كتابات سيد محمد خليل

مجموعة قصصي القصيرة

مجموعة قصص سيد محمد خليل القصيرة.. مجموعة في صفحة واحدة، للإختصار وترك مساحة لما هو أفضل وأكثر فائدة.
تجد فهرست المواضيع في أسفل الصفحة، وهي قابلة للتحديث، مع الإشارة إلى التحديثات في الصفحة الرئيسية.


الزجاجة البغيضة

أخطو خطوة نحو الأمام.. وبسرعة أكبر أخطو خطوة أخرى.. وأخرى.. وأخرى.. وبسرعة أكبر أجري وأجري.. لكني في الحقيقة كنت متسمرا في مكان لا أتحرك قيد أنملة.. عاجز عن التقدم خطوة واحدة نحو الأمام..
أتعجب وأنا لا زلت أجري، كما يخيل إلي، فأتوقف لأستغرب قليلا.. أتذكر طبق السمك المشوي العفن الذي جعلني يوما أتقيأ شهيتي..

مجموعة قصصي القصيرة

تعقد الدهشة لساني.. يمزق صراخ رهيب السكون الذي يلفني منذرا ببلوغ سهم المنية قلب الحياة.. تلك الحياة التي جعلتني يوما عبدا لشهواتها..

أغوص في لزوجة تجذبني نحو القاع.. أتذكر أغنيتي المفضلة.. “إني أغرق.. أغرق.. أغرق”.. يتلاشى المشهد فجأة.. تتغير الصورة ويتغير الإطار.. أهبط كطائرة مروحية قديمة في عالم جديد وغريب..
ضحكاتهن الماجنة ترن في أعماقي متعالية فتزيدني اختناقا.. “كفى.. كفى.. لم أعد أحتمل.. قلبي سينفجر.. توقفن عن الضحك أيتها الفاسدات.. كفى أيتها العاهــ..”..

تتبدل العوالم فجأة، وتختفي الماجنات..
يحيط بي جو ملتهب تشتعل رماله تحت قدمي الحافيتين.. أجر رجليّ بوهن نحو المجهول.. الطيور تمرق من فوقي بسرعة الصواريخ لتذكرني بشبابي المارق.. ليتني كنت مثلها حرا طليقا في هذا الفضاء أو أي فضاء، بلا ذنوب ولا أوهام..

تنسكب عبراتي في فراغات الأحزان.. يعتصرني الندم بقبضة من حديد.. “توقفن عن الضحك.. تبا لكن أيتها الماجنات.. لم أعد أحتمل.. ليتني رميت بكن في غياهب النسيان.. ليتني استغنيت عنكن بالحلال”..

لطالما حجب بريق الشهوات المحرمة جمال الطاعة عني، فلم أتبين طريقي في الظلام..
إنهن يسخرن مني.. اللواتي أحببت من كل قلبي، يسخرن مني..
اللواتي أخذن وقتي وجهدي ومالي وحبي.. يسخرن مني..
كفى.. كفى ضحكا.. تبا لكن لم أعد أحتملكن..

تخيلت يوما أن دوام اللذة المحرمة ممكن.. أن الإستمتاع بها بلا حدود جائز.. تصورت أن الحظوة بهن جميعا أمر ممكن.. لكني لم أعرف أن الضلال ألقى بظلاله على عالمي كان يجذبني نحو الضياع..

مجموعة قصصي القصيرة

العوالم تتبدل أمامي والألوان تتداخل.. إني الآن مقيد إلى صخرة كبيرة مكتوب عليها: “شهواتك المنحرفة”..
لم أمانع عندما احتضنتني الشهوات المحرمة وقبلتني بشفتيها الآثمتين، وهمست في أذني بفحيح مخدر: “أطلق لنفسك الأمارة العنان.. يا حيوان”..

تبدلت العوالم فجأة وتغيرت الألوان.. إني الآن نزيل زنزانة مكتوب عليها: “زنزانة الموت”..
تلك الشائعة التي لم أحسب لها أي حساب..
مهلا، توجد عبارة أخرى.. ماذا؟
“ستنتهي قصتك الماجنة بعد خمس دقائق عندما ينفذ الأكسجين، لذا استخدم قنينة الأمل التي على على الجدار، وتذكر يا حيوان.. أنها لن تمنحك أكثر مما منحتك الحياة”..

حملت القنينة بصعوبة، ووضعتها على ظهري لاهثا، ألقيت بخرطومها في فمي، وشفطت ما فيها من هواء.. ذكرتني رائحتها المريحة بعطر الإستقامة الذي سكبت يوما على أرصفة الشيطان..
لقد أصبح الرحيل قريبا، لكني لن أسمح له بسلبي آخر آمالي.. لن أسمح له بحرماني من التوبة النصوح..
الهواء ينفد بسرعة.. إنني أختنق.. أختنق.. أغرق.. أغرق.. أغرق..

أستنشق محتوى القينة بلهفة.. أغمض عيني في استكانة واستسلام في انتظار معجزة تمنحني فرصة أخرى.. لكن هيهات، إذا حان القضاء ضاق الفضاء، وإذا وقعت يا فصيح فلا تصيح..
انتفضت كالملبوس عندما تنكرت لي أنفاسي..
تراقصت الحياة أمامي ساخرة عابثة متغنجة، وأخرج لي الشيطان لسانه ساخرا، وتعالت ضحكاتهن الماجنة من كل مكان..
تبدين أمامي في منتهى البشاعة، يقهقهن يجنون شامتات..
ما أقبحهن من مخلوقات.. تبا للشيطان الذي كان يزينهن لي..
توقفن عن الضحك أيتها العاهــ.. كفى.. لم أعد أحتمل.. تبا لكن من عجائز دميمات كأمكن الدنيا القذرة..

مجموعة قصصي القصيرة

انتفض جسدي انتفاضة أخيرة.. ثم سكن سكونه الأخيــ…

مهلا.. ماذا أسمع؟ رنين غريب، لكنه مألوف.. آه.. أوه.. إنه المنبه المزعج..
غير معقول.. إنها الخامسة والنصف صباحا موعد صلاة الفجر..
فتحت عيني بذعر.. وسحبت كل ما في الحجرة من أكسجين..
أخيرا وهبتني الحياة قنينة أخرى.. أخيرا أعطتني فرصة أخرى..
لكن، ما الذي تفعله زجاجة الخمر البغيضة بحواري على المنضدة؟

آه.. لقد نسيت.. إنها التي سلبتني عقلي البارحة حتى ضبطت المنبه على موعد صلاة الفجر لأول مرة في حياتي..


الجميلة والكزرة

الكزرة: اسم يطلق عندنا على الحي الشعبي، وأصله من كلمة “اكْزَرْ” العامية (الكاف معقودة)، وتعنى: اغتصب أرضا.. والقصة لعابث مستهتر، فهل تنجح البساطة في إعادته إلى جادة الصواب أم تفشل؟

يقولون ان الفقر يلجم صاحب الفطرة السليمة فيدفعه إلى الإنزواء بعيدا عن الأنظار، ويمنعه من الإعتراض على حاله حتى بالشكوى والكلام، فيجلس القرفصاء تحت عريشه أو خيمته المهترئة، صامتا كأنه غير موجود.. يشبع أحيانا ويجوع أحيانا أخرى، ويسعد ويحزن مثل كل الناس.. وتنهمر دموع القهر من عينيه كلما كبت العوز حاجة ملحة نقلق راحته، فتختلط البساطة بالألم، فيصرعها أو تصرعه..
تراهم في “كَزْرَاتِهِمْ” المتهالكة يصارعون الجوع والعطش والحر والبرد في انتظار الأمل الذي ينتشلهم من ذلك العناء الذي رغم عذابه، يعيشون فيه ببساطة وراحة بال أحيانا، يحسدهم عليها أغنى الأغنياء..

مجموعة قصصي القصيرة

كانت ليلة صيفية مظلمة لم يتوقع أن تهب فيها تلك العاصفة المتبوعة بذلك المطر الغزير الذي أفرح الأرض وما عليها.. خرج من دار أهله في “تفرغ زين” – أرقى أحياء العاصمة، بحثا عما يشبع به نهمه الغريزي، مرددا جملته الشهيرة التي اعتاد ترديدها كلما امتطى سيارته الفارهة: “في مكان ما من هذه العاصمة توجد فتاة جميلة تنتظرني؟”..
كان في الأربعينات من عمره، أمضى شبابه بحثا عن الضحكات الصاخبة واللمسات الشيطانية الماجنة التي تغذي جوع الباحثين عن الحرام، ذلك الجوع الذي لا راحة منه إلا بالتوبة النصوح..
كانت الغيوم تتجمع في السماء لحظة خروجه منذرة بالعاصفة، ورغم ذلك أدار محرك سيارته الفارهة التي اهدته والدته رغم كِبره على الهدايا! وبدأ جولته المعهودة التي تستمر من المغرب حتى ما بعد منتصف الليل..

لم يكن محظوظا في تلك الليلة – إن جاز التعبير، فلم تستجب لمغازلاته الكاذبة الممزوجة بالضحكات المغتصبة والتملق المكشوف أي فتاة.. ومر الوقت سريعا دون أن تنجح محاولاته المتكررة في الإمساك بصيد، فقادته عجلات سيارته على غير هدى، إلى “كَزْرَة” نائية تناثرت أعرشتها على الكثبان الرملية في مشهد عجيب..
أوقف سيارته على حافة الطريق المعبد، وترجل وهو يتمتم: لقد تعبت من هذه الآلة، سأستخدم قدمي في الصيد، على رأي ذلك الصديق الحاسد الذي طالما ضاق ذرعا بها، وردد: “دعنا من هذه البطة، لننزل ونتمشى قليلا.. ذلك أفضل من المظاهر الكاذبة”..

أفرغ عليه ما تبقى من زجاجة عطر ثمين يحمل معه في الحل والترحال، وتقدم متبخترا نحو الكزرة المتراكمة أمامه، كانت الأرض التي يمشي عليها غير سعيدة بخطواته الفرحة المتبخترة التي تتبع خطوات الشيطان.. لاحت له قطع الدومينو التي تشكلت منها الكزرة، كانت أبنية وأكواخ وأعرشة متهالكة متراكبة في مشهد لا يمت للحضارة بصلة.. شق طريقه بينها بصعوبة مضطرا إلى اقتحام بعضها لإنعدام الطريق.. وكان المرور فوق أسرة تتعشى أو تتغدى أمر عادي في تلك الكزرات، حتى وجد نفسه تحت شجرة نائية في ذلك الظلام..

تعالى صوت أذان صلاة العشاء في اللحظة التي أضاء فيها البرق ما حوله.. تأمل الشجرة المنتوفة التي يقف تحتها، فأحس بقشعريرة تسري في بدنه رهبة.. تمتم ذاكرا اسم ربه تحصنا من الشياطين، وهتف في قرارة نفسه: ها أنا ذا كالعادة تائه في مجابات الشهوات بحثا عن التافهات! تذكر المثل الذي يقول: “من تتبع القحاب بات في الشارع”، فتعوذ بربه من الشيطان الرجيم، واستغفر من ذنبه..

دوى الرعد مزلزلا، وبدأت بوادر العاصفة تعبث بما حوله، فأخذته نوبة من تأنيب الضمير، فتمتم: هكذا يتغير الحال فجأة، وفي أي لحظة، بدون مقدمات، فإلى متى أركض في طريق الشيطان الذي لا نهاية له؟!
صاح دون أن يشعر: أقسم أنها آخر مرة..
دعا ربه في تلك اللحظة أن يرزقه التوبة والإستقرار..

هبت العاصفة متحدية ما تحتها، واختلط الحابل بالنابل، فأدار نظره بحثا عن مأوى يفر إليه هربا من قطعة خشب أو قصدير أو سقف أو غصن أو شجرة أو صحن أو إنسان، يسقط على رأسه!

مجموعة قصصي القصيرة

لاح له شبح امرأة تثبت سياج كزرتها المتهالك، فاندفع نحوها بدون وعي.. كانت تصارع الريح العاتية بضعف وإصرار، فسلم عليها، ورمى بنفسه على السياج يساعدها، وانهى المهمة في ثواني معدودة، وأحس لأول مرة بأنه قادر على فعل شيء مفيد ككل الطيبين المعذبين في الأرض..
بدأ المطر ينهمر بغزارة، فأسرعت المرأة إلى داخل الكوخ محتمية به، فهم بالعودة إلى شجرته المنتوفة، فنادته بحياء: ادخل عن البلل.. فأقبل مهرولا، ورمى بنفسه في الكوخ محتميا من المطر الذي بدأ ينصب من أفواه القرب..

تأمل محتويات الكوخ المثير للشفقة، فإذا أثاث متواضع لعبت به الأرضة وقومها، ومن معهم من السنين، وصحون متناثرة حول قِدر متسخ، وثلاث بنات كالبدور يُنرن تلك اللوحة البائسة في مشهد عجيب، أكبرهن في العاشرة من عمرها..

كان الكوخ والسياج إضافة إلى “بنطرة” – دكان قصدير، لا يتجاوز عرضها المترين، كل ما تملك تلك الأسرة الصغيرة في ذلك المكان المجهول..
جلس القرفصاء في وسط الكوخ وهو يبتسم للأعين البريئة التي تتأمله بفضول.. كانت رائحة عطره النفاذة قد طغت على المكان، فأحس بالحرج منها للأول مرة..
شعر بعطف على الصغيرات وعلى صاحبتهن التي اندفعت رغم المطر نحو البنطرة لتعود بمعدات شاي متواضعة لتصنع له كأسا لم يذق مثل حلاوتها من قبل.. تأملها باحثا عن وجهها، فلم يستطع تبين معالمه في ذلك الظلام الذي لم يستطع نور شمعة محتضرة تبديده..
كانت مطرقة طوال الوقت، فسألها: أليس معكن رجل؟ أجابته: لا.
لماذا؟ أجابته الصغيرة: نحن أيتام، أختنا الكبيرة هي التي تعيلنا.. وأشارت إليها!
التفت إليها بإشفاق، وسألها: هل أنت موظفة؟ أجابته بحياء: بل عاطلة، لكن في “البنطرة” خير وبركة.
هتف بحنق: اللعنة على حكومة رئيس الفقراء* وعلى الحكومة التي قبلها، وعلى التي ستليها..
دقق النظر فيها، فوجد نفسه لأول مرة يفكر فيما ينفعه، وهو إحصان نفسه بالزواج..

بدأ المطر في الإنحسار فهب نسيم منعش أعاد إلى الوجوه بشاشتها، وإلى النفوس طمأنينتها.. سألها بفضول: هل أنت متزوجة؟ كان السؤال مباغتا إلى درجة أنها رفعت عينيها فيه لأول مرة، وعندما رآها تأكد من انها صاحبته..

سمع ضحكات خافتة، فالتفت إلى مصدرها، فرأى السعادة تتلألأ على وجوه الصغيرات فرحا باللحظات المبهجة التي تعقب المطر المبارك المنزل من السماء.. ابتسم لهن وعاد ببصره إليها، فأطرقت بحياء..
أعاد عليها السؤال، فهتفت الصغيرة ممازحة: لن تجيبك فهي بلا شخصية!
صاحت فيها: اصمتي أيتها الوقحة!

كان المطر قد توقف تماما، فارتفع صوت الإقامة منذرا بالشروع في صلاة العشاء، هب واقفا وشكر الفتاة على المأوى الذي تكرمت به عليه، ووعدها بالعودة للسلام ومعرفة الأحوال، ثم خطا نحو المسجد ليدرك الصلاة.. كانت نفسه تحدثه بالإستقرار لأول مرة، كانت الغشاوة التي تحجب السماء تنزاح شيئا فشيئا كالغشاوة التي تحجب عن نفسه أهمية الحلال، فبرز البدر من بين الغيوم منيرا الدنيا التي تلفه، وبرز وجهها الجميل في مخيلته منيرا طريق الحياة..

التفت إلى الكزرة، فإذا هي واقفة على مدخلها وقد التف الصغيرات حولها ينظرن إليه برجاء مودعات، بعد أن ارتحن إليه.. كن قد أحببنه من أول وهلة مثلما أحبهن، فلوح لهن بيده وهو يبتسم بإشفاق، وخطا نحو المسجد القصديري الصغير، وقد قرر أن يتجاوز كل العراقيل التي يضع الشيطان في طريقه، وأن لا يفعل بعد الآن إلا الصواب..

* الرئيس الموريتاني الذي كُتبت القصة في زمنه.

 هل تنجح تلك البساطة في إعادته إلى جادة الصواب أم تفشل؟


كوكب الموت

كانت العاصفة المدمرة على وشك الهبوب فانتشرت في الأفق كتل من السحب القاتمة الحبلى بالغبار النووي القاتل.. كان صوت الرعد المزلزل يشق طريقه بين الصواعق التي تضرب الأرض بنيرانها دون تمييز بين المستحق لها من الظلمة، وغيره، كانت الطبيعة المغدورة ترسم لوحتها المرعبة التي اعتادت على رسمها منذ انهيار نظامها على يد الإنسان، الذي كان يدفع ثمن جبروته في ذلك الزمن..

مجموعة قصصي القصيرة

كان ذلك في العام 2221 حيث تحول الكوكب بأكمله إلى جحيم مظلم سادت في أجوائه السحب النووية الكثيفة التي تحجب ضوء الشمس ودفئها.. كان ذلك بعد الحرب النووية التي حولت العالم إلى ركام وخراب.. عالم تتسلل خيوط الشمس الباهتة من بين سحبه النووية لتضفي عليه كآبة لم يشهدها في أي عصر من عصوره السابقة..

اعتاد الناجون من تلك الكارثة على الحياة في ظلام دامس وسط الأوبئة والدمار.. ورغم ذلك لم يعتبر الإنسان الظلوم بذلك، بل زاده الظلام ظلما، وزادته رائحة الدماء دموية..

انقسم الناجون إلى قسمين .. متجبرون يستعينون بمخلفات الحضارة البائدة من أسلحة بالية، في الفتك بغيرهم.. ومستضعفون لا حول لهم ولا قوة، يصطادهم أولئك الجبابرة الطغاة مثل العصافير..
انتشر الظلم بشكل بشع وفظيع، مثبتا أنه قادر على التأقلم مع كل الظروف، وافترس القوي الضعيف.. واندلعت الحروب في كل بقعة من الأرض احتفالا بالدمار، وكانت البدائية سمتها هذه المرة.. عاد الإنسان إلى همجيته الأولى، وأصبحت الأرواح توضع في كفة مع لقمة عيش لا تغني من جوع..

تحركت كومة من الركام في مكان ما من الكوكب البائس، وظهر منفذ يؤدي إلى أحد مخابئ المختبئين تحت الركام.. وانبعث رجلان يجران شابة في مقتبل العمر، ارتسمت على وجهها ألوان الحزن والأسى، فزادته جمالا.. كانت العاصفة النووية في آخر أطوارها.. فتمتم أحدهما في حزن:
– يبدو أن العاصفة اللعينة على وشك الهبوب..
أجابه الآخر:
– كم هو قاتل هذا العالم الرهيب، كأننا في جحيم.. هذه العاصفة المحرقة تتجمع في السماء كل ساعتين لتصب جام غضبها على كل ما على الأرض..

كانت العاصفة في آخر أطوارها فدوى الرعد مزلزلا، وبدأ الهجوم، لكن الثلاثة كانوا ينتظرونه على أحر من الجمر فقد كان الوسيلة الوحيدة إلى خروجهم من مخبأهم دون ملاحظة الآخرين..

جذبا الفتاة المنهكة، وابتعدا عن المكان في خطوات حثيثة.. شقوا طريقهم بين الخرائب والحرائق، وسط وابل من الصواعق غير مبالين بالجحيم الذي يحتضنهم.. هتف الأول في شرود:
– كم هو ظالم الإنسان..
أجابه الثاني:
– إنه السبب في كل ما يجري الآن..
– اللعنة عليه..

كانوا من المستهدفين من طرف الجبابرة الذين وجدوا في الفوضى فرصة للمزيد من الإفساد في الأرض.. كانوا كغيرهم من البؤساء المتخفين تحت الركام خوفا على أرواحهم التي لم تعد تساوي شيئا في ذلك العالم البائس.. وكانت العاصفة الغطاء الوحيد الذي يستطيعون الخروج تحت ستاره دون ملاحظة الأعداء المتربصين..

كانت مهمة الرجلين هي التخلص من الفتاة التي أصيبت بالفيروس الوبائي التي ظهر بعد الحرب، وحصد من الأرواح أكثر مما حصدت.. كان التخلص من المصابين به هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ المختبئين من عدواه.. وكان عمل الرجلين هو التخلص من المصابين، ولكن الأمر اختلف هذه المرة، فالمرأة المصابة كانت زوجة أحدهما، ورفيقة حياته.. وكان عليه أن يقتلها بيده!

مجموعة قصصي القصيرة

بعد أكثر من ساعة من السير الحثيث، وصل الثلاثة إلى مكان الإعدام، فجلس كل واحد منهم على كومة من الحجارة، غير مبالين بالأجواء المحيطة بهم.. وعلى ضوء الصواعق التقت أعين الزوجين الحائرين، في حين كان الآخر يعد إبرته السامة لغرسها في ذراع المرأة الحزينة..

اقترب الزوج المنكوب من زوجته في خطى متثاقلة، وقام بحل وثاقها، ثم أزال الشريط اللاصق عن فمها وهم بمعانقتها إلا أن الخوف من افصابة بالعدوى جعله يتراجع إلى مكانه في حزن، وهو يبكي في حرقة وصمت مزقته الرعود..

ألقت عليه نظرة حب وإشفاق والدموع تملأ عينيها الزائغتين، ثم حولت بصرها بشرود نحو الإبرة التي تلألأت في يد الرجل الثالث، وغمغمت في أسى:
– كأني بالموت يعتصرنا بقبضته..
أجابها الرجل:
– إنه قدرنا.. كوني شجاعة كما عهدناك.. لا مكان للحياة على ظهر هذا الكوكب البائس..
التفتت إلى زوجها وقالت بحسرة:
– كم تمنيت أن أرى ضوء الشمس مرة أخرى..
ألقى عليها نظرة حزينة وقال في خفوت:
– كم أنت محظوظة، ستغادرين هذا العالم البائس إلى غير رجعة، وترتاحين منه..
اقترب الآخر منها وهو يشهر إبرته، وقال:
– تشجعي إنها مجرد لحظات وينتهي كل شيء..
ابتسمت وهي تحصر القميص البالي عن ذراعها، وقالت:
– ما أظلم الإنسان..
هتف حامل الإبرة:
– لقد قتلك وقتلنا ودمر الكوكب كله..
نظرت إلى زوجها الشارد، وقالت:
– كم هو عجيب الموت.. أتذكر، لقد وعدتك بأنه الوحيد القادر على التفريق بيننا..

هب الزوج واقفا، وهتف ملقيا بقناعه بعيدا:
– لن يفرق بيننا بل سيجمعنا مثلما جمعتنا الحياة..

برقت عيناه في الظلام و هو يتقدم نحو زوجته الحبيبة وسط صرخات صديقه المحذرة، الذي صاح فيه قائلا:
– هل فقدت عقلك؟

ابتسم وهو يقول بحسرة:
– نعم.. فقدته منذ فقدت كوكبي وحياتي الطبيعية..

ضم زوجته إلى صدره بحنان، وقال:
– سامحيني على خوفي منك.. كان التمسك بهذه الحياة المعذبة أقوى مني..

هتف صاحبه وهو لا يكاد يصدق عينيه:
– لقد حكمت على نفسك بالموت.. لا شك أن الفيروس الآن يتجول في جسدك..

ازداد تشبثا بجسد زوجته الضئيل وهو يقول:
– الموت! أنظر حولك يا صديقي.. ألا ترى هذا الدخان الكثيف الذي لا ينقشع أبدا.. ألا ترى تلك السحب التي تصعقنا كل ساعتين.. ألا ترى ذلك الفيروس المجهري الذي يفتك بنا في صمت.. ألا ترى تلك الوحوش الآدمية التي تتحين الفرص لاقتناصنا مثل الفئران.. إنه الموت يا صديقي، وفي أبشع صوره، فمرحبا به بين أحضان من نحب..

غمغمت الفتاة في خفوت:
– من المؤسف أننا بشكل أو بآخر ساهمنا في كل هذا..

كان الآخر يراقبهما بأسى فتمتم بحزن:
– أظن أنكما ستتقاسمان ما تحتويه هذه الإبرة السامة.. كم أنا حزين لأجلكما..

أجابته الفتاة وهي تستمد قوتها من عيني زوجها الزائغتين:
– إن كان ولا بد من الموت، فليكن انتقاما لكوكبنا، لا بهذه الإبرة السامة..
هتف زوجها في حماس:
– لم لا.. لم لا نعاقب ذلك المخلوق الهمجي الذي زاد كوكبنا ظلاما على ظلامه..
التفت إلى صاحبه وهو يهتف:
– الموت بين أشلاء أولئك الظلمة خير من الموت تحت ظلال إبرتك السامة.. الوداع يا صديقي، لن تجد بعد اليوم من يساعدك في قتل أولئك الضعاف العاجزين الذين لا حول لهم ولا قوة..

برقت عينا صاحبه في الظلام، وهتف بإصرار وهو ينزع بدوره القناع عن رأسه:
– ولكنك ستجد من يساعدك في قتل أولئك الجبابرة الطغاة..

عانقه صديقه وقال:
– مرحبا بك في فريق الموت..

حمل الثلاثة أسلحتهم المتواضعة واختاروا أقرب طريق يؤدي إلى الظلمة تاركين ورائهم مخبأهم السري ومن فيه من المستضعفين اليائسين.. وكما لو كانت الطبيعة تبارك خطاهم، أضاءت لهم الطريق في ذلك الدمار..
اشتبكت يدا الزوجين العاشقين بقوة، وتسارعت الخطوات، وتلاحقت معها الأنفاس، وهم يقتربون أكثر فأكثر من هدفهم القاتل..


اللحظات الرهيبة

تكاثف الظلام معتصرا الوجود بقبضته، وأشتد البرد حتى عجز المتبقي من جبته البالية عن صد ضرباته.. وارتجف بقوة وهو يسند ظهره المنحني إلى جذع الدوحة العملاقة التي شهدت أيام صباه المولية..

كان المكان عبارة عن جنة خضراء تشرف على قريته الوادعة التي كانت يوما ما تنبض بالحياة، ولم يبق منها سوى أطلال تشهد على بساطتها وجمال الحياة الماضية فيها..

مجموعة قصصي القصيرة

ثبت بصره في السماء فحمله بريق نجومها إلى عالم حبيبته الراحلة منذ أكثر من خمسين عاما..
تشبث بالحشائش التي يجلس عليها، وانفرجت أساريره المتجعدة عن ابتسامة صدئة عندما رآها تقف بجانبه كما اعتادت أن تفعل قبل رحيلها.. ضاحكة يتلألأ وجهها الجميل بفرح اللقاء..
تناول يدها الباردة، وانطلقا يمرحان في المروج كما اعتادا أن يفعلا في صغرهما..

ألقى نظرة على وجهها الصغير الذي احمر خجلا.. تأمل قطرات العرق المنسابة عليه.. ولم يصدق أنه يراها ثانية في نفس المكان والزمان بعد كل تلك السنين!

أغمض عينيه بسعادة، ثم فتحهما ليجد نفسه في مكانه تحت الدوحة في الظلام الدامس..

نعق غراب في أعلاها، فأغمض عينيه هربا من واقعه المرعب الذي يطارده، ثم فتحهما على صوت ضحكتها الرنانة التي ملأت الأرجاء.. قهقه بأعلى صوته وهو يسابقها نحو قمة الهضبة الخضراء بسعادة الأطفال..

تأملت الشمس التي أوشكت على الغروب، وهتفت وهي تهبط نحو القرية الصغيرة القابعة في السهل: “حان وقت العودة”.. لكن، عندما تبعها أول مرة كانت وجهتها أبعد بكثير من الديار..

فتح عينيه كمن أفاق من حلم جميل، فوجد نفسه في الظلام..

مجموعة قصصي القصيرة

بعد رحيلها منذ عقود، لم يعد يحس من الدنيا إلا بهذه اللحظات المتوغلة في الليل والظلام.. تحسس بحنان الدوحة المعمرة التي يجلس تحتها، وابتسم بسعادة عندما داعب أذنيه صوت خطواتها الخافت يقترب منه بهدوء.. ملأ صدره بالنسيم البارد الذي حمل إليه عبقها الزكي، وانفرجت أساريره عن ابتسامة صدئة عندما رأى طيفها الذي تقدم به العمر مثله، يشق طريقه نحوه في الظلام..


مينة

قد تسغتربون أعزائي إذا علمتم بأن هذه الليلة قد تكون الأهم عندي.. كيف لا وهي ليلة زفاف الفتاة التي طالما تمنيت أن تكون من نصيبي.. كيف لا وأنا أحس فيها بسعادة غامرة تنتشلني من الضياع الذي غرقت فيه منذ سمعت بخبر زفافها قبل أيام.. سعادة أعادت إلى وجهي الحزين ابتسامه المفقودة، وأرتني الدنيا بمنظار التفاؤل الأخضر الجميل.. تلك الدنيا التي تضيق على الواحد منا أحيانا رغم سعتها، لتدفعه إلى الخسران بأتفه الأسباب..

مجموعة قصصي القصيرة

بدأت معاناتي بمساء لطيف لا زالت شمسه ساطعة في مخيلتي الصغيرة.. كنت أتسكع في الحي الصغير الذي أقطنه عندما مرت بجانبي.. أجمل فتاة رأيتها في حياتي، وأكثرهن تواضعا وبشاشة..
وعلى مدى الأشهر التي تلت ذلك اللقاء القصير، كنت أقبع في ركن منزوي من ذلك الشارع الفسيح لأراها من بعيد، فكانت تمر دون أن تلحظ وجودي..
لم تكن لدي الجرأة على مصارحتها، فكانت تمر بثبات، يتقدمها جمالها الأخاذ، وتكللها الهيبة بتاج من وقار.. وكنت أختلس النظر إليها وأنا أتقطع حسرة على بعدها عني.. لكن رؤيتها كانت تكفيني.. كانت تحول عالمي الكئيب إلى جنة من الأماني والأحلام، وكان أشد ما يخيفني هو أن تتحول يوما إلى ظلام..

كنت أقف في ذلك الركن الساعات الطويلة منتظرا مرورها.. وكان الغد السعيد المشرق الذي رسمت لنهاية قصتي الجميلة، يقترب كلما وقعت عيني عليها، ويبتعد أكثر فأكثر كلما مرت دون أن تلحظ وجودي، حتى جاء اليوم الذي سبقني إليها فيه أغنى فتيان الحي، وأكثرهم  وسامة ولعبا بذيله.. كنت أعرفه، أو بالأحرى أعرف سيارته الفارهة التي التي تزيد أمثالي حسرة وكآبة..

مينة.. اسم ذا رنة، كقطعة نقدية تترنح على صخور ملساء، كلما تردد صداه في أعماقي دفعني إلى الإنزواء بعيدا في ذلك المكان منتظرا قدومها.. حتى جاء اليوم الذي أقعدني فيه الوهن عن الخروج، فأصبحت طريح الفراش..

مر أسبوع قبل أن أتحامل على نفسي قاصدا الركن المنزوي، متواريا عن الأنظار كعادتي في انتظار مرورها، لكنها لم تمر.. علمت فيما بعد أنها قد خُطبت لفتى الأحلام والسيارات الفارهة المغيظ، وأن فرحها عليه بعد أيام، فعدت طريح الفراش..
وظل الحب ينتفض في داخلي كمارد يريد فك قيوده، واقتحام الأخطار للفوز بحبيبته، وبات العجز يكبح جماحه، ويصفعه على القفا حتى رضخ واستكان..

وفي يوم العرس البهيج.. وعلى غير المتوقع، أحسست بنشاط زائد وحيوية، فنفضت عني غبار العجز والوهن، ولبست أفضل ثيابي، وصببت عليّ زجاجة العطر الرخيص لا أملك غيرها، وخرجت قاصدا قاعة الحفلات التي طالما كانت هدفا كلما ضربني الجوع والملل..
وفي الطريق الموحش المظلم، أحسست بضآلة المساحة التي أحتلها من هذه الدنيا.. وأدركت أن الحب معين لا ينضب مهما اقترفنا منه، وأن الغباء كل الغباء هو حبس النفس في ركن منزوي من شارع الحياة الفسيح الذي يسع الجميع..

كنت كالعصفور الذي تحرر من قفصه أخيرا.. أحسست بسعادة غامرة وأنا أدلف إلى قاعة العرس المزينة بالأنوار والوجوه الضاحكة المبتهجة.. ما أجمل الحلال، يسعد الناس به بعكس الحرام الذي يغيظهم ويغيط صاحبه، ويحزنهم..
نظرت إلى الحضور بعين الواثق من نفسه – على غير عادتي، ورأيتها.. كانت مبتهجة بليلتها الجميلة.. رائعة كعادتها.. ابتسمت لها فردت بأجمل ابتسامة.. وهذه المرة لم أزح عيني عن وجهها المنير.. أحسست وأنا أدقق النظر فيه أنني لم أره إلا ليلتها..

جذبتني يد لينة إلى حلبة الرقص.. كانت إحدى الجميلات الساخرات اللواتي يستمتعن باللعب بأمثالي من الخراف.. قلت لنفسي: حسنا، لم لا ألعب بها مثلما تلعب بي، لم لا أسخر منها مثلما تسخر مني..
وبدون وعي انطلقت أرقص كالفرخ المذبوح محطما كل ما حولي من أواني وكؤوس، حتى اضطر القائمون على الحفل إلى إخراجي من القاعة غير مأسوف علي..

إذا مرت بجانبك فرصة، سواء للزواج أو التعلم أو الربح أو العمل، فاقفز عليها، شد وثاقها بيديك وأسنانك، فقد لا ترجع ثانية.. وابدأ مشاريعك كلها، وأولها المشروع الديني، لا بد منه فهو الأهم، بالزواج، لا تؤخره، ولا تتردد فيه، ولا تعجز حتى إن كنت أفقر الناس، فهو الخيط الأول للنجاح الحقيقي إذا صاحبته التقوى، ويسهل مرافقتها له إن كنت سليم القلب، فأغلق ذلك المنفذ على الشيطان لتستريح، وأخلص لمن معك لترتاح.. وعش حياتك بهدف واحد، وهو دخول الجنة وستدخل جنة الدنيا قبلها..


أمرييم

من قصصي.. قصة حقيقية روتها لي صاحبتها، دارت أحداثها في المقاطعة الخامسة بنواكشوط، في ستينات القرن الماضي، يمكن وصفها بأنها قصة رعب واقعية، أسردها لكم مثلما سردتها لي..

عرفتها طفلا صغيرا يركض في أزقة الحياة بحثا عن سعادة الأطفال.. كانت في أواخر العقد الثالث من عمرها.. نحيلة الجسم تتراقص على محياها شواهد الفطنة والذكاء، يغلب جمالها الروحي على جمالها الخَلقي.. لا شغل لها غير لعب الورق مع صويحباتها اللواتي يتقاسمن معها هواية قتل الوقت في ذلك الزمن الجميل..
كان أهم ما يميزها بالنسبة لنا نحن الأطفال، عاطفتها الجياشة تجاهنا، والتي طالما حولتها إلى صديقة كبيرة لنا..

مجموعة قصصي القصيرة

كنا أيامها نقطن في المقاطعة الخامسة من العاصمة نواكشوط في ثمانينات القرن المنصرم.. كانت العاصمة تأسيا بالكثير من أخواتها الإفريقيات تحتفل بعقدها الثالث.. وما أدراك ما المقاطعة الخامسة أيامها.. كانت لؤلؤة براقة تسطع أنوارها في مخيلاتنا لتملأها بهجة وسعادة..
كانت منازلها الصغيرة المتراصة كالطوب، و شجيراتها المتناثرة، تلهم إبداعنا الوليد، فكنا نرسم على شوارعها الضيقة أجمل لوحات البراءة.. وكان صدى ضحكاتنا البريئة يسابقنا بين تلك الأزقة الضيقة عندما نندفع بحثا عن السعادة التي تلعب معنا مثلما نلعب معها.. كانت البسمة تسكن شفاهنا لا تغادرها..
كانت العاصمة أيامها تصارع مسحة البداوة المجاورة لها.. وكانت رغم بساطتها، نقية الأجواء والتربة، يغلب على أهلها الصدق و الكرم.. كانت صغيرة إلى أبعد الحدود.. ولعل من عاش تلك الحقبة يستغرب اليوم، وهو يدخل القرن الواحد والعشرين مع الداخلين! من اتساعها وتضاعف عدد سكانها، واتساخ طرقها وسواد تربتها وأهلها، وقتامة أجوائها..

كانت “امْرَيِّيمَ” – تصغير كلمة مريم، في تلك الأيام تودع شبابها المنصرم، شأنها في ذلك شأن كل امرأة يرغمها الزمن على التخلي عن أغلى كنوزها.. كانت كما عرفتها.. محبة للحياة.. لا يكدر صفوها إلا الأمر الجلل العظيم.. أما اليوم فهي أقرب إلى الرزانة والحكمة منها إلى اللهو والاندفاع، ولعلها خلصت بعد طول تجربة إلى أن دوام الحال من المحال، وأن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.. أو أقعدها الضعف عن ذلك..

ها هي ذي اليوم تحكي لي بعد كل تلك السنين قصتها المكتومة.. ها هي ذي تخصني بحكايتها الغريبة التي وددت لو أنها حكتها لي صغيرا حتى يكون لصداها أكبر أثر في أعماقي..
كنا في غرفة من غرف المنزل الجديد البعيد عن المقاطعة الخامسة، تتقاذفنا أمواج الحديث من جزيرة إلى جزيرة، ومن صحراء إلى صحراء.. أنا.. ذلك الطفل البريء الذي أصبح في الأربعينات.. وهي.. تلك الشابة المتفجرة حيوية التي أصبحت عجوزا..
ما أغرب الحياة، وما أسرع تبدل أحوالها العجيبة.. إنها تجعل الواحد منا مخزنا للتجارب والأسرار التي قد لا يرى النور منها إلا القليل..

وبعد طول إبحار تحت أشرعة الثرثرة والحكايات الفرعية، طرحتنا الأمواج على شاطئ “الذين لا نسميهم” – اسم الجن عندنا، قلت لها بعفوية:
– إنهم موجودون.. لقد أكد القرآن وجودهم في أكثر من سورة.. ورسولنا الكريم أرسل إليهم مثلما أرسل إلينا..
أجابتني بهدوء:
– لقد رأيتهم بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود..
قلت لها وقد عقدت الدهشة لساني:
– رأيتِهم؟!
قالت وهي تطلق زفرة عميقة استحضرت بها ماضيها السحيق:
– كان ذلك في الستينات.. كنت أيامها فتاة يافعة في مقتبل العمر، أتميز عن صويحباتي بدراجتي الصغيرة وكرة قدم ألعب بهما! وكانتا من ألعاب الصبيان، لكني كنت مهووسة بهما.. فجعلني ذلك أقرب إليهم من البنات اللواتي لم تكن لي منهن إلا صديقة واحدة..

كنا أيامها نقطن في الجانب الغربي من حي “مدينة 3″، الجانب الذي يلي مجموعة المزارع التي تسمى “لحرايث”.. وكانت حدود العاصمة أيامها تقف عند ذلك الحد غربا.. وكل ما يسمى اليوم بالمقاطعة الخامسة كان مجرد فيافي تملؤها الأشجار والأوساخ.. والأشباح..
وكنا ونحن أطفال نتجاوز المزارع غربا إلى ذلك الخلاء بحثا عن مكان رحب يصلح للعب الممتع الجميل..
وكانت رحلتنا تنطلق من الصباح فلا نرجع إلا بحلول المساء.. وكان بالقرب من المكان الذي نلعب فيه، موضعا ترمى فيه نفايات العاصمة.. وكان محاطا بشجيرات من أشجار السواك المميزة النادرة التي تنظف الفم وتسعد ماضغها بعبقها الرائع، والتي لم تعد موجودة اليوم إلا في عمق الصحراء..
وأذكر أني أصبت يوما – على غير عادتي، بإرهاق شديد، فنمت تحت شجرة من تلك الشجيرات، ولم استيقظ إلا الرابعة عصرا..

كان يوما غائظا.. فتركني الأطفال البلهاء في ذلك المكان الموحش المقفر، دون أن ينتبهوا، وعادوا أدراجهم يجرون أذيال السذاجة، بدوني.. ..
وعندما استيقظت كانت تجلس عند رأسي واضعة يدي بين يديها الباردتين..

مجموعة قصصي القصيرة

سألتها باستغراب:
– ما الذي أتى بك إلى هنا؟
أجابت:
– جئت أبحث عنك..
استغربت.. ولكن براءة الأطفال أقنعتني بقبول الأمر دون اعتراض.. ولعلي اليوم ممتنة لتلك البراءة التي لولاها لربما حدث لعقلي شيء..

سألتها مستغربا:
– أكنتِ تعرفينها؟!
أجابت بحيرة حاولت التماس مبرر لها فلم أجده:
– اعتقد أنها جاءتني في صورة صديقتي الوحيدة التي ذكرت لك.. كان لها نفس إبتسامتها الجميلة.. ولكن ثبت فيما بعد، بعد أن تأصرت أواصر الصداقة بيننا.. أنها كانت أشد جمالا منها، وأنصع بياضا.. كان شعرها الطويل الحالك يتجاوز ركبتيها لدرجة أنها كانت تغطيني به كلما حملتني إغفاءة على أجنحة الضياع.. وكانت براءة الطفولة تقنعني بأن كل ذلك عادي.. فكنت أقبل به على ذلك الأساس..

وفي ذلك اليوم.. أخبرتني أنها تريد صداقتي، و أن بإمكانها أن تعلمني الكثير من الأسرار.. فبإمكاني رؤية كل ما أتمنى رؤيته، وفعل كل ما أريد فعله.. لكن بشرط أن أعطيها إبهام يدي اليمنى..
رفضت بشدة، فطلبت إبهام اليسرى.. فازددت رفضا، فطلبت إبهام رجلي اليمنى ثم اليسرى، كل ذلك وأنا متشبثة بالرفض تشبث الغريق بالمقشة.. وبعد أن يئست من ذلك طلبت أن أعطيها أول مولود لي.. ويا للغرابة.. أن يتخلى الواحد عن بكره من أجل ربح زائل من ربح الدنيا، لكن بعض الساحرات يفعلن ذلك..
أحمد ربي على أني رفضت ذلك العرض رغم عدم فهمي لمرادها حينها.. فقالت لي بعد طول جدال.. أعطني إذن سورة الفاتحة.. رددت ورائها باستغراب: سورة الفاتحة؟! قالت نعم.. قلت بعد تفكير قصير.. خذيها فأنا لا أستخدمها.. كنت أريد بفضول الأطفال أن أصل معها إلى اتفاق أطلع من خلاله على قدراتها المزعومة.. ولعل قلة عقلي حينها كانت سببا في تركي للفاتحة.. وهو ما دفعت ثمنه غاليا حتى مرحلة متقدمة من عمري..

قاطعتها قائلا :
– الم تلاحظي أن كل ما طلبت منك كان له علاقة بإفساد دينك؟ ذلك بالضبط ما يريده الشيطان من الإنسان.. يعطيه القليل ويسلبه الكثير، ثم يضره بعد ذلك في ماله وولده وبدنه، فلا يجد أي راحة فيما أعطاه..

تزاحمت في نفسي خواطر كثيرة تمحورت حول أسباب تلك الأذية القديمة.. تذكرت عداوة الشيطان لأبينا آدم.. وخطر ببالي أن كل شيطان منهم ينجح في إفشال إنسان، يحصل على شيء بالمقابل.. شيء يجعله أكثر حرصا على إغواء الإنسان، فتذكرت أن الشيطان يقرب من مجلسه كل قوي منهم على بني آدم.. ربما تكون تلك الحظوة هي الثمن، وربما يكون شيئا آخر، وربما يكونون مجبورين كما في حالة السحر، أو يكون ذلك طبع فيهم، فهم في الأول والأخير شياطين..

قطعت علي أفكاري بقولها:
– نعم.. لقد صارحتني في ذلك اليوم بأنها كافرة.. بل حذرتني من ذكر ربي أمامها.. وأخبرتني بأن قراءة البسملة تجبرهم على الإنصراف..

خطر ببالي أن في مجتمعهم شبه بمجتمعنا.. فهذه تحدثت مع صاحبتنا بلغتها، وجاءتها بهيأتها، وهو ما يدل على وجود العقل، وبالتالي التكليف.. بل طلبت صداقتها.. ربما ببراءة من يريد الصداقة لوجهها.. ولكن لحتمية الأذية التي فُطرت عليها، كان لابد لها من أذيتها في دينها، وربما في بدنها وعقلها بعد ذلك غن استمرت معها، فالشر غالب على طباعها..
تساءلت في نفسي: لماذا أصرت على إفساد دينها بالتحديد؟.. فتمثل لي الجواب جليا:
لأنها شيطانة..

هتفت قائلا :
– الكفرة منهم هم الشياطين.. وهذه مهما بلغت صداقتها معك، كانت أحرص على الإضرار بك من نفعك..
قالت موافقة:
– نعم.. ذلك ما تبين بعدها.. فقد لبثت حتى منتصف الثمانينات عاجزة عن قراءة الفاتحة كاملة بعد أن علمتني تلك الكلمات التي رافقتني حتى عهد قريب.. ولك أن تتصور مدى صحة الصلاة بدون الفاتحة؟!

مضت لحظات من الصمت حاولت استيعاب قولها خلالها.. أما هي فأطرقت برأسها ثم رفعته قائلة:
– في ذلك اليوم أعطتني ثلاثة أعواد، زعمت أن رميها يجعلني أطلع على الكثير من الأسرار.. وأذكر أني رميت أحدها فوجدت في نفسي قدرة هائلة على رؤية أشياء لم أرها من قبل.. وعلمتني “لكزانة” – ضرب الرمل الذي يستخدم فيه الودع.. فتحولت إلى طفلة خارقة يتحاشاها الجميع حتى المقربون منها!

تملكتني رغبة شديدة في سؤالها عن كنه الكلمات التي علمتها، لكني لاحظت من ايجازها واختصارها، أنها لا ترغب في الحديث عنها، فتركتها في عالم الغموض الذي تصارع من أجل الخروج منه..
استطردت قائلة وهي تنفث دخان سيجارتها:
– هكذا بدأت صداقتنا .. كنت آتيها صباحا فأجلس معها تحت تلك الشجرة حتى المساء.. نتحدث في كل شيء، حتى أحاديث البالغين! و لن أنسى ذلك النوع الدافئ من الأغطية الذي كانت تغطيني به كلما غلبني النوم عندها..

مجموعة قصصي القصيرة

كانت الطفولة تهون عليّ تلك الصداقة الغريبة المرعبة.. وكنت إذا رجعت من عندها بعد الزوال أتجه إلى شجرتي الثانية، وهي شجرة من نفس فصيلة الأولى، تقع على بعد أمتار من المنزل، يفصلها عنه شارع ضيق مهجور نادرا ما يسلكه المارة..
والعجيب أن الأوساخ كانت تلقى حولها مثل صاحبتها.. كنت اتخذتها مكانا للعب، ومسكنا في بعض الأحيان، أبيت فيه على أنغام عبث الهواء اللطيف بالأغصان الرقيقة.. وكنت قد صنعت في أحد جذوعها “مرجحة” أسبح بها في الهواء كلما أردت الإنشراح.. وكنت أتسلقها في كل يوم لأشرف منها على المزارع الجميلة المحيطة بنا.. ولكني لم أكن أبدا بمفردي فيها.. أو هكذا كان يخيل إلي..
وأذكر أن بدايتي مع التدخين كانت بسبب عقب سجارة رمى به أحد المارة في ذلك الشارع المهجور.. كنت يومها على أحد أغصان الشجرة، فدفعتني قوة خفية إلى النزول والتقاط بقية أنفاسه المؤذية، ولم أكتف منه حتى أجبرني الملل على رميه وهو على حاله، لم ينقص منه شيئا، فكانت بداية تعلقي بالتدخين..
وأذكر أني التقيت بعد ذلك بسنين برجل صالح – من التصوفة الذين يغلب عليهم السحر في الحقيقة، في الجزء الجنوبي من سوق العاصمة، وكان أيامها ساحة كبيرة تملؤها الأشجار المتشابكة الظليلة التي يلجأ إليها الناس فرارا من الحر للقيلولة.. فجئته وهو يصلي تحت غصن من الأغصان، بدا أنه ينحنى إجلالا له.. فجلست قريبا منه حتى انهى صلاته.. فسلمت عليه، فرد السلام، فأستحييت من إخباره بعادة التدخين القبيحة.. فاطرق برأسه وقال : أنت ابنة كرام، ولكنهم السبب.. اعلمي أن خلاصك منها مستحيل، لكن اطمئني، فلن تضرك..
كنت أحمل ملحفة اشتريتها للتو من السوق، فأعطيتها له على سبيل الإمتنان، فرفض أخذها، فودعته ومضيت في سبيلي..

كان حديثها غريبا.. ولعل ما زادني حرصا على سماعه هو ثقتي في وجود الكثير من الأشياء التي لا تدركها عقولنا في هذا العالم الصغير الذي يحيط بنا، ويوهمنا أحيانا بأنه كل شيء، حتى قد ينسى أكثرنا العالم الحقيقي الذي نتظره، عالم الجنة أو النار!
سألتها بفضول :
– وماذا عن صديقتك الإنسية التي جاءتك في صورتها؟
أجابت ضاحكة:
– كان خوفها مني بعد ذلك يثير ضحكي.. فقد أصبح الجميع يعرفون أن لي علاقة ب”الذين لا نسميهم”.. فلم يتجرأ أحد على الاقتراب مني إلا شخصين، الأول منهما والدي الذي كان سببا في شفائي.. والثاني طفل صغير واتته الشجاعة على عدم الفرار مني كالآخرين، بل كان أثناء مرضي، يؤجر دراجتي للأطفال حتى جمع لي من ذلك مبلغا معتبرا اشتريت به كرة قدم جديدة!
أضحكني ذلك الجزء الصغير من قصتها، ربما يكون أهم فيها.. من يدري.. صحيح أن في داخل كل منا طفل يتمنى في أعماقه إخراجه من سجنه ليلعب مع الأطفال السعداء..
قلت لها :
– وكيف كان مرضك..
أجابت:
– اخبرني والدي بعدما شفيت.. أنه عندما لاحظ ما اعتراني، كان يقرأ الرقية على الماء، ثم يضع منه شيئا في شرابي وطعامي، ويصب البقية في جذع الشجرة التي أمام المنزل، حتى جاء اليوم الذي كنت فيه عندها في الخلاء، فأحسست بأن قطعة مني تقتلع، وكانت آخر مرة أراها فيها..

عدت إلى المنزل متكدرة الخاطر لأجد أن الشجرة التي أمامه قد تم اقتلاعها من جذورها.. فرميت بنفسي على الأرض الطينية المبللة دون وعي.. وأمضيت أسبوعا في ذلك المكان أقتات على ما يرسل إلي من طعام، دون إحساس بما حولي.. ووالدي يعمل طوال تلك الفترة على شفائي..
وفي اليوم الثامن نهضت وأنا مستغربة من وجودي في ذلك المكان.. وكان أول ما سألت عنه هو دراجتي الصغيرة وكرتي، فأخبروني أن صديقي العزيز يؤجرها للأطفال من أجلي..

أخبرني والدي بعد ذلك أن علي شكر ربي لأن صاحبتي كانت من كفارهم، وإلا لكان الخلاص منها أصعب، فتذكرت إخبارها لي بأنهم يخافون من البسملة، وينصرفون عند ذكرها..

سألتها عن مصير صاحبتها، فأجابت:
– لقد تم حرقها..
قلت مستغربا :
– ماتت؟!
قالت:
– لا أدري.. أخبروني فقط بأنها خرجت من عالمي إلى غير رجعة! وهو ما تحقق بالفعل، ولكني رأيت أخاها بعد ذلك..
قلت متعجبا:
– أخاها؟!
أجابت:
– نعم.. كانت قد عرفتني عليه مرة تحت الشجرة، ورأيته بعدها مرتين.. الأولى في عام 1974 عندما مر بجانبي، ولم يكلمني.. والثانية في عام 1985 عندما جاءني في صورة شاب وسيم، كان ذلك في ليلة مقمرة تسلل ضوء قمرها إلى البيت من نافذة مشرفة على الطريق.. فلم أحس به إلا وهو جالس عند رأسي، فعقدت الدهشة لساني.. فعرفني على نفسه، وذكرني بأخته، وطلبني للزواج! وعندما رفضت اختفى فجأة كأن الأرض انشقت وابتلعته..
وأمضيت ثلاثة أيام محمومة، وفي اليوم الرابع زارنا أحد المشايخ الصالحين، فأخبرته بالقصة، فأكد لي أني لن ألتقي بهم بعدها، وفعل ما فعل ليكون ذلك آخر لقاء بهم..

أما نسياني لأجزاء من الفاتحة، والذي كان لا يحدث إلا عندما أقوم إلى الصلاة، فقد أخبرني بأن شفائي منه يتطلب أن أقرأ نفس الكلمات التي علمتني تحت شجرة من نفس الفصيلة التي التقينا تحتها.. فمرت سنون أخرى قبل أن أتمكن من العثور على واحدة مثلها، فقد كبرت العاصمة وانتشر البناء، وانقرضت تلك الأشجار مما اضطرني إلى الخروج إلى أعماق الصحراء لأجدها بعد أن كانت أقرب إلينا من بيوتنا..
وبعد أن رددت تحتها تلك الكلمات، شعرت بحمل ثقيل ينزاح من على صدري، ولم أخطئ بعدها في قراءة الفاتحة..

تأملتها بدهشة.. عجيبة هي قصتها إن صدقت فيها.. ففيها دليل على وجودهم، وعلى تأثير القرآن عليهم.. ألقيت نظرة ساهمة على وجهها الصغير الذي عركته السنون.. أيعقل أن تستغل عجوز مثلها آذاني الصاغية لتصب فيها خرافة من محض الخيال.. استبعد ذلك، وإن كان كل شيء ممكن..

رحمها الله وغفر لها، فربما كانت تجربة سحر أخرى، وحفظنا وحفظ المسلمين من كل شر، ووفقنا لما يحب ويرضاه.. القصة إهداء لكل أطفال المقاطعة الخامسة حينها، والذين أصبحوا كهولا الآن، وأصبح منهم نوابغ، وضاع أكثرهم في الزحام..


التقرير

لا يزال الإنسان يصر على استكشاف الفضاء.. فهل يا ترى حسب حسابا للمجهول الذي قد ينتظره في أعماقه؟

في عام 2200 م وبعد أن اكتملت التجهيزات اللازمة انطلقت أول مركبة تحط على المريخ نحو هدفها البعيد.. انطلقت وعلى متنها ثمانية علماء أكفاء.. كان ذلك الغزو الثاني للفضاء بعد سقوط القمر تحت عجلة العلم في سلسلة الإشباع اللانهائي للفضول البشري البغيض.. كانت العملية ناجحة بكل المعايير.. تابعها علماء المركز الأرضي بفخر، وصفقوا عند كل مرحلة من مراحلها مغتبطين بالنجاح الكبير.. لم يبق إلا القليل ويعرف الإنسان حقيقة ذلك الكوكب القاتم المجهول..

مجموعة قصصي القصيرة

وداخل المركز الأرضي…

– سيدي الرئيس لقد انقطع الاتصال بالمركبة بمجرد دخولها إلى فضاء الكوكب!

غمغم المدير بتوتر:

– كيف حدث ذلك؟

– يبدو أن في أجواء الكوكب شيء ما تسبب في انقطاع الإتصال..

اسقط في يد الأرضيين وتركزت آمالهم في عودة المركبة سالمة بعد اليومين المقررين لها بالتقرير الذي سيجيب على جميع تساؤلاتهم العلمية..

الساعة 12:00 بعد منتصف الليل..
بعد مرور يومين على انطلاق المركبة رصدت الأقمار الصناعية ذلك الانفجار الصامت الذي حدث في أعماق الفضاء.. وقبله بثواني قليلة وصل التقرير إلى الأرض على شكل رسالة ضوئية، وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد من الحضور..
أثار الانفجار في أعماقهم الكثير من التساؤلات.. كانوا ينتظرون عودة المركبة سالمة بعد اليومين المقررين لها ليكملوا تصفيقاتهم الحارة للنجاح العلمي الباهر، ولكن نجري الريح بما لا تشتهي المركبات الفضائية..

أحاطوا بالتقرير بلهفة وبدءوا في قراءته..

الساعة 3:00 صباحا..
بمجرد دخولنا إلى فضاء الكوكب انقطع الاتصال بيننا وبين مركز الإتصال، ولم ندر ما السبب .. كان ذلك أول لغز يواجهنا، لكن كان أمامنا متسع من الوقت لدراسته والتغلب عليه.. كنا في منتهى السعادة والغبطة بالنجاح، ونحن نتأمل أجواء المريخ وجباله الحمراء الساحرة التي استقبلتنا ببراءة الأطفال السعداء..

الساعة 4:00 صباحا..
حطت المركبة على سطح الكوكب الأحمر.. كانت فرحتنا لا توصف.. لم يكن يفصلنا عن أرضية الكوكب الغريبة إلا بضع خطوات.. تناولنا إفطارنا بعجالة بفضل نظام التهوية الذي أمدنا بالأكسجين.. وكنا في منتهى الشوق إلى ملامسة الأرضية والإستكشاف، فلم نجد لما أكلنا وشربنا طعما أو رائحة..

الساعة 5:00 صباحا..
فتحنا باب المركبة ونزلنا واحدا تلو الآخر بعد أن أخفى كل منا رأسه داخل قناع أكسجيني سميك يقي من الإشعاع.. اكتشفنا عالما جديدا وغريبا.. صخور عجيبة.. وفضاء ملون.. وأرضية مثيرة مشينا عليها باعتزاز.. كنا في قمة السعادة بالكشف الجديد..

الساعة 8:00 صباحا..
عدنا إلى المركبة بعد جولة استطلاعية قصيرة.. أغلقنا الباب خلفنا فبدأ النظام بمعادلة الضغط.. كان علينا الانتظار قليلا قبل نزع أقنعتنا.. كنت أرى السعادة تطل من أعين الرفاق خلف الأقنعة الزجاجية فرحا بذلك الإنجاز..

الساعة 8:10 صباحا..
دوى الصفير مؤذنا بإمكانية انتزاع الأقنعة الواقية.. وكنت آخر من يحاول نزع قناعه، فرأيت زملائي يتساقطون أمامي مثل الذباب، فأدركت أن القناع هو الذي يحميني مما أصابهم..
اقتربت من جثث المتناثرة.. قلبتها الواحدة تلو الأخرى وأنا لا أصدق نفسي.. المساكين.. ماتوا في لحظة.. لقد كان الموت يتربص بهم على ظهر هذا الكوكب بعيدا عن الديار.. لم يتخيل أحد منهم أنه سيسلبه أغلى ما لديهم في لحظات..

الساعة 10:00 صباحا..
عرفت أني أواجهه خطرا مبهما لم نضعه في الحسبان.. نوع من الحياة الدقيقة لم نطرح إمكانية حدوثه في غير بيئتنا المحدودة.. خطر جلبناه معنا من فضاء الكوكب إلى داخل المركبة.. قاتل مجهري ربما يكون سبقنا إلى هذا المكان بآلاف السنين..

الساعة 11:00 صباحا..
بما أنني في مهمة استكشافية للكوكب فهي فرصة للتعرف على ساكنه الخفي القاتل.. وبما أن المركبة مجهزة بما يلزم لذلك فسأشرع في العمل فورا..

الساعة 11:30 صباحا..
بدأت في التعرف على المخلوق الصغير، ودراسة الفرق بينه وبين المخلوقات المجهرية التي عندنا.. ملأت قارورة من الهواء الملوث، وقمت بتحليلها.. وكانت النتائج مذهلة، فهذا الشيء يتكاثر بطريقة لم أر أسرع منها حتى أن القارورة التي بين يدي الآن تكفي لوحدها، وفي ظرف ساعات معدودة في تلويث كوكب الأرض بأكمله..

الساعة 12:00 ظهرا..
احتمال عودتي إلى الأرض سالما معدوم.. فإن عدت بالمركبة كان ذلك حكما عليكم وعلى من عليها بالإعدام، وإن أنا بقيت على سطح هذا الكوكب لن يطول بقائي لأن كمية الأكسجين المخزنة في بدلتي غير كافية لأكثر من يومين، إضافة إلى استحالة نزع القناع..

الساعة 2:00 بعد الظهر..
كانت نهايتي تلوح لي بيدها في كل الإحتمالات، فقررت الاستعانة بأسلحة المركبة التي أعددناها لمواجهة فضائية محتملة، من أجل تدميرها.. ولكي تدركوا ما حدث يجب أن يصلكم التقرير.. ولكن المشكلة تكمن في انقطاع الإتصال بيني وبينكم.. شيء ما في فضاء هذا الكوكب يحول دون ذلك، ويجب الخروج منه ليصلكم التقرير..
قمت بتفعيل القنابل لتنفجر بمجرد خروج المركبة من فضاء الكوكب مباشرة.. وقبل الانفجار بثواني سيصلكم التقرير لتعرفوا الحقيقة..

الساعة 3:00 صباحا..
جلست أنتظر لحظة الإقلاع المبرمجة بعد يومين.. كانت نهايتي حتمية.. تذكرت إفطاري الأخير على ظهر الكوكب وسط هتافات الأصدقاء السعيدة وضحكاتهم.. تذكرت عالمي الصغير الذي تركت خلفي.. تذكرت فتاة أحلامي التي أضعت فرصة الزواج بها بالتردد والكبرياء.. تذكرت النبوغ الذي خطف مني الوقت والسعادة والعمر.. تذكرت ذنوبي التي كان أحرى بي التركيز على محوها بالتوبة النصوح..
استحضرت نهايتي في هذا الفضاء.. كم هي عجيبة هذه الحياة.. وقصيرة.. حقا من عاش لغير الجنة فهو الخاسر..

بدأ العطش يسخر من حلقي.. وبدأت قتامة أجواء الكوكب تتكاثف إنذارا بدخول ليله لتذكرني بالضياع..
سأخرج لأتمشى قليلا.. فربما ينسيني هذا الجمال الصامت والقاتل، ما ينتظرني..


قطار الموت

سادت كآبة ثقيلة على أجواء غرفة فاخرة ضمت عددا من وجهاء المدينة وكبارها، أحاطوا بتوقير بجسد منهك ممد على سرير من الأبنوس، كان صاحبه في آخر معاركه مع الحياة.. يهذي بين الفينة والأخرى بكلمات حاولوا فهم مغزاها دون جدوى..
ووسط العيون الذاهلة المترقبة التي أصبح أصحابها يرون في الموت أملا أخيرا، توغلت به الغيبوبة في عالمه القديم.. أحاط به ضباب كثيف تبين فيه قطار حياته المندفع على شريط متآكل من الذكريات، مطلقا صفير الفرح بالحياة..
وضع يده على جبينه ودقق النظر، فرآها من بعيد.. “نهايته” التي أصبحت قريبة أكثر مما توقع..

مجموعة قصصي القصيرة

عاش بواكير حياته فقيرا لا يملك من حطام الدنيا إلا جسده الفتي، فصارع البرد والجوع والهوان من أجل الفوز بمباهج الحياة، وقهر الصعوبات، وكدس الذهب والفضة والدور.. غش وخان وغدر، من أجل الثروة المقدسة، فجاءته الأخيرة تجري محتمية من طلابها المنافسين، فاحتضنها بقوة، وقاتل دونها قتال الفرسان، وهزم جبابرة الدرهم والدينار، وظن أنه قد فاز في معركة الحياة..
ثم جاء اليوم الذي حولته فيه الشيخوخة إلى كومة من التجاعيد، وخنقته بثقلها، مذكرة بالزوال، وأن دوام الحال من المحال.. فكر في ضيق القبر وسعة ما بعده في النعيم الخالد أو العذاب، واكتشف أنه لم يكن سوى أحد المسافرين إلى الدار التي لم يحسب لها أي حساب.. وها قد اقترب القطار من محطته الأخيرة، المحطة التي تؤدي إليها، وأصبح توقفه عندها قدرا لا مفر منه..

زاغ بصره في أرجاء الغرفة الواسعة المزينة بأغلى الأثاث، وتحركت شفتاه ببطء ووهن.. فامتدت الأعناق بفضول لسماع ما يقول، فاصطدمت بأنفاسه المنقطعة التي فقد زمام السيطرة عليها..
كان قطار حياته الذي مر بألف محطة ومحطة، وحقق ألف رغبة ورغبة، وعاش ألف ليلة حمراء وليلة، يخفف من سرعته استعدادا للتوقف الأخير..
وبخفوت خرجت من بين شفتيه المرتجفتين كلمة ذل وتواضع، بذل كل ما في وسعه لنطقها.. كلمة قاتل قتاله الأخير من أجل إخراجها.. ثم سكن جسده المتعب الذي طالما تحرك، سكونه الأخير.


صنم الولي

اشتهر برد الضالة والإخبار بالغيبيات وشفاء المرضى والمجانين.. كان شيخا جليلا معظما لا يمنع الناس من السجود له إلا السجود لرب العالمين.. أبيض اللحية كثها، وقورا مهابا، له ابن في ريعان الشباب، اعتاد تتبع خطاه نحو مسجد القرية الصغير، وإطالة السجود خلفه على حصيره البالي الذي ترك علامة على جبهته.. أحبه الناس مثلما أحبوا أبيه، واطلقوا عليه “ابن الشيخ المبارك”..

مجموعة قصصي القصيرة

وفي اليوم الموعود، جاء الأجل بدون استئذان.. وغادر الشيخ الدنيا إلى غير رجعة حاملا معه أوزاره، فحزن عليه أهل القرية خاصة أصحاب الهموم التي كان يفرج بصلاحه وولايته.. لكن كان أشد الناس حزنا عليه إبنه البار التقي الذي ألح على أمه في السؤال مرددا:

– أماه، أيتها الشيخة المباركة.. أريد أن أصبح مثل أبي.. أريد أن يعظمني الناس مثلما كانوا يعظمونه..

زجرته قائلة:

– دع عنك الأوهام يا ولدي وانتبه لدراستك فهي الأهم..

أجابها بعناد:

– لن أستريح إلا بعد تحقيق ما حققه المرحوم من عظمة ومهابة بين الناس..

تأملته بعد أيام، فبهرها بريق الإصرار الذي يشع من عينيه، وهو يهتف: “لن أستريح قبل أن أصبح شيخا مثله يا أماه”..

مجموعة قصصي القصيرة

أخذت بيده وجرته نحو غرفة مظلمة في قبو تحت الأرض لا تهوية فيها ولا معالم، كان الولي يتخذها مكانا لإعتكافه المستور..

فتحت دولابا وأخرجت منه تابوتا قذرا عليه سلاسل وأقفال متسخة..

فتحت القفل الأول ثم الثاني ثم الثالث والرابع.. وهو يتوقع أن تخرج له مصباح علاء الدين الذي يحوله فجأة إلى شيخ مطاع..

وانفتح التابوت أخيرا، فإذا بصنم أسود قبيح المنظر منتن الرائحة..

تأملت الأم دهشة صغيرها بإشفاق، وتمتمت بألم وهي تشيح ببصرها بعيدا:

– إذا أردت أن تصبح مثل أبيك، شيخا مبجلا ووليا مطاعا، فعليك بالسجود لهذا الصنم أولا..


طريق الجنون

في ظلمات اليأس يسطع في داخل الواحد منا شعاع من الأمل تغذيه غريزة البقاء والتغلب على العقبات، قد يكون كافيا في النجاة من الضياع.. وبالعزيمة والمواظبة على الصالح والخيرات يشق الواحد طريقه في ضوء ذلك الأمل بين الأشواك، غير عابئ بالظلام الذي يحاول ابتلاعه.. الدنيا دار ابتلاء نكدة لا ينبغي للمؤمن أن يعطيها أكبر من قدرها، فذلك هو أصل جميع المشاكل..

لم تكن المرة الأولى التي يجلس فيها منفردا تحت تلك الشجرة العملاقة التي تقع على بعد أمتار قليلة من منزله الصغير.. فقد اعتاد على الجلوس تحتها، وألفها منذ شهور كما ألف الجميع مناجاته الغريبة لها..

كان الظلام حالك السواد في تلك الليلة.. والجو ينذر بالإنفجار في أية لحظة.. كانت العاصفة الرعدية تتجمع لتقصف القرية الصغيرة القابعة تحتها.. وكان ضوء البرق يضرب بين الفينة والأخرى شاغلا حيزا أكبر من السماء.. أما صوت الرعد المدوي فكان يتصاعد منذرا بكمية من المطر تكفي لإغراق الطرقات..

مجموعة قصصي القصيرة

ورغم الجو المتكهرب المشحون.. جلس في مكانه مسندا ظهره إلى جذع الشجرة غير مبال بما يحيط به..
ساد الهدوء منذرا ببدء العاصفة، فغمغم بخفوت مخاطبا الشجرة التي يستند إليها:

– كم أحب العاصفة.. كم أعشق الهدوء الذي يبشر بها.. إنه يضمن لي على الأقل أن لا أحد من أولئك الفضوليين سيمر ليسخر مني..

دوى صوت الرعد المزلزل في تلك اللحظة، فابتسم ابتسامة شيخ تذكر إحدى ذكرياته الطريفة، وتمتم:

– كم كنت جبانا عندما كنت أخشى صوت الرعد الجميل..

لاح له شبح من المنزل، اقترب منه في خطوات حذرة.. كانت الأم التي طلبت منه والدموع تملأ عينيها أن يدخل إلى المنزل عن العاصفة.. لكن شيئا غريبا كان يجبره على التسمر في مكانه، والتشبث بجذع الشجرة، فصاح بأعلى صوته:

– دعوني.. دعوني وشأني..

اضطرت المسكينة إلى الإنسحاب تجر أذيال الخيبة والحسرة على ابنها الوحيد الذي يبتلعه الجنون أمامها..
كان الوحيد بين كوكبة من البنات، لم يكن أوفر حظ منه في الحياة..
كان رب الأسرة قبل رحيله يصارع لأجل أسرته الصغيرة.. ورغم الضعف وقلة الحيلة، كان أبي النفس قنوعا، فربى أبنائه على المُثل والمبادئ الراقية التي لم تعد تؤتي أكلها في حُكم اللئام..

أفاق من خياله على صوت انفجار آخر، فتمتم:

– ما أقسى الحياة.. ولكن قسوتها على كرام النفوس لا تطاق..

لم يفلح في تكديس الشهادات مثل الكثير من المنافقين، ولم يكن له سند ولا معين يأخذ بيده.. فلم يستطع حمل عبء الأسرة بعد رحيل والده المسكين..

مجموعة قصصي القصيرة

انهمر المطر في تلك اللحظات بغزارة فكان لوقع حبيباته على الأرض المتعطشة، صوتا كقرع الطبول..
نظر بحنان إلى الشجرة التي لم تفلح في حمايته من البلل، وغمغم:

– اطمئني.. لن أحملك فوق طاقتك مثلما فعلت الحياة معي..

طالبته الحياة بما لا طاقة له به.. طالبته بدفع كرامته ثمنا لزيفها البراق.. طالبته بقتل ضميره بتجاوز أسوار الحرام العالية.. طالبته ببيع دينه في سبيل لقمة عيش مشؤومة..

تردد في أعماقه صدى كلمات والدته الناصحة وهي تقول:

– ضح يا ولدي من أجل أخواتك الضعيفات فلا أحد لهن غيرك..

انحدرت دمعة ساخنة على خده، وهو يتذكر ما أجابها به:

– لن أبيع أخلاقي بكنوز الأرض كلها.. لن أذبح ضميري من أجل أحد..

انهمرت الدموع من عينيه لتختلط بمياه المطر المتدفقة، وازداد إطراقا وهو يردد:

– كان علي التضحية من أجلهن..

تردد في داخله صدى ضحكة أصغرهن وهي تهتف ممازحة:

– كنت أظن أنني الأكثر شرودا من بينكم، لكنك لا تبارى في هذا المجال يا أخي..

ارتجف من البرد الشديد المرافق للمطر، وابتسم قائلا:

– المسكينة.. أين هي الآن؟

هتف بمرارة:

– كم هي قاسية الحياة، وكم هو خبيث ذلك الإنسان الأناني الظالم الذي لا يشبع من شيء..

كان في تلك اللحظات يحس بصفاء في التفكير لم يعهده منذ أن بدأ التوغل في طريق الضياع، فتمتم مناجيا شجرته:

– الشر هو الغالب على هذه الدنيا، لكن على الواحد منا أن يلتمس طريقه فيها متمسكا بالخير تجنبا للوقوع في الهاوية، وأن لا يساوم أبدا على مبادئه وأخلاقه ودينه مهما كلحت الحياة في وجهه، ومهما كان الثمن، فما هي إلا أيام وتنقضي، ثم تعقبها الجنة، دار السعادة والراحة من كل عناء..

هب واقفا كمن استفاق من كابوس.. نظر حوله بدهشة، وهتف:

– هل أخاطب شجرة!!

نظر بإستغراب إلى السماء التي بدأت تصفو مثل ذهنه، وغمغم:

– هل أنا مجنون؟

نظر برعب إلى الثياب البالية التي غسل المطر على جسده كأنه يراها أول مرة.. يا إلهي، هل يعقل هذا؟ نظر إلى منزله الصغير القابع أمامه، وابتسم وهو يهرول نحوه:

– ترى كيف حالهن الآن؟

استدار نحو شجرته قبل أن يدلف إلى الداخل، وهمس:

– كم هو عجيب امتحان هذه الحياة.. لكني سأتقبله كما هو.. لن أتأثر بالعواصف والغرور.. سأعمل بكل تقوى وقناعة، ولن أستسلم أبدا لظروف الشيطان..

خطا إلى الداخل بخطوات ثابتة وسط دهشة أفراد الأسرة المتفاجئين.. لكن الإبتسامة الصافية التي رسم على وجهه وهو يتأمل فرحتهم به، ذكرتهم بأيام صفائه القديمة، فهبوا لإستقباله كما لو كان عائدا من سفر طويل، وهم لا يصدقون أنه في كامل قواه العقلية..


شارع الأحبة

إنها الخامسة مساء..
لم تعد تفصلني عنك أيتها الحبيبة إلا دقائق معدودة..
لافتات “شارع الأحبة” تلوح من بعيد، كهرولة بدورها نحوي..
إنها تخطف الأبصار متوهجة بالحب، سعيدة باللقاء..

مجموعة قصصي القصيرة

أخيرا وافقتِ على اللقاء..
أخيرا سنجتمع..
كم اشتاق إلى تلك اللحظة..
أخيرا أعبر آخر شارع يحول بيني وبينك..
أخيرا سنلتقي..
أخيرا ســ…

ما هذه الضجة؟
ما الذي حدث؟
أين أنا؟
لماذا حل الظلام بهذه السرعة؟
ما الذي يهمس به هؤلاء؟

لقد صدمته السيا…
المسكين ينزف…
يجب نقله إلى المستشفــــ…

ماذا؟
لماذا توارى ضوء النهار؟
لماذا تراخى الإحساس؟
أين أنا؟

بل أين أنتِ..
أين أنت أيتهــــ…. الحبيبــــ…؟
أين أنتِ… أيتها الآيات الحبيبــة؟
كم أحتاجك الآن..
ليتني ما تركتك يوما..
ليتني ما اتبعت السراب..
خذي بيدي وأنيري لي الطريق.. وأعدك..
أعدك بأن يكون حبك هو أساس كل شيء في الحياة..


الأسطورة

شق طريقه بين حقول الزيتون يقتلع قدميه من ذلك الوحل المعاند بصعوبة، ففاجأته بالقفز أمامه، وبادرته بالسؤال:
ـ أنت بطل المقاومة؟ أليس كذلك؟
رد في ارتباك:
ـ من؟
قلت بحماس واندفاع:
ـ البطل المنقذ الذي لا يهاب الموت..

مجموعة قصصي القصيرة

تأملني في فتور، وغمغم:
ـ دعني وشأني..
قلت بلهفة:
ـ ولكنك البطل الذي أرعب اليهود الجبناء..
أشاح بوجهه بعيدا وغمغم:
ـ أنا مجرد خيال أنهكته السنون.. الرجل الذي تتحدث عنه أجهزت عليه الفُرقة التي دبت فينا.. إنه.. إنه..
أغلق فمه وهو يرتجف كعصفور عبث به البرد في يوم مطير، فقلت مخففا:
ـ هون عليك، الفرج قادم لا محالة..
غمغم بصوت مبحوح:
ـ نعم.. ربنا على كل شيء قدير..
قلت:
ـ أريد أن أسمع منك القصة..
غمغم:
ـ أية قصة؟
ـ قصة المقاومة.. قصة الإتحاد.. قصة البطولة.. قصتك..

ألقى علي نظرة زائغة منهكة، فهتفت محاولا إخراج ما في جعبته من أسرار:
ـ كم كنا أعزاء يوم كنا أمة كالجسد الواحد.. حقا إن القوة في الجماعة، لهذا سمانا سلفنا أهل السنة والجماعة، السنة خوفا علينا من البدع السخيفة التي يعبد البعض من خلالها الشيطان، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.. والجماعة لنكون كالجسد الواحد، يسهر كل طرف منه على الطرف الآخر، فلا نؤكل مثلما أُكل الثور الأبيض..
تهللت أساريره عن ابتسامة صدئة وهو يستحضر مغامراته القديمة.. وردد بلهفة:
ـ كانت أياما لا تنسى..

داعبتني قشعريرة خفية وأن أرى أساريره تنفرج وعقدة لسانه تنحل.. تتهلل وجهه وهو يجاول استخراج أصداف النصر المتلألئة من أعماقه الدفينة..

كان على مقربة خربة من الخرائب، فجذبته إليها.. كانت الشمس على وشك التوديع فألقت بظلالها الناعسة على الحقول الخضراء الذهبية..
وصلنا الخربة.. كان الظلام قد شرع في إضفاء ستاره على الدنيا، فقلت مبتسما:
ـ دعنا نتحدث في هذا المكان المخيف.. أريد سماع قصتك كاملة فقد عانيت الكثير في سبيل الوصول إليك.. أريد أن معرفة سبب إطلاق لقب الأسطورة عليك؟
خيل إلي أن شبح ابتسامة يرقص فرحا على شفتيه المتقلصتين، وتمتم:
ـ كنا نقاتل في سبيل النصرين، النصر أو الشهادة..

دخل المكان بثقة العارف به.. كان منزلا خربا دكته الحرب والسنون.. قادني إلى بقايا حجرة جُهزت لتكون مأوى مناسبا للمتشردين من أمثاله.. أخرج عود ثقاب من جيبه ومرره على الحائط قبل أن يمسح به فتيل شمعة متهالكة أوشكت على الاندثار، فانبعث حية وهي تصارع تيار الهواء البارد الذي يجعلني أحس أن في الغرفة أقوام غيرنا..
أدركت أنني جذبته إلى عشه، فهتفت محاولا تبديد وحشة المكان:
ـ لا يمكنك تخيل المشقة التي تكبدتها في سبيل العثور عليك أيها البطل..
ازداد صمتا حتى خلته حجرا من بقية المكان، فقلت محاولا إطلاق لسانه:
ـ ما كان ينبغي لك أن تتوارى عن الناس..
ازداد غوصا في صمته الرهيب، فأردفت:
ـ إنهم يتهمونك بالجنون..
ألقى علي نظرة شاردة دون أن ينبس ببنت شفة.. كان واضحا أن ما يبعث فيه الروح هو الحديث عن المقاومة وحده، فهتفت:
ـ كيف انتصرتم وأنتم بلا عتاد أو معين.. تخلى عنكم الجميع؟
أجابني بحماس:
ـ طلبنا الجنة ففر من أمامنا طلاب الدنيا..

داعبت سحنة من الطمأنينة وجهه وهو يواصل حديثه بسعادة، قائلا:
ـ وقفنا وقفة رجل واحد في وجه اليهود فتلاشى جبروتهم في لحظات.. توكلنا على ربنا فانتصرنا عليهم بأقل الأشياء.. الجبناء.
ابتسمت ابتسامة طفل أطربته حكاية جدته، فواصل قائلا:
ـ أرغمناهم على الانسحاب، وعلى احترام وجودنا وحقنا في أرضنا بقوة العزيمة والإيمان..

سرح بي الخيال في أيام النصر التي لم تدم طويلا، فتذكرت انتصارهم على قلتهم، على جيش الإحتلال المدعوم من كل دول العالم، حتى الإسلامي منها!
بددت الحقيقة المرة أحلامي فجأة، فتمتمت متحسرا:
ـ متى عرف الضعف والوهن طريقه إليكم؟
شخص ببصره في الفراغ حتى خيل إلي أنه يستغيث به، وردد كالحالم:
ـ يوم عميت بصائرنا فأعمت أبصارنا..

قلت بحسرة:
ـ تقصد يوم أطاح الخلاف بكم..
هز رأسه موافقا..
كنت أعلم أن له قصة مع الشقاق مثلنا جميعا، والذي قد يكون بتدبير اليهود أنفسهم، فهمست وأنا أحاول عدم نقض جرحه القديم:
ـ وماذا عن صغيرتك؟
انحدرت دمعة ساخنة على خده، وغمغم في مرارة:
ـ لم أتوقع أن تأتي الضربة القاصمة من إخوتي..

مجموعة قصصي القصيرة

ألقيت عليه نظرة مشفقة وأنا أستجدي الكلام، فغمغم:
ـ كانت الصغيرة جميلة وسعيدة.. كانت مبتهجة بالحياة مثل كل الأطفال السعداء.. لكن، فجأة دوى ذلك الانفجار، فتلاشت الأحلام، وتلاشت معها الآمال..
أحسست بغصة وأنا أحاول التخفيف عنه:
ـ هل كان أحد صواريخ الملاعين اليهود..
غمغم بمرارة وهو يهز رأسه نفيا:
ـ بل كان أحد صواريخنا نحن!
خيل إلي أنه يبكي في صمت، فقلت مواسيا:
ـ لا تفقد الأمل يا رجل..
تجلت الهمة على وجهه الحزين وهو يعتصر الهواء بقبضته رافعا عينيه الملبدتين بالغيوم نحوي، قائلا:
ـ المهم هو المسجد الأقصى، لا يجب أن نسمح بضياعه ثانية..
قلت مشجعا:
ـ لا تحمل هما، الحق سنتصر في الأخير..
ابتسم ابتسامة طفل حصل أخيرا على مبتغاه.. كان النعاس يداعب جفنيه بعد يوم شاق من الضياع، فتمدد على لوح خشبي مغطى ببعض أوراق الجرائد المهترئة، وغمغم:
ـ علينا نصر ربنا أولا لكي ينصرنا.. علينا الإبتعاد عن البدع والإختلاف..

استسلم للنوم كطفل صغير مثلما استسلم قبله للضياع..
ألقيت عليه نظرة مودعة وأنا أغادر المكان في صمت..
عما قريب سيصبح نسيا منسيا مثل كل شيء..

مجموعة قصصي القصيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button
error: Content is protected !!