أخطو خطوة نحو الأمام.. وبسرعة أكبر أخطو خطوة أخرى.. وأخرى.. وأخرى.. وبسرعة أكبر أجري وأجري.. لكني في الحقيقة كنت متسمرا في مكاني عاجزا عن التقدم خطوة واحدة نحو الأمام..
أتعجب وأنا لا زلت أجري، كما يخيل إلي، فأتوقف لأستغرب قليلا، فأتذكر طبق السمك المشوي العفن الذي جعلني أتقيأ شهيتي ذات يوم..
تعقد الدهشة لساني، وصراخ يمزق السكون الذي يحيط بي، منذرًا ببلوغ سهم المنية قلب الحياة.. الحياة التي جعلتني يوما عبدا لشهواتها..
أغوص في لزوجة نحو القاع.. أتذكر أغنيتي المفضلة.. “إني أغرق.. أغرق.. أغرق”.. يتلاشى المشهد بما فيه فجأة.. تتغير الصورة ويتغير الإطار.. إني أهبط الآن كطائرة مروحية قديمة في عالم جديد وغريب..
ضحكاتهن الماجنة ترن في أعماقي، فتزيدني اختناقًا..
“كفى.. كفى.. لم أعد أحتمل.. قلبي سينفجر.. توقفن عن الضحك أيتها الفاسدات.. كفى أيتها العاهــ..”..
تتبدل العوالم فجأة، وتختفي الماجنات..
يحيط بي جو ملتهب تشتعل رماله تحت قدمي الحافيتين.. أجر رجليّ بوهن نحو المجهول.. الطيور تمرق من فوقي بسرعة مذكرة بشبابي المارق.. ليتني كنت مثلها حرا طليقا في الفضاء، بلا ذنوب ولا أوهام..
تنسكب عبراتي في فجوات الأحزان.. يعتصرني الندم بقبضة من حديد.. “توقفن عن الضحك… تبا لكن أيتها الماجنات، ليتني رميتكن في غياهب النسيان… ليتني استغنيت عنكن بالحلال”..
لطالما أعماني بريق الشهوات عن جمال الطاعات، فأضعت طريقي في الظلمات..
إنهن يسخرن مني.. اللواتي أحببت من كل قلبي، يسخرن مني..
اللواتي استنزفن مالي وجهدي وحبي وعمري، يسخرن مني..
كفى.. كفاكن ضحكا أيتها… تبا لكن، لم أعد أحتمل..
توهمت أن دوام اللذة المحرمة ممكن.. أن الإستمتاع بلا حدود جائز.. تصورت أن الحظوة بالجميع ممكنة.. لكني لم أعرف أن الضلال الذي ألقى بظلاله على عالمي يجذبني نحو الضياع..
العوالم تتبدل والألوان تتداخل.. إني مقيد الآن إلى صخرة ضخمة مكتوب عليها: “شهواتك المنحرفة”..
لم أمانع أبدا عندما احتضنتني الشهوة المحرمة وقبلتني بشفتيها الآثمتين، وهمست في أذني بكلامها المعسول: “أطلق لنفسك الأمارة العنان يا حيوان”..
تبدلت العوالم فجأة، وتلاشت الألوان، لأجد نفسي نزيل زنزانة موحشة مكتوب عليها: زنزانة الموت.
تلك الشائعة التي لم أحسب لها أي حساب..
مهلا، هنالك عبارة أخرى..
ماذا؟
“ستنتهي قصة حياتك العبثية بعد خمس دقائق عندما ينفذ الأكسجين.. استخدم قنينة الأمل التي على الجدار، وتذكر.. أنها لن تمنحك أكثر مما منحتك الحياة يا حيوان”..
حملت القنينة بصعوبة، ووضعتها على ظهري لاهثا، ألقيت بخرطومها في فمي، وشفطت ما فيها من هواء.. ذكرتني رائحتها بعطر الإستقامة الذي أهدرته في طرقات الشيطان…
لقد أصبح الرحيل قريبا، لكني لن أسمح له بسلبي آخر آمالي.. لن أسمح له بحرماني من التوبة النصوح..
الهواء ينفد بسرعة.. إنني أختنق.. أختنق.. أغرق.. أغرق.. أغرق..
أستنشق محتوى القنينة بلهفة.. أغمض عيني في استكانة واستسلام في انتظار معجزة تمنحني فرصة أخرى.. لكن هيهات “إذا حان القضاء ضاق الفضاء”، و”إذا وقعت يا فصيح فلا تصيح”..
انتفضت كالملبوس عندما تنكرت لي أنفاسي..
تراقصت الحياة أمامي ساخرة عابثة متغنجة، وأخرج الشيطان لسانه لي ساخرا، وتعالت الضحكات الماجنة من كل مكان..
تبدين أمامي في بشاعة، يقهقهن يجنون شامتات..
ما أقبحهن من مخلوقات، وتبا للشيطان الذي ألبسهن قناع الجمال..
توقفن عن الضحك أيتها العاهـــ..
كفى.. لم أعد أحتمل.. تبا لكن من عجائز دميمات كأمكن الدنيا..
انتفض جسدي انتفاضته الأخيرة.. ثم سكن سكونه الأخيــ…
مهلا.. ماذا أسمع؟ رنين غريب، لكنه مألوف..
آه.. أوه.. إنه المنبه المزعج..
غير معقول.. إنها الخامسة والنصف صباحا موعد صلاة الفجر..
فتحت عيني بذعر.. وسحبت كل ما في الحجرة من أكسجين..
أخيرا وهبتني الحياة قنينة أخرى.. أخيرا أعطتني فرصة أخرى..
لكن، ما الذي تفعله زجاجة الخمر البغيضة على المنضدة بجانبي؟
آه.. نسيت.. إنها التي سلبتني عقلي البارحة حتى ضبطت المنبه على موعد صلاة الفجر لأول مرة في حياتي..