اللاعب الصغير
كان في التاسعة من عمره، أسود اللون يحاكي ظلمة الليل، نحيل العود، دقيق العظم يميل إلى دمامة تخفي ورائها الكثير من صفاء الروح.. وكنت شابا عاطلا عن العمل في ذلك الزمن، محب للخير والناس..
كان ما يميزني تهافت الضعفاء والمنبوذين علي.. كأنهم كانوا يجدون في الأمل الذي يعيد إليهم ثقتهم وبسمتهم المفقودة.. وكنت أتندر مفتخرا بأني صديق المستضعفين والمجانين..
أحببت كرة القدم منذ الصغر، وتميزت فيها، ورغم ذلك كانت الهزائم التي أكره فيها، تلاحقني بسبب التفاف الضعفاء من عديمي الخبرة حولي.. لكن الفرحة بالإنتصار الذي أحققه معهم على المتباهين، كانت على ندرتها تُنسينا ذلك العناء..
كانت نظرة الإستخفاف التي أرى في الأعين تجاههم تولد في أعماقي الرغبة في المنافسة بهم، الفوز معهم على من يحتقرهم، لإثبات أنهم ليسوا أقل منه في شيء، أو ربما لإثبات قدرتي على تحدي الأقوياء بهم..
لكن ضعف مستوى الحارس منهم تارة، وسهولة تجاوز المدافع المفتوح تارة، وانعدام ذكاء المهاجم الغبي تارة أخرى، كان يضطرني في كثير من الأحيان إلى الكثير من الصراخ فيهم مؤنبا، طاردا مرة، راميا بالحجارة مرة أخرى، وأذهب ذلك جميلي عند أكثرهم..
وكان ذلك يُضحك الخصوم، لكن المباريات كانت ممتعة، تضمنت الكثير من الفنيات والتحديات..
كان أول لقاء لي به في الملعب الأولمبي، رأيته واقفا بمعزل منفردا لا يتجرؤ على طلب الإنضمام إلى أي فريق مثلما يفعل بقية الصبية والمراهقين.. رث الثياب متسخها، بائس القسمات، فناديته ليحرس المرمى رغم صغره، ففرح بذلك النداء وأبلى بلاء حسنا كأنه في قتال..
بعد نهاية المباراة أخبرت الجميع بأني سأجلب الكرة في الغد من أجل ماتش آخر.. ووجدته في الغد حاضرا في الإنتظار.. وهذه المرة حاول الإقتراب مني بخجل، تلعثم بكلمات مترددة لم أتبين أكثرها فأحسست وأنا أدقق النظر فيه أنه من الفصيلة المنبوذة التي تميل إلى مصادقتي. والحقيقة أني لم أعره اهتماما فقد كنت منشغلا بالكرة التي بين قدميّ أكثر منه، وكان يحاول بين الحين والآخر الهجوم بهمة لا تخفي رغم إمكانياته المحدودة مثبتا بإخلاص أنه عنصر أساسي في الفريق..
كان يلف فخذه برباط فسألته عن سبب ذلك، فأخبرني بأنه يقلد أحد اللاعبين المشهورين..
في الحقيقة استحيت من أن يرتبط مثله بمثلي، أنا الشاب المودع لشبابه الذي لم يعد يمارس الرياضة إلا للرياضة، هربا من الجلوس في الدار..
لو عرفته في الصغر لأوليته من العناية ما أوليت أمثاله.. مثل ذلك الأبكم الصغير الذي كنت أفرض على الآخرين فرضا رغم تذمرهم من مستواه المتدني في كرة القدم وغيرها.. كان يلعب كالدابة.. وكان يضحكنا بتقليده للنساء عندما يلبس ملحفة ويتزين خارجا إلى جروب “حي ك” – الثمانينات، محاولا إغواء المارة..
كان ذكيا لا يعيبه إلا العجز عن الكلام.. تعرفت عليه في المقاطعة الخامسة في أوائل الثمانينات، واستمر في زيارتنا حتى عندما انتقلنا إلى بو حديدة الجميلة ثم إلى حي ك في أواخر الثمانينات..
عمدت مرة إلى فحم، ودهنت به حواجبه وشاربه ولحيته وهو نائم، فاستيقظ بوجه غير وجهه، وأخذنا في الضحك عليه وهو ينظر إلينا بحيرة متبسما لا يدري ما سبب ضحكنا واستغرابنا..
المسكين ليتني أقدر على إسعاده وإسعاد كل من عرفت في ذلك الزمن الجميل..
أو ذلك الصديق الآخر النحيل الذي كان الآخرون يرونه مجنونا، أو مشوش الأفكار بمعنى أصح.. كنت أقربهم إليه، ربما لأني صادقته بإخلاص ولم أسخر منه يوما مثلهم..
خرجت معه مرة في سيارتي المتواضعة التي أهداني الوالد في أواخر بدايات 2000، ولعلها كانت أكثر سيارة شهرة في العاصمة حينها.. كانت سيارتنا نحن الشباب، نتسكع بها بين الأحياء في مغامرات طواها النسيان..
خرجنا بها يوما فوجدنا فتاتين، فطلبت إحداهما منه أن يشتري لها سجائر، وكانت تطمع في علبة، فعاد من الدكان وهو يحمل ثلاث سجائر، وناولها إياها، فصاحت فيه: هذا يعني الطلاق بثلاث؟
فرجعنا نضحك عليه حتى الصباح..
ناهيك عن ضعفاء المستوى في كرة القدم الذين ابتليت بالهزيمة بسببهم، مع أني لا استحقها، فانا لاعب مميز بشهادة الجميع – وهذا ليس تفاخرا أو تعاليا على المغترين بمستوياتهم منكم..
رغم الهزائم كنا عندما ننتصر بجهودنا نستمتع بقهر الخبراء.. صحيح أن مستوى أصحابي كان يثير غضبي، لكن ذلك كان طبيعيا فمن يقدر على الصبر على مثل ذلك؟
لكني رغم كل ذلك كنت متشبثا بهم أكثر مما هم متشبثون بي.. ربما لخلافاتي الجوهرية مع الخبراء، أو للمنافسة، لا أعلم.
كان الفوز يمثل فرحة لي ولهم تذكرهم بأن لهم الحق أيضا في الفوز والفرح مثل الآخرين..
أوشكت الشمس على المغيب فقررنا وضع حد لذلك اللعب على أمل اللقاء في الغد، فتفرق اللاعبون في كل اتجاه كأن لم يجمعهم ملعب ولا منزل.. لكن المسكين انتظرني حتى جمعت حوائجي، ليرافقني على استحياء..
تأملت هيئته الرثة، وفي كلماته الخجولة التي بالكاد تخرج من فمه، والتي كانت تخفي وراءها ثقة متضعضعة في النفس والحياة.. رثيت له، وحاولت تشجيعه بمحادثته ليسترجع بعض ثقته المسلوبة، فذكرني بتلك الفصيلة من أصدقائي القدماء.. الفصيلة التي تستحق الشفقة بدل اللعنات التي كنت أصبها عليها في الملعب..
كان حديثه إذعانا دون شروط، وكانت نظراته الزائغة تبحث عن مكان آمن لتستقر فيه..
قلت له لقد أبليت بلاء حسنا في المباراة، فتراقصت السعادة على محياه، ونصحني بأن أذهب بكرتي المثقوبة إلى مصلح يصلحها لي بدل رميها مثلما رمته الحياة..
وعند مفترق الطرق كان أحد أصدقائي ينتظرني من أجل مرافقتي، فخفف من سرعته ليتركنا على راحتنا ربما بسبب الخجل، أو بسبب إطالتي للسكوت على أمل أن يودعنا ويذهب في حاله..
تبعني باستحياء دون أن ينبس ببنت شفة حتى وصلت إلى صاحبي.. عندها خرج ثلاثة أطفال متشردين من العدم يحمل كل واحد منهم إناء متسخا يضع فيه ما يتفضل به عليه الآخرون من الصدقات، أقبلوا عليه وأخذوه معهم بعيدا في متاهات الحياة حيث المباراة الحقيقية التي يلعبها الجميع، كل في الملعب المفروض عليه..