قراءة في كتاب السيرة النبوية – ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية

قراءة في كتاب السيرة النبوية مع التحقيق وإبراز ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية من أخبار مشهورة، من دورة مرئية للشيخ موسى بن راشد العازمي.


مقدمة

الهدف من هذه القراءة هو المرور على السيرة لا استيعابها كلها، مع التصحيح والتضعيف لبعض الوقائع.
السيرة جزء من التاريخ، والتاريخ يتناقل من خلال التحديث، فلا غرابة في أن نجد بعض الأخبار والروايات صحيحا، وبعضها حسن، وبعضها موضوع، وباطل، وبعضها منكر، وبعضها لا يثبت. لكن تميزت الأمة بالإسناد، وهو سلسلة الرجال، فيتم ذكره قبل ذكر الحدث لمعرفة درجة صحته، أي تتبع رواة وناقلي الحدث، فقد يكون من بينهم كذاب أو من حفظه ضعيف أو من اختلط عليه في آخر عمره بسبب التقدم في العمر، فلم يتثبت عند إيراده للروايات مثلما كان يفعل.
والإسناد من خصائص هذه الأمة، يقول عبد الله بن المبارك: “لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”.
وليس كل ما هو مشهور في السيرة صحيح، توجد أمور مشهورة مكذوبة، أو ليس لها أصل بل أوردها اهل المغازي وغيرهم.


العرب في الجاهلية

أوغل العرب في الخمر والقمار، وبلغت بهم القسوة والحمية إلى وأد البنات، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطرق على القوافل، وكانت المرأة تورَّث فيهم مثل المتاع والدابة، ومن المأكولات ما هو محرم على الإناث، وكان للرجل أن يتزوج ما يشاء من نساء من غير تحديد.
وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة، وأغرموا بالحرب حتى صارت مسلاة لهم وملهى وهواية، وهانت عليهم إراقة الدماء، فكانت تثيرها حادثة تافهة.
وأغرموا بشرب الخمر، وكانت حوانيتها مفتوحة دائما يرفرف عليها علم يسمى “غايَةً”. وكان من شيوعها أن أصبحت كلمة تاجر مرادفة لبيع الخمر.
وكان القمار من مفاخرهم، وكان عدم المشاركة في مجالس القمار عارا. وكان الرجل يقامر على أهله وماله، فيقعد حَرِيبًا سليبا، ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبُغضا.
وكان الربا فاشيا فيهمن وكانوا يُجحفون فيه، ويبلغون إلى حد الغلو والقسوة. وكان في التضعيف وفي السنين، يكون على الرجل دين فغن لم يسدده، يضاعف له في السنة التالية، وهكذا إلى أن يسدده.
ورسخ فيهم الربا حتى قالوا إنه مثل البيع، كما أخبر القرآن.
وانتشر فيهم الزنى، وكان غير مستنكر أن يتخذ الرجل خليلات وتتخذ النساء أخلاء بدون عقد. وكانوا يُكرهون بعض النساء على الزنى.
وفي الصحيح أن المنافق عبد الله بن أبي بن سلول كانت له جاريتان اسمهما مُسَيْكَة وأُميمة، وكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فانزل الله تعالى: “ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا”.
وكانت المرأة في الجاهلية عرضة للغبن والحيف، تؤكل حقوقها وتُبتز أموالها وتُحرم إرثها، وتُعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه.
وقد بلغت ببعضهم كراهية البنات إلى حد الوَأْد، وكان منتشرا فيهم، يستعمله واحد من كل عشرة، فمنهم من كان يئد البنت لمزيد الغيرة، مخافة لحوق العار بهم، ومنهم من كان يئد البنت إذا كانت زرقاء أو شيماء (سوداء) أو برشاء أو كسحاء، تشاؤما بهذه الصفات.
وكانوا يئدون البنات بقسوة، فقد يتأخر سفر الوالد، فلا يئد البنت إلا وقد كبرت وصارت تعقل، وقد حكوا في ذلك عن انفسهم مبكيات. وكان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق. قال تعالى: “وإذا بُشر أحدهم
33


نسب النبي صلى الله عليه وسلم

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. سمي هاشم هاشما لأنه أول من هَشَم الثريد، أي كسره لقومه، والثريد هو الخبز مع المرق واللحم (يسمى التَّشْريِبَة في السعودية).
وهو أول من سن رحلتي الشتاء والصيف.
خرج مرة تاجرا إلى الشام، ومر في طريقة بيثرب، وهي المدينة المنورة، ولم تعرف بالمدينة إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. فتعلق بامرأة من بني النجار تسمى سلمى بن عمرو (عَمْرْ)، وكانت شريفة، ومن شدة شرفها كانت العصمة في يدها (هي التي تطلَِق).
فتزوجها هاشم، ومكث عندها أياما ثم خرج تاجرا إلى الشام، ومات فيها، فحملت سلمى منه، وولدت طفلا سمته شيبة، قيل لشيبة في رأسه. ولما بلغ مبلغ الرجال (18 سنة تقريبا)، جاء المطلب، وهو أخو أبيه هاشم، إلى المدينة مطالبا بابن أخيه، وكان صاحب شرف في مكة. وطلبه من أمه سلمى، فقالت: نخيره بين الذهاب معك أو البقاء. فاختار الذهاب مع عمه، فأردفه على بعيره، وانطلق به إلى مكة، فلما دخلها قال الناس اشترى المطلب عبدا، وأطلقوا عليه عبد المطلب، وغلب اسم عبد المطلب على شيبة. وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، كان يطلق على الرسول صلى الله عليه وسلم “ابن عبد المطلب”، غلب ذلك عليه لشهرة عبد المطلب وقلة شهرة أبيه عبد الله. فكان الداخل من الأعراب يقول والنبي صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه: أيكم ابن عبد المطلب؟ وقال عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.

ووقعت في حياة عبد المطلب أحداث عظيمة كحادثة الفيل (انظر الموضوع المكمل هنا). وكتجديد حفر بئر زمزم، فرأى رؤيا أنه يحفر بئر زمزم في مكان ما، ولم يكن عنده من الأبناء إلا واحدا وهو الحارث، فلما أراد حفر بئر زمزم، وهي ملاصقة للكعبة عند الحجر الأسود، قامت عليه قريش، فقال لإبنه الحارث أبعدهم عني، وبدأ يحفر حتى وصل إلى طَيّْ البئر، وهو الحجارة التي حولها، فحفرها.
ثم أحس بعدها بضعفه، فأقسم إن هو رُزق ب 10 أبناء أن يذبح أحدهم قربى إلى الله. فرزق بهم، من بينهم عبد الله، والد النبي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الثامن فيهم. أصغرهم العباس يليه حمزة ثم عبد الله.
ولم يدرك البعثة من أعمام النبي العشرة إلا 4، وهم حمزة والعباس (مسلمين)، وأبو طالب وأبو لهب (كافرين).
فلما رزق بهم أراد أن يبر بقسمه، فقامت عليه قريش، وقالوا لا تجعلها سنة في العرب، لأن الأمر إذا اشتهر قد يتحول إلى سنة في تلك الجاهلية، لم تكن لديهم ضوابط، ولا تكون حقا إلا بشرع منزل من السماء، لذا أخطأ المسلمون كثيرا بتركهم شرع الله إلى شرع الكفار، فعندما قال لهم الله سبحانه وتعالى إن المغتصب وقاطع الطريق لا حل معهما إلا الصلب أو القتل، وأن السارق تقطع يده، والقاتل يقتص منه، فذلك هو ما ينفع حقا، ويكون له أثر إيجابي على المجتمع كله. أما عندما يضعون هم قوانينهم فإن العاطفة وقلة الخبرة والظلم، كلها أمور تجعلها بلا فائدة تعم الجميع، بل قد لا ينتفع منها المظلوم نفسه! لذا تشقى المجتمعات الإسلامية اليوم بالقوانين الأوربية والديمقراطية المرافقة لها.

فلما أرادت قريش منع عبد المطلب من ذبح ابنه عبد الله خشية أن تتخذها العرب سنة، اتفقوا على الذهاب إلى كاهنة بني سَعْد، لتحكم بينهم في ذلك. فقالوا كم دية القتيل فيكم؟ قالوا عشرة من الإبل، فقالوا ضعوا عبد الله في ناحية وعشرة من الإبل في مقابل، واعملوا قرعة فإن وقعت على الإبل نجا عبد الله، وإن وقعت عليه تزيدون 10 أخرى، وهكذا، وهي تقع عليه 10 مرات، حتى بلغت الإبل مائة، فوقعت على عبد الله، فقال عبد المطلب أعيدوها ثانية، فوقعت عليه، فقال ثالثة للتأكد، فوقعت عليه أيضا، فنُحرت مائة من الإبل فداء له.

فما بلغ عبد الله 25 سنة، أراد والده أن يزوجه، فاختار له امرأة شريفة من قريش، وهي آمنة بن وهب الزُّهْرِيَّة، فبنو زُهرة هم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم سعد بن أبي وقاص، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا خالي.
فتزوج عبد الله بآمنة، ومكث معها أياما ثم انطلق في تجارة إلى الشام، فمر على المدينة ثم انطلق إلى الشام، وعاد إليها بعد فراغه من تجارته، فمرض فيها مرضا شديدا، ومات عند أخواله بنو النجار (لأن جدته سلمى منهم). لذلك عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وتَشَاحَّ الأنصار في نزوله عندهم، كلهم يريده عنده، قال أنزل عند أخوال عبد المطلب، بنو النجار، أكرمهم بذلك، فنزل عندهم عند أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

دُفن عبد الله في المدينة، وحملت آمنة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورأت رؤيا في المنام، أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام. وهي رؤيا منامية لا حقيقية، أي لم يخرج منها النور عندما ولدته، كما يقول البعض.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا دعوة أبي إبراهيم. لأن ابراهيم عندما بنى الكعبة مع اسماعيل، قال: “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”، يقصد بذلك أهل الوادي أي أهل مكة. وبشارة أخي عيسى. لأنه عليه السلام قال: “وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ”، ورؤيا أمي حين حملت بي رأت أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام.
وقد توفي عبد الله وعمره 25 سنة، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم شهرين في بطن أمه. وترك له ميراثا قدره 5 من الإبل، وقطعة غنم، وجارية حبشية، هي بركة أم أيمن، من أثيوبيا في إفريقيا، كانت سوداء، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة، وكان أشقرا، فولدت له أسامة بن زيد، فجاء أسودا كأمه، رضي الله عنهم جميعا.
وفي يوم الإثنن من ربيع من عام الفيل، وُلد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا التاريخ ثابت كله إلا كون ولادته في يوم 12، فقد اختلف في ذلك، فقيل يوم 19 وغيره. لكن المشهور عند أهل المغازي أنه ولد في يوم 12، لكن ذلك لم يثبت ذلك.
ولم يظهر عند مولده أي أمر ملفت للنظر، مثل ما ورد في بعض الروايات من أن إيوان كسرى تزعزع عند مولده، وذهبت بُحيرة ساوَى، فكلها روايات غير ثابتة.
كذلك لم يثبت أنه ولد مختونا أو مَسْرُورا (مقطوع حبل السرة)، بل وُلد ولادة طبيعية كجميع الناس.

وأرضعته أمه 3 أيام، وكانت قليلة الحليب، ثم أرضعته ثُوَيْبَة مولاة أبي لهب، بحليب ابنها مَسْرُوحْ. ثم بعد ذلك أرضعته حليمة السَّعْدِية. فهؤلاء الثلاث هن أمهاته.
وقد أرضعت ثويبة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، زوج أم سلمة هند بنت أمية بن المغيرة أحد سادات قريش. وبني مخزوم هم قوم أبو جهل.
وأبو سلمة من أوائل من أسلم، وهو أول من هاجر إلى المدينة. مات بعد غزوة أحد مباشرة، بسبب جرح أصيب به في المعركة، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة، رضي الله عنها.

وأرضعته حليمة السعدية مع أولادها عبد الله والشيماء وأُنَيْسَة. فيكون مجموع إخوته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة حمزة وأبو سلمة ومسروح وعبد الله والشيماء وأنيسة. كذلك أرضعت حليمة أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، إبن عم النبي وأخوه من الرضاعة.
إذن له سبعة إخوة من الرضاعة، ولم يكن له إخوة من أبيه وأمه.

وظل عند حليمة سنتين، ووقع له حادث عظيم وهو شق صدره، فقد كان يلعب مع الغلمان، فجاءه رجلان يلبسان ثيابا بيضا، وهما جبريل وميكائيل، في صورة بشر، فطرحاه وشقا صدره شقا حقيقا، لذا قال أنس كنت أرى أثر ذلك المَخِيط في صدره، وأنس أول لقاء له به بعد الهجرة، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم 53 سنة، أي أن ذلك الأثر بقي في صدره.
فأخرجا قلبه فغسلاه بماء زمزم، ثم أخرجا منه علقة وقالا هذا حظ الشيطان منك، فعصمه الله سبحانه وتعالى من الشيطان في أقواله وفي أفعاله، فلم يعد للشيطان عليه سبيل، أي أن عُصم منه قبل البعثة وبعدها.
ثم أعادا قلبه وخاطوا عليه، ثم ختم جبريل على ظهره بخاتم النبوة، والختم عبارة عن قطعة لحم ناتئة، أي زائدة، بقدر بيضة الحمامة، على ظهره في مقابل القلب.
وهذا الخاتم كان علامة من علاماته في الكتب السابقة، يدل على ذلك قصة بَحِيرَة الراهب، وقصة سلمان الفارسي.

بعد هذا الحادث خافت عليه حليمة فأرجعته إلى أمه بعد أن أكمل عامين.

ولما بلغ 6 سنوات، خرجت به أمه لزيارة أخوال أبيه في يثرب، فلما فرغوا من هذه الزيارة، وكانت معهم حاضنته بركة، مرضت أمه مرضا شديدا، فرجعوا، وفي الطريق ماتت في منطقة يقال لها الأَبْوَاء، وكانت أول غزوة للنبي صلى الله عليه وسلم هي غزوة الأبواء.
فدفنوها في ذلك المكان، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم مع حاضنته بركة إلى مكة.


كفالة جده وعمه له

بعد موت أمه كفله جده عبد المطلب، ولم يحدث شيئا مميزا خلال تلك الفترة. ولما بلغ 8 سنوات، مات جده عبد المطلب، أي أنه أمضى في كفالته سنتين.
وقبل موته أوصى به لأبي طالب، لأنه شقيق أبيه من جهة الأم الوحيد من بين أعمامه، مما قد يجعله أحن عليه من إخوته لأب فقط.
ومن الأحداث التي وقعت وهو معه، قصة اختلف أهل العلم فيها، منهم من صححها ومنهم من ضعفها، والذين صححوها يعتمدونها. مفادها أنه لما بلغ 12 سنة، خرج مع عمه في تجارة إلى الشام ومعهم بعض سادات قريش، فمروا بدِير (صومعة) فيها راهب اسمه بَحِيرَة، ولم تقع رواية صريحة صحيحة تقول إنه بقي إلى ما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. فرأى أن غمامة تسير مع القافلة لتظلها في الطريق، فأمر من معه بعمل وليمة، واستدعى كل من في القافلة، فجاؤوا كلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، تركوه يرعى الإبل.
فتكلم معه بحيرة وتفرس فيهم، فلم يلاحظ فيهم أي شيء يجعل الغمامة تظللهم، فقال لهم هل جئتم كلكم؟ قالوا: نعم. فقال رجل منهم، وكانوا يأكلون: إنا لقوم لُؤْمٌ، نأكل ونترك اليتيم! فطلب منهم بحيرة إحضاره، فسأله بحيرة عما يرى في منامه، وقال: أقسمت عليك باللات والعزى أن تخبرني بما ترى في منامك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم علي باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا بغضي لهما. وهذا من حفظ الله عز وجل لنبيه، فقد بغض إليه الأصنام وكل ما لا يليق.
فطلب منه بحيرة أن يريه ظهره، فكشف له عنه، فرأى خاتم النبوة، وهي علامة موجودة في كتب النصارى قبل البعثة، فعرف أنه الرسول المنتظَر.
فقال لأبي طالب: ما يقرب لك؟ قال: هو ابني، فقال: ما ينبغي أن يكون أبواه حيين. وتلك علامة من علاماته صلى الله عليه وسلم (واليتيم تقال لمن مات أباه، وإن كانت أمه حية).
فقال أبو طالب: هو ابن أخي، فقال بحيرة: ارجع بابن أخيك، فلئن رأته يَهودُ ليعرفونه، وإن عرفوه ليقتلونه.
وكانت علامات آخر رسول يبعث موجودة عندهم، وكانوا يتوقعون أن يكون منهم.
فخاف عليه أبو طالب وأرجعه إلى مكة، وأكمل هو إلى الشام من أجل تجارته.

ومما وقع وهو عند أبي طالب أنه صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، وشهد حرب الفِجارْ التي كانت بين قريش وكِنانَة من الطائف.
وشهد حِلف الفُضُول، وهو حلف وقع وعمره صلى الله عليه وسلم عشرين سنة تقريبا. جاء في مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: شَهدتُ حلف المُطَيِّبينْ، وهو حلف وقع في زمن جده قصي بن كلاب، جد هاشم، فهو صلى الله عليه وسلم لم يدرك هذا الحلف، ولكن قال إنه شهده لأن بنوده هي نفس بنود حلف الفضول، وتقوم على فعل طيب وهو نصرة المظلوم، والوقوف مع الضعيف في وجه القوي حتى يأخذ حقه منه.. إلخ.


أحداث قبل البعثة

منها أنه خرج عليه الصلاة والسلام إلى الشام في تجارة بمال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكانت رضي الله عنها تبحث عن الأمناء فترسلهم في تجارتها، وتعطبهم نسبة على أساس مضاربة بينها وبينهم.
فخرج صلى الله عليه وسلم في تجارة لها، ومعه غلامها ميسرة. ولم نقع على رواية صريحة صحيحة أنه بقي إلى البعثة، فلا ندري عنه. فعاد بربح كثير، فسُرت خديجة من ذلك، وأخبرها ميسرة عن كرمه وتعامله وأخلاقه وأمانته، فأعجبت به، وأرادت الزواج به، وأخبرت إحدى صديقاتها بذلك، وهي نفيسة بنت الحارث، فقالت لها: أنا لكِ به.
وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت له: لم لا تتزوج؟ فقال: من قلة ذات اليد (أي فقير)، فقالت له هل لك في المال والنسب والجمال، قال من؟ قالت خديجة بنت خويلد، قال من لي بخديجة، هل تقبل مثلي، قالت تقبل، فهل تقبل أنت؟ ولم يكن لديه أي مانع من الزواج بخديجة.
فجاء أبو طالب وحمزة إلى عم خديجة، وهو وليها، وفي رواية والدها، وذلك غير صحيح لأنه مات في الجاهلية، وفي رواية أنه لم يكن راض بهذا الزواج، فسقته الخمر فلما سكر وافق! وهي رواية ضعيفة.
وكان عمره صلى الله عليه وسلم 25 سنة، وورد أن عمر خديجة كان 40 سنة، وهو المشهور، لكن الواقدي متروك لأنه كذاب، لا يعتمد عليه.
ووقع من حديث ابن إسحاق، وهو إمام أهل المغازي (أي كبيرهم)، أن عمرها كان 28 سنة، لكن أيضا من رواية ضعيفة.
فلم نقع على رواية صحيحة في عمر خديجة، المهم أنها كانت أكبر منه صلى الله عليه وسلم.

وزرق منها النبي صلى الله عليه وسلم عدة أبناء، أولهم القاسم، وهو كبرهم، وبه يكنى. مات وهو صغير، في عمر 7 سنوات، وقيل 11، وقيل سن تمكنه من ركوب الخيل.

وزرق منها عبد الله، ويلقب بالطيب والطاهر، لأنه ولد بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعض الروايات تقول انه رزق منها ولدين هما الطيب والطاهر، ولكن هذان الإسمان لقبان لعبد الله.
ومات عبد الله أيضا وهو صغير.

وزرق منها زينب، وهي أكبر بناته، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم، ابن خالها أبو العاص بن الربيع، وقد أسلم بعد الحديبية، وزرق منها أُمامة رضي الله عنها، وهي التي كان يحمل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته. تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة رضي الله عنهم. وزرق منها ولدا اسمه علي، مات صغيرا.
وماتت زينب في العام الثامن الهجري.

وزرق منها أيضا رُقية. تزوجها عثمان بن عفان، ورزق منها ابنه عبد الله، ومات عبد الله بسبب نقر ديك له في العين بينما كان يلعب، ففقأ عينه فمات وهو صغير.
وماتت رقية بعد رجوع النبي صلى الله عليه سلم من غزوة بدر الكبرى، أي في السنة الثانية للهجرة.

ورزق منها أم كلثوم. تزوجها عثمان بعد وفاة رقية، لذلك سمي بذي النورين، ولم يتزوج أحد من البشر بنات نبي مثل عثمان رضي الله.
وتوفيت في العام التاسع الهجري، ولم يرزق عثمان منها شيئا.

وزرق منها فاطمة، وفضلها عظيم. تزوجها علي بعد بدر الكبرى، وزرق منها الحسن والحسين ومحسن، والأخير مات صغيرا لذا لم يُعرف، وزرق منها أم كلثوم وزينب.
وماتت فاطمة بعد موت أبيها عليه الصلاة والسلام بستة أشهر.

وزرق صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية إبراهيم الذي مات في العام التاسع الهجري كما سيأتي.
هؤلاء هم أبناء وبنات النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم تقريبا من خديجة.

وشهد النبي صلى الله عليه وسلم بناء الكعبة على يد قريش، وكان عمره 45 سنة، فقد نزل سيل شديد فضرب الكعبة، وقيل أن امرأة كانت تُجَمِّر الكعبة فأصابت شرارة أستارها فأحرقتها، وزعزع ذلك بنيانها.
فأرادت قريش أن تجدد بناء الكعبة، أي تهدمها وتعيد بنائها مرة ثانية، فخافت من ذلك لأن كل سادتها في ذلك الوقت رأوا بأعينهم حادثة الفيل، وما فعله الله سبحانه وتعالى بأبرهة الحبشي وجيشه عندما أراد هدمها، فخافوا من أن يصيبهم مثل ما أصابه. وأصبح كل واحد منه يطلب من الآخر التقدم للبدء بالهدم حتى تبعه في ذلك، خشية أن يصيبه شيء.
فجاء الوليد بن المغيرة بمعول. وهو أحد أكابر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم. وهو أبو خالد. وقال لهم أتريدون بهدمها رفع مكانتها أو إزالتها؟ قالوا رفع مكانتها، فقال اهدموها، قالوا اهدم أنت أولا، فأخذ يضرب بمعوله والحجارة تتساقط، وقال ساعدوني، قالوا ننتظر حتى الغد، ليروا هل سيصيبه شيئا جراء ذلك أم لا، فلما جاء من الغد هدموها معه وهم يقولون: اللهم لم نزغ، اللهم لا نريد إلا خيرا.
بعد ذلك لما أراد بنو عبد المطلب وضع الحجر الأسود في مكانه، قام بنو مخزوم – قوم أبي جهل، وجاؤوا بجفنة فيها دم، ووضعوا أيديهم فيها، وقالوا والله ما يضع الحجر الأسود في مكانه غيرنا إلا بالدم، فلما رأت قريش ذلك، جاء بنو عدي – قوم عمر بن الخطاب، بجفنة مثلها، وقالوا نفس الشيء، وكذلك فعل بنو تَيْم – قوم أبي بكر، واشتد الخلاف بينهم.
فقام أمية بن المغيرة وهو والد أم سلمة، وقال علام تفنون أنفسكم؟ قالوا وما الرأي عندك؟ قال أن نحكم أحدنا، وليكن أول داخل من باب الكعبة. فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا الصادق الأمين، رضينا بحكمه، وشرحوا له تنازعهم. ففرش قميصه، وقيل قميصا آخر، ووضع الحجر الأسود عليه، ونادى أفخاذ قريش، كل واحد يحمل من ناحية حتى رفعوا الحجر إلى مكانه، فأخذه بيده ووضعه في مكانه، فكان هو من وضعه في مكانه، ونال الآخرون شرف حمله.


نزول الوحي

حفظ الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فلم يسجد لصنم قط، ولا شرب خمرا، ولا قرُب من فاحشة، وكان معروفا بأخلاقه الكريمة.
ولما بلغ أربعين سنة، بدأت تلوح عليه علامات النبوة، وأولها الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، أي تُرى مثلما يُرى كل شيء في الصباح.
ورؤية الأنبياء حق، ودليل ذلك أن إبراهيم عليه السلام قال لإسماعيل إني رأيت في المنام أني أذبحك، فقال له: يا أبت افعل ما تؤمر.
فرؤيا الأنبياء وحي، وليس ذلك إلا للأنبياء، وهي من خصائصهم.
فإذا رأى أن امرأة فلان ستلد ولدا في الصباح، رُزق به. وإذا رأى أنه يُعزم على مأدبة، يأتيه نفس الشخص الذي رأى، ويعزمه.
العلامة الثانية حُبب إليه الخلوة، فكان يخلو في غار في جبل يقال له اليوم جبل النور. فكان يخلو فيه عدة ليالي يتفكر في خلق الله في السماوات والأرض، وفي فساد الناس وجاهليتهم وما هم عليه، إلخ.
العلامة الثالثة هي تسليم الحجر والشجر عليه، فكان في طريقه إلى الغار يسمع من يسلم عليه، فيلتفت ولا يرى أحدا.
وقال بعد ذلك: إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث.
العلامة الرابعة رؤيته لنور الملائكة، فكان يراه في الغار، فيرجع إلى خديجة، ويقول أخاف أن يكون بي جُنُن أي جُنون (من الجن)، فتقول له ما كان الله ليفعل بك ذلك يا ابن عبد المطلب.
فهذه 4 علامات ظلت 6 أشهر تتكرر عليه توطئة وتمهيدا لنزول الوحي العظيم عليه.
ولما أتم 40 سنة، وكان في غار حراء، نزل عليه جبريل في صورة بشر. يقول رأيت رجلا عليه ثياب بيض، ظهر لي فجأة، والغار بعيد، يتطلب الطالع إليه 45 دقيقة مع المشقة، لأن طريق غير مستقيم، ولا يصله إلا وهو متعب.
فطلع له فجأة، وليس عليه آثار التعب، وقدم له كتابا، وقال له: إقرأ يا محمد. وكان في وعيه ليس نائما كما في الرواية الضعيفة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ، فكررها عليه ثلاث مرات، وفي كل مرة يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، أي أعرف القراءة والكتابة، لأنه أمي، وتلك معجزة، إذ كيف يأتي بمثل القرآن البليغ المعجز من هو أمي؟
وبعد الثالثة قال له: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”. فقرأ عليه الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، أما بقية السورة فنزل في قصة ثانية للنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي جهل.
ثم ذهب جبريل، وخاف النبي صلى الله عليه وسلم خوفا شديدا، ونزل إلى خديجة وهو يقول: دثروني دثروني، أي غطوني، ويرتعد من شدة الخوف.
بعدها ذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، فأخبره، فقال: هذا النَّامُوسُ الأكبر. أي الوحي، ولئن يدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا.
بعدها فتر الوحي، أي انقطع مدة يسميها أهل السير “فتور الوحي”، وهي أيام لا تتجاوز السبعة
حتى يشتاق النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وليست شهورا أو عاما وما فوقه كما يقول البعض.
وخلال فترة الفتور كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى غار حراء ويرجع على أمل رؤية المَلك بعدما طمأنه ورقة بن نوفل أن الله سبحانه وتعالى أكرمه بوحيه.
فكان يشتاق، ومن اشتياقه يتلفت بحثا، وفي يوم من الأيام وهو راجع رأى جبريل في السماء جالس على كرسي قد غطى السماوات، وهو يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. رآه على هيئته الملائكية الحقيقية، قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان كلما التفت إلى مكان رآه.
فانطلق إلى خديجة مرعوبا، وهو يقول زملوني زملوني، فجاءه جبريل بالوحي، ونزلت عليه الآيات التالية من سورة المدثر: “يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ”.
فأول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي إطلاقا فهي سورة العلق، وأول ما نزل عليه بعد فتور الوحي فهي هذه الآيات من سورة المدثر التي تحس وأنت تقرأها أن الخطاب لنا نحن أيضا، ولكل مسلم، أن نتقي الله وندعو إليه، ونصبر! هذا هو شرط الفلاح.

ومات ورقة في فترة فتور الوحي، ولا يعتبر صحابيا لأن الصحبة تكون بعد الرسالة، والنبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي، لكنه أرسل بسورة المدثر، بها عرف الناس أنه رسول.
وورد في الحديث أن ورقة من أهل الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين. وفي رواية أخرى: إني رأيته في الجنة يجر ذُيُولا.
حصل ورقة على هذا الفضل العظيم بنيته الطيبة، بعزمه على نصر النبي صلى الله عليه وسلم عندما يُبعث. لذا: رُب عمل صغير تكبره النية، ورب عمل كبير تصغره النية.


الدعوة السرية

يمكننا تقسيم الدعوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى قسمين:
الفترة المكية، ومدتها 13 سنة. والفترة المدنية، ومدتها 10 سنوات.
ومدة الدعوة كلها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، 23 سنة.
ويمكن تقسيم الدعوة المكية إلى قسمين: السرية، وقد ظلت 3 سنوات، وفي الرابعة خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس.

بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته سرا، فدعا أول ما دعا أهل بيته خديجة ومن كان موجودا من بناته، وعلي بن أبي طالب، وكان يربيه أخذه من أبيه أبي طالب بعد أن أصيب بضائقة مالية، وكان أبو طالب فقيرا.
وكان عمر علي رضي الله عنه حين أسلم 10 سنوات.
ودعا مولاه زيد بن حارثة الذي أهدته خديجة رضي الله عنهم.
ثم دعا من يثق فيهم من خارج بيته، فأسلم صاحبه أبو بكر رضي الله عنه، وبدأ يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه 5 من العشرة المبشرين بالجنة، جاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبو عبيدة بن الجراح.
وبدأ الناس يتسامعون بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فسارع الفقراء والمساكين إلى الدخول في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يأمر أصحابه بالحيطة والحذر بعدم إعلان إسلامهم.
وكانت الصلاة التي يصلي المسلمون ركعتين في النهار وركعتين في الليل. أجمع المفسرون على أن قوله تعالى: “فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى”، أنها كانت صلاة قبل فرض الصلاة، ركعتين بالنهار وركعتين بالليل.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل فرض الصلاة، ومن أوائل ما نزل عليه سورة المزمل، وفيها أمر له بالقيام. فكانت الصلاة موجودة، لكنها كانت غير مفروضة، أي أنها كانت على الاستحباب. أما فرضها فكان بعد عشر سنوات من البعثة، في حادثة الإسراء والمعراج.
وفي إحدى المرات كان سعد بن أبي وقاص ومعه جماعة من المسلمين، يصلون في شعاب مكة (بين الجبال)، فمر عليهم جمع من الكفار، فاستنكروا الحركات التي يقومون بها، فهجموا عليهم، فدافعوا عن أنفسهم، وأخذ سعد لَحَا بعير (عظم الفك)، وضرب به أحد الكفار فسال الدم منه، وهو أول دم يهرق في سبيل الله، كان على يد سعد بن أبي وقاص. فاضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم، فكان يجتمع بالمسلمين فيها ويعطيهم ما استجد من أخبار الوحي.


الدعوة الجهرية

استمرت الدعوة السرية 3 سنوات، وفي السنة الرابعة نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: “فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ”. وهي أول آية نزلت في الصدع بالدعوة.
فصعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا الذي يتميز بأن من يكون في مكة عند الكعبة لا يرى ما خلفه، وهتف فيهم: وا صباحاه وا صباحاه، فأقبلوا عليه، وقالوا الصادق الأمين الصادق الأمين، وقد تأكدوا من وجود خطب ما، فلما تجمعوا قال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا خلف هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم، ما جربنا عليك كذبا قط، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. وبدأ يخبرهم بأنه رسول الله.
وكان من بينهم عمه أبو لهب، فقال له: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا. يعني تركنا أعمالنا والمهم عندنا لكي نسمع منك هذا الكلام.
وبدأ يطرد الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيه سورة “تبت يدا أبي لهب وتب”، وهي من أوائل السور التي نزلت (وتضمنت إخبارا إعجازيا بأنه سيموت كافرا ويُحرق بالنار، وقد مات كافرا).

وأرسلت قريش وفدا إلى عمه أبي طالب الذي يكفله، ليمنعه من هذا الأمر.
ثم أرسلوا الوليد بن المغيرة ليعرضوا عليه أن يكون سيد مكة، أو تزويجه بأفضل نسائهم، أو جمع المال له، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل قرأ عليه القرآن. فتأثر تأثرا شديدا بذلك، ورجع إليهم، فقالوا: والله لقد جاءكم الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. من شدة ما عليه من التأثر.
فقال لهم إنه سمع من محمد كلاما لا يقوله أحد، وطلب منهم أن يسلموا، فرفضوا. فقال اتركوه يدعو الناس فإن قتلوه فهذا الذي تريدون، وإن ظهر على العرب فشرقه شرف لكم، فقالوا لا ندعه يدعو في العرب. وما زالوا بالوليد يقولون لا تتحرك حتى تقول فيه كلاما منكرا، حتى قاله، فقال: أقرب شيء إليه هو أن يقال ساحر، عنده كلام يسحر بنه الناس، يفرق به بين الرجل وزوجته، وبين الرجل وأولاده. فنزلت فيه الآيات من سورة المدثر، ومنها: “ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ”.

وأسلم في هذه الفترة عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، وقد اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد مؤذنا في المدينة. ونزلت فيه سورة “عبس وتولى”، قال تعالى: “عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى”. فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو كفار قريش، فقال يا سول الله علمني، اقرأ علي القرآن، وألح عليه فيذلك، فشغله عن دعوة الكفار، فعبس وتولى، فنزلت الآيات.
أما الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه ابن أم مكتوم فرش له ورحب به، وقال أهلا بمن عاتبني فيه ربي، فهذا مشهور في كتب المغازي، لكن لا أصل له (أي ليس بحديث أصلا).

ومن أساليب قريش في محاربة الدعوة، إثارة الشبهات على القرآن ومعارضته، إضافة لمساومات كانوا يساومون بها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قرروا تعذيب كل من يدخل في الدين، فلم يقدروا إلا على الضعفاء، لأن من لديه منعة في قومه كان يمتنع منهم بذلك، وقد منع الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، ومنع أبي بكر بقومه.
وأشد الذين عذبوا من الضعفاء هو خباب بن الأَرَتْ.
ثم بدأ أبو بكر بشراء المستضعفين من العبيد وإطلاقهم لوجه الله، كبلال بن رباح، وعامر بن فُهَيْرَة، فحررهم بهذه الطريقة، وكانت حسنة عظيمة له.
ثم بدأ الكفار بعمل جديد، وهو الإستهزاء بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فمن المستهزئين الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب، وغيرهم ممن تجرأ على النبي صلى الله عليه وسلم.
واستمر الكفار في أذية المسلمين، واشتدت الفتنة عليهم، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة، وكانت أول هجرة في الإسلام. فخرجت مجموعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عددهم 11 رجل و4 نسوة، وأمر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون، من بينهم عثمان بن عفان ورقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، زوجة عثمان.
والحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنهما أي عثمان ورقية، أول من هاجر بعد لوط، حديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونزلت في هذه الفترة آيات كثيرة من سورة النجم، ووصل فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع السجدة، فسجد عليه الصلاة والسلام، وسجد معه كل كفار قريش من عظمة الآيات.
ووصل خبر سجودهم إلى مهاجري الحبشة، وصلهم الخبر بأن قريش قد أسلمت، فرجع بعضهم، فوجدوا الكفار أشد إيذاء للمسلمين من ذي قبل، فرجع بعضهم إلى الحبشة، ودخل بعضهم بجِوار أحد الكفار، مثلما فعل أميرهم عثمان بن مظعون.

وفي هذه الفترة أسلم حمزة بن عبد المطلب، وبعده بأيام قليلة أسلم عمر بن الخطاب، فقوي أمر الإسلام بهما، ولم يثبت شيء في طريقة إسلام عمر، والقصة التي ضرب فيها أخته، غير صحيحة، وقد أسقطها البخاري.

ثم حاولت قريش إغراء النبي مرة ثانية بالمال والجاه والملك، فأرسلت عتبة بن ربيعة، وهو سيد ساداتهم وصاحب عقل، قُتل في بدر الكبرى. فعرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأشياء، فلما فرغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم أفرغت، قال نعم، قال فاسمع مني، وقرأ عليه سورة فصلت، فلما وصل لقوله تعالى: “فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ”، فقام عتبة من مكانه ووضع يده على فم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال ناشدتك الله والرحم ناشدتك الله والرحم، لا تأتينا هذه الصاعقة.
ورجع إلى كفار قريش وقال لهم يا قوم اتبعوا محمدا، فوالله لقد سمعت منه كلاما لا يقوله بشر، لكنهم رفضوا.
فقريش تميزت بالبلاغة واللغة، فجاءت المعجزة بالقرآن ليعلموا أنه ليس بقول بشر.

بعدها تعنتت قريش أكثر، وطلبت من النبي المعجزات الحسية، فقالوا أرنا الملائكة، بل قال بعضهم أرنا الله عز وجل! وبعضهم قال اجعل الأنهار تجري من تحتنا. أمور تعجيزية الهدف منها العبث وتعجيز النبي صلى الله عليه وسلم، لا الدخول في الإسلام، فنزلت الآيات من سورة الإسراء “وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا”، أي أنه بشر رسول جائهم بأمر الله تعالى ليُسلموا فيسلموا في الدنيا والآخرة.

ثم عادت قريش للتنكيل بالمسلمين، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة الثانية إلى الحبشة، فخرج هذه المرة 82 رجل و18 امرأة، وكان أميرهم جعفر بن أبي طالب، ولم يرجعوا من الحبشة إلا بعد 13 سنة، أي بعد غزوة خيبر في السنة السابعة للهجرة. ظلوا عند النجاشي الذي أسلم على يد جعفر، ولما مات النجاشي صلى عليه النبي صلاة الغائب.
وفي الطريق إلى الحبشة لدغت حية خالد بن حِزام، أخو حكيم بن حزام، فمات في الطريق رضي الله عنه، فنزلت فيه الآية التالية من سورة النساء: “وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا”.

ولما رأت قريش أن أساليبها لم توقف الدعوة، أجمعت على أمر جائر، وهو كتابة صحيفة بمقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم وآله، وكل من دخل معه، فلا يشتري منهم أحد ولا يبيعهم، ولا يكلمهم ولا يجالسهم ولا يخالطهم، ولا يتزوج منهم ولا يزوجهم، أي المقاطعة الكاملة.
فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بني هاشم وبني عبد المطلب في شعب، وسمي ذلك الشعب باسمه “شعب أبي طالب”، فأمضوا فيه 3 سنوات، واشتد عليهم الأمر حتى لم يكونوا يجدون ما يأكلون.
وولد حبر الأمة عبد الله بن عباس في الشعب.
واستطاع بعض الكفار إيصال بعض الطعام لبعض من فيه، حمية، لكن ذلك لم يكن يكفي. وكان بعض الكفار ناقما على تلك المقاطعة، غير راض عنها، بسبب صلة الرحم وغيرها، فتجمعوا عند الكعبة لتمزيق الصحيفة المعلقة فيها، فلما أنزلوها وجدوا أن حشرة الأرضة – التي تأكل الأخشاب، أكلتها كلها إلا جملة “باسمك اللهم”، وانتهت المقاطعة بذلك، ورجع الجميع إلى بيوتهم.

وبعد المقاطعة بشهر توفي أبو طالب كفيل النبي صلى الله عليه وسلم وناصره. وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد قائلا: قل لا إله إلا الله يا عم أُحَاجُّ لك بها يوم القيامة. لكنه لم يقلها، وقدر الله سبحانه وتعالى أن يموت كافرا، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم عليه حزنا عظيما، وقال لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عن ذلك، فنزل عليه قوله تعالى: “مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ”.
وقد جاء في الحديث أن أهون أهل النار عذابا هو أبا طالب، وأنه منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه.
وبعد ذلك بشهر أو شهرين توفيت خديجة رضي الله عنها، ودفنت بالحُجُونِ بمقابر مكة، ولم يصل عليها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجنازة لأنها لم تكن قد شرعت.
وخديجة كانت نعمة من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم، ثبتته وآزرته بمالها وبكل ما تملك لنشر دعوته. جاءه جبريل فقال: “هذه خديجة قد أتتك، بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب”. الصخب هو الصوت العالي، والنصب هو التعب، فكانت المكافأة من جنس العمل. فخديجة لم ترفع صوتها أبدا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تتعبه في أمر قط، رضي الله عنها.
وفي الصحيحين أن جبريل جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: “هذه خديجة قد أتتك، فإذا أتتك فأقرها السلام من ربها ومني”، وهذه منقبة لم تحصل لأحد من البشر، أن الله يرسل السلام! هذا أمر عظيم جدا.
أما عائشة فجاءها السلام من جبريل عليه السلام، أما من الله سبحانه وتعالى فلم يكن ذلك لأحد قط إلا خديجة.

حزن النبي صلى الله عليه وسلم على وفاة عمه وزوجته خديجة، حزنا شديدا، وقلل من الخروج من بيته.
ولم يثبت أنه سمى ذلك بعام الحزن، ولم يثبت ذلك في كتب المتقدمين بل ظهر في كتب المعاصرين ممن تناولوا السيرة.
بعدها عقد النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وعمرها 6 سنوات، فهي أول امرأة عقد عليها بعد خديجة. ثم عقد على سودة بنت زمعة، وهي أول امرأة دخل بها بعد خديجة. وانفردت سودة بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات تقريبا، وكانت من أشد الناس تمسكا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

واشتد الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب، فتجرأ عليه السفهاء، ولم يكن يتجرأ عليه إلا السادة، قال صلى الله عليه وسلم: “ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب”.
ألقى عقبة بن أبي مُعَيْط سلا الجزور على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وأقسم أن يطأ على عنقه صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يستطع، حماه الله سبحانه وتعالى منه.
ومن شدة البلاء استأذن أبو بكر النبي في الهجرة إلى الحبشة، فأذن له، فلقي في الطريق في منطقة بِرَكِ الغِمادْ في ناحية اليمن، رجلا يقال له ابن الدُّغُنَّة، وهو سيد قبيلة القارَة، فسأله إلى أين هو ذاهب، فقال أريد أن أسيح في الأرض، قال لماذا؟ قال أخرجني قومي، قال ارجع وأنا لك مجير، فرجع معه، وقام في قريش وأخبرهم بأنه أجار أبا بكر، فبنى أبو بكر مسجدا لنفسه في بيته أي مصلى، وبدأ يقرأ القرآن بصوت عالي، فبدأ النساء والصبيان يسمعون القرآن ويتأثرون به، وأصبحوا يزدحمون على باب بيته، فنادت قريش ابن الدغنة وقالوا له لقد أجرنا أجيرك لكن لا يفتن نسائنا، فذهب إليه وأخبره بذلك، فقال إذن أرضى بجوار ربي، ورد عليه جواره.


الخروج إلى الطائف

واشتد الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى الطائف ماشيا على قدميه مسافة 75 كلم تقريبا! قصدها لأنها الأقرب إلى مكة، ومن جهة أخرى فيها بنو سعد، وهم قوم حليمة السعدية، مرضعته، لعله يجد نصرة منهم.
لكن استقبله أهل الطائف بالضرب بالحجارة، خاصة على قدميه الشريفتين. فرجع مهموما، فلم يُفق إلا وهو في “قَرْن المَنازِلْ”، فنزل عليه جبريل هنالك ومعه ملَك الجبال، فسأله أن يُطبق الأَخْشَبَيْن على أهل مكة أو يصبر، وهما جبل أبي قُبَيْس وقَيْقُعانْ، إطباقهما يعني هلاك من في مكة، فاختار عليه الصلاة والسلام أن يصبر رغم ما فعلوه به، كان يرجو أن يهديهم الله.
فلما وصل إلى مكة خاف من الدخول خشية أن يتجرأ عليه السفهاء، إذ لم تعد له منعة بعد وفاة عمه أبي طالب، فأرسل إلى عدد من كفار قريش يطلب منهم الجوار، فرفضوا، ومنهم أبو سفيان والأخنس بن شُرَيْك، فأرسل إلى المُطْعِمْ بن عَدِيِّ فوافق، فدخل عليه الصلاة والسلام مكة في جواره، فطاف بالكعبة وأبناء المطعم يحمونه، وكل واحد منهم شاهر سيفه. فأرسلت قريش إلى المطعم تسأله: أمجير أنت أم تابع؟ فأجابها: بل مجير، قالوا: والله لو قلت تابع، لقاتلناك. انظر كيف وصل بهم الأمر إلى درجة أن يقاتلوا بعضهم البعض.
وتوفي المطعم قبل الهجرة. ولم ينس النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك، رغم أنه كافر، فقد جاء جُبَيْر بن المطعم بعد غزوة بدر ليفدي أسيرا له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان أبوك حيا فسألني في هؤلاء النَّتْنَة – يقصد الأسرى، وهم 70 أسيرا، لتركتهم له.
فمعاملة الكافر بالأخلاق الحسنة أمر مطلوب، لكن الولاء والبراء، كبغضهم في الله لكفرهم وغير ذلك، أمر لابد منه، لكن دون ظلم، أما التطبيع الأعمى كما هو واقع الآن، فهو الذي سيأتي على البقية الباقية من الموجودين!


الإسراء والمعراج

وفي هذه الأجواء المشحونة الحزينة، جاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم معجزة بعد القرآن، وهي معجزة الإسراء والمعراج، ذكرها الله تعال الإسراء في سورة الإسراء، فقال: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”. وذكر المعراج في سورة النجم.
فجائه جبريل ليلا وهو في بيت أم هانئ، وهو بيته صلى الله عليه وسلم، فقد كان يسكن عند أم هانئ، وهو ملاصق لشعب أبي طالب، فأخذه إلى الكعبة، ومنها إلى بيت المقدس حيث وصلاها، والنبي صلى الله عليه وسلم على البُراقْ، فدخل المسجد الأقصى، فوجد الله سبحانه وتعالى قد أحيا له جميع الأنبياء والرسل، فصلى بهم إماما، وهي أعظم صلاة في التاريخ لأنها الصلاة الوحيدة التي كل من فيها أنبياء ورسل، بل فيها كل الأنبياء والرسل!
بعدها جائه جبريل عليه السلام بالمعراج، وهو لغة السلم، لكنه سلم لا يعرف حجمه ولا هيئته إلا الله سبحانه وتعالى. فصعد به جبريل إلى السماء الدنيا، فطرق الباب، فقال الملك الموكل به: من؟ قال: جبريل. قال: من معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، ففتح الباب، فدخلا، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها الكثير، والتقى بأبيه آدم عليه السلام. قال: رأيته 60 ذراعا في السماء، أي 30 متر، أطول من منارة المسجد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يدخل الناس الجنة يوم القيامة على صورة أبيهم آدم، فما زال الخلق ينقص منذ ذاك”. كل جيل يأتي أقصر من الذي قبله. فإذا نظرينا في حجم رِجل إبراهيم عليه السلام في المقام، نجدها كبيرة. كذلك الفراعنة في مصر الذين حملوا الصخور العظيمة ليبنوا تلك الأبنية الكبيرة، لا شك أن أحجامهم كانت كبيرة. كذلك عاد وثمود كانت أحجامهم كبيرة.
ورأى في السماء الدنيا حال الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما والمغتابين والزناة وأكلة الربا، والعياذ بالله.
ثم صعد إلى السماء الثانية فوجد فيها ابني الخالة، عيسى ويحيى عليهما السلام، فسلم عليهما.
ووجد في الثالثة يوسف عليه السلام، فسلم عليه. ووجد في الرابعة إدريس عليه السلام، ووجد في الخامسة هارون، وفي السادسة موسى عليه السلام.
ووجد في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام، فقال له إبراهيم عليه السلام: “أقرئ أمتك مني السلام، وقل لهم إن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأن غراسها – أي بذورها، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر”.
بعد ذلك دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، وهذا الدخول من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فلم يدخل أحد الجنة في الحياة الدنيا إلا هو عليه الصلاة والسلام. فرأى فيها مشاهد عظيمة، وكان مما رأى، قصرا لعمر بن الخطاب، وامرأة لزيد بن حارثة رضي الله عنه.
ورأى نهر الكوثر الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى “إنا أعطيناك الكوثر”.
ورأى النار، قال: “رأيت بعضها يَحْطُمُ بعضا”، من شدتها وعظمتها. ورأى خازن النار، مالك عليه السلام.
ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى أطراف السماء السابعة، وتوقف هنالك، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: “يا محمد تقدم، فوالله لو تقدمت خطوة واحدة لاحترقت”. فتقدم عليه الصلاة والسلام، ووصل إلى موضع لم يصل إليه ملك ولا بشر غيره، وصل إلى مكان سمع منه صَرِيفَ الملائكة التي تكتب أقضية الله سبحانه وتعالى، وهي منزلة عظيمة وصل إليها عليه الصلاة والسلام، وكرامة عظيمة.
هنالك في ذلك المكان العظيم، في أطراف السماء السابعة، ووراء سدرة المنتهى، كلمه الله سبحانه وتعالى من غير تُرْجُمان! من غير حجاب، أي بكلام مباشر – وهو ما اتفق عليه العلماء، وفرض على أمته الصلوات الخمس، ومنحها أعظم هدية، وهي أنه غُفر لأمته الكبائر، فكل مسلم يوحد الله، لا يخلد في النار بسبب الكبائر، بل يعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج إلى الجنة، أعاذنا الله وإياكم من النار.
وأُعْطِي عليه الصلاة والسلام خواتم سورة البقرة، وهي الأيات “آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ”.
بعدها رجع فالتقى بموسى، فأخبره بأن أمته لن تستطيع الصلاة 50 مرة في اليوم، وأن يرجع إلى ربه فيسأله التخفيف، ففعل، ولا زال يرجع إليه ثم إلى ربه يسأله التخفيف حتى وصلت إلى 5 صلوات في اليوم، رحمة من موسى والنبي بهذه الأمة، ورحمة من رب العالمين بها.
ولو بقيت 50 صلاة، لكنا نصلي كل ثلث ساعة صلاة.
بعدها رجع مع جبريل إلى بيت المقدس، ومنه إلى مكة.
ووقعت هذه الأحداث كلها في ليلة واحدة، فقد خرج بعد العشاء ورجع قبيل الفجر.
وكانت الصلوات الخمس في بدايتها، كلها ركعتين، إلا المغرب كانت ثلاث ركعات، ثم بعد الهجرة، وفي السنة الأولى منها، عندما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، جاء الوحي إليه بزيادة الصلاة. فزيدت الظهر والعصر والعشاء ركعتين فأصبحت أربع، وبقيت المغرب والصبح على حالها.
وكانت القبلة إلى بيت المقدس، فحولها الله سبحانه وتعالى إلى الكعبة المشرفة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

بعد هذه الحادثة طلب كفار قريش من النبي صلى الله عليه وسلم معجزة، فشق الله عز وجل له القمر فِلْقَتين – نصفين، يظهر الجبل بينهما. فكانت معجزة عظيمة شاهدها الكفار بأعينهم، ومع ذلك لم يُؤمنوا، فنزلت الآيات في سورة القمر: “اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ”.


دعوة القبائل العربية في الحج

بعد ذلك بدا النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في دعوة قبائل العرب الشريفة، فبدأ يعرض دعوته على القبائل في الحج، لعل إحداها تؤمن به وتنصره عليه الصلاة والسلام، فبدأ يعرض نفسه عليها، ويقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي؟
واختلفت مواقف هذه القبائل من النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من تبرأ من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من اشترط أن يكون الأمر له بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، أي تكون الخلافة لهم. ومنهم من خاف من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من سكت، ولم يرد عليه بجواب، لا بقبول ولا برفض.

وفي الحج من العام 11 من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، التقى عليه الصلاة والسلام بستة نفر من الخَزْرَجْ، والخزرج قبائل تسكن في يَثْرِبْ، وهي المدينة المنورة. فجلس إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام، فأسلموا مباشرة. وهم أَسْعَد بن زُرارَة، وعَوْف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقُطْوَة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رِئابْ (وهو غير جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام، الصحابي المشهور، راوي حديث النبي صلى الله عليه وسلم).
أسلموا بسبب أمر يعرفونه في المدينة. وكان يسكن فيها الأوس والخزرج واليهود، وكان اليهود 3 طوائف: بنو قَيْنُقَاعْ، وبنو النَّضِيرْ، وبنو قُرَيْظَةْ. فكان اليهود يهددون عبدة الأصنام (الأوس والخزرج)، بقولهم: “سيخرج نبي، فنتبعه ونقتلكم قتل عاد وثمود”.
فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء النفر، وقرأ عليهم القرآن، قالوا: “إن هذا هو الذي تهددكم، وتتوعدكم به اليهود في المدينة، فلا يسبقونكم إليه”.
وهذا ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: “ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ”. أي كتاب مصدق للتوراة والإنجيل التي عندهم، وكانوا يستنصرون بالنبي صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا، أي على الأوس والخزرج عبدة الأوثان. فلما جائهم النبي، وهم يعرفونه، كفروا به.
ولم تحدث بينه وبينهم بيعة، بل أسلموا ورجعوا إلى قومهم ينشرون الإسلام فيهم.
وفي السنة التالية حدثت بيعة العقبة الأولى، ثم تلتها بيعة العقبة الثانية، وهي الكبرى.
فرجعوا إلى قومه يدعونهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم الإسلام، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم (والأنصار هم الأوس والخزرج، سماهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد الهجرة، لنصرتهم إياه).

وفي العام 12 للبعثة، وفي الحج قدم 12 رجل من الأنصار لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، فألتقى عليه الصلاة والسلام بهذا الوفد من الأنصار، وبايعوه – وهي بيعة العقبة الأولى، على السمع والطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، والعُسر واليُسر، والنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم إليهم المدينة.
ولم يَرِد ذكر للنساء في هذه البيعة، فقد ذكر البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع هؤلاء النفر ببنود بيعة النساء، وهي بيعة وقعت بعد صلح الحديبية.

ولما أرادوا الرجوع إلى المدينة، طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل معهم من يفقههم في دينهم، فأرسل معهم أول سفير في الإسلام، وهو مصعب بن عُمير رضي الله عنه. وأسلم على يده سيدا بني عبد الأَشْهَلْ، وهما سعد بن معاذ، وأسيد بن حُضَيْر، رضي الله عنهما.
وأقام مصعب في دار أسْعد بن زُرارة، يدعو إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها أمر الإسلام.

وفي العام 13 من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهي آخر سنة من الفترة المكية، خرج 73 رجل وامرأتان من الأنصار لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج، لإبرام أعظم اتفاق في تاريخ الإسلام، وهو الإتفاق على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتكوين الدولة الإسلامية.
فجرت اتصالات بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين هذا الوفد، على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق، في الشِّعب عند العقبة، واجتمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة الموعودة لإبرام بيعة العقبة الثانية، وتسمى بيعة العقبة الكبرى.
وتم الإتفاق على البنود التالية: السمع والطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في اليسر والعسر، ونصرة وحماية النبي إذا قدم إلى المدينة كما يحمون نسائهم وأبنائهم. فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: “وما لنا إن نحن وَفَّيْنا بهذه البيعة؟ – أي ما يكون لنا؟ فقال: لكم الجنة”. فلم يعرض عليهم أي شيء من متاع الدنيا كمقابل، ووافقوا بالإجماع.
وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البيعة العظيمة هو البَرَاء بن مَعْرُورْ رضي الله عنه، ثم تتابع الناس يبايعون. وقد توفي البراء بن معرور قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بشهر، فلما قدم المدينة سأل عنه، فقالوا توفي، فذهب إلى قبره، وصلى عليه.
ولم يبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد كما ذكر البعض، فهذا من أوهام ابن إسحاق، وابن هشام الذي هذب سيرته، رحمهما الله، لأن الجهاد لم يُفرض إلا في السنة الأولى للهجرة. ويؤكد ذلك، أن الشيطان لما صاح في العرب: “يا أهل الجَمَاجِمْ هل لكم في مذمم والصُّباةُ معه”. فأشهر العباس بن عبادة بن نَضْلَة سيفه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن شئت لنميلن على أهل الموسم. أي نقاتلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك – أي لم نؤمر بالجهاد، ولكن اذهبوا إلى رِحالكم (وحديث البيعة طويل).
يقول كعب بن مالك، شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة شعراء: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك، وكعب هو أحد الثلاث الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. يقول: لقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أُحِب أن لي بها مشهد بدر.


الهجرة إلى المدينة

ولما رجع هؤلاء إلى المدينة، طابت نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله له قوما يحمونه، وهم الأنصار. عند ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بوجوب الهجرة إلى المدينة، واللحوق بإخوانهم من الأنصار.
أي وجوب الهجرة، لم تكن على الإختيار مثل الهجرة إلى الحبشة.
فخرج الصحابة أَرْسالاً – أي جماعات، متخفين، مشاة وركبانا، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الإذن له من ربه بالهجرة.
قال البراء بن عازِبْ: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم جاء عمار وبلال وسعد.

ولم تكن الهجرة هينة سهلة، فقد وضعت قريش كل العراقيل للحيلولة دون هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وهاجر أبو سلمة وعَمْرو بن ربيعة وزوجته ليلى بنت أبي حَثْمَة. وهاجر بنو جحش، وهاجر عمر بن الخطاب ليلا متخفي، ومعه عياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص، رضي الله عنهم. كلهم هاجروا متخفين، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، لذا فإن قصة هجرة عمر علنا وأنه أشهر سيفه، لا تثبت.
وبعد شهرين من بيعة العقبة الثانية، لم يبق في مكة من المسلمين إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وأهله، أو عاجز عن الهجرة بضعف أو مرض، أو محبوس.
فكان أبو بكر يأتي النبي كثيرا يستأذنه في الهجرة، فيقول له: “يا أبا بكر لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبا”. فكان أبو بكر رضي الله عنه لا يدري من هو ذلك الصاحب، فأعد رضي الله عنه ناقتين له ولصاحبه الذي لا يدري من هو.
ثم جاء الإذن من الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة، فنزلت آية الإذن، وهي قوله تعالى: “وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا”. فلما نزلت عليه انطلق إلى أبي بكر الصديق، وأخبره، فقال: يا رسول الله الصحبة؟ فقال: نعم. فبكى أبي بكر فرحا بهذه الرجلة العظيمة التي ستكون مع النبي صلى الله عليه وسلم.
واجتمع كفار قريش في دار الندوة، واتفقوا على أمر جائر، وهو قتل النبي صلى الله عليه وسلم، واعلنوا جائزة عظيمة، وهي 100 ناقة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيا أو ميتا.
تشاور الكفار وبينهم إبليس، فقالوا ننفيه خارج جزيرة العرب، فقال إبليس هذا ليس برأي، سيأتيكم مرة أخرى مع أصحابه، فقالوا نحبسه حتى يموت، قال ليس هذا برأي سيأتي أصحابه ويطلقونه، فقال أبو جهل الرأي عندي، وهو أن نأخذ شابا فتيا قويا ونعطيه سيفا، ومن كل قبائل العرب، فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في العرب، فإذا أراد بنو عبد المطلب أن يأخذوا بثأرهم لا يستطيعون مقاتلة العرب جميعا، فقال إبليس: هذا هو الرأي، هذا هو الرأي. فجاء أبو جهل بما لم يفكر فيه إبليس (أو بمعنى أصح جاء بما فكر فيه إبليس بالضبط). فاجتمعوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى عليه الوحي مخبرا بتلك المؤامرة: “وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”. أي ليقيدوك أو يقتلوك أو ينفونك من الجزيرة. فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما الذي اجتمع عليه الكفار.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر قاصدين غار ثور، وقد اتفقا مع أحد المشركين لأن يخرج معهما كدليل، وهو عبد الله بن أُرَيْقِطْ، وواعداه عند الغار بعد ثلاثة أيام.
وغار ثور ليس غار حراء.
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في غار ثور ثلاثة أيام. وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام في كل يوم، وكان عامر بن فُهَيْرَة – مولى أبي بكر، يأتيهم بالحليب من الماشية التي معه، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهم في كل يوم بأخبار قريش وتدبر له.
وانطلق الكفار في كل مكان يبحثون عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوه. وتوجهت مجموعة من الفرسان إلى غار ثور، ووقفوا أمام فم الغار، وكان الغار نازلا، لذلك قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما بالك بإثنان الله ثالثهما؟
فوقف الكفار عند باب الغار، ورأوا الغار، وبحثو حوله، ودار بينهم حديث عنده، ثم انصرفوا. ولم يقل أحد منهم: انظروا داخل الغار، أو يكلف نفسه عناء البحث فيه، صرف الله قلوبهم عنه حفظا لنبيه عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر عجيب.
أما رواية نسج العنكبوت وبيض الحمامة، فقد أخرجها أحمد، لكنها ضعيفة، ويردها القرآن، فقد قال الله تعالى: “إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”. فقد أيده بجنود لا ترى، أما العنكبوت والحمامة، فترى بالعين! 999
فقد يكون ملك نزل فستر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، أما رواية نسج العنكبوت فلم تثبت.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار بعد ثلاثة أيام، وانطلقا إلى المدينة ومعهم دليلهم عبد الله بن أربقط الذي لم تقع رواية صحيحة على أنه أسلم، وعامر بن فُهَيْرَة رضي الله عنه، الذي كان يخدمهم في الطريق. فكانوا أربعة في طريق الهجرة.
وحدثت أحداث في الطريق منها قصة سراقة بن مالك الشهيرة، وهي ثابتة، لكن ما لم يثبت فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم لسراقة: يا سراقة كيف بك إذا لبست سِوارَيْ كسرى، مع العلم أن قدوم كنوز كسرى إلى عمر في خلافته ثابتة.
ومنها إسلام الراعي، ومنها قصة أم معبد الخزاعية رضي الله عنها، ومنها لقاء طلحة وأحد الصحابة، وهما قادمين من الشام.

وكان الأنصار يخرجون في كل يوم إلى منطقة قباء، ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمون أنه قد خرج لكن لا يدرون متى يأتي، ولم يكن عندهم خبر أنه مكث في الغار ثلاثة أيام. فكانوا يخرجون في كل يوم فإذا احْتَرَّتْ الشمس رجعوا إلى ديارهم.
وفي يوم الإثنين 12 ربيع الأول، خرج الأنصار فلما احترت الشمس رجعوا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم. فرآه يهودي وكان على حصن، فصاح في أهل المدينة: يا بني قَيْلَة، هذا جَدُّكُم قد جاء. وقيلة هي الجدة الكبرى للأوس والخزرج، وكان اليهود يعيرونهم بها. أما جدكم فتعني حظكم.
فحمل الأنصار أسلحتهم، واستقبلوا النبي صلى الله عليه وسلم. وجلس النبي في منطقة قباء 14 ليلة، جلس مع بني عَمْرو بن عوف، وخلال تلك الفترة بنى مسجد قباء وهو أول مسجد في الإسلام، وجلس فيه أياما ثم انطلق إلى المدينة.
وكانت المدينة في ذلك الوقت أي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، عبارة عن المسجد النبوي اليوم بتوسعاته كلها مع أسواره. وكانت قباء خارج المدينة، تبعد عنها 5 كيلومتر تقريبا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إليها كل سبت، أما الآن فقد دخلت كل هذه المناطق في المدينة.
واليوم لا يفصل بين مسجد الغمامة والمسجد النبوي إلا شارع فقط! مع أن مسجد الغمامة كان في الصحراء خارج المدينة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الصحراء ليستسقي، فصلى في ذلك المكان ودعا مستسقيا، وبينهما هو يدعو إذا جاءت غمامة وأمطرت عليهم مباشرة، فبنا الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المسجد، وكانوا يتحرون الأماكن التي صلى فيها النبي ليبنوا فيها المساجد.

فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته متوجها إلى المدينة، وخلفه أبو بكر الصديق، والمسافة 5 كيلومتر تقريبا، فأدركته صلاة الجمعة في ديار بني سالم بن عوف، فصلاها في وادي هناك، وهي أول صلاة جمعة يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
ثم ركب ناقته من ديار بني سالم بن عوف، وأرخى لها الزمام، حتى دخل المدينة في جو مشحون من الفرح والسرور، وكان يوما تاريخيا مشهودا، فقد ارتجت البيوت والسكك بالتكبير والتحميد. يقول أنس بن مالك: ما رأيت يوما قَطُّ، أنْوَر ولا أحسن من يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق المدينة. وقال البراء بن عازب: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء من المدينة كل شيء. وقال أيضا: خرجت جِوارٍ يضربن بالدف – وهن من بني النجار، وهن يقلن: نحن جِوارٍ من بني النجار، يا حبذا محمد من جارِ.
ولم تثبت أبيات طلع البدر علينا من ثَنِيَّات الوِداع، أكرها الحافظ بن حجر في فتح الباري، وابن القيم في زاد المعاد.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم مردفا أبا بكر على ناقته، والأنصار كلهم يأخذ بزمامها، وهو يقول عليه الصلاة والسلام، دعوها فإنها مأمورة. حتى بركت في موضع السجد النبوي اليوم. فبركت قليلا، ثم التفتت يمينا ويسار، ثم قامت فتحركت خطوات، ثم التفتت يمينا ويسارا، ثم رجعت إلى المكان الذي كانت فيه، فبركت فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا المنزل إن شاء الله. إذن مكان المسجد النبوي باختيار من الله سبحانه وتعالى.
فنزل النبي صلى الله عليه وسلم عند بني النجار، وكان أبو أيوب الأنصاري أقربهم بيتا، فحاز شرف جلوس النبي صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا في ضيافته حتى بنيت للنبي صلى الله عليه وسلم حجراته.
وبنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده المبارك وهو المسجد النبوي، قال النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل 100 ألف صلاة، وفي المسجد النبوي 1000 صلاة وفي المسجد الأقصى 500 صلاة.
ثم بنيت حجرات للنبي صلى الله عليه وسلم، حجرة لعائشة رضي الله عنها، وحجرة لسودة بنت زَمْعَة، وكانتا زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت.

وكانت المدينة معروفة بالوباء، فجوها غير مضيف، لا يدخلها أحد إلا أصيب بالحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء ومرض، وصرف الله ذلك عن رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك دعا الله تعالى قائلا: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعِها ومُدِّها.

وفي السنة الأولى للهجرة دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، وكان عقد عليها قبل الهجرة بثلاث سنوات، وكان عمرها ست سنوات، فدخل عليها وعمرها تسع سنوات. وهذا الكلام في الصحيحين، ومن كلام عائشة نفسها، أي ليس صحيحا أن عمرها كان 18 سنة أو 28 عندما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول البعض.
وكان عمره صلى الله عليه وسلم 53 سنة. فكانت أحب نسائه إليه، قال صلى الله عليه وسلم: وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وفضلها عظيم رضي الله عنها، يكفيها فخرا أن الله سبحانه وتعالى أنزل برائتها في كتابه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.

وكان اسم المدينة يثرب، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى طابَة وطَيْبَة والمدينة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله سمى المدينة طابة. وقال: أُمِرتُ بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة. وقال جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه: كانوا يسمون المدينة يثرب فسماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة.

وفي السنة الأولى للهجرة، شُرِع الأذان برؤيا رآها عبد الله بن زيد الأنصاري. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتساءل عن وسيلة يدعو بها الناس إلى الصلاة، فاقترح بعض الصحابة المناداة إليها ببوق، فكره عليه الصلاة والسلام ذلك، وقال بعضهم ننصب راية إذا حضرت الصلاة، وقال بعضهم نأخذ ناقوسا – كناقوس النصارى، فكره النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك، أراد أن تتميز أمته بشيء عن باقي الأمم.
فرأى عبد الله بن زيد الأنصاري في المنام رجلا ومعه بوق، فناداه، وقال أعطني هذا البوق. قال لماذا؟ قال لأُعلم به وقت دخول الصلاة. قال أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال نعم. قال إذا جاء وقت الصلاة أذن الله أكبر الله أكبر.. إلخ. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأقره عليه. وقال له: إذهب إلى بلال فألقه عليه، فغنه أندى منك صوتا. واختلفوا في كلمة “أندى منك صوتا”، فقيل أجمل، وقيل أعلى صوتا.
واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم 4 مؤذنين: ابن أم مكتوم في المسجد النبوي، وسعد القاظ في مسجد قباء، وأبو مَحْذُورَة في المسجد الحرام.

وفي هذه الفترة أسلم عبد الله بن سلام، وكان من علماء اليهود، وكان إسلامه حجة عليهم.

وكان الصحابة لما قدموا المدينة استنكروا مائها، وكان لرجل من بني غِفار بئر يقال لها رُومَة (بضم الراء)، وكان يبيع القربة بالمُدّن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة بخير له منها في الجنة؟ فاشتراها عثمان بماله الخاص، ب 20 ألف، وسَبَّلها للمسلمين.

وجاء الوحي في هذه الفترة بزيادة ركعات الصلات.

وأراد بنو سَلِمَة (بكسر اللام) ترك ديارهم، وكانت في أطراف المدينة، بعيدة عن المسجد النبوي، ليقتربوا منه ويشهدوا الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويحضروا مجلسه. فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن تَعْرى المدينة، فنهاهم عن ذلكن وقال: يا بين سلمة دياركم تُكتب آثاركم. فثبتوا في ديارهم.

زلما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في هذه السنة، جائه الوحي بالجهاد، فنزل عليه قوله تعالى: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ” الآيات.
فبدأ أمر الجهاد والغزوات. والغزوة تطلق على كل بعث خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة، سواء قاتل فيه أم لم يقاتل. وكل بعث يخرج بدونه تسمى سَرِيَّة، أو بعثا.
واختلفوا في عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لأن بعض الغزوات ضمت إلى أخرى، مثل غزوة الخندق وغزوة بني قريظة، بعضهم فرق بينهما وبعضهم جعلهما غزوة واحدة. وكذلك غزوة حنين والطائف، فأهل الطائف قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم في حنين ثم فروا إلى الطائف فحاصرهم فيها.
لكن المشهور انه صلى الله عليه وسلم غزا 21 غزوة، وأول غزوة غزاها هي غزوة الأَبْواءْ، وتسمى غزوة وَدَّانْ، فمن سماها الأبواء فنسبة لواد هنالك كانت تتبوأ السيول فيه، أي تتجمع. ومن سماها ودان فنسبة إلى جبل هنالك عرف بهذا الإسم.
وآخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم هي غزوة تبوك.
وأول سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم كانت بقيادة حمزة بن عبد المطلب، وكان هدفها اعتراض قافلة لقريش. ولم يدركها حمزة.
ثم بعث عليه الصلاة والسلام ابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، في سرية بهدف اعتراض قافلة لقريش، فصار بينهم رمي بالنبال، فرمى سعد بن أبي وقاص بسهم فكان أول من رمى بسهم في سبيل الله.
ثم بعث صلى الله عليه وسلم سعدا في سرية ليعترض أيضا قافلة لقريش، ففرت منه، ولم يحدث بينهما قتال، ورجع سعد.

وفي السنة الأولى للهجرة توفي كُلْثُوم بن الهِدْم الأنصاري، وهو الذي مكث النبي صلى الله عليه وسلم في بيته 14 ليلة عندما نزل في قباء.

وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في صَفَرْ من هذه السنة، في أول غزوة له، وهي غزوة الأبواءـ، لإعتراض قافل لقريش، فلم يدركها، فرجع.

ثم خرج في ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة، في غزوة بَواطْ أو بُواط، وهي الغزوة الثانية له صلى الله عليه وسلم، لإعتراض قافل لقريش، فلم يدركها، فرجع.

ثم خرج في غزوة العُشَيْرَة، وكانت في جُمادى الآخِرة.
وهذه المناطق ودان والعشيرة وقُدَيْد إلخ، كانت مهولة شيئا ما في ذلك الوقت، لكنها الآن على طريق المسافر بين مكة والمدينة، وليس فيها سوى القليل فهي عبارة عن استراحات ومحطات للبنزين.
وقد وقعت بعض الأحداث في هذه الغزوة منها أنه صلى الله عليه وسلم خرج لأجل قافلة لقريش، ففرت منه إلى الشام، ثم في طريق عودتها خرج لها النبي صلى الله عليه وسلم، فوقعت غزوة بدر الكبرى. إذن خروجه في بدر كان لنفس القافلة التي خرج لها في غزوة العشيرة، ففيها هذه الغزوة كان هدفها الشام، وفي غزوة بدر كانت راجعة منه، ومحملة بالتجارة.
وفي غزوة العشيرة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب بأن أشقى الأولين عاقر ناقة ثمود، قوم صالح عليه السلام، وأشقى الآخرين من يقتلك، يقصد عليا رضي الله عنه. أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بحدث يحدث بعد 35 سنة!

ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يمكث إلا أياما، وخرج في غزوة سَفَوَانْ (بتحريك الواو)، ولها اسم ثاني وهو غزوة بدر الأولى. وتوجد 3 غزوات تسمى ببدر، الأولى، وهي هذه أي سفوان، والثانية بدر الكبرى، والثالثة بدر الآخرة، وتسمى الموعد لأن أبو سفيان واعد النبي صلى الله عليه وسلم بدرا بعد أحد، وتسمى أيضا بدر الصغرى لأنه لم يقع فيها قتال.
ولم يقع قتال في غزوة بدر الأولى (غزوة سفوان) لأن القافلة فرت، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعص النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سرية بقيادة عبد الله بن جَحْش رضي الله عنه، ابن عمته صلى الله عليه وسلم، أمه أميمة بنت عبد المطلب، وأخته أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، وأخوه عبيد الله بن جحش رضي الله عنه الذي وردت فيه روايات أنه هاجر إلى الحبشة ومعه زوجته أم حبيبة، وتنصر إلخ، كل هذه الروايات لم يثبت منها شيء. بل هو صحابي جليل له فضله، ومات على الإسلام رضي الله عنه. بل أوصى عند موته بزوجته أم حبيبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وتعرف سرية عبد الله بن جحش، بسرية نخلة، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع يسمى نخلة بين مكة والمدينة، لكي يأتيه بأخبار قريش. فقدر الله أن تمر قافلة لقريش، فاختلف الصحابة الذين معه هل يهجمون عليها أم لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منهم الإتيان بأخبار قرش (لم يقل شيئا بخصوص القتال).
فاستقر رأيهم على الهجوم على القافلة، فهجموا عليها، فقتلوا واحدا من الكفار وهو عَمْرو بن عامر الحَضْرَمِي، وهو أول قتيل من الكفار في الإسلام. وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كَيْسان، وهم أول أسرى في الإسلام. وأخذوا كل ما في القافلة، وهي أول غنائم في الإسلام.
ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب غضبا شديدا، وسبب غضبه هو أنهم قتلوهم في رجب، وهو أحد الأشهر الحرام التي لا يجوز فيها القتال، بل هو كبيرة من الكبائر. فاشتدت الفتنة على المسلمين، وأشاع اليهود في المدينة أن محمد عليه الصلاة والسلام، استحل الأشهر الحرام. لكن الله سبحانه وتعالى فرج عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة بنزول قوله: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”. ومعنى “قتال فيه كبير” أي انه عظيم فلا يجوز. فرد سبحانه وتعالى على الكفار بأن القتال فيه حرام، ولم يستحله المسلمون.
وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليها الأسيرين، وكان يخشى أن تكون قريش قد أمسكت سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غَزْوانْ، فقد طلبا بعيرا لهما فر منهما، ولم يرجعا مع السرية. فقال عليه الصلاة والسلام: إذا رجعا أطلقنا لكم الأسرى. وبالفعل لما رجعا اطلق الأسيرين.

وفي منتصف رجب من السنة الثانية للهجرة، جاء الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة.
وفي شعبان من السنة الثانية للهجرة، جاء الوحي بفرض صيام رمضان، فصام النبي صلى الله عليه وسلم 9 رمضانات، ما عليه الصلاة والسلام في السنة الحادية عشر للهجرة.
وكان قد فرض على المسلمين صيام عاشوراء، ففرض عليهم سنة واحدة، وبعد صيامه نزل الوحي بصيام رمضان، فنسخ فرض صيامه، فأصبح على الإستحباب.
وفي هذه السنة جاء الوحي بفرض زكاة الفطر، وفرضت قبل فرض زكاة المال التي هي الركن الرابع من أركان الإسلام.

وفي رمضان من السنة الثانية للهجرة، وقعت غزوة بدر الكبرى، وهي أعظم غزوة في تاريخ الإسلام. وأعظم ما وقع في السيرة من أحداث غيرت ما بعدها، وترتب عليها الكثير، 4 أحداث:
الأول نزول الوحي، والثاني الهجرة إلى المدينة، والثالث غزوة بدر الكبرى، والرابع صلح الحديبية.
وذكر الله سبحانه وتعالى غزوة بدر في القرآن باسمها، فقال تعالى: “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”.
وقد خصها الله سبحانه وتعالى بخصائص لم تكن لسواها، منها:
أن من شهدها يُنسب إليها، فيقال: فلان البَدْرِي، ويقال لهم البَدْرِيُّون، وأهل بدر.
ومنها أنها أول غزو للنبي صلى الله عليه وسلم يقع فيها قتال.
ومنها أن من شهدها غفرت له ذنوبه السابقة واللاحقة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في قصة حاطب بن أبي بَلْتَعَة: “يا عمر دعه، فإنه من أهل بدر، ولعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم”.
ومنها أن من شهدها هم أفضل المسلمين. جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “ما تعُدُّون أهل بدر فيكم؟ – أي ما مكانتهم فيكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم أفضل المسلمين، فقال جبريل: وكذلك من شهدها من الملائكة”.
ومنها أن الملائكة قاتلت فيها، وقتلت عددا من الكفار، وأسَرت فيها، فالعباس بن عبد المطلب، أسره مَلك، ولم يكن ذلك لأي غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم غيرها.
نزلت الملائكة أيضا في غزوة أحد والخندق وحنين، لكنها لم تقاتل إلا في غزوة بدر. واكتفت بإلقاء الرعب في قلوب الكفار في الغزوات الأخرى التي نزلت فيها.
ومنها أنها الأولى التي قاتل فيها الأنصار، ففي كل بعوثه قبلها، لم يكن يرسل إلا المهاجرين. وموقف سعد بن معاذ يبين ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يقول: “أشيروا علي أيها الناس”، كان متخوفا من موقف الأنصار، لأنهم بايعوه على حمايته، فهل هي حماية مقتصرة على وجوده في المدينة، وهو ما تكلم معهم فيه، أم أيضا خارجها؟ فقال سعد رضي الله عنه قولته المشهورة التي أكد فيها أنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ونصر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم نصرا مؤزرا في هذه الغزوة، وأقر عينه، وقويت شوكة المسلمين، وقُتل في هذه الغزوة كل سادة الكفار، فكانت نتائجها من أعظم النتائج على المسلمين.

وبعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بدرن وجد أن ابنته رقية رضي الله عنها، قد توفيت، فوجدهم قد دفنوها، وكانت زوجة عثمان رضي الله عنه، ورزق منها ابنه عبد الله الذي مات وهو صغير.
وبعد هذه الغزوة التي كان في رمضان، وفي شوال دخل على المسلمين أول عيد فطر في الإسلام. فجاء العيد بعد ذلك النصر العظيم (وكثير من معارك المسلمين الحاسمة كانت في رمضان، ودخل العيد بالفرحة والسرور على المسلمين).
وتزوج علي رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها، مباشرة بعد هذه الغزوة.

وفي شوال بعد غزوة بدرن وقعت غزوة بني قينقاع، وهي أول غزوة لنبي صلى الله عليه وسلم ضد اليهود، فحاصرهم فاستسلموا، وأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول المنافق، وكانوا حلفاء الخزرج، وترك اكثرهم المدينة.

وفي ذي الحِجَّة من هذه السنة، وقعت غزوة السَّوِيقْ. وكان أبو سفيان قد أغار على المدينة، فقتل رجلا من الأنصار، وخرج هاربا.
والسويق طعام من تمر مخلوط بحنطة، وكان أبو سفيان محملا بالكثير منه، فخرج له النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه 200 رجل من المهاجرين والأنصار، فأراد أبو سفيان أن ينجو بنفسه، فألقى كل ما معه من السويق، فسميت الغزوة بغزوة السويق.

وفي اليوم العاشر من ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، دخل على المسلمين أول عيد أضحى في الإسلام، فضحى النبي النبي صلى الله عليه وسلم، بكبشين أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ.
وفي ذي الحجة توفي عثمان بن مَظْعُون، رضي الله عنه، أمير المهاجرين إلى الحبشة في الهجرة الأولى. فصلى عليه النبي النبي صلى الله عليه وسلم، صلاة الجنازة، ودفن بالبقيع، وهو أول من دفن به من المهاجرين.

وفي مُحَرَّمْ من السنة الثالثة للهجرة، وقعن غزوة بني سُلَيْم، وتسمى قَرْقَرَةُ الكُدْرِ. بلغ النبي النبي صلى الله عليه وسلم، أن جمعا من بني سليم، يريدون غزو المدينة، فخرج في 200 من أصحابه، فلما قدم عليهم فروا في كل اتجاه.

وفي محرم أيضا، وقعت غزوة ذِي أَمْر، وتسمى غزوة غَطَفانْ. خرج النبي النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غطفان في 450 رجل، فلما سمعوا بخروجه فروا من كل مكان.
وفي جُمادْ الآخِرَة بعث النبي صلى الله عليه وسلم، مولاه زيد بن حارثة في سَرِيَّة، بهدف اعتراض قافلة لقريش، فأدركها زيد، وأخذ كل ما فيها، وفر كل من فيها. فكانت ضربة قاصمة لكفار قريش. وهي من أكبر أسباب غزوة أحد.

وفي ربيع الأول من السنة الثالثة للهجرة، تزوج عثمان رضي الله عنه، أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، بعد وفاة أختها رقية، فجمع بذلك بنتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرزق منها بولد.

وفي شعبان من السنة الثالثة للهجرة، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكانت زوجة لخُنَيْس بن حُذّافَة السهمي ر ي الله عنه، الذي توفي عنها.
وفي رمضان من هذه السنة، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم، زينب بنت خُزَيْمَة الهِلالية، فأصبحت زوجته الرابعة مع سودة وعائشة وحفصة. فمكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم شهرين، ثم توفيت، فأكرمها الله سبحانه وتعالى بان تكون من زوجاته عليه الصلاة والسلام، فصارت أم المؤمنين، وهي التي تسمى أم المساكين، لإطعامها المساكين. وللنبي زوجة أخرى تسمى بهذا الإسم، وهي زينب بنت جحش، رضي الله عنه.

وفي منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة، وقعت غزوة أحد الشهيرة، وهي من أصعب الغزوات على النبي صلى الله عليه وسلم. كُسرت فيها أسنان النبي صلى الله عليه وسلم الأمامية، ودخل المِغْفَرُ في رأسه الشريف، عليه الصلاة والسلام، ولولا حفظ الله تعالى له بنزول الملائكة جبريل وميكائل عليهما السلام، لقُتل النبي صلى الله عليه وسلم. فكانت من أصعب الغزوات على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت اختبارا عظيما للصحابة في دفاعهم عنه عليه الصلاة والسلام.
وقُتل في هذه الغزوة من المسلمين 70 شهيدا، على رأسهم حمزة بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة. سيد الشهداء.
وذكر الله تعالى عدد الشهداء في أحد، وذلك في قوله تعالى: “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “. المصيبة هي القتل أي الموت، فقد قتل المسلمون في بدر 70 وأسروا 70.
ونزلت الملائكة في هذه الغزوة تُغَسِّلْ حنظلة بن أبي عامر. والعجيب أن أبي عامر، هو أبو عامر الفاسق، وهو منافق من أشد من عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومات على الكفر.
وزوجة حنظلة كانت جميلة بنت عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول المنافق، رضي الله عنه وعنها.
وفي هذه الغزوة دروس عظيمة، وتجلى فيها دفاع الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم ينتصر المسلمون فيها، ولم ينتصر الكفار أيضا، لأنهم لم يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يغزو المدينة، ولم يأخذوا شيئا من الغنائم من المسلمين.

وفي محرم من السنة الرابعة للهجرة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبو سلم عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، في 50 رجل، ليعترض طُلَيْحَة بن خُوَيْلِد الأسدي. طليحة هذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في عام الوفود، وأسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم، ارتد، وادعى النبوة، فبعث إليه أبو بكر الصديق خالد بن الوليد، فهزمه، فأسلم وحسن إسلامه (عجيب أمر البشر، أعتقد أن المفتاح هو إرادة الله سبحانه وتعالى الهداية للبعض دون البعض، وسلامة القلوب من الأدران كالكبر وغيره، والتي هي المفتاح).
جمع جموعا عظيمة لغزو المدينة، فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم أبو سلم، ففر .
ورجع أبو سلمة إلى المدينة، وكان قد أصيب في أحد بجرح، فانتقض جرحه، ومات رضي الله عنه. فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: “اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجاته في المَهْدِيِّين، واخْلُفْهُ في عَقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين”.

وفي محرم أيضا، بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُنَيْس، لقتل خالد بن سفيان الهُذَلِي، لعنه الله، وكان جمع جموعا عظيمة لغزو المدينة، فاستطاع عبد الله بن انيس أن يصل إليه ويقتله، فلما رجع ودخل المدينة، رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أفلحَ وجهُك. وأعطاه عليه الصلاة والسلام عصاه. فقال: ما أفعل بها يا رسول الله؟ قال: آية – أي علامة، بيني وبينك أعرفك بها يوم القيامة. فلما مات عبد الله بن أنيس، ودُفن، دُفنت معه عصا النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي صَفَرْ من السنة الرابعة للهجرة، وقعت غزوة الرَّجِيعْ، وراح ضحيتها 10 من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، غدر بهم بنو لَحْيان، فكانت مأساتها شديدة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صفر كذلك، وقعت فاجعة بئر مَعُونَةْ، وتعرف بسرية القُرَّاء، راح ضحيتها 70 من الأنصار. غدرت بهم قبائل رِعْلٍ وذَكْوان وعُصَيَّةْ. والذي غدر بهم هو عامر بن الطُّقَيْل قبحه الله. وقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في عام الوفود، ومعه رجل آخر يقال له أَرْبَدْ ين قيس، وكانا قد قدما تحت ضغط قومهم، لم يكونا يريدان الإسلام، فأرادا قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فحمى الله عز وجل نبيه منهما. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، فمات عامر بن الطفيل وهو في طريقه إلى قومه بني عامر، ولما قدم عليهم أربد قبحه الله، قالوا ما ورائكما، قال دعانا محمد إلى إله، لو كان أمامي لقتلته بالنبل. ثم ركب بعيره وصعد على هضبة، فنزلت صاعقة من السماء وحرقته هو وبعيره، فكانت آية ندل على غضب الله عليهم، فلما قُتل انطلق قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلموا.
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم شهرا كاملان يدعو على قبائل رِعْلٍ وذَكْوان وعُصَيَّةْ، التي غدرت بأصحابه.

وفي ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، وقعت غزوة بني النضير. وهي الغزوة الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم ضد اليهود. وسببها هو أنهم أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم، وقذف الله الرعب في قلوبهم، وصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على الجلاء. ونزلت سورة الحشر كاملة في غزوة بني النضير. والجلاء هو الطرد. واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملوا كل ما استطاعوا حمله، إلا السلاح، لم يسمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم به.
فحملوا كل شيء إلا السلاح، حتى أنهم كانوا يكسرون بيوتهم لإستخراج الأبواب والأخشاب، وغيرها. كما قال الله تعالى: “هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ”.
فخرجوا من المدينة.

وفي شعبان من السنة الرابعة للهجرة، وقعت غزو بدر الآخرة، وتسمى كذلك لأنها جاءت بعد بدر الكبرى، وتسمى أيضا بدر الموعد لأن أبا سفيان واعد النبي صلى الله عليه وسلم في أحد على اللقاء في السنة القادمة في بدر، وتسمى بدر الصغرى لأنه لم يقع فيها قتال.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه 1500 من أصحابه، وخرج أبو سفيان ومعه 2000 رجل، وكان كارها للخروج، خائفا منه.
فوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وبدر اليوم مدينة، تبعد عن المسجد النبوي اليوم 150 كيلومتر.
ولما وصل أبو سفيان إلى منطقة عُسْفان، خاف وقذف الله في قلبه الرعب، فرجع، وتفرق من معه.
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم 3 أيام ينتظرهم، حتى سمعت كل قبائل العرب بأن قريش هي من خافت ورجعت.

وفي شَوَّال من السنة الرابعة للهجرة، تزوج النبي من أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة، بعد انقضاء عدتها من زوجها أبي سلمة. وكانت موصوفة بالعقل والرأي الراجح. وهي آخر من توفي من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، توفيت في سنة 61 هجرية، وعمرها 91 سنة.
وتزوج النبي أيضا في هذه السنة، زينب بنت جحش، ولها قصة في إبطال التبني، فقد زوجها النبي صلى الله عليه وسلم لمولاه حارثة، وهو ابن النبي صلى الله عليه وسلم بالتبني، وكان التبني معروفا في الجاهلية، ويعطي الإبن به، حق الإرث والدخول على المحارم، فأراد الله عز وجل أن يبطل هذا الأمر.
مكثت زينب عند زيد سنة كاملة، فكرهته، وشكاها زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت في ذلك آيات من سورة الأحزاب. فطلقها زيد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لزيد امسك عليك زوجك واتق الله، كان عليه الصلاة والسلام خائفا من كلام الناس، لأنه شعر أن الله عز وجل سيزوجه زينب، وهي كبيرة من الكبائر عند العرب، تزوج زوجة الإبن بالتبني. فأراد الله سبحانه وتعالى إبطال ذلك، وإظهار أن الإبن بالتبني لا علاقة له بالإرث، فطلقها زيد وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي زوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب هو الله سبحانه وتعالى الذي قال: “وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا”. فدخل عليها بدون ولي ولا عقد لأن ربه سبحانه وتعالى هو الذي زوجه إياها.
فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بقولها: “زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات”. فهذا من فضائلها رضي الله عنها.
وأولم النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل بزينب، قال أنس: “أولم النبي صلى الله عليه وسلم حين بنى بزينب ابنة جحش، فأشبع الناس خبزا ولحما”.
ونزل في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب، آية حجاب أزواج النبي، وليس المقصود به الحجاب الذي يوضع على الرأس والجسد، بل أنه لا يكلمهن أحد إلا من وراء جدار، أو حجاب ساتر. لأنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يدخل عليهن رجل غريب.
وكانت زينب من أفضل النساء دينا وورعا، وجودا ومعروفا. قالت عائشة رضي الله عنها: “لم أر امرأة قط، خيرا في الدين من زينب”. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه: “أسرعكن لَحاقا بي أطولكن يدا”، أي أطولكن يدا بالصدقة، فكانت زينب رضي الله عنها أطولهن يدا بها.
وفي رواية عند الحاكم في المستدرك، لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، كانت نساؤه يقفن على الجدار ينظرن أيهن أطول يدا، وكانت زينب قصيرة، وكانت أول نساء النبي وفاة بعده. فعلموا أن المقصود أطولكن يدا بالصدقة.
توفيت في سنة 20 للهجرة، في خلافة عمر بن الخطاب، ودفنت بالبقيع. وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم 11 امرأة، كلهن دُفن بالبقيع إلا اثنتنان، خديجة، ودفنت بالحُجُون. وميمونة بنت الحارث، آخر زوجة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها في منطقة سَرِفْن وهي منطقة بين مكة والمدينة، وماتت ودفنت بها.

وفي شعبان من السنة الخامسة للهجرة، وقعت غزوة بني المُصْطَلِقْ، وتسمى أيضا غزوة المُرَيْسِيعْ.
فمن سماها المصطلق، فنسبة للقوم الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. ومن سماها المريسيع، فنسبة لماء موجود هنالك يسمى بالمريسيع.
وسبب هذه الغزوة أن الحارث بن أبي ضِرار جمع جموعا لغزو المدينة، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في 700 من أصحابه، وأغار عليهم وقتل مُقاتلَتِهم وسبى ذراريهم.
ومن بين السبايا جُوَيْرِيَّة بنت الحارث بن أبي ضرار، ابنة سيد القبيلة، فعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت، فأعتقدها وتزوجها عليه الصلاة والسلام.
وبزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جويرية، أطلق الصحابة كل ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم صاروا أصهارا له. قالت عائشة رصي الله عنها: “ما أعلم امرأة كانت أكثر بركة على قومها، من جويرية بنت الحارث”.
وكانت رضي الله عنها من الذاكرات لله كثيرا. خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندها بعد صلاة الفجر، وكانت تذكر الله، فرجع مع الضحى، فوجدها لا زالت تذكر الله، فقال: “لقد قلتُ بعدك كلمات لو وُزنت بعبادتك هذه لوزنتها”، وهي: “سبحان الله عدد خَلقه، ورِضاء نفسه، وزِنَةَ عرشه، ومِداد كلماته”. فهذه 3 كلمات تعدل ذكرا من الفجر إلى وقت الضحى.
وخرج في هذه الغزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم عدد كبير من المنافقين، وكان الهدف من خروجهم إثارة البلبلة والفتنة بين المسلمين، فوقع حادثان عظيمان بسبب المنافقين.
الأول، إلقاء الفتنة بين المهاجرين والأنصار، والثانية الطعن في عائشة رضي الله عنها.
فحاول عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول قبحه الله، أن يصرف الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “انتم الذين أكرمتم محمدا حتى حَلَّ دياركم، والله ولو تمنعوا الإنفاق على محمد وأصحابه، لتركوكم إلى غيركم”. فكان أكثر الذين مع عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول في ذلك المجلس منافقون، وكان من بينهم واحد من صغار الصحابة، وهو زيد بن أَرْقَمْ، كان عمره 15 سنة في ذلك الوقت، فانزعج من كلامه، ورجع وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. فتضايق النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقام أحد الأنصار – أو بعضهم، وأراد أن يقتل المنافق، فكفه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: “لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”.
ونزلت سورة المنافقين في هذا المنافق، وكشف الله أمره.
الثاني هو حادث الإفك، وقد ذكره الله تعالى في كتابة الكريم، وبرأ أم المؤمنين عائشة من فوق سبع سماوات. قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: “براءة عائشة من الإفك قطعية بنص القرآن، فلو تشكك فيها إنسان، صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين”.

وفي شَوال من السنة الخامسة للهجرة، وقعت غزوة عظيمة، وهي غزوة الخندق نسبة إلى الخندق الذي حفره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتسمى غزوة الأحزاب نسبة إلى التحزب أو التجمع الذي قام به الكفار.
والسبب الرئيسي في هذه الغزوة هم يهود بني النضير، فقد ذهبوا إلى قبائل العرب قبيلة قبيلة، وشكوا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، كيف قاتلهم، وأخذ أموالهم، وبدؤوا يحرضونهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم. وأعجبت الفكرة قريش، فبدأ أبو سفيان بنفسه يجمع قبائل العرب، فتجمع 10 آلاف مقاتل، يُحَزِّبُهم اليهود لغزو المدينة.
فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وهي أل غزوة له مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار برأي حمى الله تعالى به المدينة. قال: “يا رسول الله إنا كنا في فارس إذا هوجم علينا خندقنا خندقا”. وكانت العرب لا تعرف الخندق ولا هذه الحيلة.
فأعجبت الفكرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم أصحابه عشرة عشرة، كل عشرة يحفرون 40 ذراعا.
ويوجد حديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن المهاجرون افتخروا بسلمان، فقالوا سلمان منا، فقالت الأنصار سلمان منا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت”.
وعدد الذين كانوا مع النبي من المقاتلين في المدينة 3000 رجل، ولم يخرجوا من المدينة. وعدد الكفار 10 آلاف.
فجعل النبي على كل 10 من الصحابة رئيس، لحفر 40 ذراعا. وتم حفر الخندق قبل وصول الكفار، فلما وصلوا لينقضوا على المدينة، وجدوا بينهم وبينها خندقا طوله 40 ذراعا.
والخندق لم يحفر إلا شمال المدينة، أما بقية الأنحاء فكانت محمية حماية طبيعية بالحَرَّات، والحَرَّة هي المسافة الشاسعة من الأرض المملوءة بالحجارة السوداء. واليوم من يسافر من مكة إلى المدينة، يرى قبل وصوله للمدينة ب 50 كيلومتر أو أكثر، عن يمينه وشماله، مناطق شاسعة مملوءة بالحجارة السوداء.
وهذه الحجارة لا تستطيع الجيوش قطعها، حتى الناس لا يستطيعون المشي عليها.
فكان في المدينة 3 حرات حرة الواقِمْ، وحرة الوَبْرَة، والحرة الجنوبية. وكان بنو قريظة موجودين عند الحرة الجنوبية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، يؤكد عليهم العهد، فقالوا له نحن نحمي الحرة، فحفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق في جهة واحدة فقط، وهي جهة الشمال.
وظهرت في هذه الغزوة معجزات لتثبيت المؤمنين، منها تكثير الطعام القليل، ومنها كسره عليه الصلاة والسلام للصخرة بمعوله بثلاث ضربات فقط، وفي كل ضربة يبشرهم بفتح، فبشرهم بفتح الشام والعراق وفارس. فكان المنافقون يستهزءون من ذلك، ويقولون: لا يستطيع الواحد منا الخروج لقضاء حاجته – من شدة الخوف، ويبشرنا بفتح فارس والروم.
فلم يحدث قتال في هذه الغزوة بسبب وجود الخندق، بل تناوشوا بالنبال كما قالت عائشة.
وقصة قتل علي بن أبي طالب لعَمْرو بن ود في هذه الغزوة، باطلة، لا تثبت. وأنكرها الواقدي، وهو أعرف الناس بالأخبار.
ولم يثبت أن بعض الكفار كعمرو بن ود ومن معه، عبروا الخندق بخيولهم. كان عرض الخندق 6 أمتار، وعمقه 3 أمتار تقريبا.
وقد قال مركز للآثار في المدينة، أن حفر الخندق بهذا الشكل في تلك المدة الزمنية أمر شبه مستحيل على الصحابة في ذلك الوقت، فربما ساعدهم شيء ما كالملائكة، أو عون من الله تعالى على ذلك.
واستمر التناوش بالنبال، ونقض بنو قريظة العهد عندما جائهم بذلك أحد ساداتهم، وهو حُيَيّ بن أَخْطَبْ.
واشتد الأمر على المسلمين، وعظم البلاء، وبلغت القلوب الحناجر، عند ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه بتفريج الأمر، فاستجاب له ربه سبحانه وتعالى، فأرسل على الأحزاب ريحا فشتت أمرهم، وأنزل الملائكة فألقت الرعب في قلوبهم، ففرقهم الله سبحانه وتعالى بالريح والرعب، فانهزموا ورجعوا خائبين، ورجع الأمن والآمان إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم.
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته بعد هذه الغزوة، فجاءه جبريل عليه السلام، يأمره بقتال بني قريظة الذي غدروا به. فلبس سلاحه مرة أخرى، وخرج إلى بني قريظة، وقال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة”.
وانطلق ومن معه إلى بني قريظة، وحاصرهم، واشتد عليهم الأمر، وألقى الله سبحانه وتعالى الرعب في قلوبهم، فاستسلموا عن بَكْرَةِ أبيهم.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثق الرجال، وكانوا 700 مقاتل، وجعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقتلهم، ولكن جاءه الأوس، وقالوا أحسن إلى موالينا كما أحسنت إلى موالي الخزرج، يقصدون إطلاقه لبني قنيقاع للمنافق عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول. لكن بني قينقاع قتلوا رجلا واحدا، أما هؤلاء فكان هدفهم إفناء الدولة كلها.
وكان سعد بن معاذ قد أصيب في الخندق، وهو موجود في خيمة في المسجد النبوي يُطَبَّب، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فجيء به محمولا على حمار، والأوس يوصونه ببني قريظة، وهو يقول: “قد آن الأوان لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم”.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا سعد قد جعلت حكم بي قريظة في يدك”. وكان سعد بعد إصابته يدعو ربه قائلا: “اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة الذين غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم”.
فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: “فإني أحكم فيهم بان تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم”. فكبر النبي صلى الله عليه وسلم تكبيرا عظيما، وقال: “الله أكبر، لقد حمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات”.
فقتل النبي صلى الله عليه وسلم كل بين قريظة، وأقر الله سبحانه وتعالى عين سعد، وشفا صدره، رضي الله عنه. وعندها انفجر جرحه، ومات رضي الله عنه. ولما مات، قال النبي رضي الله عنه: “اهتز عرش الرحمن لموت سعد”.
فما فُرغ من تكفينه رضي الله عنه، وحُمل، جاءت الملائكة وحملته مع الصحابة. ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف مَلك إلى الأرض، لم يهبطوا قبل ذلك”. حتى قال بعض المنافقين: “ما أخف جنازة سعد”. وكان طويلا وعريضا رضي الله عنه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الملائكة تحمله معكم”.
وحَزُنَ المسلمون على موته كثيرا، حتى بكى عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق. فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: “ما كان أحد أشد فقدا على المسلمين بعد رسول الله وصاحبيه من سعد بن معاذ”.
وقد فصل الله تعالى تفاصيل غزوة الخندق في سورة الأحزاب، فخلدها بذلك.

بعد هذه الغزوة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، يرسل حملات تأديبية إلى القبائل التي شاركت في الغزوة ضد المسلمين، فأرسل السرية تلو الأخرى إلى كل القبائل التي شاركت في التحزب ضد المسلمين.
ومن الأمور العجيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الخندق، وبعد الفراغ من بني قريظة، قال قولة عجيبة، وهي من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد قال: “الآن نغزوهم ولا يغزونا”. ومن يدرس السيرة يلاحظ أنه لم يتجمع أي جمع أو قبيلة لغزو المدينة بعدها.
وبعد غزوة الخندق حدث صلح الحُدَيْبِيَّة الذي حيد قريش لفترة من الصراع، فتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، وبعدهم حدثت غزوة مؤتة ثم فتح مكة. كل ذلك جرى في سنتين، من صلح الحديبية حتى فتح مكة.
فأخبر بشيء غيبي، ووقع، وهذه من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام.

وفي ربيع الأول من السنة السادسة للهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة بني لَحْيان. فشن عليهم هجوما فتفرقوا في كل مكان.
وفي ربيع الأول، بعث سرية بقيادة عكاشة بن مِحْصِن رضي الله عنه، إلى بني أسد، ففروا من كل مكان.
وبعث سرية بقيادة محمد بن مَسْلَمَة رضي الله عنه، إلى بني ثَعْلَبَة من قَطَفان، فحدث بينهم قتال انتهى بفرارهم.
ثم بعث سرية بقيادة أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح، وهو أحد العشر المبشرين بالجنة، قال فيه عمر: “لو كان أبو عبيدة حيا لوليته الخلافة، وما جعلتها شورى”. بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منطقة ذِي القَصَّة، فأغار عليهم وغَنِمَ، ورجع إلى المدينة.
ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلى بني سُلَيْم، فغَنِم منهم، ورجع سالما بمن معه.
وفي جُماد الأولى بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة زيد بهدف اعتراض قافلة لقريش، فأدركوها وأخذوا كل ما فيها، وأسروا كل من فيها. وكان من بين الأسرى أبو العاَص بن الرَّبِيع، زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان مشركا في ذلك الوقت، فجيء به مع الأسرى والغنائم، إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صلاة الفجر والنبي صلى الله عليه وسلم، صرخت زينب والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، قائلة: “أَجَرْتُ أبو العاص بن الربيع”.
وكانت زينب فد هاجرت من مكة، وبقي فيها أبو العاص لأنه كان لا يزال على الشرك.
فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، التفت إلى الناس، وقال: هل سمعتم ما سمعت؟ والله ما دَرَيْتُ ولا عَلِمْتُ”. حتى لا يعتقدوا انه أمر مدبر بينه وبين ابنته لإطلاق سراح أسيرها. وليؤكد لهم أن الأمر كله راجع إلى السرية. فقال زيد: نطلقه ونطلقهم جميعا يا رسول الله، إكراما له (صهر النبي صلى الله عليه وسلم). فأطلقوهم. فرجع أبو العاص إلى مكة، وأعاد الأموال إلى أصحابها، ثم قال لهم: هل ظلمتكم، أي هل أخذت منها شيئا. قالوا: لا والله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ورجع إلى المدينة. فأرجع له النبي صلى الله عليه وسلم زينب بدون عقد جديد، لأن آية تحريم المسلمات على المشركين لم تكن قد نزلت بعد، ولو كانت نزلت، لعقد له النبي صلى الله عليه وسلم عقدا جديدا بعد دخوله في الإسلام.
فهو صحابي جليل، أسلم بعد صلح الحديبية، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي على إسلامه لم يرتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي ذي القِعْدَة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه يريد العُمْرة، وأنه رأى رؤيا في المنام أنه دخل مكة وإياهم، آمنين مُحَلِّقِين.
فكانت رؤيا في المنام، ولكن رؤيا الأنبياء وحي، فكل ما يراه النبي في رؤياه يتحقق. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الرؤيا في كتابه الكريم، فقال في سورة الفتح: “لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا”. لا تخافون من قريش.
ففرح الصحابة بذلك فرحا كبيرا، وتهيؤوا للخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم. واستنفر النبي صلى الله عليه وسلم الأعراب الذين أسلموا من البوادي، ليخرجوا معه، فأبطؤوا عليه، واعتذروا بأعذار واهية، فكشفهم الله تعالى في القرآن بقوله في سورة الفتح مبينا ما وقع في قلوبهم: “سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا”. يعتذرون بأموالهم وأهلهم، وحقيقة ما يمنعهم من الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم هو الخوف، كيف يخرجون إلى أعدائهم (أهل مكة)؟ فالعمرة قد تتحول إلى حرب، وبين مكة والمدينة توجد قبائل معادية للمسلمين. وكشف سبحانه وتعالى ظنهم أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذه المرة لن يكون بعده رجوع.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجها إلى مكة، ومعه على أرجح الروايات 1400 من خيرة أصحابه من المهاجرين والأنصار. ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم معه من نسائه إلا أم سلمة. وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد الخروج في سفر، يُقْرِعُ بين نسائه، فخرجت القرعة على أم سلمة. ولم يُخرج معه سلاحا، إلا سلاح المسافر، وهي السيوف في القُرُبِ، أي في الأغماد. وساق معه 70 ناقة كهَدْيٍّ إلى البيت.
ووصل صلى الله عليه وسلم إلى ميقات ذِي الحُلَيْفَة، وهو ميقات أهل المدينة، ولبِس إحرامه، ولَبَّى بالعمرة، وتوجه إلى مكة.
ووصل خبر خروج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى قريش، وأنه يريد العُمرة، فقالوا: والله ما يدخلُها علينا أبدا. وجهزوا كتيبة بقيادة خالد بن الوليد المَخْزُومِي رضي الله عنه، وكان على الشرك في ذلك الوقت. وقد أسلم خالد قُبَيْلَ الفتح، أي في السنة الثامنة للهجرة، وهاجر مع عَمْرو بن العاص وعثمان بن طلحة.
فجهز الكفار هذه الكتيبة لصد المسلمين عن دخول مكة.
ووصل النبي صلى الله عليه وسل، إلى منطقة عُسْفان، فوجد كتيبة خالد أمامه. وحان وقت صلاة العصر، فنزل الوحي بتشريع صلاة الخوف، فكانت أول صلاة خوف صليت في الإسلام، في غزوة الحديبية.
وأراد النبي صلى الله عليه وسلمن تفادي الإصطدام مع خيل الكفار، فقال لأصحابه: من يخرج بنا على طريق غير طريقهم. فقال رجل: أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقا وعرا حتى استطاعوا الإلتفاف من خلف كتيبة خالد.
ووصل المسلمون إلى منطقة ثَنِيَّة المِراد (الإسم؟)، حيث لم يكن يفصلهم عن حدود الحَرَم إلا خطوات. والحرم منطقة أكبر من المسجد الحرام، وتشمله، وهي منطقة آمنة لا يجوز فيها القتال ولا الصيد ولا قطع الأشجار، وهي الأكبر، وتحتوي على المسجد الحرام الذي يحتوي بدوره على الكعبة. واليوم من يذهب في عمرة، وهو داخل بالسيارة، يلاحظ علامات مكتوب عليها “بداية الحرم”، فهي بدايتها.
فكان بين النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الحدود خطوات فقط.
وفي تلك المنطقة بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القَصْواءْ، فحاول الصحابة تحريكا لتقوم، لكن بدون جدوى. فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أصابها بلاء. فقال: ليس هذا بخُلُقٍ لها. ثم زجرها فقامت، وانطلقت حتى أقصى حدود الحديبية، ثم بركت على بعد خطوات من حدود الحرم. يعني في منطقة يجوز القتال فيها.
فلما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، جائه بُدَيْل بن وَرْقاءْ، وكان مشركا في ذلك الوقت، فجائه في نفر من أصحابه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قريشا قد خرجت لقتالك، وصدك عن البيت. فقا النبي صلى الله عليه وسلم: إننا لم نجيئ لقتال أحد، ولكنا جئنا مُعْتَمِرين.
فرجع بديل إلى قريش، وأخبرهم بذلك، فأرادوا التأكد أكثر من غرض النبي من المجيء، ولم يكونوا يستطيعون منع أحد من العمرة أو الحج، فالكعبة ليست ملكا لهم، فبعثوا عددا من الرسل إلى النبي للتأكد أكثر، فكان من بين الذين أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، وهو سيد أهل الطائف، سيد ثقيف، وه الذي عناه المشركون في قوله تعالى: “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ”، فالمقصود بالرجلين الوليد بن المُغِيرَة في مكة، وعروة بن مسعود في الطائف.
فرجع الجميع إلى قريش بالخبر اليقين، وهو أن المسلمين جاؤوا للعمرة لا القتال.
وكان من أدلتهم على ذلك أنهم مُحرِمين، ويسوقون الهَدْيَ معهم.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، أرسل عثمان بن عفان إلى سيد مكة أبو سفيان بن حَرْب، ليخبره أنهم إنما جاؤوا للعمرة لا للقتال. فرحب به أبو سفيان، وقال له: امكث عندنا حتى ترى رأينا. وقال له طف بالبيت إن كنت تريد أن تطوف به، فقال: والله ما أطوف قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومكث عثمان عندهم أياما، ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن عثمان قتل، فلما وصله ذلك الخبر، أمر أصحابه البيعة، وكان جالسا تحت شجرة، فبايعوه، وعرفت هذه البيعة ببيعة الرِّضوان. سميت بهذا الإسم لأن الله عز وجل رضي عن كل من بايع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البيعة العظيمة. قال الله تعالى: “لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا”. فوصف ال 1400 الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، وأخبر أنه رضي عنهم.
فبايع بعضهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الموت، وبايعه بعضهم على عدم الفرار في المعارك. وهي أعظم بيعة وقعت في الإسلام، يكفي في فضلها أن الله سبحانه وتعالى، خلد رضوانه على هؤلاء في القرآن. وجاء في فضلها أحاديث كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لَيَدْخُلَنَّ الجنة من بايع تحت الشجرة”، وقال: “لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة”. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ليدخلن حاطب بن أبي بلتعة النار، فقال له صلى الله عليه وسلم: “كذبت لا يدخلها، فغنه شهد بدرا والحديبية”. وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: “قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، انتم خير أهل الأرض”. وفي هذا الحديث دلالة على أنهم أفضل الصحابة، فقد كان يوجد مسلمون في المدينة لم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مكة وغيرها، وفي الحبشة كجعفر ومن معه، فهذا دليل على أنهم أفضل الصحابة.
ثم بايع النبي صلى الله عليه وسلم نفسه نيابة عن عثمان، فضرب بيده فضرب بيده الشرف اليمنى على يده اليسري (الكف على الكف)، وقال هذه نيابة عن عثمان، وبهذا نال عثمان أيضا شرف هذه البيعة العظيمة. قال أنس: “فكانت يد رسول الله لعثمان خيرا من أيدينا لأنفسنا”.
ولما علمت قريش بهذه البيعة خافوا، ورغبوا بالصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم، لحفظ ماء وجوههم، أي يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليس في هذه السنة بل السنة القادمة.
فأرسلوا سُهَيْل بن عَمْرو، ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “قد سَهُلَ أمْرُكم”.
أسلم سهيل بن عَمْرو في فتح مكة، وحسن إسلامه، وكان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يبكي بكاء شديدا إذا مر عليه بلال وخباب بن الأرت، ويقول: سبقنا هؤلاء بالفضل. وقضى عمره في كثرة العبادة والبكاء من خشية الله. أسفا على عدم الإسلام إلا بعد 31 سنة من ظهور الإسلام (23 سنة في مكة، و8 قبل الفتح).
وكان من بنود الإتفاق:
– أن يرجع المسلمون هذا العام، ولا يدخلون مكة، ويدخلونها العام القابِل، فيقيموا فيها ثلاثة أيام فقط.
– من أحب من القبائل أن يدخل في حلف محمد وعَهدِه، فاه ذلك، ومن أحب أن يدخل في حلف قريش وعَقْدِها، فله ذلك.
– ومن يدخل في هذا الحلف يعتبر جزء منه، حتى إن كان مشركا، مثل خزاعة، دخلوا في حلف النبي وأكثرهم مشركون. وبعد ذلك فشا فيهم الإسلام.
– وأي اعتداء على أي واحد في الحلف، يعتبر اعتداء على الحلف كله، أي نقض لصلح الحديبية.
– ومن أتى محمدا مسلما من مكة، وعلمت به قريش، وطالبت بإرجاعه، يُرَدُّ إليها. ومن أتى قريشا مرتدا، فلا يرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان هذا البند، أشد الشروط على المسلمين.
– وضع الحرب بين المسلمين وقريش، عشر سنوات يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض. فيمكن للمسلم أن يعتمر، أو يزور مكة، فلا خوف عليه.
لكن قريشا نقضت الصلح بعد سنتين، فتم فتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
وبعد أن تم الصلح، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتَّحَلُّلِ من إحرامهم بنحر هديهم وحلقِ رؤوسِهم، فلم يقم أحد منهم، فأمرهم النبي مرة أخرى، فلم يقم أحد منهم، فدخل على أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وشكا لها أمر المسلمين، فقالت: يا رسول الله، أتحب ذلك؟ قال: نعم. قالت: قم فأحْلِقْ، وانحر هَدْيَكَ، فإذا رأوك سيفعلون.
وسبب تلكؤ الصحابة وترددهم، هو ظنهم أن في الأمر سعة، فربما ينزل الوحي بأمر بالإعتمار، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم وتحلل، عرفوا أن المسألة انتهت.
ومن شدة غضبهم، وقلة رضاهم عن الصلح، أخذ بعضهم يجرح بعضها، وهم يحلقون لبعضهم البعض. كانوا يتمنون أن يدخلوا مكة، ويعتمرون، فانتهى الأمر بغير ما كانوا يتمنون، لكن كان في ذلك نصر عظيم.
والذي حلق رأس النبي صلى الله عليه وسلمن هو خِراشْ بن أمية، فلما رأى الصحابة ذلك بدؤوا يتحللون.

ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم ومنه معه إلى المدينة، وفي الطريق العودة، نزلت عليه سورة الفتح، ففرح بها فرحا عظيما، لما فيها من تبشير بالفتح، وغفران لذنبه صلى الله عليه وسلمن ما تقدم منه وما تأخر.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد أنزلت علي آية، هي أحب إلي من الدنيا جميعا”. يقول الله تعالى: “إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا”.
فهو الوحيد من البشر الذي أخبره الله تعالى في القرآن بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
وفي عرصات القيامة يكون دعاء الأنبياء: “سَلِّمْ سلم”. وعندما يأتي الناس آدم ليشفع لهم، يقول: “نفسي نفسي”، أي نفسي أحق بالشفاعة، لم يكن أحد من الأنبياء يعلم أنه مغفور له إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد علم بذلك وهو يمشي على الأرض حيا.
وأجمع الناس على أن المقصود بالفتح في هذه الآية هو صلح الحديبية. وما فُتِح في الإسلام فتحٌ أعظم من صلح الحديبية. فلماذا؟
فمن بعثة النبي إلى صلح الحديبية، كانت المدة 19 سنة (من البعثة إلى الهجرة 13 سنة، ومنها إلى صلح الحديبية 6 سنوات)، فكان أكبر جيش يتجمع عند النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جيش الحديبية، عدده 1400 مقاتل (في الخندق كان معهم الأطفال والنساء). وبين الحديبية وفتح مكة الذي تم في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، سنتين فقط، وفيهما تجمع للنبي صلى الله عليه وسلم، عشرة آلاف مقاتل! فتأمل، تجمع له على مدى 19 سنة من الدعوة 1400 مقاتل، وتجمع له بعد صلح الحديبية في ظرف وجيز عدد من الداخلين في الإسلام وصل بجيشه إلى 10000 مقاتل! فكان جهد سنتين أعظم ثمرة من جهد 19 سنة ببركة ذلك الفتح العظيم.
فما الذي تغير حتى حدث كل ذلك؟ لقد أوقف صلح الحديبية تشويش الكفار على الإسلام والمسلمين، فلم يعد أحد يعترض طريقهم، فانطلق الإسلام يغزو القلوب والبيوت، انطلق الدعاة في كل مكان يدعون الناس بدون أي معوقات أو تشويش.
وحيد هذا الصلح قريش، فتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لعدوه اللدود، يهود خيبر، الذين هم السبب في غزوة الأحزاب. فقضى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم دون أن تساعدهم قريش، فهذا من بركات صلح الحديبية، ونتائجه العظيمة التي من أعظمها فتح مكة.

ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما استقر فيها، رأى أن الفرصة مواتية للدعوة خارج الجزيرة، فأرسل البعوث إلى ملوك العرب والعجم، وكتب لهم كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام. قال أنس بن مالك: “كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدعوهم إلى الله”.
بعث النبي صلى الله عليه وسلم عَمْرو بن أمية الضَّمْرِي، إلى النجاشي، وكان قد أسلم على يد جعفر بن أبي طالب، فأقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعث دِحْيَةَ بن خليفة الكَلْبِي، وهو الذي كان جبريل عليه السلام دائما يتشكل على صورته، إلى قيصر ملك الروم يدعوه إلى الإسلام، فخاف من النبي صلى الله عليه وسلم، واهتز، ولم يسلم.
وبعث عبد الله بن حُذافة السَّهْمِي، بكتاب إلى كسرى ملك الفرس، يدعوه إلى الإسلام، فغضب ومزق الكتاب، فدعا عليه النبي الذي كان جبريل عليه السلام دائما يتشكل على صورته بأن يمزق الله ملكه، واستجاب الله عز وجل لدعاء نبيه.
وبعث حاطب بن أبي بَلْتَعَة رضي الله عنه، إلى المُقَوْقِسْ ملك القِبْط، يدعوه إلى الإسلام، فأقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يسلم. وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية، وهي مارية القبطية وأختها سارة، وبغلة يركبها النبي صلى الله عليه وسلم. فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مارية سُرِّيَة، فكان يطأها بملك اليمين، ورزق منها ابنه إبراهيم. أما سارة فأهداها لعبد الرحمن بن عوف، وقيل لحسان بن ثابت، رضي الله عنهما.
وبعث سَلِيطْ بن عَمْرو العامِرِي رضي الله عنه بكتاب إلى هَوَذَة بن علي، ملك اليمامة، فلم يسلم.
فهذه هي الكتب الخمس التي بعث بها خارج الجزيرة، وبعث في العام الثامن الهجرى كتبا أخرى.

وقبل غزوة خيبر بثلاثة أيام، وقعت غزوة عظيمة، وهي غزوة ذِي قَرْدْ، وتسمى غزوة الغابَة، وكان بطلها سَلَمَة بن الأكْوَعْ، رضي الله عنه. وسببها أن عبد الرحمن بن عُيَيْنَة بن حِصْن، الفِزارِي، أغار على أطراف المدينة، فقتل واحدا من المسلمين، وأخذ نوق النبي صلى الله عليه وسلم، وفر بها. فلحقهم سلمة بن الأكوع على قدميه، وكان أسرع من الخيل، فاستطاع أن يدركهم، ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصرخ في المسلمين: الفزع الفزع، فترامت خيولهم إليه، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم في أثرهم، ومعه 500 رجل، فلقي سلمة وقد استرجع النوق. فقال: “خير فرساننا اليوم أبو قَتَادَة، وخير رَجَّالَتِنا سلمة بن الأكوع”، فأفضل من يقاتل على فرسه هو أبو قتادة الحارث بن رِبْعِي، الأنصاري، فارس النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل من يقاتل على الأرض هو سلمة بن الأكوع.
وفي هذه الغزوة صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف، ثم أمضى أياما في الغابة، ثم رجع.

وفي مُحَرَّمْ من السنة السابعة للهجرة، وقعت غزوة خيبر الشهيرة. وخيبر هي أرض الفتن والمؤامرات ضد المسلمين، ولم يكن يسكنها إلا اليهود، وهم من حزب لأحزاب على النبي في غزوة الخندق.
وقد وعد الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بفتح خيبر، فقال في سورة الفتح: “وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا”. فكانت خيبر غنيمة جاهزة للمسلمين، لكنها خاصة لمن شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية.
وهنا بدأ الأعراب يأتون بعكس نفورهم عندما دعاهم النبي إلى الخروج معه إلى العمرة. قال الله تعالى: “سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا”.
المقصود ب”مغانم لتأخذوها” في الآية هو خيبر، لأنها كانت عبارة عن مزارع شاسعة. فكانوا يقولون يا رسول الله دعنا نخرج معك لننال الشهادة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، من أراد أن يخرج فليخرج، لكن ليس له نصيب في الغنائم. فلم يخرج منهم أحد.
فلم يشهد هذه الغزوة إلا من شهد الحديبية، إلا من مات قبلها، أو واحد، وهو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، رضي الله عنه، ذكر في صحيح البخاري انه اعتذر لرسول الله لمشاغل كانت تشغله.
فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، ورآه اليهود، خافوا خوفا عظيما، وأغلقوا عليهم حصونهم، وصرخوا: محمد والخَمِيس (أي الجيش).
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فزعهم، صاح: “الله أكبر، خَرِبت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المُنْذَرِين”.
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، واشتد الأمر عليهم، وظهرت بطولات للصحابة كالزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وأبو دُجانَة وسلمة بن الأكوع، وقتل علي بن أبي طالب أحد أبطال اليهود، وهو مَرْحَبْ، وقتل الزبير أخاه ياسر. وفُتح أكثر من نصف خيبر، فلما أيقن يهود خيبر بالهَلَكَة استسلموا، وأرادوا مفاوضة الرسول صلى الله عليه وسلم على ما تبقى من خيبر، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وتم الإتفاق على التالي:
حقن دماء من في الحصون من اليهود – ترك الذرية لهم (أي السبايا والأسرى) – خروج اليهود من خيبر – يحملون ل ما أرادوا إلا السلاح – لا يحملون شيئا من الذهب والفضة، ولو وجد عند أحد ذهبا أو فضة مخبأة، يُقتل.
زلما أرادوا الخروج، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، دعنا نبقى في خيبر كأُجَرَاء؟ أي يعملون في رعاية النخيل للمسلمين، ولهم نصف ثمار خيبر. وكانت مزارع شاسعة. فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، إذ لم يكن لدى المسلمين غلمان للعمل فيها، وفي ذلك راحتهم.
واغتنى المسلمون بفتح خيبر غنى عظيما، قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: “ما شبعنا حتى فتحنا خيبر”. وقالت عائشة رضي الله عنها: “لما فتحت خيبر، قلنا الآن نشبع من التمر” من كثر النخيل الذي فيه.
وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في خيبر، مهاجرو الحبشة، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ففرح بهم النبي صلى الله عليه وسلم فرحا عظيما، وقال: “ما أدري بأيهما أنا أَسَرُّ، فتح خيبر أو قدوم جعفر”.
وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في خيبر، الأشْعَرِيُّون، وكانوا 53 رجل، فيهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. وقبل قدومهم بيوم واحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “يقدم عليكم غدا أَقْوَامٌ هم أرق قلوبا للإسلام منكم”. فقدم الأشعريون، وهم أهل اليمن.
وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في خيبر، قبيلة دَوْس، على رأسهم الطُّفَيْل بن عمرو الدوسي، رضي الله عنه، ومعهم أعظم راوية للحديث في الإسلام، وهو وأبو هريرة رضي الله عنه.
ووقعت صفية بنت حُيَيّ بن أَخْطَبْ في الأسر، وذلك قبل نزول خيبر على الصلح، فعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلمت، فأعتقها وتزوجها. جعل مهرها عتقها. وأصبحت رضي الله عنها من أمهات المؤمنين. وهي من سلالة هارون عليه السلام.
فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من أمر خيبر، جائت زينب بنت الحارث اليهودية بشاة، وكانت قد سألت أي لحمها أحب إليه، فقالوا الكَتِف، فأكثرت من السم فيه. وعندما وضع النبي لقمة في فمه، قال ارفعوا أيديكم إنها مسمومة، وأكل شيئا بسيطا منها. وأكل منها بِشْر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأصابه شلل سنة كاملة، ثم مات (وأبوه هو البراء بن معرور، أول من بايع بيعة العقبة الثانية، ومات قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بشهر).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت الحارث أجعلتِ فيها سما؟ قالت نعم. قال: “ما كان الله ليسلطك عليّ”. ثم قتلها بعد سنة بقتلها بشر بن البراء بن معرور. لم يقتلها من أول ما عرف، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتصر لنفسه، وقتلها قصاصا. والعجيب أنها أسلمت رضي الله عنها.
وظل يهود خيبر يعملون بزراعتها، ولهم نصف ثمارها، إلى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قتلوا أحد المسلمين، فطلب منهم عمر تسليم القاتل، فرفضوا، فأخرج اليهود من كل جزيرة العرب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحس بألم من أثر هذا السم، بين الفترة والأخرى، حتى مات عليه الصلاة والسلام من أثر هذا السم. قال لعائشة في وفاته: “ما أزال أجد من هذا السم، وهذا أوان انقطاع الأبْهَر مني” (والأبهر عرق يغذي القلب).
وكان عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يحتجم دائما.
فمات عليه الصلاة والسلام شهيدا. فكمل له الله سبحانه وتعالى الصفات، ورزقه بالشهادة.
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر منصورا، فلما رأى جبل أُحُد، قال: “هذا جبل يحبنا ونحبه”.

وبعد خيبر وقعت غزوة ذات الرِّقَاع، وسميت كذلك، لأن الصحابة لفوا على أرجلهم الخِرَق (لم تكن عندهم أحذية).
وسبب هذه الغزوة ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من أن جمعا من قَطَفَان أرادوا غزو المدينة، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في 400 من أصحابه، فلما سمعوا بذلك هربوا من كل مكان.
ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان تجمعهم. وصلى فيه صلاة الخوف الثالثة في الإسلام (الأولى كانت في الحديبية، والثانية كانت في ذي قَرَدْ).
ثم رجع إلى المدينة.

وفي ذي القِعدة من السنة السابعة من الهجرة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمرة، وكان صلح الحديبية في 6 من ذي القعدة من السنة الماضية، أي بعد مرور سنة كاملة.
وسميت هذه العمرة بعمرة القَضَاء، وتسمى عمرة القَضِيَّة. ولم تسمى هذه العمرة عمرة القضاء، قضاء عن عمرة الحديبية كما يقول بعض أهل السير، بل لن النبي صلى الله عليه وسلم قاضَى قريش في الحديبية على العمرة في العام القابل.
وعمرة الحديبية عمرة كاملة، ولذلك اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في حياته 4 عُمَرْ، الأولى عمرة الحديبية، والثانية عمرة القضاء، والثالثة عمرة الجِعْرانَة، والرابعة عمرته مع حَجَّة الوَداع، ذهب إلى الحج في ذي القعدة، فاعتمر وظل على إِحْرامِه، كان قارنِا عليه الصلاة والسلام. وكل عُمْراتِه كن في ذي القِعدة.
فخرج بمن مه من أصحابه من أهل الحديبية، إلا من مات منهم، أو من كان مريضا أو معذورا. وساق معه 60 ناقة، وحمل معه السلاح رغم الأمن، خوفا من غدر قريش.
فانطلق إلى ميقات ذي الحُلَيْفَة، وهو ميقات أهل المدينة، وأحرم منه هو ومن معه، ثم انطلقوا إلى مكة مُلبين. ووصل إلى مكة، ودخل المسجد الحرام من باب بني شَيْبَة. فكانت المرة الأولى التي يرى فيها مكة بلده، بعد 7 سنوات. فكان صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الصحابة، في شدة الفرح.
واستلم الركن بمِحْجَنِه، واطَّبَعَ بثوبه (الإطِّباع هو إظهار الكتف الأيمن، وتغطية بقية الجسم). ثم طاف بالبيت سبعا، فلما فرغ من طوافه صلى خلف مقام إبراهيم ركعتين. ثم ذهب ومن معه، إلى المَسْعَى، فسعى بين الصفا والمروة على راحلته، ثم دعا بهديه فنحره، ثم حلق رأسه، والذي حله هو مَعْمَر بن عبد الله العَدَوي، رضي الله عنه. وكذلك فعل أصحابه.
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، ولم يدخل الكعبة لأن ذلك لم يكن من شروط الحديبية، وهو السبب الرئيسي. وقال بعض أهل العلم: لوجود الأصنام في جوفها.
وبعد الثلاثة أيام المنصوص عليها في صلح الحديبية، خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من مكة، فلما وصل إلى سَرِف (بكسر الراء)، أقام بها، وهنالك تزوج آخر زوجاته، وهي ميمونة بنت الحارث. وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم في حياته 11 امرأة، ومات عن تسع نسوة. مات من نسائه في حياته خديجة وزينب بنت خُزَيْمَة الهِلالية.
وقد ماتت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها في سنة 51 هجرية، وماتت في منطقة سرف. أما بقية أزواجه عليه الصلاة والسلام، فكلهن دفن بالبقيع ما عدى خديجة.

وفي أوائل السن الثامنة للهجرة، توفيت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكبر بناته، ودفنت بالبقيع.
وفي صَفَرٍ من هذه السنة، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، مسلمين. ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بهم فرحا عظيما، وقال: “رمتكم مكة بأفْلاذِ أكبادِها”.
وعثمان بن طلحة من بني شيبة، ولديهم مفتاح الكعبة، هو المسؤول عنه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لعثمان بن طلحة وهو في مكة: “أطني مفتاح الكعبة لدخل؟”، فقال عثمان: “لا والله لا أعطيه لك”، وكان مشركا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أعطني مفتاح الكعبة قبل أن يون في يدي”، فقال له عثمان: “والله لئن كان مفتاح الكعبة بيدك، لباطن الأرض خير لي من خارجها”.
فما كان فتح مكة طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان بن طلحة مفتاح الكعبة، فذهب إلى أمه، وقال أعطني مفتاح الكعبة لأعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم، فغضبت، وقالت هذا شرفك وشرف بني شيبة، سيأخذه محمد ويعطيه لبني عبد المطلب. قال: ولو، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعطاه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام، أمام الناس قولته الشهيرة: “خذوها بني عبد الدار من بني شيبة، خالدة تَالِدَة، إلى يوم القيامة، لا ينزعه منكم إلا ظالم”. وفي هذا أنزل الله سبحانه وتعالى قوله في سورة النساء: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا”.

وفي جُمادى الأولى من السنة الثامنة، وقعت معركة مُؤْتَة العظيمة، وسماها البعض غزوة، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهدها، لأن الله تعالى كشف له القتال وهو في المدينة، فكان كأنه يشهدها، حيث أخبر الصحابة بمن أخذ الراية، وهو عبد الله بن أبي رَوَحَة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم زيد بن حارثة.
وبعضهم قال سميت هذه المعركة غزوة لعظمها.
وكانت بين المسلمين والغساسنة، فهم الأصل، والروم ساعدوهم بعد ذلك.
وكان سبب الغزوة أن رسول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحارث بن عُمَيْر، قُتل على يد الغساسنة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه بكتاب إلى ملك بُصْرَى بالشام، فعَرَضَ له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني، فقتله بعد علمه بأنه رسول، ومن طرف النبي صلى الله عليه وسلم. وكان قتل الرسل من الكبائر عند العرب. ومن ذلك مجيئ رسل مسيلمة الكذاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بكتاب فيه: “من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرسولين: ماذا تقولان؟ قالا: نقول أنه رسول الله، فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لأمرت بقتلكما.
فقتل شرحبيل رسول النبي لشدة ما في قلوب الغساسنة من غيظ على المسلمين. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز لقتال الغساسنة، فتجمع جيش من 3000 مقاتل، وهو أكبر جيش يتجمع للمسلمين منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر عليه النبي مولاه زيد بن حارثة، فإن قُتل فجفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رَوَاحَة.
وعقد له النبي صلى الله عليه وسلم، لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة. وشارك في المعركة خالد بن الوليد المَخْزُومي، وهي أول معركة يشارك فيها بعد إسلامه، رضي الله عنه.
ووصل جيش المسلمين إلى منطقة مَعَانْ، فبلغهم خبر عدد جيش الغساسنة، وكان 200 ألف مقاتل، بمساعدة الروم. ولم يكن ذلك في حسبان المسلمين. فشارو زيد أصحابه، فتم طرح رأيان، الأول مقاتلتهم، والثاني الإرسال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليرسل إليهم مددا. ولم ير أحد منهم الإنسحاب.
واستقر الرأي على مقاتلتهم، فقسم زيد جيشه ثم تقدم إليهم، فالتقوا عند منطقة مؤتة، وبدأ القتال المرير، فكانت معركة عظيمة ظهرت فيها بطولات عظيمة للصحابة، حيرت الأعداء.
وأخذ زيد الراية وجعل يقاتل الكفار بضرورة، ومعه المسلمون يدفعون عن أميرهم حتى قتل رضي الله عنه، فأخذها جعفر بن أبي طالب، فقاتل قتالا عظيما ليس له مثيل، حتى قتل رضي الله عنه، وقبل أن يُقتل، نزل عن فرسه وعقرها (قتلها)، وهو أول فرس يُعقر في الإسلام، ثم قاتل على قدميه حتى قُتل. فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رَوَاحَة، وتقدم على فرسه، وقاتل حتى قُتل.
وكشف الله عز وجل أمر هذه المعركة لرسوله، وهو في المدينة، فأخبر أصحابه بكل ما وقع في هذه المعركة، وبأخذ الشهداء للراية وقتلهم، وقال بعد قتل عبد اله بن رواحة: “ما يَسُرُّهم أنهم عندنا”، أي أنهم أكثر فرحا بمكانتهم في الجنة بعد استشهادهم.
فلما سقطت الراية، ولم يكن النبي أوصى بمن يأخذها بعد عبد الله بن رواحة، تقدم واحد من أبطال المسلمين، ممن أهل بدر، وهو ثابت بن أَقْرَمْ، فاجتمع حوله المسلمون، ومن بينهم خالد، فدفع إليه الراية، فأخذها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “أخذ الراية سيف من سيوف الله”، فسمي خالد بسيف من سيوف الله.
واستطاع خالد أن يجمع جيشه، وأن يثبت، وأن يهاجم، ويحفظ جيش المسلمين، فانسحب بالجيش، ورجع إلى المدينة دون أي خسائر تذكر.
وورد حديث في مسند الترمذي، أنهم لما رجعوا إلى المدينة أخذ الأطفال الحجارة ورموهم بها قائلين: يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم، ليسوا بالفُرار بل الكُرَّار. فهذا حديث ضعيف ليس بصحيح.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يتفقد آل جعفر بعد مؤتة، فقال لأهله: “اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم ما يُشْغِلُهم.
وكان زوجة جعفر هي أسماء بنت عُمَيْس الخَثْعَمِيَّة، وقد تزوجها بعد ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم تزوجا بعد موته علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فتزوجت خليفتين وشهيدين. وكانت من أوائل المهاجرات رضي الله عنها، معروفة بتفسير الأحلام. رأى عمر بن الخطاب قبل موته بثلاث ليال أن ديكا يَنْقُرًه ثلاث نَقَرات، فأخبر أسماء بنت عميس، فقالت له: إن صدقت رؤياك، يقتلك رجل من العَجَم (وفي رواية ديك أحمر، فأولت ذلك بالعجم). قتله أبو لُؤْلُؤَة المجوسي قبحه الله (الذي تعظمه شيعة إيران اليوم ومن معهم، ويدعون مع ذلك أنهم إخوة للمسلمين، ويدافعون عن فلسطين، وكلها أكاذيب تروج لها قناة الجزيرة، وأمثالها).

وفي جُمادي الآخرة، نادى النبي صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص، فقال له: “إني أريد أن أبعثك على جيش، فيُسَلِّمُك اللهُ، وتغنم”، فقال عمرو: يا رسول الله إني لم أسلم رغبة في المال، وإنما أسلمتُ رغبة في الجهاد والكَيْنُونَة معك” (أي أن اكون معك). فقال النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث مشهور: “نِعم المال الصالح للرجل الصالح”. ثم بعثه صلى الله عليه وسلم، في سرية “ذات السلاسل”، ومعه 300 مقاتل.
فخرج عمرو بن العاص مستهدفا قبيلة بني قُضاعَة، وكانوا يتجمعون لغزو المدينة، فباغتهم وكبدهم خسائر فادحة. ورجع منتصرا، رضي الله عنه.
والعجيب في هذه السرية أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث معه كبار الصحابة تحت إمرته. فكان في السرية أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح، كلهم تحت إمرته.
وحدثت بعض الأحداث الغربية من عمرو، الأمر الأول، أنهم وهم في طريقهم، صحا من نومه وهو مُحْتَلِم، فلم يغتسل، بل توضأ وصلى بهم. الأمر الثاني، أنه وفي شدة البرد، منعهم من أن إبقاد النيران. الأمر الثالث أنه لما باغتوا الكفار وفروا، أخذ الصحابة يجمعون الغنائم ويقتلون في الكفار، أمرهم بالرجوع وتركهم. فغضبوا منه، كيف يمنعهم وهم منتصرون.
ولما رجعوا إلى المدينة، أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك، فنادى عمرو، وقال له: “لماذا صليت بأصحابك جُنُبْ؟”، قال: “يا رسول الله، كان البرد شديدا، فخشيت على نفسي من أن يقتلني إن أنا اغتسلت بالماء البارد، والله تعالى يقول: “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ”. فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، على ذلك. ثم قال: “لماذا منعتهم من إيقاد النيران؟”. قال: “يا رسول الله، نحن عدد قليل، فخشيت إن أوقدنا النار ترانا قضاعة ومن معها فيهاجموننا”. فأقره النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: “لماذا أمرت أصحابك بالرجوع وترك الكفار؟”. قال: “يا رسول الله، خشيت أن نفترق في أرض لا نعلم ما هي، فيأتونا من كل مكان”. فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، على ذلك.
وفرح عمرو بن العاص بهذه المكانة، وتوقع أن يكون من المقدمين عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم، – والحديث مشهور: “يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. فقال: يا رسول الله، من الرجال؟ قال: أبوها. قال: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب. قال عمرو: فعد رجالا، حتى خشيت ألا يذكرني، فسكتُّ”.
وفي رواية الترمذي: “ثم أبو عبيدة بن الجراح، فسكت عمرو”.

وفي شعبان من السنة 8 للهجرة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم، أبو الحارث قَتادَة بن الرِّبْعِي الأنصاري، فارس النبي صلى الله عليه وسلم، ، مستهدفا حشدا من بني قضاعة كان يريد المدينة، فاستطاع مباغتتهم، وقتل منهم وسبى، وفر الباقون.

وفي العاشر من رمضان من السنة 8 للهجرة، وقع الفتح العظيم، فتح مكة، وكان يوما مشهودا أعز الله به دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان سبب الغزوة غدر قريش الذي وقع على قبيلة خُزاعة. وكانت خزاعة قد دخلت في حِلف النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بَكْرْ في حلف قريش.
فخرجت خزاعة إلى العمرة ليلا، فهجم عليهم بنو بكر ومعهم قريش، فقتلوا منهم حتى فروا إلى داخل الحرم، فقتلوهم كلهم. وكانوا 23 رجلا. فانطلق عمرو بن سالم الخزاعي، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم”.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، في 10 آلاف مقاتل، وكان جيشا ضخما لم يغزُ قريشا جيش مثله قبل.
وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم، ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، أخوه من الرضاعة، وكان من أشد من عاند النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم ولقي النبي صلى الله عليه وسلم، في الطريق، وكان مهاجرا إلى المدينة، ومعه ابن عمته عبد الله بن أمية بن المغيرة، فأسلما عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل إسلامهما. وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثباتا عظيما في غزوة حنين، رصي الله عنه.
وواصل النبي صلى الله عليه وسلم، طريقه إلى مكة، وهو صائم، واشتد الأمر على الناس، فلما بلغ منطقة عُسَفان، أفطر عليه الصلاة والسلام، وأمر الصحابة بالفطر.
ولما بلغ منطقة الجُحْفَة، لقيه عمه العباس بن عبد المطلب مهاجرا إلى المدينة، فكان آخر من هاجر، لأنه بعد مكة انتهت الهجرة الخاصة، وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد اليوم”، يقصد الخاصة، أما الهجرة العامة فمستمرة، وهي الهجرة عموما من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام.
وأراد العباس إخبار قريش بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، حقنا للدماء، حتى لا تُقاتِل. فمر ببُدَيْل بن وَرْقاء وحكيم بن حِزامْ وأبو سفيان صَخْرْ بن حرب، فعرفهم من صوت حديثهم، فأخبره أبو سفيان بأنه يريد تسليم مكة للنبي صلى الله عليه وسلم، فذهب العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره، ثم ركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إلى أبي سفيان، وأردفه عليها، وأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم (تسلسل الأحداث هنا غير واضح).
المهم، أن أبا سفيان حدث له موقف مع عمر بن الخطاب، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم، الإسلام فأسلم، فقال العباس: “يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاعطه شيئا يفتخر به”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من دخل دار أبو سفيان، فهو آمن، ومن دخل المسجد – الحرام، فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه، فهو آمن”.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، العباس أن يوقف أبا سفيان بين جبلين، وأمر باستعارض جيشه أمام أبو سفيان، فتحرك الجيش العظيم، فخاف أبو سفيان خوفا عظيما. وكان هدف النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتيقن أبو سفيان أنه لا قوة له على قتال هذا الجيش العظيم.
فدخل أبو سفيان مكة، فقالوا: ما ورائك؟ قال: ورائي الجيش، من دخل دار أبو سفيان، فهو آمن، ومن دخل المسجد، فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه، فهو آمن”. فانطلق الناس إلى بيوتهم وأغلقوا عليهم أبوابهم.
وهكذا سُلِّمت مكة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تحدث مقاومة إلا اعتراض خالد بن الوليد رضي الله عنه من قِبل عِكْرِمَة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، فحدث بينهم قتال، وقُتل منهم عدد، وفر الباقون. عند ذلك استسلم كل أهل مكة.
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم، منتصرا، في غاية التواضع، وبين يديه المهاجرون والأنصار ومن خلفه وعن يمينه وشماله، يهللون ويكبرون. فأقبل عليه الصلاة والسلام إلى الحجر الأسود، فاستلمه بمِحْجَنِهِ (المِحْجَن هو عصا معقوفة الرأس، مثل العصا التي نرى عند كبار السن اليوم). ثم طاف بالبيت سبعا، وحوله 360 صنم. فجعل كلما مر على صنم منها، يطعنه بمحجنه، ويقول: “وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا”، فيسقط الصنم ويتحطم. وقام الصحابة إلى الأصنام يحطمونها، فلما رأى أهل مكة ذلك، وقع الإسلام في قلوبهم، فالآلهة التي كانوا يعبدون لم تنفع نفسها، ولم تضر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم نادى النبي صلى الله عليه وسلم حاجب الكعبة، وهو عثمان بن طلحة، ففتح له باب الكعبة، فدخل ومعه فقط أسامة بن زيد وبلال بن رَبَاح، وأغلق عليه الباب، ومكث طويلا، ثم خرج إلى الناس، فلما خرج كان أول من دخل عبد الله بن عمر بن الخطاب، فسأل بلال أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأراه الموضع، فصلى فيه، وكان من اشد الناس اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم. يقول عبد الله بن عمر: “فنسيت أن أسأل بلالا كم ركعة صلى”.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على عتبة باب الكعبة، وقريش كلها أمامه: “يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا. أخ كريم وابن أخ كريم”. فقال صلى الله عليه وسلم: “أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فانتم الطلقاء”. فعفا عنه عليه الصلاة والسلام كلهم. عندها دخل الناس في الإسلام أفواجا.
وجاء أبو بكر بأبيه أبو قُحافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق: “أتعبتم الشيخ”، أي لو ناديتني لكنت أنا من أذهب إليه. فقال أبو بكر: “يا رسول الله، هو أكرم أن يأتيك”.
ومن عجائب أبي بكرن وليست لأحد من الصحابة غيره، أن أباه صحابي، وزوجاته جميعا صحابياته، وأولاده وبناته صحابة، وحفيده صحابي (أربعة أجيال). وهذا مما يزيده شرفا.
وأسلم نساء مكة، وبايعن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من بينهن هند بن عتبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمها، وهي زوجة أبي سفيان، وكانت قد مثلت بحمزة رضي الله عنه الذي قتله وحشي في غزوة أحد، فبقرت بطنه وأخرجت كبده، رضي الله عنه.
ثم أفتى النبي صلى الله عليه وسلم بعدة فتاوى، منها تحريم بيع الخمر، وأكل الميتة والخنزير، وعبادة الأصنام.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة 19 يوم.

وفي يوم السبت 6 شَوَّال من السنة 8 للهجرة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْن، وهو واد قريب من الطائف، عندما بلغه أن هَوَازِن تعد العدة للهجوم عليه في مكة، وتجمع لها 20 ألف مقاتل. وخرج مع النبي 12 ألف مقاتل، ألفان من أهل مكة، من الطلقاء، وهم الذين عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم (أُطلق عليهم هذا الإسم، وكان إسلامهم لا يزال ضعيفا لحداثة دخولهم في الإسلام وسببه).
واستعمل على مكة في غيابه عَتَّب بن أَسِيدْ رضي الله عنه، وهو أول أمير في الإسلام، وكان على مكة.
وفي الطريق إلى حنين، مر النبي صلى الله عليه وسلم على شجرة يقال لها ذاتُ أَنْوَاطٍ، لأن المشركين كانوا يعلقون عليها سيوفهم وبعض الشرائط. وكانوا يتمسحون بها ويتبركون بها. فقال الطلقاء للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال: “الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: “اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ”. أي التعلق بأمور فيها شرك، ولا تضر ولا تنفع.
ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى وادي حنين، وفي السَّحَر عَبَّأ جيشه، وعقد الألوية والرايات، ورتب جنده. واستعمل على الخيل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وبشر أصحابه بالفتح والنصر إن صبروا وثبتوا.
وكان بعض الطلقاء أعجب بكثرة المسلمين، فقالوا: والله لا نغلب ليوم من قلة. فكان اعتمادهم واتكالهم على العدد، أي على الأسباب، وليس على الله سبحانه وتعالى.
وبدأ المسلمون بالنزول إلى وادي حنين، وكان منحدر جدا، وكانوا لا يدرون بالكمائن التي نصبت لهم هوازن أسفل الوادي. وكان منحدرا شديدا لدرجة أن الواحد منهم كان يمسك صاحبه حتى لا ينزلق. وما أن نزل الفرسان، وعلى رأسهم خالد بن الوليد، وهم الذين في المقدمة، حتى بدأ الضرب من كل مكان، وضُرب خالد حتى سقط. وفر الذين نزلوا وهم بنو سُلَيَمء من كل مكان، وكان ورائهم بقية الجيش في الأعلى، لا يدرون بما حدث في الأسفل. فكان الذين في الأسفل يفرون صاعدين، ويركب بعضهم بعضا. يقول بعض الصحابة: “حتى رأيت بعضهم يركب بعضا”. وبدأت الفوضى في جيش المسلمين.
وانحاز النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه يمينا، وثبت معه عدد قليل من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، فثبت معه أبو بكر وعمر وعلي وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته وهو ينادي: “أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب”. يقوله في تلك الشدة وعلى بغلته التي لا يمكنها العدو بسرعة الفرس، فكأنه يقول للمسلمين وللكفار أيضا، أن لا خوف على الإسلام والمسلمين. فكان العباس آخذا ببغلته، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابها يكفها عن العدو نحو العدو. ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته، واستنصر ربه قائلا: “اللهم نَزِّلْ نصرك. اللهم إن تشأ لا تُغْبَد بعد اليوم”. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل قتالا عظيما. والصحابة الذين ثبتوا معه 100 واحد فقط. 10000 فروا من كل مكان، حتى أن بعضهم وصل لمكة. فكان مع النبي صلى الله عليه وسلم 100 واحد فقطن مقابل 20 ألف. يقول علي بن أبي طالب: “كان إذا حضر البأسُ، ولقي القومُ القومَ، إِتَّقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس، وكان صَيِّتا – جهوري الصوت: “يا عباس نادِي أصحاب السَّمُرَة”، وكانوا قد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان على عدم الفرار. فنزل العباس ينادي قائلا: “يا مسلمون، هذا رسول الله.. يا مسلمون، هذا رسول الله”، فلم يلتفت إليه أحد. عندها صرخ: “يا أصحاب السمرة، أين بيعتُكم؟ فلما سمعوا ذلك، رجع المسلمون يقولون لبيك لبيك”، حتى أن الرجل منهم ليُثني بعيره، فلا يقدر على ذلك فيقفز عنه ويترك راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاصدا العباس، وفاء ببيعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وتجالد القوم مجالدة شديدة. واشرف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من على بغلته، وقال: “الآن حَمِيَ الوَطِيسُ”، ثم أخذ حَصَيَات، ورمى بها الكفار، وقال: “شاهَتِ الوُجُوه”. يقول أحدهم، وكان مشركا حينها: “فلم يبق منا أحد إلا وامتلأت عيناه وفمه من ذلك التراب الذي ألقى النبي صلى الله عليه وسلم”.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: “انهزموا ورب الكعبة.. انهزموا ورب الكعبة”. ثم أيد الله سبحانه وتعالى رسوله بنزول الملائكة. ولم تقال بل أرهبتم، وفروا من كل مكان.
يقول الله تعالى في كتابه: “لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”. وفي الآية أنهم أعجبتهم كثرتهم، إذ قالوا: لن نُغلب اليوم من قلة. وأن الرض ضاقت عليهم بما رحبت، أي لما نزلوا في الوادي وبدأ الضرب عليهم، بدؤوا في الفرار من كل مكان. ثم أنزل الله سكينته على الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم المائة واحد. وقوله “ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”، فأكثر هؤلاء وهم من أهل الطائف، أسلموا بعد ذلك.
وانطل المسلمون يقتلون فيهم ويأسرون، وفروا تاركين ورائهم نسائهم زذَرارِيهِم وأنعامهم. ووقعت تلك الغنائم في يد المسلمين، فحصلوا على 24 ألف بعير، و40 ألف شاة، و4000 أوقية من الفضة، غير النساء والأطفال، فكانت أعظم غنيمة حصل عليها المسلمون في الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها في منطقة الجِعْرانَة، ولم يَقْسِمْها، وأمر الجيش بمتابعة الكفار، وكانوا قد رجعوا إلى الطائف.

فبدأ حصار الطائف، والبعض يعد غزوة الطائف غزوة منفصلة عن حنين، فمن زاد في غزواته صلى الله عليه وسلم، زاد بها.
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحاول فتح الطائف فلم يستطع، وكان قد رأى رؤيا أنه لم يُؤذن له بفتحها، فأخبر الناس بها، ثم نادى في الناس بالرحيل. فقال الصحابة: “يا رسول الله ادع على ثقيف – أهل الطائف”، فرفع يديه، وقال: “اللهم اهد ثقيفا، وائت بهم”.
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى منطقة الجعرانة، وبدأ في تقسيم غنائم حنين، فأعطى سادة العرب – وكان إسلامهم لا يزال ضعيفا، الكثير من الغنائم، فأعطى أبو سفيان بن حرب، وعُيَيْنَى بن حِصن، والأقرع بن حابِس، وسُهَيْل بن عمرو، كل واحد 100 ناقة، غير الذهب والفضة. وجاء عند ابن اسحاق أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: واعط ابني معاوية وابني يزيد. فهذه رواية غير ثابتة. فمعاوية لم يكن حاضرا، والدليل على ذلك، ما رواه مسلم، فقد جاءت فاطمة بنت قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعد حنين، تستأمره، فقالت: “يا رسول الله، تقدم إلي أبو الجَهْم، ومعاوية بن أبي سفيان، فأيهما أتزوج؟”. فقال صلى الله عليه وسلم: “أما معاوية فصعلوك لا مال له – والصعلوك هو الفقير، ولا مال له تدل على أنه لم يعطى شيئا من غنائم حنين. وأما أبو الجهم فضرَّاب للنساء – وفي رواية لا تسقط عصاه عن النساء، أي شديد على النساء. فعليك بأسامة بن زيد”. فتزوجت أسامة، ورزقها الله عز وجل بركة.
فأعطى النبي كل العرب، وكل المهاجرين، إلا الأنصار لم يعطهم شيئا، فبدأ بعضهم يشكو لبعض، فذهب سعد بن عُبادة سيد الأنصار في ذلك الوقت، إلى النبي صلى الله عليه وسلم – وكان سعد بن معاذ، وهو سيدهم، قد مات في غزوة الخندق. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ”يا رسول الله إن الأنصار قد وجدوا عليكم”. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمع الأنصار، فلما اجتمعوا، خطب فيهم النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة ومؤثرة، فقال: “يا معشر الأنصار أوجدتم في أنفسكم، في لُعاعَة من الدنيا، تَأَلَّفْتُ بها قوما لِيُسْلِموا، ووَكَلْتُكُمْ إلى إسلامِكم؟ أفلا ترضون بان يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم”. فبكى الأنصار بكاء شديدا، ثم قال: “المحيا محياكم، والممات مماتكم”. فبين لهم الحكمة من ذلك العطاء، وهي تألف قلوب الداخلين الجدد في الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: “إني أعطي أقواما أخاف ضَلَعَهُم وجزَعَهُم، وأَكِلُ أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى”. فرضوا رضي الله عنهم.
وبعد الفراغ من توزيع الغنائم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة منصورا مؤيدا من الله سبحانه وتعالى.

وفي ذي القِعدة من السنة الثامنة للهجرة، وُلد إبراهيم، ابن النبي صلى الله عليه وسلم، في منطقة العالِيَة في المدينة، حيث أنزل النبي صلى الله عليه وسلم أمه مارية القبطية، وكانت أمة أهداه المقوقس إياها، فكان عليه الصلاة والسلام يطؤها بملك اليمين، قال تعالى: “وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ”.
فسماه على اسم أبيه ابراهيم. وتنافست نساء الأنصار أيهن ترضعه لأن أمه كانت قليلة الحليب، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سيف، وهي من الأنصار.
قال أنس بن مالك: “ما رأيت أحدا كان أرحمَ بالعِيال من النبي صلى الله عليه وسلم، كان يدخل على ابنه ابراهيم فيأخذه ويقبله”.

ثم دخل العام التاسع الهجري، ويسميه أهل المغازي بعام الوُفود. أقام فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، لم يخرج منها إلا في غزوة تبوك.
فكان يستقبل الوفود في المدينة عليه الصلاة والسلام. وهذه الوفود هي رؤوس القبائل، جاؤوا للإعلان عن إسلامهم نيابة عن قبائلهم. وبلغ عدد هذه الوفود أكثر من 60 وفدا، منها وفد واهِلَة، وبني تميم، وبني أسد، وبَجِيلَة، وأَحْمَسْ، وغيرها.

وفي رجب، توفي النَّجَاشِي، أَصْحَمَة، ملك الحبشة. والنجاشي لقب لكل من تملك الحبشة. والنجاشي الذي آمن في زمن النبي هو أصحمة بن أَبْجُرْ، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، صلاة الغائب. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “مات اليوم رجل صالح، فقوموا صلوا على أخيكم أصحمة”. وفي حديث آخر: “استغفروا لأخيكم”.

وفي رجب، وقعت آخر غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي غزوة تَبُوكْ. وتبوك تبعد اليوم عن المدينة ما يقارب ال 700 كلم. فكانت مسافة بعيدة.
وكان هذه الغزوة مع أعظم دولة في ذلك الوقت، وهي دولة الروم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، أوجب على كل من يستطيع حمل السلاح، الخروج في هذه الغزوة.
وجاء وقت هذه الغزوة في ظروف قاسية، فالحر كان شديدا، والمسافة بعيدة، والثمار على وشك النضوج، وتعلق القلوب بها كبير. ولم يكن الخروج على التخيير بل واجبا. ليس مثل غزو بدر مثلا، التي كان فيها الأمر على التخيير.
ثم حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على تجهيز جيش الغزوة الذي سُمي جيش العُسْرَة. فانضاف الفقر الشديد إلى طول المسافة والحر، فكانت ظروفا صعبة. لكن الصحابة تسابقوا في الإنفاق على الجيش، فجاء أبو بكر الصديق، بكل ماله. وجاء عمر بنصف ماله. وأنفق عثمان رضي الله عنه نفقة عظيمة ما سُمِع بمثلها، على جيش العسرة. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم إنفاق عثمان، قال: “ما ضَرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعد اليوم”. يعني كفارة لكل ذنوبه، السابقة واللاحقة.
وجاء عبد الرحمن بن عوفن رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ب 8000 درهم. وتتابع الصحابة رضي الله عنهم، في الإنفاق.
فلما رأى المنافقون هذا الإنفاق، أخذوا يستهزئون، فإذا أنفق الغني مالا كثيرا، قالوا مُرائي، وإذا أنفق صاحب المال القليل، ولو صاعا من طعام (الصاع هو ملء الكفين)، قالوا: إن الله غني عن صاع هذا. فلم يكونوا راضين عن الفقير، ولا عن الغني. فأنزل الله تعالى آيات كثيرة في ذبك في سورة التوبة، منها: “الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”.
وتخلف عدد من الصحابة عن غزوة تبوك بغير عذر، وكانوا نَفَرَ صدق، لا يُتهَمون في إسلامهم، منهم كَعْب بن مالك، وهِلال بن أمية، ومَرارَةُ بن الربيع، وأبو لُبابَة بشير بن عبد المنذر، وغيرهم.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه المكون من 30 ألف مقاتل، وهو أعظم جيش يتجمع للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته. وخَلَّفَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، وكان المنافقون قد أشاعوا إشاعة بأنه لم يخلفه إلا لأنه كاره له. فقال علي رضي الله عنه: “أَتُخَلِّفْني في الصبيان والنساء”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي”. لأن موسى عليه السلام عندما ذهب للقاء ربه خلف هارون على بني إسرائيل، وهارون كان نبيا، لذا استدرك النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: ”إلا أنه لا نبي بعدي”، حتى لا يُفهم من هذا أن عليا نبي”. فرضي علي رضي الله عنه، ولم يشهد غزوة تبوك.
ثم عسكر النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه في ثَنِيَّة الوَداعْ، وهنالك عقد الألوية.
وكان في جيشه عدد كبير من المنافقين، والعجيب أنهم بدؤوا يتجرؤون في بعض المواقف، فعبد الله بن أبي بن سلول، أخذ يستهزئ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبمن معه، فعنده الوقت ليس وقت خروج للقتال، فالحر شديد، وذاهبون لقتال أعظم دولة في العالم. يقول: “والله، كأني بمحمد وأصحابه مقَرَّنِين في الأصفاد” أي أسرى. يثبط الناس، ثم رجع، ولم يشهد هذه الغزوة.
ومن الذين اعتذروا للنبي صلى الله عليه وسلم بأعذار واهية ذُكِرت في القرآن، الجَدّ بن قيس، وهو من بني سَلِمة (بكسر اللام)، كان من الأنصار، لكنه منافق، وكان قد خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديية، وشهد بيعة الرضوان، حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم 1400 صحابي، فكان الصحابة يقولون له تعال بايع النبي صلى الله عليه وسلم، فاختبأ خلف جمله حتى لا يبايع، وقال: “والله، لَئِنْ أجدْ ضالَّتي، خيرٌ لي من أن يستغفر لي صاحبكم”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في صحيح مسلم: “وكلكم مغفور له، إلا صاحبَ الجمل الأحمر”.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة بعذر واهي، فقال: “يا رسول الله، إن نساء بني الأصفر فيهم جمال، فلا تَفْتِني في ديني”، يعني: يخشى أن يرى نساء الروم فيُفتن في دينه! فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى في سورة التوبة: “وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ”.
وفي الطريق مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجْرْ، ديار ثمود، قوم صالح عليه السلام، فاستعجلَ وحرك راحلته، ونزل قريبا من ديار ثمود، ولم يدخلها عليه الصلاة والسلام. وأصاب الناس العطش، فاستسقوا من البئر التي داخل الحِجر، واعْتَجَنُوا عَجِينَهُم بذلك الماء. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، غضب غضبا شديدا، وقال: “لا تدخلوا على هؤلاء الذين عُذِّبوا، فإني أخاف أن يُصِيبكم ما أصابهم”. ثم أمرهم أن لا يشربوا منها، وأن لا يستقوا. فقالوا إنهم عجنوا منها، فأمرهم بإلقاء كل ما عجنوا، وخطب فيهم خطبة عظيمة لأن هؤلاء قوم مغضوب عليهم، وقد نزل عليهم العذاب.
ثم أكمل طريقه إلى تبوك، وأصاب الناس عطش شديد، واشتد ذلك عليهم، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا الله عز وجل، أن يُنزل عليهم مطرا، وكان ذلك في رَجَب (شهر سبعة) في الحر الشديد، فتجمع السحاب ونزل عليهم المطر، فشربوا وملئوا أوانيهم. فلما تحركوا، وجدوا أن المطر نزل فقط على البقعة التي كانوا فيها.
وفي الطريق نزل الجيش ليلا، وقبيل صلاة الفجر، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، ومع المُغِيرَة بن شُعْبة. وتأخر عن الصحابة، وكاد وقت الفجر يخرج، فاحتاروا، هل يصلون أو ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم. فقدموا عبد الرحمن بن عوف يصلي بهم، فلما صلى، قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الركعة الثانية، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، وأتم ركعة عليه الصلاة والسلام.
فلما سلم عبد الرحمن إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يتم الركعة الباقية، فوقع ذلك في قلوب الصحابة، وأحسوا بالندم على عدم انتظار النبي صلى الله عليه وسلم، وخافوا خوفا شديدا. فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أحسنتم – أو قال أصبتم”، فأقرهم على ذلك، فصلاة الفجر في وقتها أعظم من انتظار النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يتبين لنا عِظَمَ أمرِ الصلاةِ في وقتها. والحديث في صحيح مسلم، وله زيادة أخرجها ابن سعد في الطبقات وأحمد، فهي زيادة ضعيفة ليست ثابتة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: “ما قُبِض نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته”.
ثم أكمل طريقه إلى تبوك، وقال لأصحابه: “إنكم ستأتون غدا إن شاء الله، عين تبوك، فمن جائها فلا يمسن مائها حتى آتي”. فلما وصل المسلمون إليها، وجدوا عينها قليلة الماء، وأخذ رجلان من المنافقين ما فيها. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا، وقال لمعاذ بن جبل – راوي الحديث: “يُوشِك يا معاذ إن طالت بك حياة، أن ترى ما هاهنا قد مُلِئَ جِنانا”. أي سيمتلئ هذا الوادي خضارا. وقد صدق صلى الله عليه وسلم، فالمزارع كثيرة اليوم في تبوك. وبسبب هذه العين التي لو لم يأخذ منها المنافقون، لكان نهرا في الجزيرة يجري.
ثم ضُربت للنبي صلى الله عليه وسلم خيمة في تبوك، وأقام فيها عشرين يوما، لم يلق كيدا، ولم يواجِه عدوا.
ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا في تبوك وأطراف الشام.
ثم أرسل رسالة إلى عظيم الروم هرقل (قيصر)، بعث بها دِحْيَة بن خليفة الكَلْبِي.
وفي هذه الفترة صالح النبي صلى الله عليه وسلم، أهل أَيْلَة، ويهودَ جَرْباءْ وأَذْرُحْ.
وبعث خالد بن الوليد ومعه 420 مقاتل، إلى أُكَيْدِرْ دَوْمَةَ الجَنْدَلْ، فصالحه النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية، وكان – أي أكيدر، لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، لابسا جُبَّة من حرير منسوجة بالذهب، فعجب الصحابة من فخامة ملابسه، ولم يكونوا يعرفون ذلك لإنتشار الفقر فيهم. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم أن هذا كله لا قيمة له أمام الآخرة، فقال: “أتعجبون من هذه – يقصد الجُبة، لمناديل سعد بن معاذ – الذي استشهد في غزوة الخندق، خير منها وأَلْيَن”. والمناديل تستخدم للمسح، فمناديل الجنة أفضل من أفضل ثياب الدنيا، فما بالك بثياب الجنة؟
وعرض النبي صلى الله عليه وسلم على قيصر في رسالته إليه، الإختيار بين 3 أمور: “إما الإسلام، أو الجِزية، أو القتال”. فجمع قيصر بطارقته، وقرأ عليهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: “الله لا ندفع له شيئا ولا ندخل في دينه، ولا نقاتله بل نتركه”، فأرسل قيصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وأرسل إليه رجلا يقال له التَّنُوخِي، وقال له: “انظر لي في محمد 3 علامات: هل يَذْكُر رسالته لي، وهل يذكر الليل، وهل في ظهره خاتم النبوة”.
فلما جاء التنوخي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سأله عن رسالته، فقال: ما فعل برسالتي؟ فكانت الأولى التي طلب قيصر، ثم قال قيصر للنبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة: دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، أين الليل إذا جاء النهار؟ يعني: نحن الآن في النهار، فأين ذهب الليل (يعني موجود، وهذا يريد ما يقول أهل الأرض المسطحة من أن الشمس والقمر والنهار والليل، أربعة مخلوقات منفصلة، وهو ما يؤكده القرآن، ويؤكده هذا الحديث، لأن الليل لو كان عدما، أي ذهبت به الشمس كما تقول ناسا، لما كان له وجود، فالنار موجودة كما الجنة موجودة، وكذلك الليل موجود كما النهار الموجود). فكانت الثانية التي طلب قيصر، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن مكان النار وكيفيتها،، هي والجنة، من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
وأراد التنوخي أن يرى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لابسا ثيابه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أُقِم عندك. فتركه النبي صلى الله عليه وسلم. ولما رأى أنه فظن وذكي، دعاه إلى الإسلام، وقال له في نهاية المطاف: أسلم يا تنوخي؟ فقال: إنما أنا على دين قومي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال صدق الله: “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”.
فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريد، وقال له: “انظر إلى ظهري”. فرأى خاتم النبوة، ورجع إلى قيصر وأخبره الخبر.
والتنوخي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس وأكل معه، لكنه لم يسلم في حياته، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فُتحت فارس والروم، واسلم، فهل يعتبر صحابي أم لا؟ لا، وذلك بالإجماع.
وخاف هرقل من النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك، وانتشر الخبر بين الناس أن الروم، أعظم دولة، خافت من النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعد عشرين يوم رجع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إلى وادي القُرِى قال لأصحابه المتعجلون على المدينة: “من أراد منكم أن يتعجل فليتعجل” (يتعجل معي؟). فلما وصل إلى منطقة ذي أَوَانْ، نزل عليه الوحي وأخبره بان المنافقين قد بنوا مسجدا. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراقه، وهو مسجد الضِّرَار.
وكان الملعون أبو عامر الراهب، قد أمر ببنائه، وهو والد حنظلة بن أبي عامر، غسيل الملائكة. الإبن شهيد، والأب منافق.
وأبو عامر هو الذي حفر الحفر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أحد، حتى يسقط فيها، وسقط فيها النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك تساعدنا السيرة النبوية في فهم الآيات، يقول الله تعالى في هذا الرجل وفي مسجده ومسجد قُباء: “وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ”. إرصادا: يعني انتظارا، لمن حارب الله ورسوله من قبل، أي في أحد عندما حفروا الحفرة. وسيحلفون أنهم لم يبنوا هذا المسجد إلا للصلاة وجمع الناس، والله يشهد إنهم لكاذبون. فبناؤهم لهذا المسجد كان من اجل نشر الفتن والتفرقة بين المؤمنين. والمسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قُباء، أحق بالقيام فيه.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق هذا المسجد. ثم اتجه إلى المدينة فلما قرب منها، قال لأصحابه: “إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم فيه، حبسهم العذر”. فالمعذور يجد الأجر كاملا.
فما أشرف على المدينة قال: “هذه طيبة، هذه طيبة”، فلما رأى جبل أحد قال: “هذا جبل يحبنا ونحبه”. وتسامع الناس بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج الناس إلى ثنية الوداع يتلقونه بحفاوة وفرح وسرور عظيم. قال السَّائِب بن يزيد: “أذكر أني خرجت مع الصبيان، تتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوَداع مَقْدَمَهُ من غزوة تبوك”.
وفي هذا الموطن لأنشدوا “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع”، وليس عند مقدمه مهاجرا من مكة، لأن ثنيات الوداع في جهة الشام، وليست في جهة مكة.

ثم استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد رجوعه. وانقسم الناس في غزوة تبوك إلى أربعة أقسام، القسم الأول مأمورون مأجورون، كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مَسْلَمَة وعبد الله بن أمِّ مكتوم، رضي الله عنهم. والقسم الثاني مَعْذُورون، وهم الذين لم يستطيعوا الخروج كالضعفاء والمرضى. القسم الثالث عُصاةٌ مُذنبون، وهم الثلاثة الذين خُلِّفُوا. مَلُومُون مذنبون، وهم المنافقون.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاطعة كل من تخلف عن هذه الغزوة. وجاء الأعراب يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم، بأعذار واهية ذُكِرت في القرآن، فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا خير فيهم أصلا، ووَكِلَ سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى. وأرجأ أمر ثلاثة من الصحابة الصادقين، وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية وعُمارَة بن الربيع، فأجل الحكم فيهم ليحكم الله عز وجل فيهم فيما بعد، وجاء ذلك في سورة التوبة، يقول الله تعالى: “وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ”. فكام أمرهم معلقا.
وكان الثلاثة عندما وصلهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم، قد ربطوا أنفسهم بِسَارِيَّة من سَواري المسجد – عمود من أعمدته، وقالوا: “والله، لا يطلقنا إلا النبي صلى الله عليه وسلم”. بسبب تخلفهم بدون عذر.
ونزل في هؤلاء المتخلفين قوله تعالى: “وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”. فعفا عنهم، إلا هؤلاء الثلاثة. ثم تاب عنهم بعد ذلك، فقال سبحانه وتعالى: “َقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ”. وقصتهم طويلة، مذكورة في الصحيحين.

وفي أواخر العام التاسع الهجري، توفيت أم كُلْثُوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فبقي من بناته صلى الله عليه وسلم، فاطمة فقط.

وفي العام التاسع، توفي رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، قبحه الله.

وفي أواخر العام التاسع الهجري، بعص النبي صلى الله عليه وسلم، أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج، ليُقيم للمسلمين حجهم. وكانت هذه الحَجَّة تمهيد وتوطئة لحَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأمره النبي صلى الله عليه وسلم، أن يُعلن في الحج أمور: الأول: “أن لا يحُجَّنَّ بعد هذا العام مشرك”، فكانت آخر حَجَّة للمشركين. وبهذا عندما يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة القادمة، لا يُشاركه في الحج إلا مسلم.
الثاني: أن لا يطوف بالبيت أحد عُرْيانا. وسبب التعري أن قريش كانت قد فرضت على الناس أن من لم يشتر ثيابا من عندها، يطوف عريانا. فكان بعض الناس يطوفون عراة، وظل هذا الأمر إلى العام التاسع الهجري.
الثالث: “لا يدخل الجنة إلا مؤمن”.

وفي ربيع الأول من السنة العاشرة للهجرة، توفي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمره سنة وأربعة أشهر. ودخل عليه النبي صلى الله عليه وسلمن وعيناه تدمع، وقال: “إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي – يعني في فترة الرِّضاعة، وإن له لَظِئْرَيْنِ تكملان رَضَاعَهُ في الجنة”. أي تكملان رضعاه بقية السنتين.
دُفن إبراهيم في مقبرة البقيع. وانكسفت الشمس يوم مات، فقال الناس: “إنما انكسفت لموت إبراهيم”. فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا، وقال: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها – أي تلك الآية، فادعوا وصلوا”.

وفي ذي القِعْدَة من العام العاشر الهجري، أُذِّنَ في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد الحج. فقدِم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمسُ أن يَأْتَمَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم. وكانت حَجَّتَه الوحيدة. قال جابر رضي الله عنه: “فلم يبق أحد يقدرُ على أن يأتي إلا قَدِمَ”.
وسميت هذه الحجة بحجة الوَداع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودَّع الناس فيها، ولم يحج بعدها عليه الصلاة والسلام.
وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة، أكثر من مائة ألف حاج.
وخرج عليه الصلاة والسلام بكل نسائه التِّسْع.
وانطلق صلى الله عليه وسلم إلى ميقات ذو الحُلَيْفَةِ فاغتسل لإحْرَامِه، ثم طَيَّبَتْه عائشة رضي الله عنها، ثم لبس إحرامه بأبي هو وأمي.
وفي ميقات ذي الحليفة، وَلَدَتْ أسماء بنت عُمَيْس الخَثْعَمِيَّة، زوجة أبي بكر الصديق، وكان قد تزوجها بعد موت جعفر بن أبي طالب، فولدت محمد بن أبي بكر. فسأل أبو بكر الصديق النبي صلى الله عليه وسلم ما تصنع؟ فقال: “تغتسل، وتستدثر بثوب، وتُحرم”. فخرجت معهم في الحج.
ثم لَبَّى النبي صلى الله عليه وسلم، والناس معه يُلبون. وجاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يأمر أصحابه برفع أصواتهم بالتلبية.
وحج النبي صلى الله عليه وسلم قارِناً، فلما وصل إلى منطقة سَرِفٍ، حاضت عائشة رضي الله عنها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعمل كل شيء من الحج، إلا الطواف.
ووصل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الأحد لأربع ليالي خَلَوْنَ من شهر ذي القِعدة. فدخل المسجد الحرام ضُحًى، دخله من باب عبد مناف، وهو باب بني شيبة اليوم، والمعروف بباب السَّلَمْ.
ثم أدى العمرة. وهي عمرته الرابعة، وكانت عُمراته كلها في ذي القعدة، وهي عُمرة الحديبية، ثم عمرة القضاء أو القَضِيَّة، ثم عمرة الجِعْرَانَة، ثم عمرته مع حَجته.
فلما انتهي صلى الله عليه وسلم من عُمرته، نزل الأبْطُحْ شَرْقِيِّ مكة. فلما كان اليوم الثامن من ذي الحِجَّة، وهو يوم التَّرْوِيَّة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى الماء. وسمي يوم التروية لأن الناس كانوا يَرْوُون الماء لأن مِنى لم يكن فيها ماء في ذلك الوقت، فكانوا يأخذون المياه معهم. وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، من يوم الخميس الثامن من ذي الحِجة، وهو يوم التروية. وصلى الفجر من يوم الجمعة التاسع من ذي الحجة، فلما طلعت الشمس نهض إلى عرفة، حتى إذا زالت الشمس، سار حتى أتى بطن الوادي من عُرَنَة، هنالك في أرض عرنة، خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبته الشهيرة خُطبةَ عرفة، وهو على راحلته القصواء، عليه الصلاة والسلام. فخطب خطبة عظيمة جامعة، قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية.
فلما فرغ منها صلى الظهر والعصر جمعا وقصرا، ولم يصل بينهما شيئا. ثم ركب ناقته القصواء حتى أتى المَوْقِف فاستقبل القبلة، ولم يزل واقفا مشتغلا بالدعاء والتضرع حتى غربت الشمس.
وأخبر الناس أن أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة. ونزل عليه صلى الله عليه وسلم، وهو في عرفة على راحلته، قوله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”. وهي ليست آخر أية نزلت من القرآن، بل الأية: “وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ”.
فلما غربت الشمس واستحكم غروبها، أفاض النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مُزْدَلِفَة، وصلى المغرب والعشاء قصرا، ثم اضجع حتى طلع الجر، ثم قام فصلى الفجر، وذلك يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، سمي كذلك لأن أغلب أعمال الحج تكون فيه، من الذبح والطواف – طواف الإفاضة وهو ركن، والحَلْق، ورمي الجَمْرَةِ الكبرى.
ثم ركب ناقته القصواء، فاستقبل القبلة، ودعا الله وكبَّرَهُ وهلله ووحده، ولم يزل كذلك حتى أسفر جدا.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ابن عباس رضي الله عنهما، غداة يوم النحر، أن يلتقط له حَصَى الجِمار، فالتقط له 7 حَصَيَات.
ثم دَفَعَ النبي صلى الله عليه وسلم، من المَشْعَرِ الحرامِ قبل أن تطلع الشمس، مخالفا للمشركين الذين كانوا لا يُفيضون إلا بعد طلوع الشمس.
فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم، جَمْرَة العقبة الكبرى، وقف في أسفل الوادي، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة وهو على ناقته عليه الصلاة والسلام. وكان الوقت ضُحًى، فرماها عليه الصلاة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، وهو يقول: “لتأخذوا مناسككم”.
ثم انصرف عليه الصلاة والسلام إلى المنحر، فنحر بيده الشريفة 63 ناقة في ساعة واحدة، بفضل القوة التي حباه الله بها. ومن المعجزات أن هذه النوق كانت تتسابق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تُنْحَرَ قبل صاحبتها.
فلما فرغ من نحر هديه، دعا مَعْمَر بن عبد الله العَدَوِي، فحلق له رأسه الشريف. قال أنس رضي الله عنه: “لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحلاق يحلقه، وأَطافَ به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل منهم”.
فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلمن من حلق رأسه الشريف، لبس القميص، وأصاب الطِّيبَ، طيبته عائشة رضي الله عنها.
ثم ركِب فأفاض بالبيت قبل الظهر، فطاف طواف الإفاضة على راحلته، لكي يراه الناس، ويسألوه.
ثم أتى زمزم، وشَرِبَ منها، ثم رجع إلى منى من يومه ذلك. وكان يأتي الجِمار في أيام التشريق الثلاث بعد الزوال.
وختم النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع بقوله للناس: “لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت”. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهذا اختصار شديد لهذه الحجة العظيمة، فهي طويلة، وفيها أحكام كثيرة.

ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وفي يوم اٌثنين لأربع ليال بقين من صَفَرْ من السنة الحادية عشر للهجرة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالتجهز لغزو الروم، وأَمَّرَ عليهم الحِبّْ ابن الحِبّْ، أسامة بن زيد بن حارِثَة، رضي الله عنهما.
وكان عمر أسامة على أرجح الروايات 18 سنة. وفي جيشه كبار الصحابة كعمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، و غيرهم.
وتكلم الناس في إمارة أسامة، فبدؤوا يطعنون في إمارتهن كيف يتولى وهو صغير قيادة كبار الصحابة. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قام خطيبا في الناس كما سيأتي.
فلما تكامل أمر الدعوة، وسيطر الإسلام على كل الجزيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، أحس النبي صلى الله عليه وسلم بدنو أجله. وظهرت علامات على ذلك، منها نزول سورة النصر، ومنها مُدَارَسَة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، ومنها اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العبادة، ومضاعفته اعتكاف شهر رمضان.
بدأ مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي قُبِض فيه، في أواخر ليالي صفر، وكانت مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، ثلاثة عشر يوم.
وأول ما بُدِأ به من المرض، الصداع الشديد في رأسه، وكان عند عائشة عندما بدأ معه الصداع عليه الصلاة والسلام.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام، أراد أن يطوف على نسائه، يسلم عليهن، فلما وصل إلى بيت ميمونة رضي الله عنها، اشتد به المرض، فجلس في بيتها من شدة المرض، واستأذن – لعدم استطاعته المرور على بيوتهن، في أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة رضي الله عنها، فأذِن له.
اشتدت وطأة المرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة، وبدأت الحمى الشديدة، حتى قال أبو سعيد الخُدْرِي: “يا رسول الله، ما أشَدُّها عليك” – أي الحُمى، فقال عليه الصلاة والسلام: “إنا كذلك”، وزاد النَّسائي بعد كلمة “كذلك” جملة: “معشر الأنبياء، يُضَعَّفُ لنا البلاءُ، وكذلك يضعف لنا الأجر”. ومن المعروف أن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ليعظم لهم الأجر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يصلي بالناس، فلما اشتد عليه المرض لم يستطع الخروج إلى المسجد، فأمر أبا بكر الصديق أن يصلي بالناس.
ثم أحس بخِفَّة فخرج متوكأ على الفضل بن العباس، رضي الله عنهما، وصعد المنبر، وهي آخر خطبة يخطبها صلى الله عليه وسلم، فذكر في خطبته فضل أبي بكر الصديق، وفضل الأنصار، وأوصى بهم خيرا. وفضل أسامة بن زيد، وأنه أهل للإمارة رضي الله عنه وعن أبيه.
ومن الروايات الضعيفة التي لا تثبت، أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة، عرض نفسه للقصاص، فقال للناس من جلدت ظهر فهذا ظهري فلْيَسْتَقِدْ… إلخ. فهذه رواية مكذوبة، وسندها شديد الضعف.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من أن يتخذوا قبره مسجدا، وأخبر أن شرار الناس، الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قال صلى الله عليه وسلم: “اللهم لا تجعل قبري وَثَنًا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم عيدا”. أي يتجمعون عندها.
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على الصلاة بالناس في المسجد، مع ما به من شدة الوجع والمرض، حتى غلبه المرض وأعجزه عن الخروج عليه الصلاة والسلام. عند ذلك أمر أبا بكر أن يؤم الناس في الصلاة.
وقبل وفاته بثلاثة أيام، أوصى عليه الصلاة والسلام، أصحابه بحسن الظن بالله، فقال: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله”. قال النووي: “هذا الحديث فيه تحذير من القنوط من الله عز وجل، وأن الإنسان مهما بلغت ذنوبه، فرحمة الله سبحانه وتعالى أعظم من هذه الذنوب”. ومعنى حسن الظن بالله هو أن يظن أن الله يعفو عنه ويرحمه.
وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وجد عليه الصلاة والسلام من نفسه خفة، فخرج يُهادَى بين علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، ورِجلاه تخطان في الأرض من شدة المرض، فإذا بأبي بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، فلما أحس به، أراد أن يتراجع، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى في مكانه، وجلس عليه الصلاة والسلام عن يساره.
ولما كان يوم الأحد، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، بيوم، اشتد عليه المرض، فلما وصلت الأخبار إلى جيش أسامة الذي خرج خارج المدينة، رجع إلى المدينة ولم يخرج، فلما تولى أبو بكر الصديق، أمضى جيشه، رضي الله عنهم جميعا.
وبات النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين دَنِفًا، ـي اشتد به المرض حتى أشرف على الموت، فلما طلع الفجر أصبح مُفِيقًا عليه الصلاة والسلام، فكشف سِتر حجرته، ونظر إلى الناس وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر الصديق، فتبسم لما رأى من اجتماعهم، وفرح فرحا عظيما لإستقرار الدين. قال أنس: “كأن وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر إلينا، ورقة مصحف – تعبير عن الجمال الباهر. فهممنا أن نُفْتَتَنَ في صلاتنا من شدة الفرح”.
ثم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لم يبق من أمر النبوة إلى المُبَشِّرَات، وهي الرؤيا الصالحة، يراها المؤمن في منامه.
فلما رأى الناس النبي صلى الله عليه وسلم قد أصبح مُفيقا، ظنوا أنه قد بَرِئَ من مرضه، فانصرفوا إلى حوائجهم.
وسأل أبو بكر الصديق النبي الخروج إلى أهله – حبيبة بنت خارجة، بالسِّنْحْ، فأذن له.
فلما كان الضحى من نفس اليوم، يوم الإثنين 12 من ربيع الأول، من السنة الحادية عشر للهجرة، اشتد الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل يتغشاه الكرب الشديد عليه الصلاة والسلام، فقالت فاطمة: “وا كَرْبَ أبَتاهْ”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا كَرْبَ على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس تاركا منه أحد”، أي الموت الذي سيصيب جميع المخلوقات.
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يعاني سكرات الموت، وعائشة رضي الله عنها، مُسْنِدَتَهُ صدرها، وبين يديه عليه الصلاة والسلام إناء فيه ماء، فجعل يُدخل يده في الإناء ويمس بها وجهه، ويقول: “لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات”. ثم نصب يده، وجعل يقول: “في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى”. جاءه جبريل عليه السلام في آخر لحظة، يخيره بين الخلود في الدنيا ثم الجنة، أو الموت ولقاء الله عز وجل؟ فقال: “بل الرفيق الأعلى”. ومالت يده الشريفة، ومات عليه الصلاة والسلام.
قالت عائشة رضي الله عنها: “كنت مًسْنِدَتَهُ إلى صدري، فدعا بطست، عليه الصلاة والسلام، فلقد إنْخَنَثَ في حجري – أي مال، عليه الصلاة والسلام، فما شَعُرْتُ أنه مات”. وفي رواية أحمد، قالت: “فبينما رأسه عليه الصلاة والسلام، على منكبي، إذ مال رأسه نحو صدري، فظننت أنه غُشَيَّ عليه”، وفي رواية أخرى قالت: “قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأسُه بين سَحْرِي ونَحْرِي، فلما خرجت نفسُه، لم أجد ريحا قَطُّ أطيبَ منها”.
فكانت وفاته ضحى من يوم الإثنين 12 من ربيع الأول، من السنة الحادية عشر للهجرة، وعمره عليه الصلاة والسلام 63 سنة.
وشاع خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في المدينة، ونزل كالصاعقة على الصحابة، واشتد عليهم الأمر، وهدد عمر رضي الله عنه، من قال إنه عليه الصلاة والسلام قد مات، وأقسم على أن يقتل من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد مات.
ثم جاء أبو بكر رضي الله عنه، فثبت الله به المسلمين، فلما رأى الناس وما هم فيه من فوضى، لم يلتفت إلى شيء من ذلك، وأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكشف عنه، وقَبَّلَهُ، وقال: “بأبي أنت وأمي، طِبْتَ حيا وميتا يا رسول الله”.
ثم خرج إلى الناس، وخطب خطبته الشهيرة، وقال: “أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقرأ: ”وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ”.
وبدأ الناس في البكاء الشديد على موت النبي صلى الله عليه وسلم. ولم تمر بالأمة مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي.

فلما بُويِعَ أبو بكر الصديق، يوم الثلاثاء – بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيوم، أراد آل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفنوه عليه الصلاة والسلام، فاختلفوا في كيفية تغسيله، هل يُجَرَّد من ملابسه كما يغسل الموتى، أم يغسل وعليه ثيابه. فأصاب كل الذين حضروا تغسيله عليه الصلاة والسلام، وهم آل بيته (علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل وقُثْم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشُقْرَان، مولى النبي صلى الله عليه وسلم)، نعاس فناموا، وسمعوا صوتا، سمعوه كلهم، يقول: “اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه ثيابه”. فلما استيقظوا أخبر بعضهم بعضا بالذي سمعوا، فقاموا إليه صلى الله عليه وسلم، وغسلوه وعليه ملابسه. فكان العباس والفضل وقُثم، يقلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة وشُقران يصبان الماء، وعلي بن أبي طالب يغسل النبي صلى الله عليه وسلم.
لما فرغوا من غسل النبي صلى الله عليه وسلم، كُفِّنَ في ثلاثة أثواب، ثم وُضع على سريره في بيت عائشة، عليه الصلاة والسلام.
ثم أُذِنَ للناس بالدخول على النبي عليه الصلاة والسلام، للصلاة عليه. يصلون عليه فُرادى، لا يؤمهم أحد، وهذا أمر مُجمعٌ عليه.
فلما فرغوا تساءلوا أين يدفنون النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم في البقيع، وقال آخرون عند المنبر، فسألوا أبا بكر الصديق، فقال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يُدفن فيه”.
فحُفِرَ قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه، أزاحوا سريره ثم حفروا في مكانه، في بيت عائشة رضي الله عنها. وكان البيت عبارة عن فِناء وحجرة – الفناء هو الحوش بالدارجة، فدفن النبي صلى الله عليه وسلم في الفناء.
فحفروا قبره، وجعلوا له لَحْدًا عليه الصلاة والسلام. ونزل في قبره شُقران، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وقُثْم بن العباس.
وتم دفن النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة الأربعاء (يوم الثلاثاء ليلا).
وحَزِنَ الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم، حزنا شديدا. قال أنس بن مالك: “ما رأيت يوما قَطُّ أَظْلَمَ ولا أَقبحَ من اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نقول: نُشهد الله سبحانه وتعالى على حُبِّهِ وحب رسوله عليه الصلاة والسلام، وعلى أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

أتمنى أن يجعل هذه الدراسة حجة لنا لا حجة علينا، وأن تكون بداية لنا في القراءة الجادة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

Exit mobile version