحـج والعمـرة والـوقوف بعرفة والمزدلفة وإهداء البدن، وإنما كانوا قد ابتدعوا في ذلك بدعًا‏ منها‏‏ أن قريشًا كانوا يقولون‏: ‏نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم وولاة البيت وقاطنو مكة وليس لأحد من العرب مثل حقنا ومنزلتنا ـ وكانوا يسمون أنفسهم الحُمْس – فلا ينبغي لهم الخروج من الحرم إلى الحل، فكانوا لا يقفون بعرفة ولا يفيضون منها، وإنما كانوا يفيضون من المزدلفة، وفيهم أنزل الله تعالى‏‏ ‏”ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ‏”.

ومنها‏‏ أنهم قالوا‏:‏ لا ينبغي لأهل الحِلِّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارًا‏.‏

ومنها‏‏ أنهم أمروا أهل الحل ألا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، وكانت الحمس يحتسبون على الناس، يعطـي الرجـل الرجـل الثياب يطـوف فيها، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها، فإن لم يجدوا شيئًا فكان الرجال يطوفون عراة، وكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعًا مفرجًا ثم تطوف فيه، وتقول‏:‏
اليوم يبدو بعضه أو كله … وما بدا منه فلا أحله

وأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏”يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏”، فإن تكرم أحد من الرجال والنساء فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها بعد الطواف، ولا ينتفع بها هو ولا أحد غيره‏.‏

ومنها‏ أنهم كانوا لا يأتون بيوتهم من أبوابها في حال الإحرام بل كانوا ينقبون في ظهور البيوت نقبًا يدخلون ويخرجون منه، وكانوا يحسبون ذلك الجفاء برّا، وقد نهي عنه القرآن قال الله تعالى‏:‏ “‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ الله َ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏”.

(لاحظ أن أهل البدع تشبهوا بكفار قريش في التمسك بالأصول – فقالوا نتمسك بالإسلام كما قال الكفار نتمسك بدين ابراهيم -، لكن أخل بذلك الإبتداع، وهو ابتداع ألغى زعم الكفار صرف العبادة لله عز وجل، وقد يلغي زعم هؤلاء الإسلام إن رافقه الشرك بالله، وكم عندهم من الشركيات، يدعون الأموات، ويصلون ويذبحون عند قبورهم، ويقولون مثل سلفهم في الإبتداع من كفار قريش: “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى”).

اليهودية في جزيرة العرب

لليهود دوران ـ على الأقل ـ مثلوهما في جزيرة العرب:
الأول‏:‏ هجرتهم في عهد الفتوح البابلية بعد تخريب بلادهم وتدمير هيكلهم على يد الملك بُخْتُنَصر سنة 587 ق‏.‏م، فَتَوطَّن يعضهم في ربوع الحجاز الشمالية‏.

الثاني‏:‏ يبدأ من احتلال الرومان لفلسطين بقيادة تيطس الرومانى سنة 70م، فقد نشأ عن ضغط الرومان على اليهود وعن تخريب الهيكل أن قبائل عديدة منهم رحلت إلى الحجاز، واستقرت في يثرب وخيبر وتيماء، وأنشأت فيها القرى والآطام والقلاع، وانتشرت الديانة اليهودية بين قسم من العرب عن طريق هؤلاء المهاجرين.

ودخلت اليهودية في اليمن من قبل تُبَّان أسعد أبي كَرَب، فإنه ذهب مقاتلًا إلى يثرب، واعتنق هناك اليهودية، وجاء بحبرين من بني قريظة إلى اليمن، فأخذت اليهودية إلى التوسع والإنتشار فيها، ولما ولى اليمن بعده ابنه يوسف ذو نُوَاس هجم على النصارى من أهل نجران ودعاهم إلى اعتناق اليهودية، فلما أبوا خدّ لهم الأخدود وأحرقهم بالنار، ولم يفرق بين الرجل والمرأة والأطفال الصغار والشيوخ الكبار، ويقال‏ إن عدد المقتولين ما بين عشرين ألفًا إلى أربعين ألفًا‏.‏ وقع ذلك في شهر أكتوبر سنة 523 م‏.‏

وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم في سورة البروج إذ يقول‏:‏ ‏”‏قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ‏”.

النصرانية في جزيرة العرب

أما الديانة النصرانية فقد جاءت إلى بلاد العرب عن طريق احتلال الحبشة وبعض البعثات الرومانية. وكان أول احتلال الأحباش لليمن سنة 340 م، ولكن لم يطل أمد هذا الاحتلال، فقد طردوا منها ما بين عامي 370ـ 378 م، إلا أنهم شجعوا على نشر النصرانية وتشجعوا لها.

وقد وصل أثناء هذا الاحتلال رجل زاهد مستجاب الدعوات وصاحب كرامات ـ اسمه فيميون ـ إلى نجران ودعاهم إلى دين النصرانية فلبوا دعوته واعتنقوا النصرانية لما رأوا من آيات صدقه وصدق دينه‏.‏

ولما احتلت الأحباش اليمن مرة أخرى عام 525م كرد فعل على ما أتاه ذو نواس من تحريق نصارى نجران في الأخدود، وتمكن أبرهة الأشرم من حكومة اليمن، أخذ ينشر الديانة النصرانية بأوفر نشاط وأوسع نطاق حتى بلغ من نشاطه أنه بني كعبة باليمن وأراد أن يصرف حج العرب إليها ويهدم بيت الله الذي بمكة، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى‏.‏

وقد اعتنق النصرانية العرب الغساسنة وقبائل تغلب وطيء وغيرهما لمجاورة الرومان، بل قد اعتنقها بعض ملوك الحيرة أيضًا‏.‏

الصابئية في جزيرة العرب

أما الصابئية فديانة تمتاز بعبادة الكواكب، وبالاعتقاد في أنواء المنازل (النجوم)، وأنها هي المدبرة للكون، وقد دلت الحفريات والتنقيبات في بلاد العراق وغيرها أنها كانت ديانة قوم إبراهيم الكلدانيين، وقد دان بها كثير من أهل الشام وأهل اليمن في غابر الزمان، وبعد تتابع الديانات الجديدة من اليهودية والنصرانية تضعضع بنيان الصابئية وخمد نشاطها، ولكن لم يزل في الناس بقايا من أهل هذه الديانة مختلطين مع المجوس أو مجاورين لهم في عراق العرب وعلى شواطئ الخليج العربي‏.‏

الزندقة في جزيرة العرب

وقد وجد شيء من الزندقة في بعض العرب، وكانت وصلت إليهم عن طريق الحيرة، كما وجدت في بعض قريش لاحتكاكهم بالفرس عن طريق التجارة‏.‏

الحالة الإجتماعية والإقتصادية للعرب

روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها‏ أنها قالت: “إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء‏:‏ فنكاح منها نكاح الناس اليوم؛ يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.

ونكاح آخر‏:‏ كان الرجل يقول لإمرأته إذا طهرت من طمثها‏،‏ أرسلي إلى فلان فأستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الـولد، فكان هـذا النكاح يسمى‏ نكاح الإستبضاع.

ونكاح آخر‏:‏ يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر‏ت‏ ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فـتقول لهم‏‏ قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، فـتسمى من أحبت ‏منهم باسمه فيلحق به ولدها‏‏ لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.

ونكاح رابع‏:‏ يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث ‏الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح أهل‏ الجاهلية كله إلا نكاح الإسلام اليوم”‏.‏

وكانت عندهم اجتماعات بين الرجل والمرأة تعقدها شفار السيوف وأسنة الرماح، فكان المتغلب في حروب القبائل يسبي نساء المقهور فيستحلها، ولكن الأولاد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار مدة حياتهم‏.‏

وكان من المعروف في أهل الجاهلية أنهم كانوا يعددون بين الزوجات من غير حد معروف ينتهي إليه حتى حددها القرآن في أربع‏.‏ وكانوا يجمعون بين الأختين، وكانوا يتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو ماتوا عنها حتى نهى عنهما القرآن، وكان الطلاق والرجعة بيد الرجال ولم يكن لهما حد معين حتى حددهما الإسلام‏.‏

وكانت فاحشة الزنا سائدة في جميع الأوساط لا نستطيع أن نخص منها وسطًا دون وسط أو صنفًا دون صنف إلا أفرادًا من الرجال والنساء ممن كان تعاظم نفوسهم يأبى الوقوع في هذه الرذيلة، وكانت الحرائر أحسن حالًا من الإماء، والطامة الكبرى هي الإماء، ويبدو أن الأغلبية الساحقة من أهل الجاهلية لم تكن تحس بعار في الإنتساب إلى هذه الفاحشة.

روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ “قام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله، إن فلانًا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية الولد للفراش وللعاهر الحَجَر‏”، وقصة اختصام سعد بن أبي وقاص وعبد بن زَمْعَة في ابن أمة زمعة وهو عبد الرحمن بن زمعة، معروفة.‏

ومنهم من كان يئد البنات خشية العار والإنفاق، ويقتل الأولاد خشية الفقر والإملاق‏، ولكن لا يمكن لنا أن نعد هذا من الأخلاق المنتشرة السائدة، فقد كانوا أشد الناس احتياجًا إلى البنين ليتقوا بهم العدو‏.‏

أما معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيرته فقد كانت موطدة قوية، فقد كانوا يحيون للعصبية القبلية ويموتون لها، وكانوا يسيرون على المثل السائر‏ ‏”‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏” على المعنى الحقيقي من غير التعديل الذي جاء به الإسلام من أن نصر الظالم كفه عن ظلمه. إلا أن التنافس في الشرف والسؤدد كثيرًا ما كان يفضى إلى الحروب بين القبائل التي كان يجمعها أب واحد كما نرى ذلك بين الأوس والخزرج وعَبْس وذُبْيان وبَكْر وتَغْلِب وغيرها‏.

وكانت الأشهر الحرم رحمة وعونًا لهم على حياتهم وحصول معايشهم‏‏ فقد كانوا يأمنون فيها تمام الأمن لشدة التزامهم بحرمتها، يقول أبو رجاء العُطاردي‏:‏ “إذا دخل شهر رجب قلنا‏‏ مُنَصِّلُ الأسِنَّة؛ فلا ندع رمحًا فيه حديدة ولا سهمًا فيه حديدة إلا نزعناه، وألقيناه شهر رجب‏”‏ وكذلك في بقية الأشهر الحرم‏.‏

أما الحالة الاقتصادية فكانت التجارة أكبر وسيلة للحصول على حوائج الحياة، والجولة التجارية لا تتيسر إلا إذا ساد الأمن والسلام وكان ذلك مفقودًا في جزيرة العرب إلا في الأشهر الحرم، وهذه هي الشهور التي كانت تعقد فيها أسواق العرب الشهيرة من عُكاظ وذي المجَاز ومَجَنَّة وغيرها‏.‏

الأخلاق عند العرب

لا شك أن أهل الجاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان، ولكن كانت فيهم من الأخلاق الفاضلة المحمودة ما يروع الإنسان ويفضى به إلى الدهشة والعجب، فمن تلك الأخلاق‏:‏
الكرم‏:‏ وكانوا يتبارون في ذلك ويفتخرون به، وكان من نتائج كرمهم أنهم كانوا يتمدحون بشرب الخمور لا لأنها مفخرة في ذاتها بل لأنها سبيل من سبل الكرم، يقول عنترة:
فــإذا شـَرِبتُ فإننى مُسْتَهْلـِك ** مالى وعِرْضِى وافِـرٌ لم يُكْلـَـمِ
وإذا صَحَوْتُ فما أُقَصِّرُ عن نَدَى ** وكمــا عَلمـت شمائلــى وَتَكَرُّمـِى

ومن نتائج كرمهم اشتغالهم بالميسر، فإنهم كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكرم لأنهم كانوا يطعمون المساكين ما ربحوه أو ما كان يفضل عن سهام الرابحين ولذلك ترى القرآن لا ينفي نفع الخمر والميسر وإنما يقول‏:‏ “‏وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا”.

الوفاء بالعهد‏:‏ فقد كان العهد عندهم دينًا يتمسكون به ويستهينون في سبيله قتل أولادهم وتخريب ديارهم، وتكفي في معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيباني والسَّمَوْأل بن عاديا وحاجب بن زرارة التميمي‏.‏

عزة النفس والإباء عن قبول الخسف والضيم‏:‏ وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة وشدة الغيرة وسرعة الإنفعال، وكانوا لا يبالون بتضحية أنفسهم في هذا السبيل‏.
المضي في العزائم‏:‏ فإذا عزموا على شيء يرون فيه المجد والإفتخار لا يصرفهم عنه صارف بل كانوا يخاطرون بأنفسهم في سبيله‏.‏

الحلم والأناة والتؤدة‏:‏ كانوا يتمدحون بها إلا أنها كانت فيهم عزيزة الوجود لفرط شجاعتهم وسرعة إقدامهم على القتال‏.‏

السذاجة البدوية وعدم التلوث بلوثات الحضارة ومكائدها‏:‏ وكان من نتائجها الصدق والأمانة والنفور عن الخداع والغدر‏.‏


3- قصص العرب قبل البعثة

قصة سبأ

قال علماء النسب منهم محمد بن إسحاق: اسم سبأ هو عبد شمس بن يشجب بن يعرب ابن قحطان. قالوا: وكان أول من سبى من العرب فسمى سبأ لذلك.

وقال الإمام أحمد: عن عبد الرحمن بن وعلة قال سمعت عبد الله بن عباس يقول: إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال: “بل هو رجل ولد عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير. وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان”. وسبأ يجمع هذه القبائل كلها.

وقد كان فيهم التبابعة بأرض اليمن، وأحدهم تبع، وكان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم، كما كانت الأكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك، وكانت العرب تسمى كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت “تبعا”، كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر، ومن ملك الفرس كسرى، ومن ملك مصر فرعون، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس.

وقد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس، وقد كانوا في غبطة عظيمة وأرزاق دارة وثمار وزروع كثيرة، وكانوا مع ذلك على الإستقامة والسداد وطريق الرشاد، فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار.

قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا (وقيل أكثر من ذلك بكثير)، وسجدوا للشمس من دون الله، وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها، واستمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم (سورة سبأ الآية 15).

وذكر غير واحد من العلماء أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجرى من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان ما بينهما ببناء محكم جدا، حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين، وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة.

ويقال أن أول من بناه “سبأ بن يعرب”، وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه، وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء، ومات ولم يكمل بناؤه، فكملته حِمير بعده، وكان اتساعه فرسخا في فرسخ، وكانوا في غبطة عظيمة وعيش رغيد وأيام طيبة، حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فيمتلئ من الثمار مما يتساقط فيه من نضجه وكثرته.

وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث ولا الدواب المؤذية لصحة هوائهم وطيب فنائهم كما قال تعالى: “لقد كان لسبا في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور”، وكما قال تعالى: “وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد”.

فلما عبدوا غير الله وبطروا نعمته، وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم وطيب ما بينها من البساتين وأمن الطرقات، أن يباعد بين أسفارهم، وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب، وطلبوا أن يبدلوا بالخير شرا، كما سأل بنو إسرائيل بدل المن والسلوى البقول والقثاء والفوم والعدس والبصل، فسلبوا تلك النعمة العظيمة والحسنة العميمة بتخريب البلاد والشتات على وجوه العباد، كما قال تعالى: “فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم”.

قال غير واحد: أرسل الله على أصل السد الفأر، وهو الجرذ، ويقال له الخلد، فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير فلم تغن شيئا، إذ قد حتم القدر ولم ينفع الحذر. فلما تحكم في أصله الفساد سقط وانهار، فسلك الماء القرار، فقطعت تلك الجداول والأنهار وانقطعت تلك الثمار، وبادت تلك الزروع والأشجار، وتبدلوا بعدها برديء الأشجار والأثمار، كما قال العزيز الجبار: “وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل”، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو الأراك وثمره البرير، وأثل وهو الطرفاء وقيل يشبهه، وهو حطب لا ثمر له.

“وشيء من سدر قليل”، أي قليل من النبق ذو شوك كثير، وثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل: لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى. ولهذا قال تعالى: “ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور”.
وقال تعالى: “فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق”، وذلك أنهم لما هلكت أموالهم وخربت بلادهم احتاجوا أن يرتحلوا منها وينتقلوا عنها، فتفرقوا في غور البلاد ونجدها..

فنزلت طوائف منهم الحجاز ومنهم خزاعة، نزلوا ظاهر مكة، وكان من أمرهم ما سنذكره، فكانوا أول من سكن المدينة المنورة ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير فحالفوا الأوس والخزرج وأقاموا عندهم، وكان من أمرهم ما سنذكره، ونزلت طائفة أخرى منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد، وهم غسان وعاملة وبهراء ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم. قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة، وهو ميمون بن قيس:
وفى ذاك للمؤتسي أسوة …. ومأرب عفا عليها العرم

وقد ذكر محمد بن إسحاق أن أول من خرج من اليمن قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي، وكان سبب خروجه من اليمن، أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمن فكاد قومه، فأمر أصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدى. وعرض أمواله فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله.

وعن محمد بن إسحاق في روايته أن عمرو بن عامر كان كاهنا. وقال غيره: كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة فأخبرت بقرب هلاك بلادهم، وكأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي سلط على سدهم ففعلوا ما فعلوا والله أعلم.

وليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم بل أقام أكثرهم بها، وذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد، وبقيت قبائل من سبأ أقاموا باليمن، واستمر فيهم الملك والتبابعة حتى سلبهم ذلك ملك الحبشة بالجيش الذي بعثه صحبة أميريه أبرهة وأرياط نحوا من سبعين سنة، ثم استرجعه سيف بن ذي يزن الحميري، وكان ذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقليل.

قصة ربيعة بن نصر مع شق وسطيح

هو ربيعة بن نصر بن أبى حارثة بن عمرو بن عامر المتقدم ذكره، قال الزبير ابن بكار: ربيعة بن نصر بن مالك بن شعوذ بن ملك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم. ولخم أخو جذام، وسمى لخما لأنه لخم أخاه على خده (أي لطمه)، فعضه الآخر في يده فجذمها، فسمى جذاما.

وكان ربيعة أحد ملوك حمير التبابعة وخبره مع شق وسطيح الكاهنين وإنذارهما بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويقال إن سطيحا كان لا أعضاء له وإنما كان مثل السطيحة ووجهه في صدره، وكان إذا غضب انتفخ وجلس. وكان شق نصف إنسان، ويقال إن خالد بن عبد الله القسري كان من سلالته.

وذكر السهيلي أنهما ولدا في يوم واحد وكان ذلك يوم ماتت طريفة بنت الخير الحميرية، ويقال إنها تفلت في فم كل منهما فورث الكهانة عنها، وهى امرأة عمرو بن عامر المتقدم ذكره.

قال محمد بن إسحاق: وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة فرأى رؤيا هالته وفظع بها، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها. فقالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها. فقال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، لأنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى شق وسطيح، فإنه ليس أحد أعلم منهما فهما يخبرانه بما سأل عنه.

فبعث إليهما، فقدم إليه سطيح قبل شق، فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها. فقال: أفعل، رأيت حممة ( قطعة النار) خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة (منخفضة، ومنه سميت تهامة) فأكلت منها كل ذات جمحمة. فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في تأويلها؟

قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكُن ما بين أبين إلى جرش (مخلافان من مخاليف اليمن)، فقال له الملك: يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده؟ قال: لا وأبيك بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين. قال: أفيدوم ذلك من سلطانهم أم ينقطع؟ قال بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال يليه إرم ذي يزن (قال: ارم ذي يزن واسمه سيف لأنه شبهه بعاد إرم في عظم الخلق والقوة)، يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن.

قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال بل ينقطع. قال ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي يأتيه الوحي من قِبل العلي. قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال أحق ما تخبرني؟ قال: نعم والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.

قال: ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان. فقال: نعم، رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.

فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا وأن قولهما واحد، إلا أن سطيحا قال: “وقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة”، وقال شق: “وقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة”. فقال له الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئا، فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.

فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن، أفي زماني أم بعده؟ قال: لا بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان. قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال غلام ليس بدني ولا مدن (المدن: المقصر في الأمور) يخرج عليهم من بيت ذي يزن. قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟

قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، من أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال وما يوم الفصل؟ قال: يوم يُجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، تسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع الناس فيه للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات. قال أحق ما تقول؟ قال: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق، ما فيه أمض (الأمض: الشك، بلسان حمير).

قال ابن إسحاق: فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ فأسكنهم الحيرة. قال ابن إسحاق: فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر.

قصة تبع أبى كرب تبان أسعد ملك اليمن مع أهل المدينة

وكيف أراد غزو البيت الحرام، ثم شرفه وعظمه وكساه الحلل فكان أول من كساه.
قال ابن إسحاق: فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبى كرب، وهو الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه.

وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر، وكان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق على المدينة، وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها، وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن طلحة أخو بني النجار ثم أحد بني عمرو بن مبذول، واسم مبذول عامر بن مالك ابن النجار، واسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.

قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عدى بن النجار، يقال له أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد عذقا له فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التمر لمن أبره. فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم، فاقتتلوا، فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا لكرام.

وحكى ابن إسحاق عن الأنصار أن تبعا إنما كان حنقه على اليهود وأنهم منعوهم منه. قال السهيلي: ويقال إنه إنما جاء لنصرة الأنصار أبناء عمه على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها واستطالوا عليهم. والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فبينا تبع على ذلك من قتالهم إذا جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة، عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال لهما ولم ذلك؟ قالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى عن ذلك ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما.

قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكة، وهى طريقه إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسفان (منهل في الطريق) وأمج، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قال: بلى.

قالوا: بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده. وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لِما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده، فلما أجمع لِما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك، ما نعلم بيتا لله عز وجل اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا.

قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده وتتذلل له حتى تخرج من عنده. قال فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك أو كما قالا له.

فعرف نصحهما وصدق حديثهما، وقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون، ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل، وأُرِيَ في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف (حصر تنسج من خوص النخل ومن الليف).

ثم أُرِيَ في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر (ثياب تنسب إلى قبيلة من اليمن)، ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل (الملاء: جمع ملاءة، والوصائل: ثياب مخططة يمنية يوصل بعضها ببعض)، فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مثلاة وهى المحايض، وجعل له بابا ومفتاحا. ففي ذلك قالت سبيعة بنت الأحب تذكر ابنها خالد، وتنهاه عن البغي بمكة، وتذكر له ما كان من أمر تبع فيها:
أبنى لا تظلم بمك … كة لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بُن …. ي ولا يغرنك الغرور
أبنى من يظلم بمك … كة يلق أطراف الشرور
إلى قولها:
ولقد غزاها تبع …. فكسا بنيتها الحبير
وأذل ربى ملكه …. فيها فأوفى بالنذور
يمشى إليها حافيا …. بفنائها ألفا بعير
ويظل يطعم أهلها …. لحم المهاري والجزور
يسقيهم العسل المصف …. في والرحيض من الشعير

قال ابن إسحاق: ثم خرج تبع متوجها إلى اليمن بمن معه من الجنود وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه (حمير) إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.

قال ابن إسحاق: فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا. فدعاهم إلى دينه وقال إنه خير من دينكم. قالوا: تحاكمنا إلى النار؟ قال: نعم.

قال: وكانت باليمن، فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأخذ الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه، فخرجت النار إليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها فذمرهم (حضهم) من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما ولم تضرهما، فاجتمعت عند ذلك حمير على دينهما، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن.

قال ابن اسحاق: وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويُكلمون، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه. قال: فشأنكما به، فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسودا فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت.

وقد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم”، قال السهيلي: وروى معمر عن همام بن منبه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تسبوا أسعد الحميري فإنه أول من كسا الكعبة”.

قال السهيلي: وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرا:
شهدت على أحمد أنه ….. رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ….. لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه ….. وفرجت عن صدره كل هم

قال: ولم يزل هذا الشعر تتوارثه الأنصار ويحفظونه بينهم، وكان عند أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.

قال السهيلي: وذكر ابن أبى الدنيا في كتاب القبور أن قبرا حفر بصنعاء، فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب وفيه: هذا قبر لميس وحبى ابنتي تبع، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.

قصة حسان بن تبان أسعد

ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد: وهو أخو اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة “جو”، فسميت من يومئذ اليمامة.

قال ابن إسحاق: فلما ملك ابنه حسان بن أبى كرب تبان أسعد، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق، كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم، فكلموا أخا له يقال له عمرو، وكان معه في جيشه، فقالوا له: اقتل أخاك حسان ونملكك علينا، وترجع بنا إلى بلادنا.

فأجابهم، فاجتمعوا على ذلك إلا ذا رعين الحميري فإنه نهى عمرا عن ذلك، فلم يقبل منه، فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان:
ألا من يشترى سهرا بنوم ….. سعيد من يبيت قرير عين
فإن تك حمير غدرت وخانت ….. فمعذرة الإله لذي رعين

ثم استودعها عمرا. فلما قتل عمر أخاه حسان ورجع إلى اليمن، منع منه النوم، وسلط عليه السهر، فسأل الأطباء والحزاة (جمع حاز وهو الذي ينظر في النجوم) من الكهان والعرافين عما به، فقيل له: إنه والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيا إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر.

فعند ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه، فلما خلص إلى ذي رعين قال له: إن لي عندك براءة. قال وما هي؟ قال: الكتاب الذي دفعته إليك، فأخرجه، فإذا فيه البيتان، فتركه، ورأى أنه قد نصحه. وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا.

ذكر ذي نواس

قال ابن إسحاق: فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت الملك يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر (قال ابن دريد: المعروف فيه لخيعة بغير نون، وهو مشتق من اللخع وهو استرخاء اللحم)،

فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، وكان مع ذلك امرأ فاسقا يعمل عمل قوم لوط، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له (الغرفة المرتفعة) قد صنعها لذلك، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده قد أخذ مسواكا فجعله في فيه ليعلمهم أنه قد فرغ منه.

حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان، وكان صبيا صغيرا حين قتل أخوه حسان، ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل، فلما أتاه رسوله عرف ما يريد منه، فأخذ سكينا حديدا لطيفا، فخبأه بين قدميه ونعله، ثم أتاه، فلما خلا معه وثب إليه، فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله.

ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها، ووضع مسواكه في فيه ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذا نواس أرطب أم يباس؟ فقال: لنخماس استرطبان لا باس (نخماس: الرأس بلغة حمير. ومعنى استرطبان: أخذته النار، وهى كلمة فارسية)، فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع.

فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث، فملكوه عليهم، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير، وتسمى يوسف، فأقام في ملكه زمانا، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام على الإنجيل، أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر.

ثم ذكر ابن إسحاق سبب دخول أهل نجران في دين النصارى، وأن ذلك كان على يدي رجل يقال له فيميون كان من عباد النصارى بأطراف الشام، وكان مجاب الدعوة، وصحبه رجل يقال له صالح، فكانا يتعبدان يوم الأحد، ويعمل فيميون بقية الجمعة في البناء، وكان يدعو للمرضى والزمنى وأهل العاهات فيشفون.

ثم استأسره وصاحبه بعض الأعراب فباعوهما بنجران، فكان الذي اشترى فيميون يراه إذا قام في مصلاه بالبيت الذي هو فيه في الليل يمتلئ عليه البيت نورا، فأعجبه ذلك من أمره. وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة يعلقون عليها حلي نسائهم، ويعكفون عندها، فقال فيميون لسيده: أرأيت إن دعوت الله على هذه الشجرة فهلكت، أتعلمون أن الذي أنتم عليه باطل؟ قال: نعم.

فجمع له أهل نجران، وقام فيميون إلى مصلاه فدعا الله عليها، فأرسل الله عليها قاصفا فجعفها (اقتلعها) من أصلها ورماها إلى الأرض، فاتبعه أهل نجران على دين النصرانية، وحملهم على شريعة الإنجيل حتى حدثت فيهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران من أرض العرب.

ثم ذكر ابن إسحاق قصة عبد الله بن الثامر حين تنصر على يدي فيميون، وكيف قتله وأصحابه، ذو نواس، وخد لهم الأخدود (وهو الحفر المستطيل في الأرض مثل الخندق)، وأجج فيه النار، وحرقهم بها، وقتل آخرين حتى قتل قريبا من عشرين ألفا كما هو مستقصى في تفسير سورة (والسماء ذات البروج) من كتابنا التفسير ولله الحمد (السيرة النبوية لابن كثير).

ذكر خروج الملك باليمن من حمير وصيرورته إلى الحبشة السودان:كما أخبر بذلك شق وسطيح الكاهنان، وذلك أنه لم ينج من أهل نجران إلا رجل واحد يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر ملك الروم فاستنصره على ذي نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، وذلك لأنه نصراني على دينهم.

فقال له بعدت بلادك منا، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين وهو أقرب إلى بلادك. فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره. فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة، وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس، وسار إليه ذو نواس في حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه في البحر ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به إلى غمره، فأدخله فيها، فكان آخر العهد به، ودخل أرياط اليمن وملكها.

ذكر خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما واقتتالهما وصيرورة ملك اليمن إلى أبرهة بعد قتله أرياط

قال ابن إسحاق: فأقام أرياط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه أبرهة حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل منهما طائفة، ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس، أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لن تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط: أنصفت.

فخرج إليه أبرهة، وكان رجلا قصيرا لحيما، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه ارياط وكان رجلا جميلا عظيما طويلا، وفى يده حربة له، وخلف أبرهة غلام يقال له عتودة يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته، فبذلك سمى أبرهة الأشرم، وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وودى أبرهة أرياط (أي دفع ديته).

فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن، غضب غضبا شديدا على أبرهة، وقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته.

فحلق أبرهة رأسه وملا جرابا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكل طاعته لك، إلا أنى كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها، وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب تراب من أرضى ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه في.

فلما انتهى ذلك إلى النجاشي، رضي عنه، وكتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري. فأقام أبرهة باليمن.

ذكر سبب قصد أبرهة الكعبة بالفيل:
قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.

فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة، وسخرهم فيها أنواعا من السخر، وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة، وجعل ينقل إليها من قصر بلقيس رخاما وأحجارا وأمتعة عظيمة، وركب فيها صلبانا من ذهب وفضة، وجعل فيها منابر من عاج وأبنوس، وجعل ارتفاعها عظيما جدا، واتساعها باهرا.

فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة كان من يتعرض لأخذ شيء من بنائها وأمتعتها أصابته الجن بسوء، وذلك لأنها كانت مبنية على اسم صنمين، كعيب وامرأته، وكان طول كل منهما ستون ذراعا، فتركها أهل اليمن على حالها، فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح، أول خلفاء بني العباس، فبعث إليها جماعة من أهل العزم والحزم والعلم، فنقضوها حجرا حجرا، ودرست آثارها إلى يومنا هذا.

قال ابن إسحاق: فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي غضب رجل من النسأة (من كنانة، الذين ينسئون الشهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم)، فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها، أي أحدث حيث لا يراه أحد، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر أبرهة بذلك، فقال من صنع هذا؟ فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا، فغضب أبرهة عند ذلك، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت.

ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.

فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله فهُزم ذو نفر وأصحابه، وأُخِذ له ذو نفر فأتي به أسيرا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل. فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما.

ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلته، فقاتله، فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا فأتِى به، فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم بالسمع والطاعة.

فخلى سبيله، وخرج به معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو ابن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف، فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد، يعنون اللات، إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم. قال ابن إسحاق: واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة.

فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.

وفى قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلا منهم، وكان يمتنع بالحرم فلما خرج منه أصابه حجر فقتله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: “وآية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب”، فحفروا فوجدوهما. قال: وهو أبو ثقيف. قلت: والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن إسحاق، أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى، ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا، والله أعلم. وقد قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ….. كرجمكم لقبر أبى رغال

فلما نزل أبرهة بالمغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك.

وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له إن الملك يقول إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم. فإن هو لم يرد حربي فائتني به.

فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم. فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، ومالنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام.

أو كما قال، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يخل بينه وبينه، فو الله ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. فقال: حسبي.

فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.

فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، وهو الذي يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال، فائذن له عليك فليكلمك في حاجته، فأذن له أبرهة. قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جانبه.

ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان، فقال حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه !؟ فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه. فقال: ما كان ليمتنع منى. قال: أنت وذاك. فرد على عبد المطلب إبله.

ويقال إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة ابن عدي بن الدُئِل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة سيد بني بكر، وخويلد بن وائلة سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم ذلك. والله أعلم أكان ذلك أم لا.

فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في رؤوس الجبال، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة شعرا منه:
لاَهُم إن العبد يم ….. نع رحله فامنع رحالك
لا غلبن صليبهم ….. ومحالهم غدوا محالك (محالهم: قوتهم وبأسهم)

قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل.

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبى جيشه، وكان اسم الفيل محمودا. ولما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال: ابرك محمود وارجع راشدا من حيث أتيت فإنك في بلد الله الحرام، وأرسل أذنه، فبرك الفيل، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبرزين (آلة معقفة من حديد) ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.

وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان (قال عباد بن موسى: أظنها الزرازير)، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت بل رجع منهم راجعون إلى اليمن حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال.

وقال ابن أبى حاتم عن عبيد بن عمير قال: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ثم صاحت وألقت ما في رجليها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر، وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة، فأهلكوا جميعا. وذكروا أن أبرهة رجع وهو يتساقط أنملة أنملة، فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره فمات، لعنه الله.

وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل في ذلك:
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ….. وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل ….. كأن عليّ للحبشان دينا

قال ابن إسحاق: فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمث (أي ترشح) قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.

وذكر النقاش في تفسيره أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر. وروى ابن إسحاق قال: حدثنى عبد الله بن أبى بكر عن سمرة عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان.

قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤى بها مرائر الشجر: الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام.

قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم (إقرأ سورة الفيل).

ومن أشعار العرب في ذلك ما قاله عبد الله بن الزبعرى السهمى:
تَنَّكَّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إنَّهَا … كَانَتْ قَدِيمًا لَا يُرَامُ حَرِيمُهَا
لَمْ تَخْلُقْ الشِّعْرَى لَيَالِيَ حُرِّمَتْ … إذْ لَا عَزِيزَ مِنْ الْأَنَامِ يَرُومُهَا
سَائِلْ أَمِيرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأَى … وَلَسَوْفَ يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا
ستون ألفا لم يئوبوا أرضهم ….. بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم ….. والله من فوق العباد يقيمها
ومن ذلك قول أبى قيس بن الأسلت الأنصاري المدني:
ومن صنعه يوم فيل الحبو ….. ش إذ كلما بعثوه رزم (أي لم يتحرك)
محاجنهم تحت أقرابه ….. وقد شرموا أنفه فانخرم (أقرابه: الخاصرة)
وقد جعلوا سوطه مغولا ….. إذا يمموه قفاه كلم (مغولا: سكين كبيرة)
فولى وأدبر أدراجه ….. وقد باء بالظلم من كان ثم

ومن ذلك قول أبى الصلت ربيعة بن أبى ربيعة وهب بن علاج الثقفى، قال ابن هشام: ويروى لأمية ابن أبى الصلت:
إن آيات ربنا ثاقبات ….. ما يمارى فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل ….. مستبين حسابه مقدور
ثم يجلو النهار رب رحيم ….. بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى ….. صار يحبو كأنه معقور

قال ابن إسحاق وغيره: فلما هلك أبرهة وابناه وزال ملك الحبشة عن اليمن هُجِر القليس الذي كان بناه وأصبح يبابا لا أنيس به. وكان قد بناه على صنمين وهما كعيب وامرأته، وكانا من خشب طول كل منهما ستون ذراعا في السماء، وكانا مصحوبين من الجان، ولهذا كان لا يتعرض أحد إلى أخذ شيء من بناء القليس وأمتعته إلا أصابوه بسوء، فلم يزل كذلك إلى أيام السفاح أول خلفاء بني العباس.

ذكر خروج الملك عن الحبشة

ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن الحميري كما أخبر بذلك الكاهنان. قال محمد بن إسحاق رحمه الله: فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة.

فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري، وكان يكنى أبا مرة، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما هم فيه، وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو، ويخرج إليهم من شاء من الروم فيكون له ملك اليمن فلم يشكه (أي لم يستجب لشكواه)، فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة، فقال له النعمان: إن لي على كسرى وفادة في كل عام، فأقم عندي حتى يكون ذلك ففعل، ثم خرج معه فأدخله على كسرى.

وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له.

فلما دخل عليه طأطأ رأسه، فقال الملك: إن هذا الأحمق يدخل على من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه، فقيل ذلك لسيف فقال: إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء. ثم قال له: أيها الملك غلبتنا على بلادنا الأغربة. قال كسرى: أيُّ الأغربة الحبشة أم السند؟ قال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك. فقال له كسرى: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسوة حسنة.

فلما قبض ذلك منه سيف، خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس، فبلغ ذلك الملك فقال: إن لهذا لشأنا، ثم بعث إليه فقال: عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس، قال: وما أصنع بحبائك؟ ما جبال أرضى التي جئت منها إلا ذهب وفضة – يرغبه فيها-. فجمع كسرى مرازبته فقال لهم: ما ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له؟ فقال قائل: أيها الملك إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم، وإن ظفروا كان ملكا ازددته.

فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمائة رجل، واستعمل عليهم رجلا منهم يقال له وهرز، وكان ذا سن فيهم، وأفضلهم حسبا وبيتا، فخرجوا في ثمان سفائن، فغرقت سفينتان، ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن.

فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له: رجلي ورجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا. فقال له وهرز: أنصفت.

وخرج إليهم مسروق بن أبرهة ملك اليمن، فأرسل إليه وهرز ابنا له ليقاتله فيختبر قتاله، فقُتِل ابن وهرز، فزاده ذلك حنقا عليهم.

فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز: أروني ملكهم. فقالوا له: أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوته حمراء. قال: نعم. قالوا: ذلك ملكهم. فقال اتركوه. قال فوقفوا طويلا، ثم قال: علام هو؟ قالوا: قد تحول على الفرس، قال: اتركوه، فتركوه طويلا، ثم قال: علام هو؟ قالوا على البغلة. قال وهرز: بنت الحمار، ذل وذل ملكه، إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا به ولاذوا فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم.

ثم أوتر قوسه، وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها، وأمر بحاجبيه فعصبا له، ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه وتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، ونكس عن دابته، واستدارت الحبشة ولاذت به، وحملت عليهم الفرس فانهزموا، فقُتِلوا، وهربوا في كل وجه.

وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا، اهدموا هذا الباب، فهُدم، ثم دخلها ناصبا رايته.

ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على سيف يهنئونه بعود الملك إليه وامتدحوه، فكان من جملة من وفد قريش، وفيهم عبد المطلب بن هاشم، فبشره سيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما يعلم من أمره.

قال ابن إسحاق: وقال أبو الصلت بن ربيعة الثقفي، قال ابن هشام: وتروى لامية ابن أبى الصلت:
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن …. ريم في البحر للأعداء أحوالا
يمم قيصر لما حان رحلته …. فلم يجد عنده بعض الذي سألا
ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة …. من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم …. إنك عمري لقد أسرعت قلقالا (شدة الحركة)
لله درهم من عصبة خرجوا …. ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
غلبا مرازبة بيضا أساورة …. أسدا تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن شدف كأنها غبط …. بزمخر يعجل المرمى إعجالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد …. أضحى شريدهم في الارض فلالا (الفلال: المنهزمون)
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا …. في رأس غمدان دارا منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم …. وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن …. شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

يقال: إن غمدان قصر باليمن بناه يعرب بن قحطان، وأكمله بعده واحتله وائلة ابن حمير بن سبأ، ويقال كان ارتفاعه عشرين طبقة. فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: فأقام وهرز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء (وتقال لأولاد فارس) الذين باليمن اليوم.

وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق ابن أبرهة وأخرجت الحبشة، اثنتين وسبعين سنة.

ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن، ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان، ثم مات فأمر ابن التينجان ثم عزله عن اليمن وأمر عليها باذان، وفى زمنه بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن هشام: فبلغني عن الزهري أنه قال: كتب كسرى إلى باذان: إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلى برأسه.

فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا”، فلما أتى باذان الكتاب وقف لينتظر وقال: إن كان نبيا فسيكون ما قال.

فقتل اللهُ كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي ابنه شيرويه، وقال بعضهم: بنوه تمالؤوا على قتله. وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان بن قباذ وهو الذي غلب الروم في قوله تعالى: “ألم غلبت الروم في أدنى الأرض” كما سيأتي بيانه.

وفى بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسول باذان: ” إن ربى قد قتل الليلة ربك “، فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى هذا يقول خالد بن حق الشيباني:
وكسرى إذ تقسمه بنوه ….. بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم ….. ألا ولكل حاملة تمام

قال الزهري: فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قلت – ابن كثير-: والظاهر أن هذا كان بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة).

ومات باذان فقام بعده ولده شهر بن باذان، وهو الذي قتله الأسود العنسي حين تنبأ، وأخذ زوجته كما سيأتي بيانه، وأجلى عن اليمن نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قتل الأسود عادت اليد الإسلامية عليها.

قصة الساطرون صاحب الحضر

وقد ذكر قصته هاهنا عبد الملك بن هشام لأجل ما قاله بعض علماء النسب أن النعمان بن المنذر من سلالة الساطرون صاحب الحضر (وقد وردت 3 أقوال في نسب النعمان).

والحضر حصن عظيم بناه هذا الملك وهو الساطرون على حافة الفرات، وهو منيف مرتفع البناء واسع الرحبة والفناء دوره بقدر مدينة عظيمة. واسم الساطرون: الضيزن بن معاوية من ولد قضاعة.

وقيل كان من الجرامقة وكان أحد ملوك الطوائف وكان يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم، وكان حصنه بين دجلة والفرات، وكان أغار على بلاد سابور (كسرى) في غيبته بأرض العراق، فأشرفت بنت الساطرون، وكان اسمها النضيرة، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وكان جميلا، فدست إليه: أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر؟ فقال: نعم.

فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه، وبعثت بها مع مولى لها، ففتح الباب. ويقال: بل دلتهم على نهر يدخل منه الماء متسع، فولجوا منه إلى الحضر.

ويقال: بل دلتهم على طلسم كان في الحضر، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء ثم ترسل، فإذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم، فيفتح الباب، ففعل ذلك، فانفتح الباب فدخل سابور فقتل ساطرون، واستباح الحضر وخربه، وسار بها معه فتزوجها، فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تململ لا تنام، فدعا لها بالشمع، ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس، فقال لها سابور: أهذا الذي أسهرك؟ قالت: نعم. قال: فما كان أبوك يصنع بك. قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ، ويسقيني الخمر. قال: أفكان جزاء أبيك ما صنعت به، أنت إليّ بذلك أسرع، فربط قرون رأسها بذنب فرس ثم ركض الفرس حتى قتلها.

ففيه يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
ألم تر للحضر إذ أهله …. بنعمى وهل خالد من نعم
أقام به شاهبور الجنو …. د حولين تضرب فيه القدم
فلما دعا ربه دعوة …. أناب إليه فلم ينتقم
وقال عدى بن زيد في ذلك:
فأسلمت أهلها بليلتها …. تظن أن الرئيس خاطبها
فكان حظ العروس إذ جشر الص …. بح دماء تجرى سبائبها (جشر: طلع)
وخرب الحضر واستبيح وقد …. أحرق في خدرها مشاجبها (مشاجب: ما تعلق به الثياب)

وكان الساطرون مقدما على سائر ملوك الطوائف، وكان من زمن اسكندر بن فلبيس المقدونى اليونانى، وذلك لأنه لما غلب على ملك الفرس دارا بن دارا وأذل مملكته، فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في إقليم من أقاليم الأرض ما بين عربها وأعاجمها، فاستمر كل ملك منهم يحمى حوزنه ويحفظ حصته ويستغل محلته، فإذا هلك قام ولده من بعده أو أحد قومه، فاستمر الأمر كذلك قريبا من خمسمائة سنة حتى كان أردشير بن بابك من بنى ساسان، ورجعت الممالك برمتها إليه، وأزال ممالك ملوك الطوائف، وكان تأخر عليه حصار صاحب الحضر الذي كان أكبرهم وأشدهم وأعظمهم إذ كان رئيسهم ومقدمهم، فلما مات أردشير تصدى له ولده سابور فحاصره حتى أخذه كما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قصة خالد بن سنان العبسي

وكان في زمن الفترة، وقد زعم بعضهم أنه كان نبيا، والله أعلم.
قال الحافظ ابو القاسم الطبراني عن ابن عباس، قال: “جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط لها ثوبه وقال: بنت نبي ضيعه قومه”.

وقال أبو يونس: قال سماك بن حرب: إن ابن خالد بن سنان أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبا بإبن أخى. فهذا السياق موقوف على ابن عباس، وليس فيه أنه كان نبيا، والمرسلات التى فيها أنه نبى لا يحتج بها هاهنا.

والأشبه أنه كان رجلا صالحا له أحوال وكرامات، فإنه إن كان في زمن الفترة فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن أولى الناس بعيسى بن مريم أنا، لأنه ليس بينى وبينه نبى”. وإن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبيا لأن الله تعالى قال: “لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك”.

قصة حاتم الطائى

كان جوادا ممدوحا في الجاهلية، وكذلك كان ابنه في الإسلام. وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، وإنما كان قصده السمعة والذكر. عن ابن عمر، قال: ذكر حاتم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “ذاك أراد أمرا فأدركه”.

وعن عدى بن حاتم، قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبى كان يصل الرحم ويفعل ويفعل، فهل له في ذلك ؟ يعنى من أجر، قال: ” إن أباك طلب شيئا فأصابه “، يعنى الذكر.

وقد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم، منهم الرجل الذى ينفق ليقال إنه كريم، فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا، وكذا في العالم والمجاهد.

وفي الحديث الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة فقالوا له: كان يقرى الضيف ويعتق ويتصدق، فهل ينفعه ذلك ؟ فقال: “إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لى خطيئتي يوم الدين”.

وقد كان من الأجواد المشهورين أيضا، المطعمين في السنين الممحلة والاوقات المرملة.

وعن على بن أبى طالبن قال: “يا سبحان الله ! ما أزهد كثيرا من الناس في خير ! عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغى له أن يسارع في مكارم الأخلاق فإنها تدل على سبيل النجاح.

فقام إليه رجل وقال: فداك أبى وأمى يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم ! وما هو خير منه، لما أُتِي بسبايا طيئ وقعت جارية حمراء لعساء زلفاء عيطاء (اللعساء: الجارية في لونها أدنى سواد مشربة من الحمرة، والزلفاء: الملساء، والعيطاء: طويلة العنق) شماء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين (الدرماء: التى لا تستبين كعوبها)، خدلجة الساقين (الخدلجة: الممتلئة)، لفاء الفخدين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.

قال: فلما رأيتها أعجبت بها، وقلت لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعلها في فيئي، فلما تكلمت أُنْسِيت جمالها لما رأيت من فصاحتها، فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلى عني ولا تشمت بى أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبى كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طيئ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مؤمنا لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله تعالى يحب مكارم الاخلاق”. فقام أبو بردة بن نيار (واسمه هاني بن نيار) فقال يا رسول الله: واللهُ يحب مكارم الاخلاق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذى نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق”.

قيل للنوار امرأة حاتم: حدثينا عن حاتم. قالت: كل أمره كان عجبا ! أصابتنا سنة حصت كل شيء (الحص: حلق الشعر، والمعنى: أهلكت كل شيء)، فاقشعرت لها الارض واغبرت لها السماء، وضنت المراضع على أولادها، وراحت الإبل حدبا حدابير ما تبض بقطرة (الحدب: التى بدت حراقيفها، والحدابير: النوق الضامرة)، وإنا لفي ليلة صنبر (صنبر: باردة)، بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى الصبية من الجوع، عبد الله وعدي وسفانة، فو الله إن وجدنا شيئا نعللهم به.. فلما ادلهم الليل وتهورت النجوم وهدأت الأصوات وسكنت الأرجل، إذا جانب البيت قد رفع، فقال من هذا ؟ قالت: جارتك فلانة يا أبا عدي، ما وجدت على أحد معولا غيرك، أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع. قال أعجليهم علي.

قالت النوار: فوثبت فقلت ماذا صنعت ؟ اضطجع والله، لقد تضاغى صبيتك فما وجدت ما تعللهم، فكيف بهذه وبولدها ؟ فقال: اسكتي، فو الله لأاشبعنك إن شاء الله.
قالت: فأقبلت تحمل اثنين وتمشى جنبتيها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها (جمع رأل، وهو ولد الظبية)، فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته، ثم قدح زنده وأورى ناره، ثم جاء بمدية فكشط عن جلده، ثم دفع المدية إلى المرأة ثم قال دونك. ثم قال: ابعثي صبيانك. فبعثهم.

ثم قال: سوءة، أتأكلون شيئا دون أهل الصرم ! فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه والتفع في ثوبه، ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا، والله ما ذاق مزعة، وإنه لأحوجهم إليه، فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظم أو حافر.

وعن أبي عبيدة قال: لما بلغ حاتم طيئ قول المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى …. ولا يبقى الكثير على الفساد
وحفظ المال خير من فناه …. وعسف في البلاد بغير زاد
قال: ماله قطع الله لسانه حمل الناس على البخل ؟ ! فهلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل فنائه …. ولا البخل في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس مالا بعيش مقتر …. لكل غد رزق يعود جديد
ألم تر أن المال غاد ورائح …. وأن الذى يعطيك غير بعيد

قال القاضي أبو الفرج: وقد أحسن في قوله: “وأن الذى يعطيك غير بعيد”، ولو كان مسلما لرجي له الخير في معاده.

وعن الوضاح بن معبد الطائي قال: وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر، فأكرمه وأدناه، ثم زوده عند انصرافه جملين ذهبا وورقا غير ما أعطاه من طرائف بلده، فرحل فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيئ، فقالت: يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهالينا بالفقر ! فقال حاتم: هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه. فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه، فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته، فقالت له: اتق الله وأبق على نفسك، فما يدع هؤلاء دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا.
فأنشأ يقول:
قالت طريفة ما تبقى دراهمنا …. وما بنا سرف فيها ولا خرق
إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا …. ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق
ما يألف الدرهم الكارى خرقتنا …. إلا يمر عليها ثم ينطلق
إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا …. ظلت إلى سبل المعروف تستبق

وقال أبو بكر بن عياش: قيل لحاتم: هل في العرب أجود منك ؟ فقال: كل العرب أجود منى. ثم أنشأ يحدث قال: نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مائة من الغنم، فذبح لى شاة منها وأتاني بها، فلما قرب إلى دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ ! قال: فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت قد اكتفيت. فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة وبقي لا شيء له ! فقيل: فما صنعت به ؟ فقال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء ! قال: على كل حال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي.

وعن حماد الراوية، ومشيخة من مشيخة طيئ، قالوا: كانت عنترة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم طيئ لا تمسك شيئا سخاء وجودا، وكان إخوتها يمنعونها فتأبى، وكانت امرأة موسرة، فحبسوها في بيت سنة يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع، ثم أخرجوها بعد سنة، وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق، فدفعوا إليها صرمة من مالها وقالوا استمتعي بها. فأتتها امرأة من هوازن وكانت تغشاها فسألتها، فقالت: دونك هذه الصرمة، فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلا، ثم أنشأت تقول:
لعمري لقد عضني الجوع عضة …. فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني …. وإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم …. سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا
وماذا ترون اليوم إلا طبيعة …. فكيف بتركي يا بن أمي الطبائعا

وعن عدي بن حاتم، عن أبيه، عن جده، قال: شهدت حاتما يكيد بنفسه (يجود بها)، فقال لي: أي بني، إني أعهد من نفسي ثلاث خصال: والله ما خاتلت جارة لريبة قط، ولا اؤتمنت على أمانة إلا أديتها، ولا أتى أحد من قِبلي بسوء.
وقال أبو بكر الخرائطي: عن المحرر مولى أبى هريرة، قال: مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيئ، فنزلوا قريبا منه، فقام إليه بعضهم يقال له أبو الخيبرى فجعل يركض قبره برجله ويقول: يا أبا جعد اقرنا. فناموا، فقام صاحب القول فزعا يقول: يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتما أتاني في النوم وأنشدني شعرا وقد حفظته، يقول:
أبا الخيبرى وأنت امرؤ …. ظلوم العشيرة شتامها
أتيت بصحبك تبغي القرى …. لدى حفرة قد صدت هامها
أتبغي لي الذنب عند المبي …. ت وحولك طيئ وأنعامها
وإنا لنشبع أضيافنا * وتأتي المطي فنعتامها (نعتامها: نأخذها)

قال: وإذا ناقة صاحب القول تكوس عقيرا، فنحروها وقاموا يشتوون ويأكلون (كوسه الله في النار أي قلبه على رأسه، وكاس العقير كوسا لأنه يسقط على رأسه).
وقالوا: والله لقد أضافنا حاتم حيا وميتا ! قال: وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم وساروا، فإذا رجل ينوه بهم راكبا جملا ويقود آخر، فقال: أيكم أبو الخيبرى؟ قال: أنا. قال: إن حاتما أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك وأمرني أن أحملك، وهذا بعير فخذه، ودفعه إليه.

قصة عبد الله بن جدعان

هو عبد الله بن جدعان، بن عمرو، بن كعب، بن سعد، بن تيم، بن مرة، سيد بنى تيم، وهو ابن عم والد أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
وكان من الكرماء الاجواد في الجاهلية المطعمين للمسنتين.

وكان في بدء أمره فقيرا مملقا، وكان شريرا يكثر من الجنايات، حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته، وأبغضه أبوه.
فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائرا بائرا فرأى شقا في جبل، فظن أن يكون به شئ يؤذى، فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه.

فلما اقترب منه إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه، فجعل يحيد عنه ويثب فلا يغنى شيئا، فلما دنا منه إذا هو من ذهب وله عينان هما ياقوتتان، فكسره وأخذه ودخل الغار فإذا فيه قبور لرجال من ملوك جرهم، منهم الحارث بن مضاض الذى طالت غيبته فلا يدرى أين ذهب، ووجد عند رؤوسهم لوحا من ذهب فيه تاريخ وفاتهم ومدد ولايتهم، وإذا عندهم من الجواهر والآلئ والذهب والفضة شيء كثير، فأخذ منه حاجته، ثم خرج وعلم باب الغار، ثم انصرف إلى قومه فأعطاهم حتى أحبوه وسادهم، وجعل يطعم الناس، وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ حاجته ثم رجع.

وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره، وقع فيها صغير فغرق.
وذكر ابن قتيبة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمى، أي وقت الظهيرة” (الصكة: شدة الهاجرة، وتضاف إلى عمى، رجل من العمالقة أغار على قوم في الظهيرة فاجتاحهم).

قصة امرئ القيس بن حجر الكندى

صاحب إحدى المعلقات، وهى أفخرهن وأشهرهن. عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار” (الحديث فيه كلام).

وعن فروة بن سعيد بن عفيف بن معدى كرب، عن أبيه، عن جده قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس.

قال: وكيف ذاك ؟ قالوا: أقبلنا نريدك، حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر ليموت كل رجل منا في ظل شجرة، فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير، فلما رآه بعضنا قال، والراكب يسمع:
ولما رأت أن الشريعة همها * وأن البياض من فرائصها دامى (الشريعة: مشرعة الماء)
تيممت العين التى عند ضارج * يفيء عليها الظل عرمضها طامى (ضارج: موضع ببلاد عبس)

فقال الراكب: ومن يقول هذا الشعر؟ وقد رأى ما بنا من الجهد، قلنا: امرؤ القيس بن حجر. قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم.

فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحوا من خمسين ذراعا، فحبونا إليه على الركب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيئ عليه الظل (العرمض: الطحلب).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار”.

وذكر الكلبى أن امرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بنى أسد حين قتلوا أباه، فمر بتبالة وبها ذو الخلصة، وهو صنم، وكانت العرب تستقسم عنده، فاستقسم فخرج القدح الناهي، ثم الثانية، ثم الثالثة كذلك، فكسر القداح وضرب بها وجه ذي الخلصة، وقال: عضضت بأير أبيك، لو كان أبوك المقتول لما عوقتني ! ثم أغار على بنى أسد فقتلهم قتلا ذريعا. قال ابن الكلبى: فلم يُستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الاسلام.

وذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجده في بعض الحروب ويسترفده، فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك، فيقال إنه سقاه سما فقتله، فألجأه الموت إلى جنب قبر امرأة عند جبل يقال له عسيب، فكتب هنالك:
أجارتنا إن المزار قريب …. وإنى مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ههنا …. وكل غريب للغريب نسيب
وذكروا أن المعلقات السبع كانت معلقة بالكعبة، وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش، فإن أجازوها علقوها على الكعبة تعظيما لشأنها، فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع.

قصة أمية بن أبى الصلت الثقفي

كان من شعراء الجاهلية وقد أدرك زمن الإسلام. شاعر جاهلي قدم دمشق قبل الاسلام، وقيل إنه كان مستقيما (وقيل إنه كان نبيا)، وإنه كان في أول أمره على الايمان، ثم زاغ عنه.

قال عبد الرزاق: قال الثوري: أخبرني حبيب بن أبى ثابت أن عبد الله بن عمرو قال في قوله تعالى “واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين”، هو أمية بن أبى الصلت.

عن معاوية بن أبى سفيان، عن أبيه، قال: خرجت أنا وأمية بن أبى الصلت الثقفى تجارا إلى الشام، فكلما نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرؤه علينا، فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فجاءوه وأكرموه وأهدوا له، وذهب معهم إلى بيوتهم.

ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما، وقال لى: هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتاب تسأله ؟ قلت: لا إرب لي فيه، والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به، ولئن حدثني بما أكره لأجدن منه.

قال: فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل علي، فقال: ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ ؟ قلت: لست على دينه. قال: وإن، فإنك تسمع منه عجبا وتراه. ثم قال لى: أثقفي أنت ؟ قلت: لا ولكن قرشي. قال: فما يمنعك من الشيخ، فو الله إنه ليحبكم ويوصي بكم.

قال فخرج من عندنا، ومكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم أنجدل على فراشه، فو الله ما نام ولا قام.

حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه، ما يكلمنا ولا نكلمه (فعل ذلك في سفرهما مرارا، ثم حدثه عن النبي المنتظر)، قال: فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء، ثم قلت أخبرني عن هذا النبي الذى ينظر.

قال: هو رجل من العرب. قلت: قد علمت أنه من العرب، فمن أي العرب هو ؟ قال: من أهل بيت تحجه العرب. قلت وفينا بيت تحجه العرب. قال: هو من إخوانكم من قريش، فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط، وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون إياه.

قال أبو سفيان: فقدمنا مكة، فقضيت ما كان معي، ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة.

فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم، حتى جاءني محمد بن عبد الله، وهند عندي تلاعب صبيانها، فسلم علي ورحب بي، وسألني عن سفري ومقامي ولم يسألني عن بضاعته، ثم قام. فقلت لهند: والله إن هذا ليعجبني، ما من من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته.

فقالت لى هند: أو ما علمت شأنه. فقلت وأنا فزع: ما شأنه ؟ قالت يزعم أنه رسول الله. فوقذتني، وتذكرت قول النصراني، فرجفت حتى قالت لى هند: مالك ؟ فانتبهت فقلت: إن هذا لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا. قالت: بلى والله إنه ليقول ذلك ويدعو إليه، وإن له لصحابة على دينه. قلت: هذا هو الباطل.

قال أبو سفيان: فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن. ثم قدمت الطائف فنزلت على أمية بن أبى الصلت، فقال لي: يا أبا سفيان، هل تذكر قول النصراني ؟ فقلت أذكره وقد كان. فقال: ومن ؟ قلت: محمد بن عبد الله. قال: ابن عبد المطلب ؟ قلت: ابن عبد المطلب، ثم قصصت عليه خبر هند. قال: فالله يعلم، وأخذ يتصبب عرقا. قال: والله يا أبا سفيان لعله، إن صفته لهي، ولئن ظهر وأنا حي لأطلبن من الله عز وجل في نصره عذرا.

قال: ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله، وأقبلت حتى نزلت على أمية بن أبى الصلت بالطائف فقلت: يا أبا عثمان قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك وسمعته. فقال: قد كان لعمري. قلت: فأين أنت منه يا أبا عثمان ؟ فقال: والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدا ! قال أبو سفيان: وأقبلت إلى مكة، فو الله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة فوجدت أصحابه يُضربون ويُحقرون.

قال أبو سفيان: فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة ؟ فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة.

وفي رواية: قال أبو سفيان: “فضرب الدهر ضربه، فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذى كنت تنعته، قال: أما إنه حق فاتبعه. قلت: ما يمنعك من اتباعه ؟ قال: ما يمنعنى إلا الإستحياء من نساء ثقيف، إنى كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعا لغلام من بنى عبد مناف ! ثم قال أمية: كأنى بك يا أبا سفيان قد خالفته، ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد”.

وعن سعيد ابن المسيب، قال: قدمت الفارعة أخت أمية بن أبى الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة (والارجح أنه بعد فتح الطائف)، وكانت ذات لب وعقل وجمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بها معجبا. فقال لها ذات يوم: يا فارعة، هل تحفظين من شعر أخيك شيئا ؟ فقالت: نعم، وأعجب من ذلك ما قد رأيت.

قالت: كان أخى في سفر، فلما انصرف بدأني، فدخل علي فرقد على سريري وأنا أحلق أديما في يدي، إذ أقبل طائران أبيضان أو كالطيرين أبيضين، فوقع على الكوة أحدهما ودخل الآخر فوقع عليه، فشق الواقع عليه ما بين قصه (أي صدره) إلى عانته ثم أدخل يده في جوفه فأخرج قلبه فوضعه في كفه ثم شمه، فقال له الطائر الآخر: أوعى ؟

قال: وعى. قال: أزكا ؟ قال: أبى. ثم رد القلب إلى مكانه فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين. ثم ذهبا. فلما رأيت ذلك دنوت منه فحركته، فقلت هل تجد شيئا ؟ قال: لا إلا توهينا في جسدي. وقد كنت ارتعبت مما رأيت، فقال: مالي أراك مرتاعة ؟ قالت: فأخبرته الخبر. فقال: خير أريد بى ثم صُرف عنى (وفي رواية أن ذلك كان في منام إحدى بناته رأت نسرين شق أحدهما بطنه).

قال: ثم انصرف إلى رحله، فلم يلبث إلا يسيرا حتى ظعن في جنازته، فأتاني الخبر فانصرفت إليه فوجدته منعوشا قد سجى عليه، فدنوت منه فشهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف ورفع صوته وقال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا ذو مال فيفدينى ولا ذو أهل فتحميني.

ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة، فقلت قد هلك الرجل. فشق بصره نحو السقف فرفع صوته فقال: لبيكا لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا ذو براءة فأعتذر ولا ذو عشيرة فانتصر. ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة وشق بصره، ونظر نحو السقف فقال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، بالنعم محفود وبالذنب محصود. ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما:
إن تغفر اللهم تغفر جما …. وأي عبد لك لا ألما
ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة فقال:
كل عيش وإن تطاول دهرا …. صائر مرة إلى أن يزولا
ليتنى كنت قبل ما قد بدا لي …. في قلال الجبال أرعى الوعولا
فاجعل الموت نصب عينيك واحذر …. غولة الدهر إن للدهر غولا

قالت: ثم مات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها” الآية (وقد تكلم الخطابى على غريب هذا الحديث).

وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال: قال أمية بن أبى الصلت:
ألا رسول لنا منا يخبرنا …. ما بعد غايتنا من رأس مجرانا

قال: ثم خرج أمية بن أبى الصلت إلى البحرين، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام أمية بالبحرين ثمانى سنين، ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله ؟ قالوا: يزعم أنه نبي، هو الذى كنت تتمنى. قال: فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه، فقال: يا ابن عبد المطلب ما هذا الذى تقول ؟ قال: أقول إنى رسول الله وأن لا إله إلا هو.

قال: إنى أريد أن أكلمك فعدني غدا. قال فموعدك غدا. قال فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي، وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ذلك شئت. قال: فإنى آتيك في جماعة، فأت في جماعة. قال: فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم معه نفر من أصحابه، حتى جلسوا في ظل الكعبة.

قال: فبدأ أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر، حتى إذا فرغ الشعر، قال: أجبني يا ابن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بسم الله الرحمن الرحيم * يس والقرآن الحكيم”، حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه. قال: فتبعته قريش يقولون: ما تقول يا أمية ؟ قال: أشهد أنه على الحق. فقالوا: هل تتبعه ؟ قال: حتى أنظر في أمره.

قال: ثم خرج أمية إلى الشام، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما قتل أهل بدر قدم أمية من الشام حتى نزل بدرا، ثم ترحل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قائل: يا أبا الصلت ما تريد ؟ قال: أريد محمدا. قال: وما تصنع ؟ قال: أؤمن به وألقى إليه مقاليد هذا الأمر.

قال: أتدرى من في القليب ؟ قال: لا. قال: فيه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما ابنا خالك – وأمه ربيعة بنت عبد شمس – قال: فجدع أذني ناقته وقطع ذنبها، ثم وقف على القليب يقول:
ماذا ببدر فالعقن (القصيدة إلى آخرها). ثم رجع إلى مكة والطائف وترك الإسلام.

وقد ذكر السهيلي في كتابه ” التعريف والاعلام ” أن أمية بن أبى الصلت أول من قال “باسمك اللهم”، وذكر عند ذلك قصة غريبة، وهو أنهم خرجوا في جماعة من قريش في سفر، فيهم حرب بن أمية والد أبى سفيان. فمروا في مسيرهم بحية فقتلوها، فلما أمسوا جاءتهم امرأة من الجان فعاتبتهم في قتل تلك الحية، ومعها قضيب فضربت به الأرض ضربة نفرت الابل عن آخرها، فذهبت وشردت كل مذهب، وقاموا فلم يزالوا في طلبها حتى ردوها، فلما اجتمعوا جاءتهم أيضا فضربت الأرض بقضيبها، فنفرت الابل فذهبوا في طلبها، فلما أعياهم ذلك قالوا: هل عندك لما نحن فيه من مخرج ؟ فقال: لا والله، ولكن سأنظر في ذلك.

قال: فساروا في تلك المحلة لعلهم يجدون أحدا يسألونه عما قد حل بهم من العناء، إذا نار تلوح على بعد، فجاءوها فإذا شيخ على باب خيمة يوقد نارا، وإذا هو من الجان في غاية الضآلة والدمامة، فسلموا عليه فسألهم عما هم فيه، فقال: إذا جاءتكم فقل ب”اسمك اللهم”.

فإنها تهرب، فلما اجتمعوا وجاءتهم الثالثة أو الرابعة، قال في وجهها أمية: باسمك اللهم. فشردت ولم يقر لها قرار، لكن عدت الجن على حرب بن أمية فقتلوه بتلك الحية، فقبره أصحابه هنالك حيث لا جار ولا دار، ففى ذلك يقول الجان:
وقبر حرب بمكان قفر …. وليس قرب قبر حرب قبر

وذكر بعضهم: أنه كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوانات، فكان يمر في السفر على الطير فيقول لأصحابه: إن هذا يقول كذا وكذا. فيقولون لا نعلم صدق ما يقول. حتى مروا على قطيع غنم قد انقطعت منه شاة ومعها ولدها، فالتفتت إليه فثغت كأنها تستحثه. فقال: أتدرون ما تقول له ؟ قالوا: لا. قال: إنها تقول أسرع بنا لا يجئ الذئب فيأكلك كما أكل أخاك عام أول. فأسرعوا حتى سألوا الراعى: هل أكل له الذئب عام أول حملا بتلك البقعة ؟ فقال: نعم.

وذكر ابن السكيت: أن أمية بن أبى الصلت بينما هو يشرب يوما إذ نعب غراب، فقال: له بفيك التراب مرتين. فقيل له: ما يقول ؟ فقال إنه يقول: إنك تشرب هذا الكأس الذى في يدك ثم تموت. ثم نعب الغراب، فقال: إنه يقول وآية ذلك أني أنزل على هذه المزبلة فآكل منها فيعلق عظم في حلقى فأموت. ثم نزل الغراب على تلك المزبلة فأكل شيئا فعلق في حلقه عظم فمات. فقال أمية: أما هذا فقد صدق في نفسه، ولكن سأنظر هل صدق في أم لا. ثم شرب ذلك الكأس الذى في يده ثم اتكأ فمات.

وقال ابن صاعد: فأما الذى يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أمية: “آمن شعره وكفر قلبه” فلا أعرفه.

وروى عن الأصمعي أنه كان ينشد من شعر أمية:
مجدوا الله فهو للمجد أهل …. ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الن …. اس وسوى فوق السماء سريرا
ومن شعر أمية بن أبى الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي:
أأذكر حاجتي أم قد كفانى * حياؤك إن شيمتك الحياء
وعملك بالحقوق وأنت فرع * لك الحسب المهذب والسناء
كريم لا يغيره صباح * عن الخلق الجميل ولا مساء
يباري الريح مكرمة وجودا * إذا ما الكلب أحجره الشتاء
وأرضك أرض مكرمة بنتها * بنو تيم وأنت لها سماء
إذا أثنى عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء
وله فيه مدائح أخر.

وقد كان عبد الله بن جدعان هذا من الكرماء الأجواد الممدحين المشهورين، وكان له جفنة يأكل الراكب منها وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها، وكان يملؤها لباب البر يلبك بالشهد والسمن، وكان يعتق الرقاب ويعين على النوائب.
ومن شعر أمية:
لا ينكثون الارض عند سؤالهم …. كتطلب العلات بالعيدان
بل يسفرون وجوههم فترى لها …. عند السؤال كأحسن الالوان
وإذا المقل أقام وسط رحالهم …. ردوه رب صواهل وقيان
وإذا دعوتهم لكل ملمة …. سدوا شعاع الشمس بالفرسان

قصة قس بن ساعدة الايادي

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَهْلٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِ ” هَوَاتِفِ الْجَانِّ “: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ إِيَادٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ وَفْدِ إِيَادٍ، مَا فَعَلَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الْإِيَادِيُّ؟ قَالُوا: هَلَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: لَقَدْ شَهِدْتُهُ يَوْمًا بِسُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مُعْجِبٍ مُونِقٍ لَا أَجِدُنِي أَحْفَظُهُ.

فَقَامَ إِلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَقَاصِي الْقَوْمِ فَقَالَ: أَنَا أَحْفَظُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: فَسُّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.

قَالَ: فَكَانَ بِسُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ اجْتَمِعُوا، فَكُلُّ من فَاتَ فَاتَ، وكل شيء آتٍ آتٍ، لَيْلٌ دَاجٍ، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وبحر عجاج، نُجُوم تزهر، وجبال مرساة ، وأنهار مجراة ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ لعبرا، ما لي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ، أَرَضُوا بِالْإِقَامَةِ فَأَقَامُوا، أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا، أَقْسَمَ قُسٌّ بِاللَّهِ قَسَمًا لَا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ لِلَّهِ دِينًا هُوَ أَرْضَى مِنْ دِينِكُمْ هَذَا. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِي … نَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ
لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا … لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مصَادر
وَرَأَيْت قومِي نَحْوهَا … يمْضِي الأصاغر والأكابر
لَا من مضى يَأْتِي إِلَي … ك وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا محا … لَة حَيْثُ صَار الْقَوْم صائر

وفي رواية أنه وقف بِسُوقِ عُكَاظٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَمِعُوا، وَاسْمَعُوا وَعُوا، كُلُّ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَكُلُّ مَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، لَيْلٌ دَاجٍ، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَنُجُومٌ تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأنهار مجراة، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ لَعِبَرًا، أَرَى النَّاسَ يَمُوتُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ، أَرَضُوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فَنَامُوا؟” ثم أنشد الأبيات.

قصة زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

هو زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ الله بن قرظ بن رزاح ابْن عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ. وَكَانَ الْخَطَّابُ وَالِدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَمَّهُ وَأَخَاهُ لِأُمِّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ نُفَيْلٍ كَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ لَهَا مِنْ نُفَيْلٍ أَخُوهُ الْخَطَّابُ. قَالَه الزبير ابْن بكار وَمُحَمّد بن إِسْحَاق.

وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ تَرَكَ عِبَادَةَ الأوثان وفارق دِينَهُمْ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ.

قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالَّذِي نَفْسُ زَيْدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي. ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ.

ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ بِهِ. وَزَادَ: وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ، وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ.

وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ، وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا، ادْفَعْهَا إِلَيَّ أَكْفُلْهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ فَخُذْهَا وَإِنْ شِئْتَ فَادْفَعْهَا.

وَأُمُّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأُخْتُهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الَّتِي تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.

وقد حضر رهط من قريش عِنْدَ وَثَنٍ لَهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ عِنْدَهُ لِعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا خَلَا بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلَى بَعْضٍ وَقَالُوا: تَصَادَقُوا وَلْيَكْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بعض. فَقَالَ قَائِلهمْ: تعلمن وَالله مَا قومكم على شيء، لقد أخطأوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ وَخَالَفُوهُ، مَا وَثَنٌ يُعْبَدُ، لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؟! فَابْتَغُوا لِأَنْفُسِكُمْ.

فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ ويسيرون فِي الأرض يَلْتَمِسُونَ الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. فَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَتَنَصَّرَ وَاسْتَحْكَمَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَابْتَغَى الْكُتُبَ مِنْ أَهْلِهَا حَتَّى عَلِمَ عِلْمًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْدَلُ أَمْرًا وَأَعْدَلُ ثباتا مِنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، اعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَفَارَقَ الْأَدْيَانَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمِلَلِ كُلِّهَا إِلَّا دِينَ الْحَنِيفِيَّةِ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَخْلَعُ مَنْ دُونَهُ وَلَا يَأْكُلُ ذَبَائِحَ قومه فآذاهم بِالْفِرَاقِ لِمَا هُمْ فِيهِ.

قَالَ: وَكَانَ الْخَطَّابُ قَدْ آذَاهُ أَذًى كَثِيرًا حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، وَوَكَّلَ بِهِ الْخَطَّابُ شَبَابًا مِنْ قُرَيْشٍ وَسُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَائِهِمْ، فَقَالَ: لَا تَتْرُكُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، فَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا سِرًّا مِنْهُمْ فَإِذَا عَلِمُوا بِهِ أَخْرَجُوهُ وَآذَوْهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَوْ يُتَابِعَهُ أَحَدٌ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدثنَا أَحْمد بن طَارق الوابشى، حَدثنَا عَمْرُو بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَلَّهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُ أُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَنِي مَعَكَ فِي دِينِكَ. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: لَا أُدْخِلُكَ فِي دِينِي حَتَّى تَبُوءَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ. فَقَالَ: مِنْ غَضَبِ اللَّهِ أَفِرُّ.

فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى نَصْرَانِيًّا، فَقَالَ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَنِي مَعَكَ فِي دِينِكَ. فَقَالَ: لَسْتُ أُدْخِلُكَ فِي دِينِي حَتَّى تَبُوءَ بِنَصِيبِكَ مِنَ الَضَّلَالَةِ. فَقَالَ: مِنَ الَضَّلَالَةِ أَفِرُّ. قَالَ لَهُ النَّصْرَانِيُّ: فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى دِينٍ إِن تَبعته اهْتَدَيْتَ. قَالَ: أَيُّ دِينٍ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ أَحْيَا وَعَلَيْهِ أَمُوتُ. قَالَ: فَذُكِرَ شَأْنُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هُوَ أُمَّةٌ وَحْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَيْفٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: شَامَمْتُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ فكرهتهما، فَكنت بِالشَّام وَمَا والاها، حَتَّى أَتَيْتُ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَةٍ فَذَكَرْتُ لَهُ اغْتِرَابِي عَنْ قَوْمِي وَكَرَاهَتِي عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِيَّةَ والنصرانية.

فَقَالَ: أَرَاكَ تُرِيدُ دَيْنَ إِبْرَاهِيمَ يَا أَخَا أَهْلِ مَكَّةَ، إِنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا يُوجَدُ الْيَوْمَ أَحَدٌ يَدِينُ بِهِ، وَهُوَ دِينُ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ حَنِيفًا لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، كَانَ يُصَلِّي وَيَسْجُدُ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي بِبِلَادِكَ، فَالْحَقْ بِبَلَدِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مِنْ قَوْمِكَ فِي بَلَدِكَ مَنْ يَأْتِي بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ وَهُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ.

وَجَاءَ ابْنُهُ – يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ أَحَدَ الْعَشْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَمَا رَأَيْتَ وَكَمَا بَلَغَكَ، فَاسْتَغْفِرْ لَهُ، قَالَ: “نَعَمْ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ”.

قَالَ: وَأَتَى زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَهُمَا يَأْكُلَانِ مِنْ سُفْرَةٍ لَهُمَا، فَدَعَوَاهُ لِطَعَامِهِمَا فَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو: يَا ابْنَ أَخِي أَنَا لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْحَكَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يَقُولُ: أَنَا أَنْتَظِرُ نَبِيًّا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا أَرَانِي أُدْرِكُهُ، وَأَنا أَو من بِهِ وَأُصَدِّقُهُ وَأَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ فَرَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَسَأُخْبِرُكَ مَا نَعْتُهُ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْكَ.

قُلْتُ: هَلُمَّ. قَالَ: هُوَ رَجُلٌ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَا بِكَثِيرِ الشَّعَرِ وَلَا بِقَلِيلِهِ، وَلَيْسَتْ تُفَارِقُ عَيْنَهُ حُمْرَةٌ، وَخَاتَمُ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا الْبَلَدُ مَوْلِدُهُ وَمَبْعَثُهُ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ قَوْمُهُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُونَ مَا جَاءَ بِهِ حَتَّى يُهَاجِرَ إِلَى يَثْرِبَ فَيَظْهَرُ أَمْرُهُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ عَنْهُ، فَإِنِّي طُفْتُ الْبِلَادَ كُلَّهَا أَطْلُبُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ مَنْ أَسْأَلُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ يَقُولُونَ: هَذَا الدِّينُ وَرَاءَكَ. وَيَنْعَتُونَهُ مِثْلَ مَا نَعَتُّهُ لَكَ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ غَيْرُهُ.

قَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرو وإقرائه مِنْهُ السَّلَامَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْجَنَّةِ يَسْحَبُ ذُيُولًا.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِيَّاكُمْ وَالزِّنَا فَإِنَّهُ يُورِثُ الْفَقْرَ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَذْكُرُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بن نفَيْل فَقَالَ: توفى وقريش تَبْنِي الْكَعْبَةَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَلَقَدْ نَزَلَ بِهِ وَإِنَّهُ لَيَقُولُ أَنَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. فَأَسْلَمَ ابْنُهُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ، فَإِنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ.

قَالَ: فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَذْكُرُهُ ذَاكِرٌ مِنْهُمْ إِلَّا تَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ.

وَمِنْ شِعْرِهِ فِي التَّوْحِيدِ مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُمَا:
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ …. لَهُ الأرض تحمل صخرا ثقالا
دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوتْ شَدَّهَا * سَوَاءً وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ * لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا
إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ * أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالَا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ * لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالًا فَحَالَا

يتبع..

Exit mobile version