اللحظات الرهيبة
تكاثف الظلام معتصرا بقبضته الوجود، واشتد البرد حتى عجزت بقايا جبته البالية عن صد ضرباته المتتالية. ارتجف بقوة، مسندًا ظهره المنحني إلى جذع الدوحة العملاقة التي شهدت أيام صباه المولية.
كان المكان ذات يوم جنة خضراء، تطل على قريته الوادعة التي كانت تنبض بالحياة، ولم يبق منها سوى أطلال باهتة، تشهد على بساطتها وجمال أيامها الخالية، وتحكي قصص سعادة منسية.
ثبت بصره في السماء، فحمله بريق نجومها إلى عالم حبيبته التي رحلت منذ خمسين سنة.
تشبث بالحشائش التي يجلس عليها كأنه يستعد للطيران إلى عالم آخر، وانفرجت أساريره المتجعدة عن ابتسامة باهتة عندما خُيِّل إليه أنها تقف بجانبه كما اعتادت قبل رحيلها.
كانت ضاحكة، يتلألأ وجهها الجميل بفرح اللقاء.
تناول يدها الباردة، وانطلقا يمرحان في المروج كما كانا يفعلان في صغرهما.
ألقى نظرة على وجهها الصغير المتورد خجلاً، وتأمل قطرات العرق المنسابة عليه برقة. لم يصدق أنه يراها مرة أخرى، في نفس المكان، بعد كل تلك السنين.
أغمض عينيه مستسلمًا لسعادة غامرة جرفته إلى عالمه المنسي. وحين فتحهما، وجد نفسه تحت الدوحة محاطا بالظلام.
نعق غراب في الأعلى، فأغمض عينيه محاولًا الفرار من واقعه الرهيب. وفتحهما على صوت ضحكتها الرنانة، تتردد في الأرجاء كأنها لحن أعاد الحياة إلى المكان.
قهقه بأعلى صوته، وهو يسابقها نحو قمة الهضبة بسعادة الأطفال كعادتهما.
توقفت عند القمة، تأملت الشمس التي أوشكت على الغروب، ثم هتفت، وهي تهبط نحو القرية الصغيرة القابعة في السهل الذي يفترش الأرض أمامهما:
“حان وقت العودة إلى الديار”.
حين تبعها أول مرة، كانت وجهتها أبعد بكثير من الديار.
فتح عينيه كمن أفاق من حلم جميل، فوجد نفسه محاطًا بالظلام.
بعد رحيلها منذ خمسة عقود، لم يعد يحس من الدنيا إلا بهذه اللحظات الموغلة في الظلام التي تعيد له الحياة. تحسس جذع الدوحة المعمرة التي شهدت حبهما بحنان، وابتسم بهدوء عندما داعب أذنيه صوت خطواتها الخافتة تقترب.
ملأ صدره بالنسيم البارد الذي حمل إليه عبيرها الزكي، وانفرجت أساريره عن ابتسامة خافتة وهو يرى طيفها الذي تقدم في العمر مثله، يشق طريقه نحو في الظلام.