مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم على آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
سنسير في هذا المنهج المقرر، الذي سيكون مرْجعه الأهم الذي سنسير فيه إن شاء الله – عز وجل، كتاب “نُزهة النَّظر شرح نخبة الفِكَر” لخاتمة الحفاظ المحققين وإمام أهل الحديث في عصره وبعد عصر، الإمام الكبير الحافظ “شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني” رحمه الله.
هناك مقدمات تُسرد بين يديْ كلِّ فنٍّ ينبغي على طالب العلم أن يُحيط بها علمًا؛ حتى يتصور هذا الفن الذي يسير فيه.
لفظ (مصطلح الحديث) لفظ مُركب من كلمتين، وحتى نتصور معنى هذه اللفظة، لا بد أن نعرف معنى كل جزء من أجزائها.
فالمصطلح أو الاصطلاح: هو اتفاقُ طائفةٍ ما على شيءٍ ما، وتواضعهم عليه.
لو اجتمعنا نحن الآن مثلاً في هذه الجلسة واصطلحْنا أن نسمي هذا الفن الذي سندرسه بعلوم الحديث، صار هذا اللفظ (علوم الحديث) مُصطلحًا بيننا على هذا الفن.
وأهل العلم يقولون: “لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح”؛ أي ما دام الاصطلاح واضحًا متفقًا عليه بين أهله، أو بين طائفة من أهل العلم؛ فلا ينبغي المشاحة والمضايقة في هذا، ما دام المصطلح معروفًا قد بينه أهله قبل أن يستخدموه.
لكن الإشكال أن يصطلح بعض الناس لأنفسهم اصطلاحًا، ولا يبينونه لأحد، فيصير هذا طِلَّسَمًا، وشيئًا أشبه ما يكون بالسرّ.
اللفظة نفسها التي يصطلح عليه أهل الفن من الفنون، قد تختلف من فنٍّ لآخرَ. فالذي ينظر في لفظ “الخبر”، الراجح من أقوال أهل العلم. أن الخبر هو الحديث، وهو ما أضيف إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ، أو أُضيف إلى الصحابة أو إلى التابعين. هذا هو الخبر عند أهل الحديث، الذي اصطلحوا هم على ذلك.
لو ذهبنا ننظر عند أهل اللغة، وعند النحاة نرى ابنَ مالك يقول:
وَالْخبرُ الجزءُ الْمُتمُّ الفائدهْ *** ……………………
الخبر عندهم هو الذي يأتي فيتمم الفائدة من المبتدأ. لو قلت: عمرو، فيقول: “عمرو” ماذا؟ فأقول: عمرو ناجح.
لو انتقلنا لعلوم البلاغة؛ ترى الخبر عندهم شيئًا ثالثًا؛ فالخبر عندهم هو: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته.
والحديث كذلك عند أهل اللغة له معنى، وعند أهل الحديث له معنًى آخرُ. فلفظة “الحديث” هذه عند أهل اللغة معناها ضد “القديم”. يُقال: هذا شيء حديث، وهذا شيء قديم. لكن عند أهل الحديث: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة. وما أضيف إلى الصحابة وإلى التابعين كذلك.
فخرجنا من كل هذا بأن “مصطلح الحديث” عبارة عن: اصطلاحاتٍ وقواعدَ وأصولٍ وضوابطَ، سيستخدمها أهلُ الحديث في هذا الفن، أي في “فن الحديث” وليس في فنٍّ آخرَ.
فلا ينبغي أبدا أن يعترضَ علينا أحدٌ عندما نذكر مصطلحًا عند أهل الحديث، بأن أهل أصول الفقه يقولون كلامًا آخرَ؛ فهذا غير وارد عندنا إطلاقًا؛ لأننا نتكلم الآن في علم الحديث، وأهل كل علمٍ أدرى به، ولكل فنٍّ رجاله.
وسنرى في هذا الكتاب وفي هذا الشرحِ أن هناك بعض العلماء من الفقهاء أحيانًا يعترضون على مصطلحاتٍ عند المحدِّثين، فيردُّ المحدثون هذا الاعتراض بأنه غير واردٍ؛ لأن هذا وإن كان يَصلح عند الفقهاء والأصوليين لكنه لا يصلح هنا عند المحدثين، لأنه غير جارٍ على قواعدهم ولا مصطلحاتهم. فأهل كل فن أدرى بفنهم.
فهذا الفن “علم مصطلح الحديث”، بعد كونه من أهم الفنون لطالب الحديث؛ لأن الطالب الذي يطلب هذا العلم لا يستطيع أن يَتَبَصَّرَ به ويسير فيه على هُدَى إلا بدراسته هذا الفنَّ؛ لأن هذا الفن هو الإرشادات الكاملة للحديثِ، يُعْرَفُ به الحديث المقبول والحديث المردود، وأحوال الرواة، وطرائق النقل والتحمُّل، والصفات الواردة عن الأحاديث وعن الرواة.
ولا يستطيع أن يسير طالب الحديث في علم الحديث، إلا وقد أحاط بطرف صالح من هذا الفن.
لكن لا تقف فائدة علم الحديث أو مصطلح الحديث عند هذا الحدّ؛. فهو ليس مفيدًا لعلماء الحديث فحسب؛ بل هو لا يستغني عنه طالب علم شرعي أصلًا، بل لا يَستغني عنه عاقل. فإن شئت فسمه “المنطق الشرعي”، كيف؟!
علم اللغة مثلا، علم لا يمكن فهم الكتاب ولا السنة إلا به، فتقوم اللغة في أصلها على السماع. فأصل اللغة الواردة إلينا من العرب إنما بُنيت على السَّماع؛ أن بعضَ مَن دوّن اللغة سمع العرب تقول: كذا، ولم يسمعها تقول: كذا، فيصير هذا من اللغة وهذا ليس من اللغة.
فعندما نَستخدم علم مصطلح الحديثِ الذي يُعدّ رأسَ علومِ النقل، وهو جامعٌ لها، ويعلمنا كيفية التوثُّق من صحة النقل، وثبوته عن ناقله، وما وراء ذلك؛ نستطيع أن نحكم على ألفاظٍ كثيرة يزعم البعض دخولها في اللغة بأنها غيرُ داخلة فيها؛ لأن مخرجها من كذابٍ عند أهل اللغةِ، وليس عند أهل الحديث.
فعندما يأتي واحد معروف من اللغويين، أو نَقَلَة اللغة بأنه رجل غير متثبّت كذاب، ويقول: سمعت العربَ تقول: كذا في كذا. عندما نستخدم منهج النقد الذي أَصَّله المحدثون في ذلك؛ فإننا نردّ هذا القول عندما نجد أهل اللغة أنفسهم يقولون: إن فلانًا هذا الرَّاوية من رواة اللغة كذاب، أو لا يُوثق بنقله، فنكون على شكٍّ من كل ما جاء به.
وعندما ينسب أحد قولًا لشاعر أو لحكيم؛ يجري نفس الكلام عليه.
وأقرب من ذلك علم التفسير؛ فالروايات المنقولة هذه إما تفسيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآيات، أو لمن بعده من الصحابة والتابعين. وكل هذا إن لم يأت إسناد صحيح يحكمُ أهل العلم بصحته وصحة نسبة القول إلى قائله؛ فهو هدر، كأنه لم يرِد.
فلو أن كذابًا نقل عن ابن عباس قولاً في تفسير آية؛ فهل سنعبأ بهذا؟!
إذن كأن ابن عباس ما قال شيئًا قطُّ، وإنما عرفنا ذلك بعلم المصطلح، بعلم الحديث، علم النقل عند المحدثين.
وكذلك الفقه؛ فإن الفقه ينبني على الأصول المعرفة في الكتاب والسنة. فرجعنا مرة أخرى للمصطلح والحديث. فلا يستغني فن من فنون الإسلام ولا غيرها عن معرفة طرف من هذا العلم.
ولذلك، بعض المستشرقين عندما درس هذا العلم ورأى ما فيه من أمور تَبْهر العقول، وتذهل العقلاء، من التثبت والتدقيق الذي ليس له في الدنيا نظير، قال: “ليفخرِ المسلمون بعلم حديثهم ما شاؤوا”.
ولو عرضنا ما جاء من تراث العالم على قواعد هؤلاء، سيسقط كله، ولن يبقى إلا تراث المسلمين الذي تثبتوا في نقله، وهو جارٍ على قواعدهم في التثبُّت. وباقي العلوم وباقي تراث العالم كله كثير منه سيسقط؛ لأنه لا يوافق دقائق النقل التي يضعها المحدثون.
سيكون تناولنا لهذا الفن من خلال كتاب الحافظ الكبير أبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وهو خاتمة الحفاظ المحققين. وكتابه هذا “نزهة النظر شرح نخبة الفكر” رُتّب على ترتيب بديع، لم يُسْبَق إليه الحافظ. فالعلماء إلى الحافظ ابن حجر، كلهم كانوا يمشون على نهجٍ ما. فجاء هو ووضع نهجًا آخرَ، ورتب علوم الحديث ترتيبًا بديعًا، فجعلها كلها شبكة واحدة، وربطها ربطًا عقليًّا منطقيًّا متسلسلاً، يدلُّ على تكامل صورة هذا العلم في عقْله، وأنه ليس مجرد تعليقات على كل باب، بل إن العلم كله بأطرافه كلها مجموعة في عقل هذا الرجل جمعًا تناسقيًّا بديعًا.
فالحافظ بدأ وعمل النخبة بهذا الوضع المبتكر وكانت مُلخصة، أربع أو خمس ورقات يحفظها الحافظ. ثم سأله بعض أهل الفضل أن يشرحَها، فشرحها في هذا الكتاب الماتع “نزهة النظر شرح نخبة الفكر”.
إذن وضع الحافظ “النخبة” كمتن مختصر يُحفظ. ثم شرحها بنفسه في هذا الكتاب. وصاحب البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أدرى بشعابها.