ملخصات إسلامية

حقيقة الديمقراطية وحقوقها الملعونة (المجموع)

حقيقة الديمقراطية وحقوقها الملعونة من تلخيص وترتيب سيد محمد خليل.. المجموع وافي يعرفك بهذا البلاء الذي اغتر به أكثر الناس في هذا الزمن، دين الشيطان الجديد المسمى بالديمقراطية..


مقدمة

“سيكون من الصعب عليك قول الحق إذا كنت مستفيدا من الباطل”. وهذا هو حال السياسيين الديمقراطيين والحقوقيين بالضبط في هذا الزمن.
يعرفون أن الديمقراطية كذبة، وأن أهلها العلوج بلاء وشر مستطير ورائه اليهود الذين يستعبدونهم، لكن فيهم من يرمي بنفسه في أحضانهم لأجل المصلحة الأنانية التي لا وزن عنده فيها للغير وإن كان كتاب ربه، ولو دفع دينه وعرضه وبلده ثمنا لذلك.
ألا يمكن للديمقراطية أن تكون مخالفة للشرع ولسنة الحياة؟
ألا تعد الدكتاتورية – التسلط أو التغلب، سمه ما شئت – سنة من سنن الحياة المبنية على وجود غالب ومغلوب، قاهر ومقهور، ظالم ومظلوم نتيجة للإبتلاء الذي يهدف لتمحيص الناس؟ ومن سلم من الشر فعليه حمد ربه لأن المنجي منه هو الله وحده سبحانه وتعالى، والشر موجود وهو اكثر في زمن هذه الديمقراطية وأهلها المجرمين.
ألا ترى أن فساد المتغلب وصبر المغلوب عليه، خير من التشيطن الديمقراطي الذي يهدف لسيطرة الكفار على دول المسلمين وإبتزازهم لمن يحكمها بذريعة لامشاركة والسماح بالمظاهرات إلخ، تقاسم أموال المسلمين معه إن كان فاسقا، وقد يفضل الفسق والكفار على بعض الأغبياء الذين يؤمنون بالديمقراطية والإنقلاب عليه؟ وهو الواقع.
أليس الأهم هو العمل بالتقوى، واليأس من صلاح الناس والدنيا عموما، لأنها دار متكدرة، دار ابتلاء لا استقامة لحال فيها؟ دار تسكنها الشياطين!
ما الذي يرجوه الديمقراطي الباحث عن مشاركة الجميع – كما يزعم – في الثروة والحكم؟
ما الذي يبحث عنه الإخواني والداعشي من محاولتهم جعل الدنيا خلافة إسلامية، جنة على الأرض؟ وهيهات.
نحن بشر، لسنا ملائكة، بل لا يرقى أكثرنا، وأولهم دعاة الديمقراطية في الغرب وفي كل مكان، إلى مستوى البشر؟!
ألسنا مسؤولين عن أنفسنا ورعيتنا الصغيرة التي لا تتجاوز حدود بيوتنا الصغيرة؟!
أين محل الديمقراطية من إعراب هذه الحياة الصعبة ومنطقها الأعوج؟
هل يمكن تطبيقها على أرض الواقع؟ وأين تم ذلك (لا تقل لي أمريكا، اللعنة على من يحكمها من الشياطين، فهي أكبر دكتاتورية ومجرمة في العالم).
أليست الديمقراطية وهما كاذبا كالسراب، بل السراب أصدق منه لأنه يُرى على الأقل.
ألا ترى مخالفة أهلها في الغرب لكل مبادئها الشيطانية، واتخاذهم لها ذريعة للعدوان على الآمنين في كل دول العالم، خاصة دول المسلمين؟
وأهلها عندنا هم أكذب خلق الله واكثرهم نفاقا ولؤما وخبثا (السياسيين).
بعد انقلاب النيجر، اعتبرت فرنسا ذلك سلبا لديمقراطية الشعب النيجيري وكفر بالديمقراطية لأنه لم يوافق هواها. ولولا أن العالم الغربي مشغول في أكورانيا وغزة، لتكالبوا على ذلك البلد المسلم الضعيف لإرتكابه ذلك الجرم العظيم، رغم أنه حر في أن يكون ديمقراطي أو إسلاميي أو شيوعي أو ما شاء، لكن لا حرية عندهم في ذلك، ومن هنا تعرف أن وراء الأكمة الديمقراطية المفروضة تغطية حصاها للناس، ما ورائها. شأن النيجر وغيره من الدول الضعيفة، لا يعنيهم في شيء، لكن نتيجة الظلم والإستعمار المستمر حتى يومنا هذا، لن نناله إلا بالإنتصار حقا عليه، فهو لا يوهب مثلما زعموا من قبل.
أما انقلاب الغابون الذي صنعوه لتفادي الإنقلاب عليهم مثلما حدث في النيجر، فهو عندهم انقلاب مبارك، من الشعب وإليه! لأنهم صانعوه! فإذا رضوا عن عمالة المنقلب سكتوا ودعموا، وأثنوا عليه في إعلامهم ولمعوه، أما إذا كان شريفا أو مؤمنا، فلا!
لذا وجدوا في الديمقراطية فرصة لإصطياد الأراذل والعملاء المستعدين لبيعهم بلدانهم وأنفسهم قبل ذلك، وهو الواقع في كل مكان. هؤلاء الأراذل هم البلاء ما أكثرهم.

هؤلاء هم أهل الديمقراطية وهذه هي ديمقراطيتهم اللعينة التي سئمناها ومللناها، مللنا أهلها الظلمة القتلة القراصنة الذين خربوا دولنا، وأبعدونا عن ديننا، وشوهوا كل شيء عندنا، ووصفونا بعد ذلك كله بالتطرف وبالإرهاب.
إن الحضارة الغربية هي سبب كل مشاكل الناس في الماضي والحاضر، فتشيطنها وماديتها هما أصل الفساد، وهي قاعدة الشيطان وأساس جنده، وقد آن الأوان لسقوط ظاهرة التمسك بما عندهم، والدعوة إليه كشرط في التقدم، فالتقدم ليس في اتباعهم والرضوخ لهم، نحن مسلمون، لسنا مستعدين للإلحاد وتبعية الشيطان. بل من واجبنا الإعداد لهم والعمل على التفوق عليهم من منطلق جعل ديننا ومنهج ربنا هو الأساس.

الكذب هو دين الديمقراطية ومن يتعبد في محرابها، والسياسيون في الغرب مجرمون تتلطخ أيديهم بدماء الأبرياء في كل مكان، فهم من يوقع على خروج البارجات الصليبية لضرب الآمنين والأطفال الرضع في سوريا وغيرها، فيحرم السلام عليهم يدا بيد، لكن حكامنا وسياسيينا مثلهم، لا يتورعون ولا يهتمون بما تلطخ به أيديهم الآثمة من الدماء الملتصقة على أولئك القتلة، الذين يقدم الواحد منهم علينا في صورة ملاك، قمة في التأنق – القبيح، والأدب الزائف، وهو مجرم، قاتل لا يتورع عن سفك دماء البشرية كلها إن استطاع، طاعة لشيطانه وبطنه وفرجه..
يقدم الواحد منهم أو الواحدة، على بلد مسلم، فترى المسؤولين يحتفون به، فيسكنونه في أطهر وأرقى مكان، وهو كلب مكانه الزبالة، ويطعمونه أفضل طعام، ويقدرونه ويبجلونه ويحتفون به، والمفروض أن يقطعوه قطعا، أو يقطعوها، وسيكون ذلك قليلا مقارنة بما ارتكب من فظائع، بل يخرج من ذلك البلد المسلم الذي استقبله بالتمور والحليب، ويرسل إليه الدسائس والصواريخ إن لزم الأمر، فمتى يفقه أصحابنا؟

السياسي الديمقراطي حمار أو ثور، متأنق بربطة عنق، فتعسا له ولربطة العنق، وتعسا لهم جميعا ولكل أزيائهم، ولكل ما له علاقة بهم، كيف استساغ المسلمون ذلك العفن والتشيطن والقباحة، ما اثقلهم وألأمهم؟!

حقيقة الديمقراطية وحقوقها الملعونة (المجموع)


ألا لعنة الله على الديمقراطية

سمي الإسلام إسلاما لأن من دخل فيه أسلم وجهه لله واستسلم وانقاد لكل ما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام، قال تعالى: “ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه”، وقال تعالى: “بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه”.
وحقيقة الإسلام جاءت في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام حينما سأله عن الإسلام فقال: “الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا”. ويدخل في ذلك الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. كما يدخل في ذلك الإحسان وهو “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”؛ لأن الإسلام متى أُطلق شمل هذه الأمور لقول الله تعالى: “إن الدين عند الله الإسلام”، وحديث جبرائيل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، أجابه بما ذكر.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل سأل عن هذه الأمور لتعليم الناس دينهم، ولا يخفى أن هذا يدل على أن دين الإسلام هو الانقياد لأوامر الله ظاهرا وباطنا، وترك ما نهى عنه ظاهرا وباطنا، هذا هو الإسلام الكامل.
وإذا كان الواحد يجهل ما كان عليه السلف، خاصة في هذا الزمن، فعليه الإنقياد والتسليم بما وصله بالتواتر من الأحاديث وأقوال العلماء واتفاق الأمة، ذلك خير من اتباع عقله وهواه، ومن الفلسفة، لأن البعض أصبح يلتقط الشبهات من هنا وهنالك ويمضغها بعقله الفارغ، ويطرحها لمتابعيه من الأفراخ ليبتلعوها! حتى وصل الأمر ببعضهم إلى إنكار عدد ركعات الصلوات الخمس! بدعوى أن المرجع الوحيد هو القرآن، وهي ليست فيه، أما السنة فغير ثابتة عنده!
فما أدراه إذن أن القرآن ثابت؟
إذا كان يشك في حماية السنة بالتواتر، فما مصدر ثقته في أن القرآن محمي؟ إنه قطعا يشك في القرآن لأن  حملة السنة هم حملته أيضا، إضافة إلى أن السنة شارحة للقرآن، وهي وحي مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فالثابت منها وحي، أما المردود فأول من يرده هم السلف الذين يريد هذا اللعين ردهم.
وإذا وصل الأمر للصلاة فهو لم يعد لعبا، لأن منكر الحديث لن يصلي بسبب عدم ذكر القرآن لكيفية الصلاة التي في السنة، وبالتالي سيكون مثل البوذي والهندوسي الذي يجلس متخيلا شياطينه وهي تتقافز حوله لتلهيه قليلا عن الدنيا التي خسر هي والآخرة!
أقول هذا لأن بدعة إنكار السنة أصبحت طاغية في التيكتوك البغيض، خاصة بعد أن وجد المغرضون لها قبولا لدى شبابه الجاهل الذي نشأ في المدارس الإستعمارية وبراثين الحضارة الغربية.
وخير للمسلم العاقل التسليم والإنقياد، واتباع السلف الصالح فعقله لا يدرك كل شيء، والدين متواتر، يتلقى من السابقين لا من العقل الأجوف والهوى المائل المميل.

إن الفرق بيننا وبين الملاحدة عظيم، نحن نعبد الله وحده وفقا لما جاء به كتابه العظيم وسنة رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه إلى الجن والإنس والعرب والعجم وغيرهم، وجعله خاتم الأنبياء عليه، وأوجب على الثقلين اتباعه والتمسك بما جاء به. أما الملحدون فيتبعون أهواءهم وعقولهم، والعقول والأهواء لا تنجي أهلها من عذاب الله، ولا ترشدهم إلى الأعمال والأقوال التي ترضي الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى: “ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله”. فاركن عقلك جانبا كلما تعلق الأمر بجوهر الدين فلن تسبق في ذلك الصحابة ولا من تبعوهم بإحسان ممن سبقوك إلى كل حسنة. من أنت لتأتي بجديد أو تغير الأسس؟! تواضع لله يرفعك، وانظر حولك فأقل عالم متخصص في الدين يغلبك بمعرفته منه ما لا تعرف على الأقل. مثال ذلك بعض مفردات القرآن الذي يحفظه هو عن ظهر قلب، قد لا تكون سمعت بها أصلا، أحرى بمعرفة معناها وتفاسيرها! لهذا كان السابقون متواضعون يبجلون العلماء بعكس اللاحقون الذين يتخيل المغرور منهم أنه يستطيع مناطحتهم والتقليل من شأنهم، وبماذا؟ بالهدرة الخاوية في التيتوك!
فتواضع لله أيها المثقف يرفعك، ولا تتوهم للحظة واحدة أن حصولك على الشهادة الجامعية التافهة التي لا رائحة لعلوم الدين فيها، أو للدكتوراه من الجامعات الغربية وتابعاتها العربية، يرفعك فوق البخاري ومسلم، ولا حتى فوق أدنى عالم معاصر، أنت تحته في العلم بالدين، فلا تنسى ذلك!
نعم قد يخطئ في مسالة ويكون معك الحق فيها، لكنه يظل فوقك في العلم حتى تحفظ القرآن كاملا وتفسيره على الأقل! فهل أنت جاهز للتحدي بدل النعيق والزعيق؟

أما قول اللاإبراهيميين أن الأديان كلها من منبع واحد، فهو قول باطل، بل الإسلام الذي بعث الله به الرسل هو دين الحق، ومنبعه من الله سبحانه الذي خلق من أجله الثقلين، وأنزل به الكتب التي أعظمها القرآن الكريم، وأرسل به الرسل الذين ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. أما الأديان الأخرى، فمنبعها آراء الناس وعقولهم، وهي غير معصومة، ولا يصح منها ولا يُعتبر إلا ما وافق الشرع الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وبعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم لا يُقبل من آراء الناس وعقولهم، ولا مما في الكتب السابقة، إلا ما وافق شرعه عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم”، وقال تعالى: “وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون”، وقال سبحانه وتعالى في شأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما”، أسمعت أيها المثقف؟ “ويسلموا تسلميا”.
إذن لابد من الإتباع! ولابد من الحديث الصحيح في العبادة وإلا تحولت إلى فلسفة وتنطعات. قال تعالى: “ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤدون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون”، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة”، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار”، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
أما زعم من لا يقبلون إلا ما يقتضيه العقل، فينبغي أن يبين لهم بلغتهم التي يفهمونها أن العقل غير معصوم، وأن عقول الناس مختلفة؛ فلهذا جاء شرع الله المطهر بعدم الاعتماد عليها، وإنما يُعتمد على ما دل عليه كتاب الله؛ لكونه الحق الذي ليس بعده حق، ولأنه لا أصدق من الله سبحانه، ولأنه أعلم بأحوال عباده، ثم على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولأن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن الخطأ في كل ما يبلغه عن الله سبحانه؛ ولهذا أمر الله عز وجل في كتابه العظيم بالرجوع إلى حكمه عند الاختلاف، وإلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: “وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله”، وقال عز وجل: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا”، ولم يأمر سبحانه ولا رسوله، بالرجوع إلى العقول وتحكيمها، وما ذلك إلا لعجزها عن حل المشكلات، واختلافها (فعقل هذا ليس عقل ذاك، فأيهما نُحكم؟).

لقد غزت الأمة الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر، خاصة بعد سقوط الدولة العثمانية بعض المفاهيم الخاطئة والمعتقدات الباطلة الدخيلة على ديننا الحنيف، والتي تضاد وتصادم العقيدة الإسلامية من كل وجه وجانب. ولهذا تصدى أهل العلم وطلابه لهذه المفاهيم الوافدة من مزابل الشرق والغرب، وهتكوا سترها وكشفوا عوارها.

إن كلمة “ديمقراطية” مجموعة من كلمتين هما “ديموس”، ومعناها الشعب، و”كراتوس” ومعناها السلطة، أي سلطة الشعب. ومعناها “حكم الشعب بالشعب”، أو “حكم الشعب للشعب”.
وكلمتا ديموس وكراتوس يونانيتان معناهما ما تقدم ذكره. وعلى ذلك فإن الديمقراطية هي نظام من أنظمة الحكم يكون فيه الحكم أو السلطة أو سلطة إصدار القوانين والتشريعات، من حق الشعب أو الأمة أو جمهور الناس.

وفكرة الديمقراطية فكرة قديمة موغلة في القدم (نتيجة لقِدم الشيطان)، فقد تحدث عنها أفلاطون وقال: “إن مصدر السيادة هو الإرادة المتحدة للمدينة”، أي الشعب.
ووصفها أرسطو في بيانه أنواع الحكم الثلاثة (الملكية والأرستقراطية والجمهورية)، بأنها الجمهورية. أي الشعب الذي يتولى زمام أموره بنفسه.
وقد طُبقت هذه الفكرة في بعض المدن اليونانية كأثينا، ثم قضى عليها الإقطاع الذي ساد أوربا لقرون طويلة.

إن كلمة “الديمقراطية” تمرُّ على آذاننا كثيرًا، وتُساق هذه الكلمة مَساق المدح والثناء. لقد ظهرت فتنة الديمقراطية في بلاد المسلمين مع فتنة الاشتراكية، حينما كان العالم مُعسكرين، شرقيًّا وغربيًّا، فلما ضَعفت الاشتراكية بضعف الاتحاد السوفيتي، وتفرد الغرب النصراني بقيادة العالم، بدأ الغرب يَفرض قِيَمه ويُروِّج لها، ومن ذلك الديمقراطية.
وكما افتُتنَ بالاشتراكية بعض من كان ينتسب للعمل الإسلامي، وحاولوا أن يلبسوها لباسًا إسلاميًّا، وجعلوا أبا ذر الغِفاري رائدًا من رُوَّاد الاشتراكية، افتُتنَ بعض المعاصرين من الإسلاميين ذوي التوجُّهات السياسية بالديمقراطية، ويحاولون جاهدين صَبغها بصبغة إسلامية، فيصفونها بأنها نظام الشورى في الإسلام، وفَرْقٌ بين الشورى وبين الديمقراطية؛ ففي الإسلام الحكم لله، وفي الديمقراطية الحكم للمخلوق، فكيف تكون الديمقراطية من الإسلام وهي تُصادم الإسلام من أصلها؟!

قال الأستاذ محمد شاكر الشريف في كتابه “حقيقة الديمقراطية”: “وعلى ذلك يمكننا القول إن الديمقراطية مذهب من المذاهب الكفرية التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في جميع النواحي السياسية. فالديمقراطية إذاً هي التعبير السياسي أو الوجه السياسي للعلمانية، كما أن الاشتراكية والرأسمالية تعبير اقتصادي عن العلمانية. وهذه العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية نستطيع أن ندركها بكل سهولة ويسر إذا علمنا أن نظرية العقد الاجتماعي التي هي الأساس الفلسفي لنظرية السيادة التي تقوم عليها الديمقراطية، كانت في نفس الوقت تمثل الثورة الفرنسية التي أقامت دولة علمانية لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية”.

ثم أردف مبيناً حكم الديمقراطية في الإسلام وأنها كفر بواح يجب نبذها والكفر بها، وأن اسمها في الإسلام “الطاغوت” الذي أوجب الله سبحانه الكفر به ليتحقق الإيمان بالله تعالى لمن ادعاه كما قال تعالى: “فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”، قال تحت عنوان “لا ديمقراطية في الإسلام”: “وإذ قد تبيّنت لنا ما حقيقة الديمقراطية، وحقيقة الأصول والأسس الإلحادية التي تنطلق منها، وتبيّن لنا ما اشتملت عليه من الكفر الغليظ والشرك بالله العلي القدير. يصبح من الأمور المنكرة جداً أن نسمع من يقول الديمقراطية من الإسلام، أو أن الإسلام نظام ديمقراطي، أو الديمقراطية الإسلامية، أو أشباه ذلك من الأسماء الملفقة من كلمة الحق وهي “الإسلام”، ومن كلمة الباطل وهي “الديمقراطية””.

ثم أردف مذكرا بالموقف الإسلامي الواجب على الأمة الإسلامية اتخاذه تجاه الديمقراطية أو العلمانية أو غيرهما من أنظمة الكفر على اختلاف مشاربها، يقول تحت عنوان “النظام الديمقراطي باطل شرعاً”: “والنظام الديمقراطي بقيامه على أسس إلحادية كفرية يصبح باطلاً شرعاً وتصبح الديار أو البلاد التي تعلوها أحكامه دياراً أو بلاداً خالية من الحاكم أو الوالي المعترف به شرعاً، وهو الذي له على الناس حق الطاعة وحق النصرة، وهذا يترتب عليه أنه لا ولاية شرعية للنظام الديمقراطي على المسلمين، وأن علاقة المسلم بهذا النظام هي علاقة البراء وليس الولاء، وأن على المسلمين الذين تعلو ديارهم أو بلادهم أحكام النظام الديمقراطي، العمل لإزالة هذه الأحكام حتى تعلوها أحكام النظام الإسلامي، وقد كتب إمام الحرمين الجويني في كتابه (غياث الأمم) فصلاً عظيماً فيما يجب على المسلمين فعله عندما تخلو بلادهم عن الحاكم الشرعي المعترف به، فانظره فإنه مهم”.

وقد تشكلت الديمقراطية في الغرب النصراني الذي كان يدين بعقيدة محرَّفة وشريعة مبدّلة، حيث كانت ملوكهم تحكم فتظلم وتستبد بناءً على أنهم أصحاب السيادة بمقتضى التفويض الإلهي لهم في ذلك، وقد ساعد الملوك على ذلك نظرية التفويض الإلهي التي اخترعت لتبرير سلطانهم المطلق، والتي تقول “إن الملوك يستمدون سلطانهم من تفويض الله لهم سواءً كان تفويضاً مباشراً أو غير مباشر”. وفي ظل هذا الجو المملوء بظلم الملوك وطغيانهم، لم تكن الكنيسة – الممثلة للدين النصراني – بما حدث فيها من فساد وإفساد وانحراف وتحريف، قادرة على إيجاد مخرج صحيح للناس، أو حتى تقليل ظلم الملوك وطغيانهم والحد من سلطانهم؛ لأنها كانت ركناً من أركان الظلم والطغيان.
ومن ثمَّ بدأ الناقمون على هذه الأحوال وعلى الدين، يفكرون بعيداً عن الدين وعمن يمثلون الدين عندهم، في طريقة يسلبون بها كل سلطان الملوك، ولم تكن طريقتهم في هذا إلا استبدال كفر بكفر (والشيطان وراء ذلك كله)؛ حيث قالوا إن السيادة لا تكون لشخص الملك، وإنما للشعب كله، فالملوك والناقمون عليهم ،كلاهما يقول بنظرية السيادة، أما الملوك فيجعلونها لأنفسهم على أساس التفويض الإلهي، وأما الناقمون فيجعلونها للشعب، وقد كان الأساس الذي بنوا عليه ذلك القول هو نظرية العقد الإجتماعي التي أشهر من تكلم بها – من كلابهم: “توماس هوبز”، و”جون لوك”، و”جان جاك روسو”.
ويقوم جوهر النظرية على تصور أن الناس في أول أمرهم كانوا يعيشون حياتهم الفطرية البدائية، وكانت حياة غير منظمة، فلم يكن لهم تشريع يحكمهم ولا دولة أو مؤسسة تنظم معاملاتهم وترعى شؤونهم – لا اعتبار لله ولا للرسل في نظرياتهم، ثم في طور لاحق من حياتهم احتاجوا إلى التشريع الحاكم والدولة التي تنظم أمور حياتهم، وأنهم لأجل ذلك عقدوا فيما بينهم عقداً لإقامة السلطة التي تحكمهم وتنظم شؤونهم ومعاملاتهم وتحفظ عليهم ما بقي من حقوقهم وحرياتهم، فقامت السلطة حسب هذا التصور بناءً على الإرادة الشعبية، لذلك كان الشعب هو صاحب السيادة.
فهذه نظرية تنطلق من تصور كفري إلحادي، لأنها إما تصورت الناس وكأنهم وُجدوا من غير خالق لهم، أو وُجدوا هكذا غير منظمين بغير شريعة هادية أو قانون حاكم. وإما أنها تعترف بوجود خالق، لكن الخالق فيها لا فعل له إلا مجرد الخَلْق، أما أن يرسل من عنده رسلاً إلى الناس تعلمهم وترشدهم وتهديهم وتأمرهم بالخير وتنهاهم عن الشر وتنظم شئونهم ومعاملاتهم، فهذا ما لا وجود له في هذه النظرية. ولو كان ذلك موجوداً فيها ما احتاجوا إلى العقد التافه الذي عقدوه.
ومن المعلوم المقطوع به أن نظرية العقد الإجتماعي تناقض القرآن الكريم مناقضة تامة، فالقرآن يخبرنا أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام أول الناس، ثم أهبطه هو وزوجه إلى الأرض، وأنزل إليه الشريعة التي أمره أن يعمل بها هو وأولاده، وأن الله عز وجل لم يزل يرسل رسله ويُنَـزِّل كتبه لهداية الناس وإرشادهم وتنظيم شئونهم ومعاملاتهم، قال تعالى: “ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت”، وقال تعالى: “وإن من أمة إلا خلا فيها نذير”، فأين هذا  من تلك الحياة الفطرية البدائية التي لم يكن فيها تشريع حاكم كما تقول هذه النظرية؟

وإذا كان حكم الشعب للشعب هو أعظم خصيصة من خصائص الديمقراطية التي يلهج بذكرها الديمقراطيون، فإن التاريخ القديم والحديث يدلنا على أن هذه الخصيصة المذكورة لم تتحقق على مدار تاريخ الديمقراطية (ولن تتحقق أبدا لأن الطبيعة البشرية طبيعة القطيع، وطبيعة الدنيا مبينة على عكسها)، وأن نظام الحكم الديمقراطي كان دوماً نظاماً طبقياً، حيث تفرض فيه طبقة من طبقات المجتمع إرادتها ومشيئتها على باقي طبقات المجتمع.
إن قولهم الحكم للشعب، وأن الشعب هو مصدر التشريع، هو بحد ذاته كفر بالله العظيم ، وإلا من منح الشعب هذه السلطة، ومن الذي جعله مشرعاً يشرع لنفسه ما يشاء، وأين ذهبت شريعة الله التي أقسم الله بذاته المقدسة أنه لا يؤمن من لم يتحاكم إليها عن رضى وتسليم، قال تعالى: “فلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً “ (على سبيل المثال: هل يوافق الديمقراطيون في دول المسلمين على قطع يد السارق؟) .
هذا إن سلمنا أصلا بأن الذي يحكم في الديمقراطية هو الشعب، بل الذي يحكم هم حثالات السياسيين المنافقين الكذابين الذين لا دين لهم ولا أخلاق! أولئك الشياطين الذين جاءت بهم الديمقراطية الفاسدة بالتهريج والتزوير واالنفاق والعمالة، لتضعهم في البرلمان ليسنوا لأهلها وللشيطان ما تشاء من قوانين منهكة للبشر والدول.
وما قوانين كورونا منا ببعيد! تأمل في خنقهم للبشرية بها بأمر من أهل الديمقراطية اليهود! ألم يكن مصدرها البرلمان؟ فهل كان الشعب حينها يحكم، أو لنقل يخنق نفسه بنفسه؟!

قال العلامة أبن عثيمين رحمه الله : “الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية، لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته ، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم، فقال سبحانه “اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ”.
ومن المعلوم أن الحكم بما أنزل الله فرض عين على كل مسلم فرداً كان أو جماعة، أميراً كان أم مأموراً ، والحكم ثلاثة أنواع:
– الحكم المنزل، وهو شرع الله في كتابه وسنة رسوله وكله حق ظاهر .
– الحكم المؤول، وهو اجتهاد الأئمة المجتهدين وهو دائر بين الخطأ والصواب والأجر والأجرين .
– الحكم المبدل، وهو الحكم بغير ما انزل الله، وتردد الفاعل له بين الكفر والظلم والفسوق”.
وأما فيما يخص قوله تعالى: “وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ”، وقوله تعالى: “وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”، وقوله تعالى: ”مَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”، فإنَّ هذه الآيات الثلاث منزلة على أحوال ثلاث:
– من حكم بغير ما أنزل الله مستبدلاً به دين الله، فهذا كفر أكبر مخرج من الملة، لأنه جعل نفسه مشرعاً مع الله عز وجل.
– من حكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه، أو خوفاً عليها، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يكفر، ولكنه ينتقل إلى الفسق.
– من حكم بغير ما أنزل الله عدواناً وظلماً، وهذا لا يتأتى في حكم القوانين، ولكن يتأتى في حكم خاص، مثل أن يحكم على إنسان بغير ما أنزل الله لينتقم منه، فهذا يقال إنه: ظالم.
فتنزل الأوصاف على حسب الأحوال.

تعني الديمقراطية حُكم الشعب بنفسه، وذلك بأن يكون الشعب هو مصدر التشريع، فله الحقُّ في إصدار ما شاء من قوانين، وإلغاء ما يُريد من أنظمة سابقة إذا كانت هذه رغبة الأكثرية (بزعمهم). وهذا يُصادم بداهةً الإسلام، فهو على النقيض منه؛ قال الله تعالى: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ”، فمصادر التشريع المُجمع عليها في الإسلام هي الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة، والحُكم بغير ما أنزل الله كُفر؛ قال الله تعالى: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ”، وما عدا حُكم الله حُكم جاهليٌّ؛ وقال: “أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ”.
وفي الحكومات الغربية التي تتبنَّى الديمقراطية، هل الشعب حقيقة هو الذي يحكم نفسه ويصدر القوانين؟ الجواب: لا؛ فلا يحكم الشعب نفسه، ولا يسنُّ القوانين التي يريدها؛ إنما يحكم الشعب قِلَّة من الرأسماليين (وعبيدهم السياسيون، لذا لا غرابة في إعطاء أحد رجال الأعمال عندنا في الإتنخابات السابقة 500 مليون لأحد المترشحين)، تسنُّ الأنظمة لخدمة مصالحهم ومصانعهم وتجاراتهم على حساب المواطن العادي؛ لأن هؤلاء الرأسماليين هم الذي يوصلون الكلب الرئيس التابع لهم لكرسي الرياسة في كل البلدان التي يسيطرون عليها، فلا يصل الرئيس إلا عن طريق الحملات الانتخابية التي تُكلّف الملايين، وغالبًا يدفع تلك الأموال أصحاب رؤوس الأموال، وإذا وصل الرئيس، فلا بدَّ أن يُراعيهم ويراعي ماسونيتهم ومصالحهم الشيطانية لأنهم الذين أوصلوه للحكم، فالذي يحكم حقيقة هم لا هو ولا الشعب (لهذا يحكم اليهود أمريكا واوروبا بمن يضعون في الحكم منهم ومن عبيدهم بالتزوير والأكاذيب).
والديمقراطية دعوة للتحزُّب والتكتُّل، فلا تقوم إلا على الأحزاب، وكلُّ حزب يَنتقص الحزب الآخر، ويتَّهمه بشتى التُّهم. وقد نُهينا عن التَّحزُّب والاختلاف، وأمرنا بالاجتماع؛ قال الله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا “، واختلاف الأحزاب هو من باب اختلاف التَّضاد لا اختلاف التنوع.

إن الديمقراطية هي حكم الشعب للشعب، وذلك يعني أن نحتكم إلى الشعب – أو بمعنى أصح إلى حكم السياسيين المنافقين للشعب – لا إلى شريعة ربنا، ونُحَكم المجالس التشريعية حتى ولو خالفت شريعة ربنا، ونطبق ما وافقت عليه غالبية أعضاء المجلس ولو كان مخالفا لشريعة ربنا (ولو كانوا فُساقا بلا دين ولا أخلاق).

النظام الديمقراطي في الإدارة والحكم نظام غربي المنشأ والولادة، كفري المنهج والغاية! وهو يعني حكم الأغلبية للشعب دون أي اعتبار لحقّ الرب سبحانه في الحكم والتشريع!
هذه الديمقراطية الفجة التي طالما تغنى بها الغرب الكافر، وطرب لها أذنابه في الشرق، ظلت هاجساً يشغل كل راغبي التحرر من ربقة الدكتاتوريات الجاثمة فوق صدور الشعوب المسلمة، لا اعترافاً بحق الشعوب في الحياة الكريمة، ولا سعياً لخلاصها من بعض آلامها، ولكن أملا في وصول ديمقراطيين أكثر عطاء، وأشد إخلاصاً للغرب وتحقيقا لأهدافه الخسيسة في استعباد الشعوب، وإخضاعها لمشاريعه الأخلاقية والسياسية الإقتصادية!
ومن هنا نادت أمريكا وأوروبا بضرورة إفساح المجال للديمقراطية في العالم العربي، وإطلاق مزيد من الحريات للشعوب والأفراد، وتحت وقع الضغط التعسفي للأمريكان وحلفائها الأوربيين؛ رضخت أكثرية الحكومات للمشروع الديمقراطي التافه الدخيل؛ فأفسح المجال لانتخابات بلدية وبرلمانية.
والغرب عالم عدائي مجرم متكبر حقود، لا يستحي من إبداء تناقضه واضطرابه وإزدواجية معاييره عند التعامل مع قضايا المسلمين (اليهود هم من يحكم أمريكا وأوروبا بالديمقراطية التي اخترعوا وخدعوا بها شعوب تلك الدول).
قال تعالى: “أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون”. وقال تعالى: “ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا”.
فلا يصح إسلام المرء حتى يكفر بكل طاغوت و بكل دين يخالف دين الاسلام، والديمقراطية دين، لأن السيادة والحكم فيها للشعب، لا يعلوا صوت فوق صوته، ولا معقب لحكمه. والله تعالى يقول “إن الحكم إلا لله”، فتقول الانتخابات الديمقراطية “إن الحكم إلا للشعب”. الله تعالى يقول: “فما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله”، فيقول دين الديمقراطية: “فما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الدستور و القانون”. الله تعالى يقول: “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير”، ودين الديمقراطية يقول: “يا أيها الحاكم دع الكفار والمنافقين والملحدين وكل الملل تمارس حريتها في إنشاء الأحزاب و تولي السلطات”. الله تعالى يقول: “أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون”، ودين الديمقراطية يقول: “المؤمن والكافر يستوون في الحقوق والواجبات”.

عندنا ديننا الحنيف، الدين الكامل الذي فيه خيري الدنيا و الآخرة. عندنا كتاب الله تعالى الذي حفظه الله من التبديل والتحريف، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلماذا يستبدل أنصار الديمقراطية الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
وعليه لا يجوز خوض الديمقراطية، لا بالمشاركة والترشح، ولا بالتصويت، علينا أن نتبرأ من سنن اليهود والنصارى، من ديمقراطيتهم التي صدروا إلينا، وأن نتبع نهج أنبياء الله تعالى والخلفاء الراشدين، طريق الدعوة والجهاد.
فإن لم نستطع هذا ولا هذا، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فلنكتفي بتطبيق الشريعة على أنفسنا وذوينا، ولسنا حينئذ مكلفين بتطبيقها في حكم الدولة، ولنترك حينها السلطة لمحبي الدنيا، ونفر نحن بديننا.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن”. وروى البخاري و مسلم حديث حذيفة بن اليمان وفيه أيضا التحذير من الفتن.

إن الدين الإسلامي دين عالمي، وليس دين عبادات فقط، بل هو معاملات أيضًا، جاء لينظم حياة الناس كافة في كل الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والإجتماعية، وغيرها من الجوانب، وأمته متميزة في كل نظم حياتها، وعلى رأس هذه النظم نظام الحكم (ليس دين رهبنة وانعزال عن الحياة في المعابد، لذا يحاول هؤلاء المفكرين الأغبياء طرد أهله إلى المعابد ليستفردوا بالحكم والدنيا).
يقول الأستاذ ناجي علوش: ” ولكن هل يعني ذلك أن حكم الشعب قد تحقق تماماً؟ وأن الشعب يحكم نفسه بنفسه في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية… الخ؟ إن الأمر ليس على هذا المستوى من البساطة، لأن التطور الذي حدث وأسقط الحكم الفردي الوراثي، أقام حكم أقلية جديدة ؛ هي الأقلية المتمولة التي استعانت بنقمة العامة على الحكم المستبد، لتقيم سلطتها. نحن إذن أمام حكم أقلية. ولكنها أقلية مختلفة عن أية أقلية سابقة، وهي تتسم بأمرين رئيسين: الأول، أنها تدير عملية إنتاج كبرى، تستوعب ملايين الملايين من البشر، وتنتج فوائض هائلة، وتسهم في التقدم الإقتصادي والعلمي والثقافي والعسكري، وبالتالي فهي ليست أقلية معطلة لعملية الإنتاج والتقدم، ولا هي أقلية نهابة دون أن يكون لها دور في الإنتاج، كما كان الأمر في عصور الفئات الحاكمة السابقة.
الثاني، أنها تقر للناس بأنهم أحرار، وأنهم متساوون أمام القانون، وأصحاب حقوق طبيعية في حرية العقيدة والرأي والنشر، وأن لهم جميعاً حقوقاً متساوية في المساهمة في اتخاذ القرارات التي تنصب على المجتمع كله، وتمس حياة كل فرد فيه. وتطلق هذه الأقلية شعار “المنافسة الحرة”، و”المساواة في الفرص”. ولكن هذه المنافسة الحرة تسفر دائماً عن انتصار الأقلية المتمولة، لأنها تدير عملية الإنتاج الكبرى، وتملك رأس المال، وتتصرف بإمكانات هائلة لا تجعل سائر الشعب قادراً على منافستها. ولأن هذه الأقلية، تبني قواها لتستطيع قيادة الدولة، وتعبئ قطاعات من الشعب لمصلحتها، وتملك من إمكانات السيطرة ما يجعلها قادرة على إضعاف أي تبلور سياسي أو نقابي مناوئ، وعلى سحق كل قوة إذا كانت تهدد النظام القائم، حتى ديمقراطياً. وهذه الأقلية لا تكتفي باستخدام أجهزة الدولة، بل تنشئ عصاباتها وقواها الفاشية لتضرب خصومها، وتستخدم أية عصابات متوافرة لتحقيق أغراضها، إنها تضع القانون لحماية مصالحها، ولا مانع لديها من تجاوز القانون لحماية أهدافها الطبقية”.
“إن الدول الفاتحة، ظلت تتغنى بشعارات الديمقراطية، وتدعي أنها تحتل لتُمَدِّن وترقي، إلا أن تجربة حوالي مائتي عام، أثبتت ما يلي: أن الاحتلال لم يُرق بلداً، ولا مَدَّن قِطراً، وأن خروج قوات الاحتلال من هذا القطر أو ذاك، كشف آثار التدمير والنهب وتشويه البنى الذي تركه الغازي المحتل. وأن كل تعلق طلائع الشعوب المقهورة بأطروحات الديمقراطية الغربية لم يؤد إلى قيام نظام ديموقراطي في أي قطر من أقطار العالم التابعة، سواء خلال وجود الاحتلال أو بعد رحيله”.
وهذه الأقلية المتحكمة، سم أصحابها “فراعنة أو “يهود” أو “ماسون” أو ما شئت (وإن كان من يحكم الجميع هو اليهود)، لم تكتفي بتغيير الدين والأخلاق وفرض ديمقراطيتها وقوانينها، بل تجاوزت ذلك إلى تغير اغذية الناس وادويتهم! فمن أجل الربح والقتل هي مستعدة لبيع الناس ما يفتك بهم، وإجبارهم على لقاحات يعلمون أنها ضارة بهم، فإما أن يأخذها الديمقراطي التابع أو يحارب في لقمة عيشه وسفره! ثم يتحدثون بعد ذلك عن كذبتهم “الديمقراطية”!.

لم تجد الديمقراطية في تاريخها كله رواجاً مثلما وجدت في عصرنا هذا، لقد كان معظم المفكرين الغربيين منذ عهد اليونان كثيري النقد لها، بل رفضوها، حتى أن أحد الفلاسفة البريطانيين المعاصرين قال: “إذا حكمنا على الديمقراطية حكماً ديمقراطياً بعدد من معها وعدد من ضدها من المفكرين، لكانت هي الخاسرة”.
أما في عصرنا فإن الدعاية الواسعة لها – من خلال الإعلام الذي يلهج بذكرها ليل نهار، وغيره بل إن المفتونين بها المروجين لها صاروا في الإعلام بلسما شافيا لكل مشاكل المجتمع السياسية والإقتصادية والدينية (حتى أن بعض شيوخ التصوف والإخوان تأثروا بالديمقراطية إلى درجة عدم تكفير أحد من اليهود والنصارى داعين إلى ما يسمونه بالدين الإبراهيمي).

إن الديمقراطية كما يعرفونها هي حكم الشعب. لكن الصورة الواقعية لما يسمي بالديمقراطية مهما كانت حسناتها أو سيئاتها ليست هي حكم الشعب! لأن مفهوم الشعب نفسه مفهوم غامض. الذين أسسوا النظام الديمقراطي كانوا فئة قليلة من الناس هم الذين قرروا من الذي يستحق أن يدخل في مسمي الشعب الحاكم، ومن الذي لا يستحق.
ثانياُ، لم يكن الشعب في يوم من الأيام حاكماً ولن يكون، ذلك أمر متعذر.
إن الديمقراطية المثالية هي ما يسمي بالديمقراطية المباشرة التي يقال إنها كانت تمارس في أثينا، أول دولة ديمقراطية نشأت في القرن الخامس قبل الميلاد. وسميت بذلك لأن الشعب كان يجتمع في العام أربعين مرة ليناقش كل القضايا السياسية المهمة مناقشة مباشرة ويدلي فيها بقراراته، لكنها مع ذلك لم تكن حكم الشعب، لأن الذين أسسوا النظام الديمقراطي كانوا فئة قليلة من الناس هم الذين قرروا من الذي يستحق أن يدخل في مسمي الشعب الحاكم ومن الذي لا يستحق، فاستثنوا النساء والرقيق وكل من كان من أصل غير أثيني مهما طال مكثه يها، وعليه لم يكن الذين لهم حق المشاركة السياسية إلا نسبة ضئيلة من المواطنين.
أيضا كان يكفي لإعتبار الإجتماع منعقدا أن يحضره ستة آلاف مما يقدر بست وثلاثين ألف عضو، أي أن القرارات المتخذة فيه لم تكن قرارات كل تلك الفئة التي أعطيت حق الحكم.
أيضا كانت مدة الإجتماع لا تتجاوز عشر ساعات، فلم يكن بإمكان الناس جميعاً أن يشاركوا في المداولات، وإنما كان الذي يستأثر بالكلام بعض قادتهم، وكانت البقية تابعة لهم.
ولما بُعثت الديمقراطية مرة ثانية في القرن الثامن عشر في أوربا كان من المتعذر أن تكون كديمقراطية أثينا بسبب ازدياد عدد السكان وصعوبة اجتماعهم، ولكن بدلاً من أن يقال إن “حكم الشعب” غير ممكن الآن، تحايل بعضهم فسمى ديمقراطية أثينا بالديمقراطية المباشرة، واقترح أن تكون الديمقراطية الحديثة ديمقراطية غير مباشرة، أو ديمقراطية تمثيلية، أي ديمقراطية يختار فيها الشعب فئة قليلة منه ممثلة له وحاكمة باسمه. ولم يكن هناك من بديل لحكم الله أو لحق الملوك المقدس في الحكم، إلا أن يقال إن الحكم للشعب كله، فهو صاحب الكلمة الأخيرة فيما ينبغي أن يكون أو لا يكون.
إن الديمقراطية المباشرة لا يمكن أن تكون حكماً للشعب، لأن الحكم له معنيان: حكم تشريعي، وحكم تنفيذي. فبأي معنى يحكم الشعب؟ كما لا يمكن أن يحكم بالمعني الثاني، لأنه لا يمكن أن يكون كله رأس دولة أو مجلس وزراء أو قائد جيش.
وكان الفيلسوف الفرنسي روسو أول من سخر من الديمقراطية بمعنى الحكم التنفيذي، فقال: “إذا أخذنا العبارة بمعناها الدقيق، فإنه لم تكن هناك قط ديمقراطية حقيقة، ولن تكون. إنه من المخالف للنظام الطبيعي أن تكون الأغلبية حاكمة والأقلية محكومة! إنه لا يُتصور أن يكون الشعب مجتمعاً دائماً لقضاء وقته في تصريف الشؤون العامة! ومن الواضح أنه لا يمكن أن يكون لجاناً لهذا الغرض إلا بتعبير شكل النظام الإداري”.
لم يبق إذن إلا الحكم بمعنى التشريع، لكن الشعب ليس هو المشرع في الديمقراطية النيابية، وإنما هو الذي ينتخب من يشرع. يقول روسو ساخراً من هذا: “إن الأمة الإنجليزية تعتبر نفسها حرة، لكنها مخطئة خطأ فادحاً، إنها حرة إبان فترة انتخابات أعضاء البرلمان، وبمجرد أن ينتخبوا، فإن العبودية تسيطر عليها، فلا تكون شيئاً، وكيفية استفادتها من لحظات الحرية القصيرة التي تستمتع بها تدل على أنها تستحق أن تفقدها”.
ولأن نواب الشعب ليسوا هم الشعب، فإن الحكم لا يكون حكم الشعب. نعم، إن كل نائب منهم قد يتجنب المشاركة في تشريع يعلم أن أكثر الناس في دائرته الانتخابية لا توافق عليه، لكن هذا قليل جداً من كثير .
والمنتخبون لا يكونوا في الواقع منتخبين بالإجماع الذي يقتضيه وصف الحكم بأنه حكم الشعب، وإنما ينتخبون بالأغلبية، والأغلبية ليست هي الكل، وما ترتضيه الأغلبية في دائرة معينة قد لا ترتضيه الأغلبية في دائرة أخرى، أو قد لا ترتضيه أغلبية الشعب لو كان انتخابه مباشراً، لكنه مع ذلك يعد ممثلاً للشعب و حاكماً باسمه.
ثم إن الأغلبية لم تكن في بداية الديمقراطية هي أغلبية الشعب كله، فقد استثنوا منها النساء، واستثنوا بعض الفقراء، واستثني الأمريكان الأرقاء. فلم يدخل النساء في مفهوم الشعب الحاكم الذي يحق له أن يصوت إلا في عام 1918م في بريطانيا، وعام 1920م في الولايات المتحدة. ولم يعط السود هذا الحق إلا بتعديل للدستور الأمريكي في عام 1886م.
جاء في انتخابات عام 2000م حسب تقرير حكومي رسمي: “من مجموع عدد الناس البالغ عددهم 203 مليون والذين كانت أعمارهم 18 عاماً أو أكثر، 186 مليوناً منهم مواطنون، سجل منهم للانتخابات 130، وصوت منهم 111، وعليه فقد كانت معدلات تصويت السكان الذين أعمارهم 18 عاماً أو أكثر 55 % من مجموع السكان، و60 % من المواطنين، 86 % من المسجلين” (لاحظ هذه الأرقام المهولة التي يمكن التلاعب بها بسهولة خاصة في زمن الحاسوب والتجسس والتزوير الذي نعيش فيه الآن، مع تحقق عدم نزاهة أي أحد في اللعبة الديمقراطية).

إن نظام الحكم الديمقراطي هو حكم الأقلية للأكثرية قولاً وعملاً. ولا نجافي الحقيقة حين نؤكد أن الشعب لا يختار حكامه بشكل صحيح، ولا يضع دستوره أو قوانينه أو تشريعاته بنفسه، وعليه فالديمقراطية فكرة خيالية لا يقرها العقل السليم، ولا تنطبق على الواقع.
وإذا كان حكم الشعب للشعب هو أعظم خصيصة من خصائص الديمقراطية التي يلهج بذكرها الذاكرون الديمقراطيون، فإن التاريخ القديم والحديث يدلنا على أن هذه الخصيصة المذكورة لم تتحقق على مدار تاريخ الديمقراطية، وأن نظام الحكم الديمقراطي كان دوماً نظاماً طبقياً، حيث تفرض فيه طبقة من طبقات المجتمع إرادتها ومشيئتها على باقي طبقات المجتمع. ففي القديم – عند الإغريق – كانت الطبقة المكونة من الأمراء والنبلاء وأشراف القوم هي الطبقة الحاكمة المشرِّعة صاحبة الإرادة العليا، بينما كانت بقية المواطنين – وهم الأغلبية – لا تملك من الأمر شيئاً.
وأما في العصر الحديث فإن طبقة كبار الأغنياء أصحاب رؤوس الأموال “الرأسماليين” هي الطبقة الحاكمة المشرعة صاحبة الإرادة العليا، فهي التي تملك الأحزاب ووسائل الإعلام ذات الأثر الجلي في تشكيل الرأي العام وصناعته، بما يكفل في النهاية أن تكون إرادة الرأسماليين هي الإرادة العليا صاحبة التشريع.
ومن هنا يتضح أن الديمقراطية كانت دوماً حكم الأقلية – فئة كانت أو طبقة – للأغلبية، وليس حكم الشعب أو الأغلبية كما يدل عليه ظاهر تعريف الديمقراطية، وكما يتوهم أكثر الناس.

الديمقراطية الليبرالية:
هناك أمر لا يتفطن إليه كثير من الناس وهو أن الديمقراطية في البلاد الغربية ليست ديمقراطية خالصة مطلقة وإنما هي ديمقراطية مقيدة بالليبرالية. ما معنى هذا؟
الليبرالية نظرية سياسية فحواها أن المجتمع يتكون أساساً من أفراد لا من طبقات، ولا من أسر، ولا من أي تجمعات أخري. وبما أن الفرد هو أساس المجتمع، وبما أن له بوصفه فرداً، حقوق أهمها حريته، فإنه لا يجوز للحكومة ولا لفئة من الشعب، بل ولا لأغلبية الشعب أن تتغول على حريته. ولذلك فإنهم يدعون إلى ما يسمونه بالحد الأدنى من الحكومة، أي أن الأساس هو أن يُترك الأفراد أحراراً يختارون ما شاءوا، وعلى الدولة أن لا تتدخل إلا لحفظ حقوق الأفراد التي قد يتغول عليها بعضهم. ويحذرون لذلك مما يسمونه بدكتاتورية الأغلبية.
وبعض اللبراليين يؤكدون أن الليبرالية عندهم هي الأساس، وإذا حدث تعارض بينها وبين الديمقراطية، فينبغي التضحية بهذه لا بتلك.

إن الله عز وجل هو خالق الخلق، وهو يعلم ما يَصلح لهم وما يُصلحهم من أحكام، والبشر يتفاوتون في العقول والأخلاق والعادات، وهم يجهلون ما يصلح لهم فضلا أن يكونوا على علم بما يَصلح لغيرهم، لذا فإن المجتمعات التي حكمها الشعب في التشريعات والقوانين لم يُر فيها إلا الفساد، وانحلال الأخلاق، وتفسخ المجتمعات. مع التنبيه على أن هذا النظام تحول في كثير من الدول إلى صورة لا حقيقة لها، ومجرد شعارات يُخدع بها الناس، وإنما الحاكم الفعلي هو رأس الدولة وأعدائه، والشعب مقهور مغلوب على أمره. ولا أدل على ذلك من أن هذه الديمقراطية إذا أتت بما لا يهواه الحكام داسوها بأقدامهم، ووقائعُ تزوير الانتخابات وكبت الحريات وتكميم أفواه من يتكلمون بالحق، حقائقُ يعلمها الجميع، لا تحتاج إلى استدلال.

ولا شك في أن النظم الديمقراطية أحد صور الشرك الحديثة في الطاعة والانقياد أو في التشريع، حيث تُلغى سيادة الخالق سبحانه وتعالى وحقه في التشريع المطلق، وتجعلها من حقوق المخلوقين، والله تعالى يقول: “مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”، ويقول تعالى: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ”.
يظن كثير من الناس أن لفظ الديمقراطية يعني الحرية! وهذا ظن فاسد، وإن كانت الحرية هي إحدى إفرازات الديمقراطية، ونعني بالحرية هنا حرية الاعتقاد، وحرية التفسخ في الأخلاق، وحرية إبداء الرأي، وهذه أيضا لها مفاسد كثيرة على المجتمعات الإسلامية، حتى وصل الأمر إلى الطعن في الرسل والرسالات، وفي القرآن والصحابة، بحجة حرية الرأي، وسُمح بالتبرج والسفور ونشر الصور والأفلام الهابطة بحجة الحرية، وهكذا في سلسلة طويلة، كلها تساهم في إفساد الأمة خلقيا ودينيا.
وحتى تلك الحرية التي تنادي بها الدول من خلال نظام الديمقراطية ليست على إطلاقها، فنرى الهوى والمصلحة في تقييد تلك الحريات، ففي الوقت الذي تسمح نظمهم بالطعن في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، بحجة حرية الرأي، نجد منع هذه الحرية في مثل الكلام عن محرقة النازيين لليهود، بل يتم تجريم وسجن من ينكر هذه المحرقة، مع أنها قضية تاريخية قابلة للإنكار! وإذا كان هؤلاء دعاة حرية، فلماذا لم يتركوا الشعوب الإسلامية تختار مصيرها ودينها؟! ولماذا قاموا باستعمار بلدان المسلمين وساهموا في تغيير دينهم ومعتقدهم؟ (إلى يومنا هذا). وأين هذه الحريات من مذابح الإيطاليين للشعب الليبي، ومن مذابح الفرنسيين للشعب الجزائري، ومن مذابح البريطانيين للشعب المصري، ومن مذابح الأمريكان للشعبين الأفغاني والعراقي؟!

مكافأة الله عز وجل للمتمسكين بحزبه:
قال أحد المفكرين العراقيين: “كانت المفاهيم الديمقراطية غائبة عن عالم الوجود في زمن صدام حسين، بسبب تسلط الحزب الواحد والقائد الواحد على مقاليد الحكم ومؤسساته في العراق ، حيث كانوا لا يسمحون لفكر غير فكرهم ومفاهيم غير مفاهيمهم بالظهور والانتشار . ولكن، والحق يقال من باب الأخذ بأخف الضررين وأدنى الشرين ـ كان حكم صدام أرحم بكثير من هذه الفوضى العارمة التي جاءت بها الديمقراطية الأمريكية والانتخابات الفوضوية، بل كان كالباب المغلق أمام الكثير من الأمور التي جاءت تحت عباءة الإحتلال”.

إن الدولة الإسلامية التي أنشأها النبي صلى الله عليه وسلم على رمال الجزيرة العربية كانت تقوم على ركيزتين عظيمتين مهمتين هما توحيد الله ثم توحيد الأمة. وقد جمعهما الله تعالى في قوله: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”. (فضرب الشيطان وجنوده هاتين الركيزتين، ضرب التوحيد بالبدع والديمقراطية التابعة لها، وضرب وحدة الأمة بهذه الحدود السخيفة التي تفصل بين دول المسلمين رغم كونها الأحق بأن تفتح الحدود بين أهلها، فالدين واللغة والعادات شيء واحد! وفتحوها بين دويلات أوروبا المتناقضة، وبين ولايات أمريكا المتنافرة، وأغلقوها على المسلمين حقدا وحسدا وخوفا من الحق وأهله، وأهم شغلهم هو دول المسلمين التي لولا كونهم جنود الشيطان لم تكن لتعنيهم في شيء، وهذا يثبت لك وجود الشيطان وجنوده ووجود أهل الحق، لذا تعسا للملحدين الأغبياء الذين يعتدون بهم، ألا يرون أنهم أول من يثبت وجود الخالق وصحة الإسلام بعدائهم الشيطاني لأهله؟!).
وقد التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، والأمة مجتمعة على الحق محبة له، ولم تظهر الأحزاب والفرق في عصره المبارك، بعد أن حذَّر منها وحث على الابتعاد عنها.
ومن المعلوم أن الاختلاف والافتراق كله شر، لم تجني الأمة منه إلا الويلات والمحن.
والمسلمون الذين أصابتهم بذرة التحزب، مروا بمرحلتين:
الأولى: مرحلة الأحزاب والفرق التي تدور في دائرة الإسلام، مع تخطئة طرائق تلك الأحزاب والفرق، كالخوارج وغيرهم.
الثانية: مرحلة الأحزاب العلمانية التي تسعى إلى تنحية الشريعة الإسلامية واستبدالها بأفكارهم ومعتقداتهم التي جاءوا بها من مزابل الشرق والغرب مع أنها الكفر والضلال بعينه (انظر الباب المخصص للفرق والجماعات في هذا الموضوع).
وينقسم الناس – كما أخبر الله تعالى – حصراً، إلى حزبين :
الأول : حزب الله .
والثاني : حزب الشيطان. لا يوجد حزب ثالث.
قال الله تعالى: “لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”.
قال الشيخ محمد بن صالح الأسمري في هذه الآيات: “بين الله سبحانه وتعالى ما يظفر به هؤلاء المؤمنون الذين يبغضون الكافرين، ولو كانوا أباً أو أخاً أو ابناً أو عشيرةً أو قبيلةً يرفع الإنسان عقيرته فخراً بهم عند العرب، فإنه يبغضهم. بين الله سبحانه وتعالى فضل هؤلاء القوم في الدنيا وفي الآخرة، وما يأتيهم من العطاء. أما في الدنيا فيتحصلون على شيئين، الأول قول الله تعالى “أولئك كتب في قلوبهم الإيمان”، أي جمع الله في قلوبهم الإيمان وجعله راسخاً ثابتاً، ولذاك عادوا الكفار وإن كانوا قرباء منهم.
والثاني قوله تعالى: “وأيدهم بروح منه”، أي بنور وهدى، ومدد إلهي منه سبحانه وتعالى، وإنما ذكر سبحانه قوله “بروح” أن هذا المدد والهدى والنور الذي يؤتاه صاحب هذه الحالة، هو روح له، فجسد لا روح فيه ولا نفع منه هو ميت، ولذلك جعل ذلك في مقام الروح، وهذا من أعظم التعبيرات وأحسنها وأدلها على المقصود.
وأما ما يأتيهم من العطاء في الآخرة فبقية ما جاء في الآية. فأول العطاءات قوله سبحانه “ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار”، هذا أول العطاء، فيدخلون جنات لا جنة واحدة.
وأما العطاء الثاني: فقوله سبحانه “خالدين فيها”، أي أنهم لا يخرجون من الجنة، وهذا تثبيت للنعمة عند حيازها؛ لأن المرء إذا حاز نعمة طلب تثبيتها، فجاءت الآية مبينة حوز النعمة لأولئك الموصوفين، ثم مبينة لثبات هذه النعمة بعد حوزتها.
وأما ثالث العطاءات فقوله سبحانه “رضي الله عنهم”، وهذا عطاء ثالث، وهو رضا الله عن عبده.
وأما العطاء الرابع: فقوله سبحانه “ورضوا عنه”، وما ذلك إلا لتمام العطاء الذي أُعطوه حتى سبب القناعة، وليس القناعة فقط بل أعلى منها وهو الرضى عن العطاء، وهذه حالة تقع للإنسان عند وقوع تمام العطاء.
وأما العطاء الخامس: فوصفهم بأنهم “المفلحون”، والفلاح يقع للإنسان في مسيرته في أولاه وفي أخراه، فهو إن وصف الإنسان به في أخراه كان عطاء، لأن الفلاح يوجب له العطاء، والعطاء هو الذي لا عين رأته ولا أذن سمعت به ولا خطر على قلب صاحبه.
ثم وصف الله عز وجل أولئك الصنف بأنهم “حزب الله”، فهؤلاء أصحاب حزب، وهم من تحزبوا واجتمعوا على ما يُرضي الله، فيوصفون بأنهم حزب الله، وأنهم تحزبوا على الإيمان وما يرضي الله.
وأكد الله فلاحهم بقوله “إن حزب الله المفلحون”، دخلت “أل” على معنى الفلاح، وهذا من التأكيد العظيم لفلاح القوم. نسأل الله عز وجل أن نكون من أولئك.

ويجب أن نعلم أن الله تعالى قد قسَّم الناس يوم القيامة إلى فريقين، وأخبر عن أحدهما أنه في الجنة والآخر في السعير. قال تعالى: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ”.
وقد وقع الكثير من الأحزاب التي سميت زوراً وبهتاناً بالأحزاب الإسلامية، كحزب الاخوان المسلمين في فخ الإنخداع بما جاء به العلمانيون من مفاهيم ومعتقدات كالديمقراطية والانتخابات، وسلوك مسالك السياسة الوعرة والمتعثرة التي أدت إلى مظاهرات 25 يناير (التي كادت تحرق مصر).
والأدهى والأمر من ذلك أنهم راحوا يفتشون لهذه المفاهيم الوافدة عليهم عن أدلة يمكن – بظنهم – أن تسعفهم وتعضد توجهاتهم ومقاصدهم، فصرنا نراهم، وبكل جرأة ووقاحة، يشبهون الديمقراطية والانتخابات الفوضوية، والتي يعتريها غالباً الغش والتزوير وشراء الذمم، بنظام الشورى الإسلامي!
كما أنهم استغلوا الجانب الديني المهم عند الناس في الدعاية لهم، في محاولة منهم لحصد أصواتهم، ومزاحمة العلمانيين على السلطة، حتى أنهم راحوا يرهبون الناس ويحذرونهم من مغبة إعطاء أصواتهم للغير، وأنهم سيُسألون يوم القيامة عن ذلك!
وخطر هذه الفرق والأحزاب أشد في هذا الزمان الذي لم يعد للمسلمين فيه جماعة تجمعهم، ولا إمام يقودهم على حسب وصيـة النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

التعددية في الديمقراطية:
ومن الآليات المعتمدة في الفكر الديمقراطي “التعددية”، وهي أوسع من ‏السماح بتشكيل أحزاب متباينة في رؤاها، فالتعددية التي ظاهرها عند البعض السماح ‏بالاختلاف في الرؤية حول بعض التصورات المتعلقة بأمور المصالح ونحوها، هي في ‏حقيقتها إباحة لجميع المعتقدات والأفكار والتصورات في المجتمع، وبأحقية كل فرد أو ‏جماعة في تكوين الآراء والمعتقدات الخاصة، حتى صرحت جماعة الإخوان أنه لا مانع لديها – حتى بعد وصولها إلى الحكم في مصر – ‏من السماح بقيام حزب شيوعي، وهو ما يتعارض تعارضا واضحا مع المقررات الإسلامية، ‏إذ من الثابت أن من ارتد عن دينه عليه أن يتوب أو يواجه الحد الشرعي، لا أن يُشجع ويسمح له ‏بتشكيل حزب يُنَظر للأمور من خلاله، ويدعو الناس إلى تصوراته، لذا لابد من تقديم تنازلات في ثوابت الدين كما فعلت جماعة الاخوان (ولا زال المؤمنون بالديمقراطية يقدمون تلك التنازلات للغرب وشيطانه اليهودي).
يقول الجصاص: “والاستشارة تكون في أمور الدنيا وفي أمور الدين التي لا وحي فيها، ويستشار الصالحون القائمون على حدود الله المتقون لله من ذوي الخبرة والدراية”. وأين هذا من استشارة الملاحدة المحاربين لدين الله ممن يشرع مع الله في النظام الديمقراطي.
ولم تمانع هذه الأحزاب من المشاركة في مظاهرات 25 يناير بل أججتها وزادت الطين بلة!

الديمقراطية نظام بلا أخلاق:
إذ أنه لم يؤثر في الدول التي تبنته وعملت به ودعت ‏إليه، فهو كالجسد الذي لا روح فيه، بل إن أكثر الدول استغلالا لغيرها وظلما لها هي ‏الدول التي تعد رائدة في هذا المجال، فالديمقراطية البريطانية كما يقال هي أم الديمقراطيات، ‏والثورة الفرنسية هي التي أشاعت نظرية السيادة الشعبية، وأمريكا اليوم تتربع على عرش ‏الدول الديمقراطية العاملة بها والداعية إليها، ومع ذلك لم تحجز هؤلاء ديمقراطيتهم عن ‏الظلم والطغيان وسرقة ثروات الدول الأخرى، وقد تعرضت دول العالم العربي والإسلامي ‏للاحتلال من هذه الدول الثلاث وغيرها، وعانت من ذلك الكثير، وتعرض رجالها للقتل، ‏وثرواتها للسرقة والنهب، وما زال هذا النهج مستمرا، فهل كان في الديمقراطية خُلق ‏يمنعهم أو يحجزهم عن ارتكاب كل هذه القبائح؟

والديمقراطية تفتح الباب على مصراعيه للردة والزندقة والعنصرية، حيث يمكن في ظل هذا النظام الطاغوتي لكل صاحب ملة أو مذهب أو نحلة أن يكوّن حزباً، وينشئ صحيفة تدعو إلى مروقه، ويستعين بالغرب على غيه، بحجة إفساح المجال للرأي والرأي الآخر. وهو الواقع اليوم.

أنواع الديمقراطية:
– الديمقراطية المباشرة: وهي أقدم صور الديمقراطية، حيث يمارس الشعب كله فيها الحكم بنفسه من غير وسيط في كافة مجالات الحكم من الناحية التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهذا الأمر جد عسير وشاق، فلا يُتصور أن يمارس الشعب كله السلطة في كافة مجالاتها في كل مسألة يحتاجها الناس إلا إذا كان عدد أفراد هذا الشعب محدوداً للغاية، ولذلك فإن هذه الصورة من ممارسة السلطة بواسطة الشعب لم يعد لها وجود ذو قيمة في عالمنا المعاصر.
– الديمقراطية النيابية: وهي صورة مناقضة للصورة الأولى حيث يمارس الشعب فيها الحكم أو السلطة عن طريق وسيط يُسند إليه ممارسة السلطة في كافة مجالاتها نيابة عنه، والشعب لا يمارس الحكم في هذه الصورة إلا مرة واحدة، وهي المرة التي يختار أو ينتخب فيها نوابه، الذين ينوبون عنه في ممارسة السلطة بعد اختيارهم، وهذا الوسيط هو الهيئة النيابية أو ما يعرف بـالبرلمان.
– الديمقراطية شبه المباشرة: وهي صورة توفيقية من الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية، ففي هذه الصورة توجد هيئة نيابية في الوقت الذي يحتفظ فيه الشعب لنفسه ببعض السلطات يمارسها بغير وسيط كما في الديمقراطية المباشرة.


كلاب سلف للديمقراطيين

قال ونستون تشرشل في بيان عام 1932، منتقداً النظام الديمقراطي: “إن الانتخابات حتى في أكثر الديمقراطيات ثقافة تعتبر بلية ومعرقلة للتقدم الإجتماعي والأخلاقي والإقتصادي، وحتى خطراً على السلم العالمي – في إشارة إلى فرضها على الشعوب الأخرى كالهند”.
وقال في مكان آخر عن إنكلترا: “تبين جميع التجارب أنه عندما منح حق الانتخاب للجميع، وتحقق ما يسمى بالديمقراطية الكاملة، تحطم النظام السياسي برمته بصورة سريعة”.
والكلب تشرشل نفسه كزعيم لنظام ديمقراطي كان لا يقيم وزناً للحزب أو يرى حاجة لاستشارة مؤيديه. وكان يعتبر الحزب وسيلة تمكنه من القفز إلى السلطة، وليس كجمعية ينبغي عليه أن يخدمها. وكان يعتبر الأحزاب ضرورية مثل ضرورة الحصان للفارس، وقد ذكر البعض أن الحزب لروح تشرشل المتغطرسة هو مجرد أداة، ولذلك تخلى عن حزب المحافظين لينضم إلى الأحرار، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى صفوف المحافظين بحسب ما يحقق مصالحه، ويضمن له موقعاً في السلطة.
وقد كان مستبداً برأيه لا يسمح لرأي أحد حتى إن بيفر بروك قال: “عندما يكون تشرشل على رأس التيار فإنه يحمل معه صفاة الطغاة”. وقد عاش تشرشل من أجل الأزمات وأفاد منها، وعندما لا يكون ثمة أزمة كان يعمل على افتعالها ليفيد منها ويحقق طموحاته في المال والشهرة من خلالها، وكان ضعيفاً أمام إغراء المنافع الذاتية، وكانت خدمته للشعب البريطاني محدودة، وقد استخدم الكلمات كما لو أنها أسلحة فعالة، وكان كذلك عبداً لهذه الكلمات. ولطالما ضحى بأناس في سبيل العبارات الرنانة، وتحقيق طموحاته التي من أجلها كان وهو بعيد عن مواقع السلطة يوجه الانتقادات العنيفة إلى الوزراء في العلن، ويبدي عروضاً للتعاون في السر – ككل المنافقين، حتى اعتبره البعض عقابا للشعب الإنكليزي!!
والقارئ لسير معظم من أوصلتهم الانتخابات للحكم في أوروبا وأمريكا، ليعجب كيف وصل هؤلاء وبلادهم فيها الكثير ممن هم أكثر كفاءة، فكيف وصل ونستون تشرشل إلى حكم بلاده وهو الطالب الفاشل الذي لم يستطع أن ينهي أية مدرسة أو يحصل على أية شهادة أو حتى يدخل الكلية العسكرية إلا بواسطة والدته التي كانت على علاقة بأكبر المسؤولين في الدولة من جهة! وبكون أسرته تتوارث لقب لورد من جهة أخرى! والذي قضى خدمته في الجيش في الخطوط الخلفية للمعارك، يكتب للصحف مقالات عنها مقابل أجور محددة لكل مقالة، مخالفاً بذلك شروط وظيفته التي تمنع ذلك. وبقدرة قادر تولى قيادة بريطانيا وهي في عز مجدها، ولم يتركها إلا وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة!
بل فرض سلطته على الحكم حتى بعد تقاعده، إذ عينت له الخارجية البريطانية شاباً اسمه أنطوني براون يعرض عليه البرقيات، ويشرح له المواقف بصفة عامة حتى يستطيع أن يفهم الأسباب التي تتذرع بها الحكومة في قراراتها حتى لا يعترض تشرشل على سياسة لا يفهمها، فيلقي في ذلك خطاباً فتسقط الوزارة، وتشرشل معروف بهذا ؛ ومن يقرأ سيرته يرى أنه دائماً يحصل على ما يريد من مجلس العموم من خلال خطبة شديدة اللهجة يلقيها فيه، تؤدي إلى تراجع بعض المعارضين، مما يسمح بتمرير ما يريد (يتقد أكثر السياسيين بوجوههم الحديدة وألسنتهم الطويلة، وقذارة أطروحاتهم، ولا علاقة بهم بالأخلاق والدين والقيم والعلم، بل إن أرذل وأخبث وأجهل الناس يمكنه التقدم في السياسة لأن المعيار ليس القيم والأخلاق والدين بل الوقاحة والفجاجة والإستعداد لكل شيء حتى السجن من أجل الشهرة. عندنا حقوقي دخل باب السياسة من واجهة سب البيض وشتمهم، والتظلم منهم مدعيا وجود العبودية، مناديا بتحرير العبيد تشويها لبلده، فسن سنة سيئة أصبح بها كل حاقد ومارق يتهم البلد بالعنصرية التي هو بريء منها، وهل يعرف المسلم العنصرية؟! ليسألوا عنها من يزعمون محاربتها. وسمح للدول الغربية بالتدخل في شؤونه حتى أصبحت تبتز حكامنا أو لنقل زاد ابتزازها لهم).
وتشرشل كما يبدو لقارئ سيرته رغم فشله في كل ما أنيط به من مناصب ومسؤوليات، فهو طاغية مستبد وهو في السلطة، وعبد ضعيف يتذلل لهذا أو ذاك، ويتوسل ويوسط والدته أو زوجته! هذا غير أصدقائه ومعارفه من أجل الحصول على منصب، أي منصب في الدولة، ولكنه يعود وبقدرة وقوة فيصور فشله السابق وكأنه نجاح يحقق لصاحبه البطولة!!!.

وقد كان ديغول لا يهمه كيف يصل إلى الحكم، المهم أن يصل لينقذ فرنسا كما يقول! إذ يذكر سيروس سالزبرجر في كتابه “آخر العمالقة” أن الكلب ديغول عبر له عام 1956 عن يأسه من إصلاح النظام والدستور في فرنسا وأنه ذكر له أن المرء يحتاج إلى دراما أولاً، وليس حرباً بالضرورة، فقد يكون الجواب في ثورة أو نوع من الشغب والإضراب، ولما سأله سالزبرجر إن كان يعتقد أن من الضروري حدوث فترة من الفوضى في فرنسا وقد تكون مصحوبة بسفك دماء قبل أن يتمكن من العودة؟ أجاب ديغول: “نعم لابد أن يحدث بعض الفوضى أولاً وإن كان هناك قليل من الدماء، وإن كان هذا أمر مؤسف ولكن ما العمل”.
وأكد سالزبرجر أن ديغول عمل بكل جهده على تحطيم الجمهورية الرابعة وفرض شخصيته، ولوى عنان فرنسا طبقاً لإرادة لا تقهر، وإن كان شغوفاً بفرنسا إلا أنه كان يزدري الفرنسيين ويكره دساتيرهم وأحزابهم السياسية والتدخل المتكرر لجيشهم في السياسة، وقد كان متآمراً موهوباً مستعداً لتولي السلطة بوسائل غير مشروعة، وكان يزدري الديمقراطية الفرنسية وأحزابها، وقد قال: “إن في فرنسا خمسة أحزاب، الشيوعين والاشتراكيين والراديكاليين والمعتدلين والجمهوريين الشعبيين”. أما الشيوعيون فقال إنهم ليسوا حزباً فرنسياً ومن المستحيل تصور إمكان اتخاذ سياسة فرنسية بالاعتماد على الحزب الشيوعي. وأما سائر الجماعات الحزبية الأربع فهي تحارب بعضها وليس من بينها من يحظى بتأييد قطاع هام من الشعب ولا يمكن الاعتماد على هذه الأحزاب لأنه ليس في وسعها الاتفاق على سياسة واحدة”. وقال أيضاً: “إنه لا توجد حكومة في فرنسا وإنما فقط أناس يسكنون قصور الحكومة”. ويرى أن المشكلة الكبيرة بالنسبة لفرنسا في أنها خلال 150 عاماً كان لها 13 دستوراً، وتعرضت للإحتلال ست مرات.
ولم يستطع ديغول العمل إلا بعد أن ضرب اليسار باليمين ليستعيد السلطة ثم ضرب اليمين باليسار ليبقى فيها.
وقد أنهت الإضطرابات حكم ديغول في عام 1968، وهو الذي كان يريد دراما وثورة أو اضطرابات تأتي به إلى الحكم، فأنهت حكمه الاضطرابات والفوضى.
يؤكد سالزبرجر على أن ديغول كان يحكم بأسلوب أوتوقراطي إلا أنه مستبد عادل، وأنه لا يؤمن بالديمقراطية ويرى أن نظام الحزبين على النمط البريطاني أو الأمريكي متعذر إقامته في فرنسا، وهو مقتنع بحاجة فرنسا إلى حكم قوي لأن صغار الرجال في نظره لا يستطيعون معالجة عظائم الأحداث، ولذلك كان معجباً بستالين، ويقول إنه كان علماً ضخماً، قيصراً حقيقياً، كان يسيطر على كل شيء بنفسه، وأنه كان رجلاً عظيماً.

ويؤكد البعض أن أديناور رئيس دولة ألمانيا الغربية مثل ديجول لا يسمح لأحد باتخاذ قرارات سياسية أساسية غيره، وهو مثل ديجول يستخدم أساليب تصفية، ولم يقتصر تسلط أديناور على فترة حكمه، بل قال بعد خروجه من السلطة لمن سأله كيف سيقضي فترة تقاعده: “إنه يريد أن يستخدم سلطانه لضمان بقاء السياسة التي يرغب فيها”، وذلك بوصفه من شيوخ السياسة وأئمتها.


أسباب انتشار الديمقراطية

لما ضاق الأوروبيون بالإقطاع والكنيسة، وصار القسيسون والرهبان يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله، وينصِّبُون أنفسهم آلهة تمثل الله في الأرض وتنوب عنه سبحانه في التوبة عن المذنب، ويعطون صكوك الغفران والإقطاع في الجنة مقابل استسلام العامة لهم يفعلون بهم ما يشاؤون من أخذ أموالهم واستباحة نسائهم وتسخيرهم في خدمتهم. كل ذلك باسم الدين واللاهوت، الأمر الذي مكن رجال الماسون اليهود من إقناع رجال الجيش ورجال الفكر بضرورة التحرك الثوري ضد هذا الجور والظلم والاستبداد ودوس كرامة الإنسان، وكان أكثر ذلك التحرك في فرنسا مما أدى إلى قيام الثورة الفرنسية رافعة الشعار الذي وضعه الماسونيون لها، وهو “الحرية والإخاء والمساواة”، وصار الثوار يقتلون الحكام والقسس؛ بل بلغ بهم الحنق إلى خنق الحاكم الإقطاعي بأمعاء القسيس حتى يموت، لذا كان نظام الإقطاع وفساد الكنيسة أول وأعظم أسباب تقمص الماسونية للديمقراطية والعلمانية، وجعل هذا الاسم يحل في الظاهر محل اسم الماسونية لعلمهم بعداء العالم لليهود، ولمعرفة الكثيرين أن الماسونية مذهب يهودي أريد من ورائه السيطرة على العالم والقضاء على جميع الأديان ما عدا الدين اليهودي، فلما رفعوا شعارهم باسم الديمقراطية أو العلمانية بالنسبة لمن يتسمى بها، والتي أوهموا الناس أنها الحرية والإخاء والمساواة التي يراد تحقيقها عن طريق الانتخاب وحكم الشعب بالشعب، وجدوا لهم قبولاً، وانتشرت الماسونية في العالم انتشار النار في الهشيم (اليهود هم الذين يحكمون العالم اليوم بأموالهم ودسائسهم، وهم العدو الذي حذرنا ربنا منه في القرآن لذا يروجون للماسونية والصهيونية وغيرها من الأسماء لبث الحيرة حتى لا يُهتدى إليهم، لكن أكثر الناس يجهلون أنهم وراء كل ما يجري في العالم من إجرام، ويحتلون أمريكا وكل دويلات أووبا، ويخدعون شعوبها بالديمقراطية، ويلقون لهم بعض اللقيمات مما يلقى للكلاب، ويلهونهم بالشهوات والمخدرات ليغفلوا عنهم. وقد ظهر لتلك الشعوب بعد العدوان على غزة – في أواخر 2023، أن اليهود يحتلون بلدانهم، فلا يستطيع الحكم هنالك ولا إبداء الرأي إلا من كان منهم أو من باع نفسه لهم، فلعلها – هي وأوكرانيا، بداية فضح أولئك المجرمين وعبيدهم الذين خدعوا الناس جميعا حتى المسلمين).
وأما سبب سكوت رجال الدين النصراني عن المذهب الديمقراطي، فلأنهم رضوا من الغنيمة بالإياب؛ لأن الكنيسة هي السبب الأول في قيام الثورة ضدها، وفصل الدين عن الدولة نتيجة الجرائم التي ارتكبها رجال الكنيسة ضد الناس إلى جانب تلاعبهم بالإنجيل وتحريفه وتغيير شرع الله، والكفر بوحدانيته كما فعل اليهود بالتوراة من قبل.
أما دين الإسلام فهو المحفوظ من عند الله لا تستطيع يد التحريف أن تمتد إليه، ورجاله المخلصون المتمسكون به على فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فلا مجال لفصله عن الدولة وإبعاده عن الحكم لأنه الدستور الإلهي الوحيد الذي يحقق العدالة والإخاء والمساواة على الوجه الصحيح، لا الديمقراطية أو غيرها من المذاهب البشرية، لذا لا يمكن أن يرضى مسلم غيور ولو كان عامياً، فضلاً عن العالم، بأن يُبْعَد الدين عن الدولة ويفصل عنها بمثل هذه الوقاحة والجرأة! لأنه يرى في ذلك الكفر البواح والشقاء المحتوم، ولأن فصل الدين عن الدولة كفر بشهادة أنَّ “لا إله إلا الله” تعني لا معبود حق إلا الله، ولا مشرع وحاكم إلا الله، فهي سياسة كلها من لامها إلى هائها.
لذا لما رأى الماسونيون فشلهم مع علماء الإسلام الصادقين في إسلامهم المتمسكين به على علم وهدى من الله سبحانه، حاربوا الإسلام والمسلمين من خلال عدة محاور:
بدايتها: حرب الإسلام والمسلمين بالقوة، وهو العمل على قيام الدولة الشيوعية التي لا تعترف بدين ولا بفضيلة ولا بملكية فردية تحت الشعار الماسوني (إخاء، عدالة، مساواة). والتي لا تخاطب الناس بلسان الإقناع والمحاورة، وإنما بقتل كل معارض، ولو كان الشعب بكامله! فاستخدمت لذلك من زعماء اليهود في أوربا “كارل ماركس” مؤسس المذهب الشيوعي، و”لينين” قائد الحركة الشيوعية، ومن على شاكلتهم، وعملت عملها في شعوب البلقان، وفي الشعوب الأخرى التي سيطرت عليها، وشملها اسم الاتحاد السوفييتي، وهكذا امتد هذا النظام اللعين إلى الصين، غير أن شعب الصين لم يلاقِ التصفية الجسدية التي لاقتها الشعوب المسلمة والنصرانية في الاتحاد السوفييتي لكون الصين على غير دين، وصارت الماسونية تعمل عملها مع الديمقراطيين في أوربا وأمريكا، ومع الشيوعيين في روسيا، فلما رأت قيام الحركات الثورية في البلاد العربية، ومناهضة أكثرها للغرب لكونه المستعمر لبلادهم أغروا بهم قادة الشيوعية حتى ارتبط بعضهم بالشيوعية وتعهد لها بتطبيق هذا المذهب الشيوعي بدءاً بالاشتراكية لكونها أهون وقعاً وأقل شراً، مما يساعد على قبول الغوغاء لها، ولكن ذلك لم يضر الإسلام والمسلمين بشيء والحمد لله، بل زادهم حباً لدينهم الحق وتمسكاً به، وكان عاقبة الشيوعية والآخذين بها الخسران والهلاك، والحمد لله رب العالمين.
أما المحاور الأخرى التي عملوا على إيجادها لمحاربة الإسلام وأهله فهي عن طريق الكيد والمكر والإفساد العقدي والخلقي، وهي المحاور الأربعة الآتية:
المحور الأول: نشر المذهب الديمقراطي بواسطة أمريكا ودول أوروبا لما فيه من افساد عقيدة وخلق من ينخدع به ويقبله من المسلمين.
المحور الثاني: وهو أخطر الجبهات ضد الإسلام وأهله: اتخاذ الماسونيين أتباعا لهم من أبناء وبنات المسلمين ربوا أكثرهم في أوربا وأمريكا على الانحلال العقدي والخلقي، وألحقوهم بالدراسات النظرية الإباحية التي تنأى بهم عن الإسلام وتعاليمه، فتلقوا بواسطتها النظم والأفكار الغربية الكافرة، حتى إذا وجدوا من الواحد منهم التفرنج والتبعية لهم وحبه لهم، منحوه أعلى الشهادات، وأوصوا به ليعطى منصباً قيادياً في بلده المسلم أو وضعوه فيه قسرا أو بالدبلوماسية.
وهذا الصنف يعرف الآن بالعلمانيين، وكانوا يعرفون في صدر الإسلام بالمنافقين الذين فضحهم الله وبين صفاتهم في أول سورة البقرة، وفي سورة التوبة والمنافقون وغيرها.
وهم الذين يتظاهرون بالإسلام أمام المسلمين، ويبطنون الكفر، ويكيدون للإسلام والمسلمين في الخفاء، وفي مقدمتهم الحداثيون أصحاب المذهب الحداثي الذين يبثون سمومهم ضد الإسلام وأهله في رموز يتعارفون عليها في أشعارهم المنثورة التافهة، وفي مقالاتهم الكفرية الضالة.
المحور الثالث: وسائل الإعلام والبث المباشر الذي يكتوي العالم الإسلامي الآن بناره وتعاني من شره أكثر البيوت المسلمة لما يبث فيه من الإلحاد والخلاعة والمجون وأفلام التدريب على الاغتيال والسرقة والخطف والخيانة وغير ذلك، سلاح وجدت فيه الماسونية بغيتها ضد الإسلام والمسلمين، ولو على المدى البعيد.
المحور الرابع: عملهم على تشجيع الشرك والخرافة، وإظهار البدع، وتقديس الأئمة والأولياء وعبادتهم من دون الله بدعائهم واتخاذهم وسائط عند الله يطلبون منهم الشفاعة والمدد وشفاء المريض والرزق والولد وتفريج الكروب، ويعتقدون فيهم أنهم يعلمون الغيب، وأن الله جعل لهم أو لبعضهم أن يقولوا للشيء كن فيكون، وأن منهم من يدبّر الكون.
وقد سلك أولئك الضُّلَّال المشركون علماء الضلال واتباعهم مسلك الديمقراطيين في عزل الدين عن الدولة، والانـزواء به في زوايا التصوف والرهبانية الفاسدة التي لم يسبقهم إليها إلا النصارى واليهود والمجوس، وصار هذا الصنف من علماء السوء هم المقربون لدى الحكام العلمانيين والديمقراطيين، وهم الذين تسند لهم المناصب الدينية (والدنيوية لأتباعهم، ولهم وزن انتخابي، ويخشاهم الرؤساء ويرجونهم، حتى أن الرئيس السينغالي ماكي صال، زار في أوج مظاهرات مايو 2023 المندلعة ضده، مدينة طوبة في السنغال للقاء الخليفة الصوفي هنالك، ربما رجاء مساعدته في إخمادها بالسحر والخرافة؟!).
أما علماء الإسلام المخلصون الموحدون لله تعالى، المتبعون لرسوله صلى الله عليه وسلم، البعيدون عن الشرك والخرافة، الداعون إلى توحيد الله تعالى وتحكيم شريعته والأخذ بالإسلام في كل مجالات الحياة، فإن الماسونية تحاربهم وتبعدهم وتتهمهم بالتخلف والرجعية، وحيناً تصفهم بالإرهابيين وتلحقهم ظلماً وزوراً بأصحاب الحركات الإرهابية، رغم أنهم يعلنون براءتهم من ذلك الإرهاب ويحرمونه، لما فيه من الاعتداء على الأبرياء والتخريب الذي نهى الله عنه (وهو ما تفعل في حربها على السلفية أو الوهابية كما يسمونها، حتى إن رؤساء أمريكا عندما يتحدثون عن الإرهاب الذي هم أصله وأساسه، يتهمون الوهابية بالأساس رغم اعلان الأخيرة برائتها من الخوارج ومن يحركهم).
وما ذلك الاتهام إلا لكي يشوهوا الإسلام الصحيح وأهله المتمسكين به من ناحية (لاحظ اختلاف كل أهل البدع فيما بينهم، واتفاقهم في شيء واحد وهو معاداة السلفية الوهابية لأنها الخطر الأكبر على ضلالهم، فهي لا تسكت عنه ولا عنهم، لهذا يحاربونها)، ولكي يستعدوا عليهم الحكام العلمانيين من ناحية أخرى لكي يحاربوهم ويحاربوا كل دعوة صحيحة إلى الإسلام، حتى لا يبقى منه إلا الاسم، وصدق الله العظيم إذ يقول: “يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ”.


حكم مظاهرة الكفار

هذه نقولات في حكم مظاهرة الكفار على المسلمين ومعاونتهم بالسلاح أو المال أو الرأي. فقد جاء النص الصريح من كتاب الله عز وجل على أن من اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين فهو منافق، لا يؤمن بالله ولا بالنبي وما أنزل إليه، وأنه من جملة الكفار الذين والاهم ونصرهم. قال الله تعالى: “بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين * أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا”، وقال تعالى: “ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون”، وقال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم” إلى قوله “يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله يقوم يحبهم ويحبونه”، وقال تعالى: “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة”، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، المؤكدة له تأكيدا يمنع تأويل الجاهلين وتحريف المبطلين. فاتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين، أي مناصرتهم ومظاهرتهم ومعاونتهم على أهل الإسلام كفر صريح، وردة سافرة، وعلى هذا انعقد إجماع أهل العلم.
وقد جمعت هنا شيئا من كلامهم، رغبة في تذكير الغافل، وتعليم الجاهل، وإرغام المعاند.
– قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: “لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء”: “والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال إن الله تعالى ذكره نهيا للمؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان”.
وقال: “القول في تأويل قوله تعالى “ومن يتولهم منكم فإنه منهم”، يعني تعالى بذلك من يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم؛ فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه”.
– وقال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة”. قال: “وهذا نهي من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وظهورا، ولذلك كسر “يتخذ” لأنه في موضع جزم بالنهي، ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقيه وهي ساكنة، ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. “إلا أن تتقوا منهم تقاة “، أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتُظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل”.
– وقال ابن حزم رحمه الله في المُحَلى: “صح أن قوله تعالى “وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم” إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين”.
– وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: “ومثله قوله تعالى “تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ”، فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف “لو” التي تقتضي مع انتفاء الشرط انتفاء المشروط، فقال “وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ”، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه. ومثله قوله تعالى “لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ”، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمنا، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً”.


هل الديمقراطية كفر؟

إن الديمقراطية والعلمانية اسمان لمسمى واحد في حقيقته، فهما مذهب كفري وضعته الماسونية (فلاسفة اليهود ومن تبعهم) ضد الكنيسة، وبالتالي ضد الإسلام أولاً، وضد العالم أجمع ثانياً، فهما نظام مخالف للقرآن والسنة، ولجميع كتب الله التي أنزلها على رسله، والمؤمن بهما أي بالديمقراطية والعلمانية، المصحح لهما أو لبعض مواد أنظمتهما المخالفة للإسلام مختاراً يُعتبر مرتداً عن الإسلام، إن كان مسلماً يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً، لا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن مع المسلمين، ولا يرثه أقاربه؛ لأنه قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام المجمع عليها، يكفي واحد منها للحكم عليه بالكفر، منها:
– تصحيح مذهب كفري مخالف للإسلام، والإيمان به وتطبيقه، وقد قال الله سبحانه: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ”، وقال تعالى: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”، وقال تعالى مبيّناً أن الكفر بالبعض كفر بالكل: “أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ”، وقال تعالى: “وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أُنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ”.
– الاستهزاء بدين الإسلام وبأهله واعتباره تخلفاً ورجعية وعزله عن السياسة الدولية، وهذا كفر صريح به جملة، وبأعظم أركانه وهو الشهادتان على وجه الخصوص؛ لأن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) سياسة ودولة كلها، فليس بمؤمن بها من لم يكفر بالطاغوت، ولو قالها في اليوم ألف مرة، والطاغوت يشمل الصنم ومن دعا إلى تقديس نفسه وطاعته في معصية الله، وكل مذهب أو نظام أو سِلْم قبيلة أو عادة اجتماعية مخالفة للإسلام، وكل ساحر وكاهن يَدَّعِي علم الغيب، ومن عُبد وهو راض، ومن حكم بغير ما أنـزل الله، وإبليس لعنه الله. كل واحد من هؤلاء يسمى طاغوتاً.
والمستهزئ بدين الإسلام أو بأهله المتمسكين به، كافر ولو كان مازحاً، وكذا الذي يعيب الإسلام ويصفه بالرجعية والتخلف، أو يمدحه لكنه يقول بأن تشريعاته أو بعضها لا تصلح لهذا الزمان. بل الذي يدعي الإيمان بالإسلام وبأنه صالح وحق، ولكنه يصحح الديمقراطية أو العلمانية أو غيرهما من المذاهب الكافرة كالبعثية والقومية، ويقول إنه يجوز الأخذ بها مع الإيمان بأن الإسلام حق، فإنه محكوم بكفره بعد إقامة الحجة عليه بأن اعتقاده هذا كفر بالله تعالى؛ لأنه بذلك لم يكفر بالطاغوت، ولم يؤمن بالله حق الإيمان، والنصوص الدالة على ذلك أكثر من أن تحصر، منها ما تقدم، ومنها قوله تعالى في حق المستهزئين: “قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ”.
– الناقض الثالث الذي وقع فيه الديمقراطيون والعلمانيون ومن على شاكلتهم، هو بغض الدين كله بالنسبة لبعضهم، وبغض بعض الدين بالنسبة للبعض الآخر، وكره انتصاره والحكم به وقيام دولته التي تحكم به في كل شيء، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والمسرة عند انخفاضه وانتصار الباطل عليه، وحب الإباحية والتهتك والاختلاط، وبغض العفة والستر والحجاب.. إلخ، وهذا أعظم أنواع الكفر، وهو ما يسمى بالنفاق الاعتقادي الذي صاحبه مخلد في نار جهنم في الدرك الأسفل منها، والعياذ بالله.
– الناقض الرابع من نواقض الإسلام الذي وقع فيه الديمقراطيون والعلمانيون، هو موالاة أعداء الإسلام ومعاداة أولياء الرحمن المتمسكين بالإسلام، بل معاداة الإسلام نفسه واتباع أئمة الكفر المؤسسين لتلك النظم الكافرة والمنظرين لها، ومعاداة إمام المتقين وسيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم له وللشريعة التي بعثه الله بها ورضيها وحكم على من ابتغى غيرها بالطرد والخسران، فقال: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ”، وقال تعالى في بيان كفر من يتولى الكافرين ويحبهم ويعتنق مذهبهم أو بعضاً منه: “وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ”، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من تشبه يقوم فهو منهم”، نسأل الله العلي العظيم أن يثبت قلوبنا على دينه.
هذا بالنسبة لمن يظنون أنهم مسلمون بمجرد النطق بالشهادتين وتأدية بعض شعائر الإسلام الظاهرة ممن يؤمنون بالديمقراطية والعلمانية وغيرهما من مذاهب الكفر، ويدعون إليها. أما الملحدون من الكفار الخُلّص ونحوهم، فأمرهم بَيِّن لا يحتاج إلى بيان، نسأل الله للجميع الهداية إلى صراطه المستقيم.

قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي في الديمقراطية : “كفرنا بالديمقراطية الطاغوتية، وبدا بيننا وبينها العداوة والبغضاء، ويجب على المسئولين أن يكفروا بها، بل يجب على جميع الشعب اليمني أن يكفر بها. فإذا كان سلفيًا وهو يؤمن بالديمقراطية، فهذا ليس بسلفي ولا كرامة.. والأمر الذي أنصح به إخواني في الله، هو أن نعامل المخالفين معاملة المسلمين لأنّهم متأولون حتى وإن كانوا يقولون: نحن ديمقراطيون، فإذا كان يعتقد أن الديمقراطية حق ويؤمن بها فهو كافر، لكن إذا كان متأولاً لأجل مطامع الدنيا فهو ضال”.

من مبادئ الديمقراطية:
الحرية في الدين، فللشخص أن يَدينَ بما شاء، وأن يختار من الأديان والمذاهب الباطلة ما شاء، وليس لأحدٍ عليه سُلطة، فعلى هذا لا يوجد في الديمقراطية حَدُّ رِدَّة؛ عن ابن عباس قال: قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: “من بدَّل دين، فاقتلوه”.
ومن مبادئها: الحرية الشخصية، فللشخص ممُارسة ما يريد مع غيره من غير إكراه، فله الزنا واللوَاط، وليس من حقِّ الأب منع ابنته من الزنا، وهذا فيه مُصادمة للشرائع كلِّها، فلا فَرْقَ عند الديمقراطيين بين الحسن والقبيح؛ فللشخص فعل ما شاء من سُكرٍ وغِناء ومُجون، فغلبتْ الحرية الشخصية على المصلحة العامة؛ فينال المجتمع الأذى والخلل باسم الحرية.
وفي ظلِّ الديمقراطية لا يمكن الاحتساب على الخارجين عن طاعة الله، فلا أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر؛ لأن هذا يتعارض مع الحرية الشخصية.
وفي الديمقراطية يتمُّ الاعتماد على الكثرة، بغضِّ النظر عن العلم والكفاءة والنزاهة، فلا فرق بين العالم والجاهل، بين النزيه وغيره، ولا يلزم أن تكون رغبات الكثرة هي الصواب، وحتى إن صدقوا في أن الكثرة هي التي أتت بالمنتخب، فقد قال الله تعالى “وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ”.
وفي الديمقراطية يجبُ إفساح المجال لكلِّ ضالٍّ ومُنحرف؛ ليقولَ ما يُريد وينشر أفكاره بحُجَّة إفساح الرأي للآخر والتعددية، وتجد هذا ظاهرًا في قَنوات ومواقع بعض الإسلاميين ذوي التوجُّهات السياسية، فيُمَكِّن للفاسق والضال والمبتدع؛ ليقولَ ما يُريد وليشكك الناس في دينهم.
ومن التناقض أنهم هم وغيرهم غالبًا لا يقبلون بهذه التعددية إذا كان الأمر يتعلَّق بتوجُّهاتهم وقادتهم، فمثلاً لا يظهر أحدٌ في قنواتهم ممن ينتقدهم، وفي بعض مواقع الإنترنت لابدَّ أن يمرَّ الردُّ بمشرف الصفحة إذا كان الأمر يتعلَّق بهم، فلا يَعرض إلا ما يناسبهم.
ولا مُثُل ولا أخلاق ولا قِيَم في الديمقراطية، فالدول التي تدَّعي الديمقراطية هي الدول التي اسْتَعمرتْ البلاد الإسلامية والعربية، ولازالت تستعمر بعضها، فنهبت ثروات تلك البلاد، ودمَّرت البنى التحتية لها.
هذه الحكومات المحتلة هي التي تبشر بالديمقراطية وتسعى لفرضها إرغاما للغير عليها، وخُصوصًا ما تعلق بالحريات الشخصية.
وفي الديمقراطية تُشتَرى الذِّمم، فيصوَّت لمن يدفع أكثر، فيلجأ المرشَّحون إلى الرشاوى بأسماء مختلفة: هَديَّة، مُساعدة… إلى غير ذلك من التسميات التي لا تغيِّر من الواقع شيئًا، فيصل بهذه الأصوات من ليس مُؤهَّلاً وربما طغت القبيلة والمنطقة، فيتواصى الناس ويأمر كبارهم بالتصويت لفلان لاعتبارات قَبَليَّة أو جُغرافية.
أصبحت الديمقراطية سلاحًا؛ لإسقاط من لا يَرضى من الزعماء، فمن لا يرضى يُسلَّط عليه الإعلام بأنه مُتسلِّط، ثم يُنحَّى.
إن الغرب يستخدم الديمقراطية مِعوَلاً يَهدمُ به بعض البلاد العربية والإسلامية، وذلك بتسليط أبناء هذه البلاد ودعمهم؛ للخروج على حُكَّامهم، ثم بعد ذلك يكونون أداة لتمرير مخططاتهم وتغريب أمتهم.

ومن أسباب الافتتان بالديمقراطية الجهل بها، سواء الجهل بمنافاتها للإسلام، أو الجهل بواقعها، وحقيقة كونها مجرد شعارات لا تطبَّق تمامًا في أرض الواقع حتى في الدول التي تتشدَّق بها.
ومن أسباب الافتتان بها التطلع للحكم والمناصب، ويكون هذا بالديمقراطية أيسر.

عناصر الديمقراطية:
أهمها عنصران: الأول، سيادة الشعب. والثاني، الحقوق والحريات مكفولة.
فمعنى السيادة للشعب أنه هو سيد السلطات الثلاثة التشريعية والقضائية والتنفيذية، فالسلطة التشريعية يشرع فيها ما يريد ولو خالف حكم الله، والسلطة القضائية يقضي فيها بما شرعه، والسلطة التنفيذية ينفذ فيها ما قضى به.
فأين الله ورسوله من هذه الأحكام؟
غير موجودين!! مع أن الله تعالى قال: “إن الحكم إلا لله”، فالسلطة التشريعية من الله تعالى من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والسلطة القضائية والتنفيذية من الشعب على مراد الله تعالى.
أما معنى الحقوق والحريات مكفولة، فكل واحد حر، ففي النظام الديمقراطي حرية الردة مكفولة، ويسب ويلعن القرآن والسنة كيف شاء، تحت مظلة القانون الديمقراطي. وتحمل المرأة من سفاح لأن حريتها مكفولة.
ولا دين ولا رجولة ولا أنوثة – والشذوذ يغزو العالم – ولا مسلم ولا كافر، الجميع سواسية، فأين قول الله تعالى: “أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون”.


مثالب الديمقراطية

أولا: لا تنظر الديمقراطية إلى حقوق الله على عباده، ولا تنظر بعدل إلى الحقوق العامة، وحقوق المجتمع على الأفراد ؛ فهي منحازة بإسراف للفرد وإطلاق حريته.
ثانيا: تخضع الديمقراطية لدى وضع الدستور والقوانين والنظم لأهواء أعضاء المجالس النيابية، واللجان التي تفوض في وضعها أو وضع مشروعاتها. وغالباً ما يحرك هذه المجالس أفراد معدودون، ويوجهونها حسب أهوائهم بوسائلهم و حيلهم الشيطانية. وتظفر بنصيب الأسد فيها غالباً بعض الطبقات الإجتماعية التي تسخر التطبيقات والمؤسسات الديمقراطية لصالحها، أو يظفر بنصيب الأسد فيها الأفراد المحركون لها والموجهون لمسيرتها وآرائها ومناقشاتها. وتتدخل عناصر كالحيلة والمال والشهوة، ومطامع المناصب، وشراء الضمائر، وتزوير إرادات الجماهير بأساليب شتى، في استغلال المجالس، وتجميع الأصوات، وتحريك الجماهير الغوغائية، والتغشية على الأفكار والبصائر، وإبعاد كل رأي صحيح عن مجال رؤية الجماهير له، وصناعة الضجيج الإعلامي المشوه لإقرار المواد الدستورية أو القانونية أو التنظيمية التي تحقق مصالح أصحاب الأهواء الشياطين الماهرين بأساليب استغلال التنظيمات الديمقراطية ومؤسساتها وتطبيقاتها.
ثم لأنواع المكر والكيد التي تمارسها الأحزاب السياسية الديمقراطية تأثير كبير في جعل الحق باطلاََ والباطل حقاَ، وخداع جماهير الذين يدلون بأصواتهم للموافقة على مشاريع الدساتير والقوانين والنظم، أو انتخاب الذين يتحملون الأعباء التشريعية أو الإدارية. هذا إذا لم يتم تزوير الانتخابات بتبديل الصناديق التي ألقى المخترعون فيها أوراق انتخاباتهم، بصناديق أخرى مشابهة لها في الظاهر، وما في باطنها مزور كلياً. وكم حدث هذا في الإنتخابات الديمقراطية، وكانت الحصيلة مئة في المئة لصالح المزور أو الآمر به، أو 9، 99%، أو نحو ذلك!
ثالثاً: أن الديمقراطية باعتبارها تنادي ب“الدين لله والوطن للجميع”، وأن شأن الأقليات في الدولة كشأن الأكثرية في الحقوق والواجبات، تمكن الأقليات من التكاتف والتناصر لاستغلال الوضع الديمقراطي ضد الأكثرية ومبادئها وعقائدها ودينها (وهو ما يحدث الآن في أمريكا وأوروبا من فرض للشذوذ على الأكثرية)، وتمكنها أيضاً من التسلل الى مراكز القوى في البلاد، ثم إلى طرد عناصر الأكثرية رويداُ رويداُ من هذه المراكز بوسائل الإغراء، وبالتساعد والتساند مع الدول الخارجية المرتطبة بالأقليات ارتباطاً عقدياً أو مذهبياً أو سياسياً أو قومياً أو شيطانيا، أو غير ذلك. فتصحو الأكثرية من سباتها بعد حين، لتجد نفسها تحت براثن الأقلية، محكومة حكماً دكتاتورياً من قبلها، مع أنها لم تصل إلى السلطة إلا عن طريق الديمقراطية.
لطالما كانت الديمقراطية بغلة ذلولاً أوصلت أعداء الأكثرية وحسادها والمتربصين الدوائر بها إلى رقبتها (تأمل في فعل تلك الأقلة بالناس بفرض اللقاحات القاتلة عليهم بعد نشرها لوبائها المصنع في معاملها).
رابعا: الديمقراطية وفق مبادئها المعلنة حقل خصيب لتنمية أنواع الكذب والخداع والمكر والحيل والكيد والدس الخبيث، والغش والخيانة والغدر والغيبة والنميمة، والوقيعة بين الناس، وتفريق الصفوف، ونشر المذاهب والآراء الضالة الفاسدة المفسدة، والرذائل الخلقية الفردية والجماعية، ليستأثر جنود الشياطين بكل السلطات في البلاد، وكل خيراتها وثرواتها، وحتى يتمكنوا من مطاردة الدين وأنصاره وحماته والمستمسكين به، وإماتة الحق والخير والفضيلة (لذا أصبح الكذب دين الديمقراطيين).
خامسا: الحريات الشخصية في الديمقراطية حريات مسرفة، تفضي إلى شرور كثيرة، وانتشار الفواحش الخطيرة في المجتمع. ومآلها إلى الدمار الماحق.
سادسا: الحريات الإقتصادية في الديمقراطية مسرفة تفضي إلى عدوان المحتالين على حقوق الشرفاء، ونشر الاستغلال والاحتكار، وحيل سلب الأموال، وتمكين الغشاشين والمقامرين والمرابين والمحتكرين والراشين والمحتالين ومستغلي السلطة الإدارية أو العسكرية، من تحقيق مكاسب مالية وفيرة بالظلم والعدوان وهضم الحقوق، واكل أموال الناس بالباطل، والغلول في الأموال العامة.
سابعا: حق كل مواطن في المساواة السياسية في الحكم، دون شرط الإسلام والعدالة الشرعية والأهلية للمشاركة في الرأي أو المساهمة في الاقتراع أو الانتخاب والاختيار، يفضي إلى نسف دعائم الدولة الإسلامية، وجعلها علمانية غير دينية، أو تمكين الأرذال من اعتلاء سلطة الحكم، وتحويل الدولة إلى دولة فساد وإفساد وفسق وفجور وفحش فى الأقوال والأعمال، وشر كبير. وقد يلعب أعداء الأمة بالجماهير غير الواعية، فيركبون ظهورها ويصلون بذلك إلى حكم الشعب رغم إرادته عن طريق تزوير إرادته نفسها.
ثامنا: حق الفرد في ترشيح نفسه للحكم في الديمقراطية يجعل طلاب مغانم الحكم كثر يتنافسون عليه، ويتقاتلون من أجله، ويسلكون مسالك كثيرة غير شرعية للوصول إليه، ويبذلون أموالاً طائلة، أملا بأن يعوضوها أضعافا مضاعفة متى ظفروا بالحكم.

وتفتح لديمقراطية الباب على مصراعيه للردة والزندقة، حيث يمكن في ظل هذا النظام الطاغوتي، لكل صاحب ملة أو مذهب أو نحلة، أن يكوّن حزباً وينشئ صحيفة تدعو إلى مروقه من دين الله بحجة إفساح المجال للرأي والرأي الآخر.
وتفتح الباب على مصراعيه للشهوات والإباحية من خمر ومجون وأغاني وفسق وزنا ودور سينما، وغير ذلك من الانتهاكات الصارخة لمحارم الله، تحت شعار الديمقراطية المعروف: “دعه يعمل ما يشاء، دعه يمر من حيث يشاء”، وتحت شعار: “حماية الحرية الشخصية”!!
وتفتح الباب للتفرق والاختلاف استجابة للمخططات الاستعمارية الرامية إلى تمزيق العالم الإسلامي إلى قوميات ووطنيات ودويلات وعصبيات وأحزاب، وفي هذا مخالفة لقول الله تعالى: “وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون”، ولقول الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”، ولقول الله تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”.
وتجعل متبنيها يعترف بالمؤسسات والمبادئ الكفرية، كمواثيق الأمم المتحدة، وقوانين مجلس الأمن الدولي، وقانون الأحزاب، وغير ذلك من القيود المخالفة لشرع الله، وإن لم يفعل مُنع من مزاولة نشاطه الحزبي بحجة أنه متطرف وإرهابي وغير مؤمن بالسلام العالمي والتعايش السلمي!! (فكل اعتراض عليهم يعتبر تطرفا، ويحاربونه بمنتهى الدكتاتورية والوحشية حتى الراي المخالف في الفيسبوك واليوتيوب).
وتعطيل الأحكام الشرعية؛ من جهاد وحسبة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وأحكام الردة والمرتد والجزية والرق؛ وغير ذلك من الأحكام. إذ يوصف المرتدون والمنافقون في ظل النظام الديمقراطي بأنهم وطنيون وقوى خيِّرة ومخلصة؛ وهم بخلاف ذلك شرعاً.
واعتمادها على الغوغائية والكثرة بدون ضوابط شرعية، والله تعالى يقول: “وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله”، ويقول الله تعالى: “ولكن أكثر الناس لا يعلمون”، ويقول الله تعالى: “وقليلٌ من عبادي الشكور”.
والديمقراطية لا تفرق بين العالم والجاهل، والمؤمن والكافر، والذكر والأنثى، فالجميع أصواتهم على حد سواء، بدون أي اعتبار للمميزات الشرعية. والله تعالى يقول : “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” ، ويقول الله تعالى: “أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون”، ويقول الله تعالى: “أم نجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون”، ويقول الله تعالى: “وليس الذكر كالأنثى”.
إن قضية الولاء والبراء تظل غامضة في ظل النظام الديمقراطي، ولذلك يصرح بعض السالكين في هذا الطريق بأن خلافهم مع الاشتراكيين والبعثيين وغيرهم من الأحزاب العلمانية من قبيل اختلاف البرامج لا المناهج، ومن جنس اختلاف المذاهب الأربعة، ويعقدون المواثيق والتحالفات بألا يكفر بعضهم بعضاً ولا يخون بعضهم بعضاً، ولذا يقولون بأن الخلاف لا يفسد للود قضية!! هذا الطريق يؤدي إلى قيام التحالفات المشبوهة مع الأحزاب العلمانية؛ كما هو الحاصل اليوم.
والدخول في المهزلة الديمقراطية يؤدي غالباً إلى فساد المقاصد والنيات، بحيث يصبح كل حزب همه في نصرة حزبه؛ واستعمال كافة الوسائل لجميع الناس حوله؛ وخاصة وسيلة التدين والخطابة والوعظ والتعليم والصدقات وغير ذلك.
كما يؤدي الدخول في الديمقراطية إلى فساد الأخلاق الفاضلة؛ كالصدق والصراحة والوفاء، ويحل محل ذلك الكذب والمداهنة والغدر.
وكما أن طريق الديمقراطية والانتخابات يؤدي إلى تمكين الكفار والمنافقين من الولاية على المسلمين، بطريقة يظنها بعض الجهلة شرعية، وقد قال الله تعالى: “لا ينال عهدي الظالمين” ، وقال الله تعالى : “ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً”. فكم يحصل بهذا من التغرير والتدليس على عوام المسلمين، وإيهامهم بأن طريقة الانتخابات شرعية ؟!
وتنتعش في ظل الديمقراطية البدع والضلالات بشتى أنواعها، ويظهر الداعون إليها باختلاف طرائقهم وفرقهم من شيعة ورافضة وصوفية ومعتزلة وباطنية وغير ذلك، بل إنهم يجدون في ظلها الدعم والتشجيع من المنافقين في الداخل، ومن الأيادي الخفية في الخارج ، ولله في خلقه شؤون.
وتؤدي الديمقراطية إلى الزعزعة الأمنية في البلاد، وحدوث صراعات حزبية لا أول لها ولا آخر؛ فما حلت الديمقراطية في بلد إلا وحل معها الخوف والقلق والنـزاعات العقدية والمذهبية والعصبية والقبلية والسلالية والنفعية، وغير ذلك من الاضطرابات المعلومة.

من سلبيات النظام الديمقراطي:
تَفَرُّق الشعب الذي يحكمه النظام الديمقراطي، وانتشار العداوة بين أفراده نتيجة تعدد الأحزاب، لأن كل حزب يبث الدعاية لنفسه ويذم الأحزاب الأخرى ويعيبها من أجل جمع الأنصار. فإذا توصل إلى الحكم قرب رئيسه الحاكم أفراد حزبه وأسند إليهم المناصب الهامة في الدولة بطرق مباشرة وغير مباشرة.
ومنها، اختلاف وجهات نظر الأحزاب في نظام الحكم بما في ذلك السياسة الداخلية والخارجية العامة والخاصة، وهذا يؤدي إلى مفاسد كثيرة منها إضاعة مال الدولة وضعف مواردها، ومنها عدم ثقة رجال الأعمال والمزارعين وأصحاب المصانع والشركات بالحاكمين لهم لاختلاف تصرفاتهم تجاههم، ومنها عدم ثقة الدول الأخرى بها لأن أي دولة مجاورة أو بعيدة لا تقدم على إبرام اتفاقية أو معاهدة مع ذلك الحزب الحاكم وفي علمها أنه سيتولى غيره من الأحزاب وهي تختلف معه في سياسته.
ومنها أن المشاكل السياسية داخلياً وخارجياً تكثر، وتكثر الجرائم على اختلافها، بل إن بعض أفراد الأحزاب الأخرى المناوئين للحزب الحاكم يقومون بطرق سرية بتنظيم أعمال الشغب والإجرام، ويدعمون ذلك بطرق غير مباشرة لكي يشوهوا سمعة الحزب الحاكم مما يسرع بالإطاحة به، وبهذه السلبيات وغيرها مما لم نأت على ذكره يُفقد الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي في الدولة التي يحكمها النظام الديمقراطي أو العلماني.

من نقد الديمقراطية المعاصر:
– أن الديمقراطية رسَّخت حُكْمَ الأقلية – تحت اسم خيار الشعب – فخالف التطبيق على الأرض التنظير المقرر في الكتب، وذلك أن قلة من محترفي السياسة هي التي تضطلع بالمهمة في واقع الأمر، والشعبُ – الذي يدعون أنه يحكم – بعيد عن سُدّة الحكم، وإنما مهمته التوجه لصناديق الاقتراع مرة كل عدد من السنين، ليضفي ما يسمونه الشرعية على حكم هذه الأقلية، ومن هنا ركز ناقدو الديمقراطية في الغرب على حقيقة بالغة الغرابة، وهي أن الديمقراطية أشبه ما تكون بالشيء الخيالي، والأمر الموهوم البعيد عن الواقع.
– من أهم ما وُجِّه للديمقراطية من النقد ذلك الواقع الفاسد الذي خلَّفته، من جهة أن كل شيء في ظل الحكم الديمقراطي أصبح ممكن الشراء، سواء المناصب السياسية أو القرارات السياسية، أو الدعم الخارجي لِقُوى يكون دعمها على حساب الجبهة الداخلية، بل وصل الأمر إلى إثارة حروب طاحنة لا هدف لها، إلا مجرد التسويق لمنتجات شركات الأسلحة (وروجوا بها للوباء وقاحاته في 2019).
– وجود آثار مدمرة لتطبيق الديمقراطية تتعلق بالجوانب الإقتصادية التي عليها مدار اهتمام أولئك القوم، فبين عامي 1983 – 1997م اتضح أن 85.5% من نسبة النمو قد استولى عليها أغنى الأمريكيين، ويُمثِّلون نسبة 1% فقط من الشعب، ورغم ارتفاع الدخل ذلك الوقت إلا أن 80% من العائلات الأمريكية لم تتلق منه شيئاً، بينما ربحت “طبقة الواحد في المائة” “2.9 ترليون” من أصل “3.5 ترليون” دولار، فاتضح بذلك حقيقة نكبة الشعب بالديمقراطية التي سموها حكم الشعب، واتضح معنى كون الديمقراطية تُرسِّخ حكم الأقلية وتُغلِّب مصالحها على حساب الشعب المستغفل الذي أوهموه بأنه يحكم.


الديمقراطية ليست الشورى

يظن بعض الناس أن لفظ “الديمقراطية” يعادل “الشورى” في الإسلام، وهذا ظن فاسد من وجوه كثيرة منها:
– أن الشورى تكون في الأمور المستحدثة أو النازلة، وفي الشؤون التي لا يفصل فيها نص من القرآن أو السنَّة، وأما “حكم الشعب”، أو بمعنى أصح، حكم المنافقين السياسيين الذين في البرلمان، فيناقش قطعيات الدين، فيرفض تحريم الحرام، ويحرِّم الحلال، فأبيح بيع الخمور على سبيل المثال بتلك القوانين، وأبيح الزنا والربا كذلك، وضُيِّق على المؤسسات الإسلامية، وعلى الدعاة إلى الله بتلك القوانين، وكل هذا فيه مضادة للشريعة، فأين هو من الشورى؟!
– مجلس الشورى يتكون من أناسٍ على درجة من الفقه والعلم والفهم والوعي والأخلاق، فلا يُشاوَرُ المفسد ولا الأحمق فضلاً عن الكافر أو الملحد (السياسي الكذاب)، وأما المجالس النيابة الديمقراطية، فلا اعتبار فيها لكل ما سبق، فقد يتولى النيابة كافر أو مفسد أو أحمق، فأين هذا من الشورى في الإسلام؟!
لقد حُرمت الديمقراطية لأن مفهومها الأصلي هو جعل الحكم والسيادة للشعب، ومصدر السلطات والتشريعات يخرج من عنده ويعود إليه، وٍّهذا يخالف القرآن الكريم ويخالف الاسلام، قال الله تعالى: “وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً”، وأما القول بأن حكم الناس بما لا يخالف الشرع يسمى ديمقراطية شرعية، فخطأ لأنها لن تبقى حينئذ ديمقراطية!! فليسمونه شيئا ثانيا غير ذلك.
ثم ما حاجتنا للديمقراطية والاسلام عندنا؟ لماّذا نذهب لمسمى االديمقراطية ولدينا مسمى الشورى؟
هل حَكَم سليمان عليه السلام باسم الشعب أم بسم الله الرحمن الرحيم؟! وهو ما عليه سائر الأنبياء والصالحين. قال الله تعالى: “إنه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين”.
إن الحكم يعني السيادة، والحاكم هو السيد، وهو أعلى درجات السيادة في الدولة، فهل يستقيم أن يكون الناس كلهم أسيادا فكلمة السيادة للشعب كلمة فضفاضة، واذا قسناها بالعقل لا تستقيم أبداً.
ومن الشعب يُتخَذ أهل الرأي والمشورة، وتكون فيهم عادة من السيادة ما يجعلهم مؤهلين لهذا الأمر كالعلماء والتجار والأكابر، وغيرهم. وقد يكون لهم رأي أو قرار إجماع لعزل الحاكم إن كان من المصلحة فعل ذلك. وهم أول من يبايع الحاكم ثم يتبعهم العامة.
أما في الديمقراطية فالصالح والفاسد، والمستقيم والمجرم، كلهم سواء. والفاسد والمجرم يريد حاكما فاسدا مثله.
أما بالنسبة للتشريعات فالغرب مثلاً ليس لديه منهاج ثابت مثل القرآن والسنة. كما أن مسائل الإجتهاد لديهم مبنية على التوافق بين الصالحين والفاسدين، وأغلبهم فاسدون. أما في الاسلام فالإجتهاد مقتصر على أهل البصيرة في مجالاتهم، وبعدها يتم التوافق. لذلك نجد الكثير من الشذوذ والتذبذب في تشريعاتهم. فنجد انعدام الأخلاق وتغير مقاييس المروءة والحق، فالمثلية في العصور الأوروبية السابقة تعتبر من أشنع خوارم المروءة في حين أنها الآن تعتبر حرية شخصية مكفولة بتشريع فاسد هو الديمقراطية.
إن الديمقراطية تكتيك اليهود أسياد الفساد في العالم ليحكموا بها الشعوب (ويبثوا الفتن).
والديمقراطية تحكيم الأغلبية على الأقلية (وهذا أيضا غير صحيح، بل تحكيم الأقلية الفاسدة من اليهود على اقلية فاسدة من عبيدهم السياسيين)، و لا تكترث لأي تشريع سماوي أو عُرف محلّي. فمن حق الكل أن يُبدي رأيه في كل كبيرة و صغيرة حتى وإن كان يُخالف شرع الله، والناظر لمجتمعاتنا يُلاحظ أن الناس إذا سُئلوا عن مسألة علمية (رياضيات – فيزياء)، اكتفت الأغلبية بالصمت لعدم علمها في خبايا هذا العلم. وإذا سُئلوا عن مسألة فقهية، صاح الكل بأعلى صوت كأنهم جهابذة هذه الأمة و فقهاء زمانها، رغم قلة علمهم وقصور فهمهم.

والشبهة التي تسلل الغرب منها إلى المسلمين، هي تصويره أن نظام الحكم في الديمقراطية هو الشورى، مستغلاً بذلك جهل الناس بنظام الحكم في الإسلام، وفي الديمقراطية أيضا، وجهلهم بمعنى الشورى، سواء في الإسلام أو في الديمقراطية، لذلك كان لابد من إلقاء الضوء على هذه الفرية السخيفة، وهذا الدجل الفاضح.
والغريب أن هذه الحيلة قد انطلت على بعض أبناء الأمة، إن لم تكن على غالبيتهم، من علماء ومفكرين ومثقفين. فالشورى ليست نظام حكم، بل ولا نظام حياة، وليست معالجة لأي عمل من الأعمال، وإنما هي وسيلة أو أسلوب أو كيفية تُتبع في التحري عن الرأي الصائب. حيث أن الشورى هي أخذ الرأي مطلقاً، فحين يريد الإنسان، أي إنسان، حاكماً أو محكوماً، مديراً أو موظفاً، عاملاً أو مزارعاً، حين يريد التوصل إلى رأي في مسألة ما، أو التبس عليه معرفة رأي بمسألة ما، فإنه يرجع إلى من يأنس فيهم حسن الرأي، والقدرة على معرفة الصواب في مثل مسألته، لأخذ رأيهم فيها. فالحاكم يرجع إلى مستشاريه وهم من لهم خبرة بشؤون الحكم إن أراد، والقاضي يرجع إلى الفقهاء والمجتهدين لمعرفة رأيهم في مسألة قضائية، والمهندس يرجع إلى من لهم خبرة في الهندسة، والطبيب يرجع إلى من لهم خبرة في الطب، وهكذا، ولا يصح من أحد أن يرجع إلى أناس ليس لهم خبرة أو اطلاع في مسألته ليسألهم عنها، وهل يصح من قائد جيش أن يسأل طبيباً عن فعالية طائرة أو صاروخ ما. فإن فعل ذلك كان سخيفاً لا يجوز له أن يكون قائد جيش. وهل يصح لمجتهد أن يسأل مهندساً في قضية شرعية التبس عليه فهمها دون أن يكون لهذا المهندس اطلاع على الفقه والتشريع. فالمسألة إذن هي أخذ الرأي ممن هم مظنة أن يكون عندهم الرأي الصواب في المسألة.

يلاحظ الباحث الناظر في أنواع الحكم الديمقراطي وصوره ما يلي:
أولاً: أن التزام هذا الحكم بإعطاء الشعب سلطات التشريع والتقنين والتنظيم كلها، دون أخذ شريعة الله المنزلة أولا، يجعل الدساتير والقوانين والتشريعات خاضعة لأهواء الكثرة من الشعب، أو لأهواء الذين انتخبهم الشعب ليعبروا عن إرادته، أو يكونوا وكلاءه. فنجم عن ذلك تشريعات إباحة نشر الإلحاد والكفر بالله في الدول الديمقراطية، لأن أكثر الشعب أو أكثر المنتخبين من قبل الشعب يرغبون في ذلك، و تشريعات إباحة الزنا القائم على تراضي الطرفين، ولو كان ذلك في الشوارع العامة والحدائق العامة، وعلى ضفاف الأنهر دون توار أو تستر. وإباحة اللواط، وجعله عملا يحميه القانون ما دام قائما على تراضى الطرفين، حتى أقرت بعض هذه النظم أن من حق الذكر أن يعقد عقده على ذكر آخر، كما يتم الزواج بين رجل وامرأة (وهذا أصبح 2022 أمرا ظاهرا في الدول الغربية، يدعو له رؤساؤهم، بل من ضمن المقررات في مدارسهم! ويحاولون الضغط على الدول الشرقية لتحذو حذوهم فيه). وإباحه سائر المشروبات الكحولية، لأن أكثرية الشعب ترغب بذلك. وإقرار الربا وما تكتسب به من حقوق، وإقرار القمار، وكثير من الحريات الشخصية المهلكة، لأن أكثرية الشعب تريد بذلك (وليست أكثرية الشعب في الغالب بل هم وحدهم، يستغلون حب أكثر الناس للفجور لنشره بزعم أنهم حريصون على ما يريد، لكن هل يريد الشعب عندهم الإعتداء على الفلسطينين والعراق واليمن وليبيا؟ أبدا).
فمبدأ الديمقراطية: أن الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه لنفسه. فهو صاحب السلطة في وضع الدستور وكل القوانين والشرائع والنظم، وانتشر بسبب ذلك فساد عريض في الأرض. وهذا الفساد المنتشر منذر بدمار ماحق لهذه الشعوب.
ثانيا: لما علمت شعوب الديمقراطية أنها هي صاحبه السلطات كلها، أرادت أن تمارس حقها. فاتجه كل الطامعين في السلطة من المؤهلين للحكم وغير المؤهلين، وكل أصحاب الأهواء والشهوات والنزاعات والنزغات، إلى العمل بكل ما أوتوا من ذكاء خبيث وحيل شيطانية من أجل الوصول إلى الحكم، وانطلقت في مضمار الحيل أساليب خداع الجماهير، وتزوير إرادتهم بكل عمل غير أخلاقي. وصارت السياسة والعمل فيها صورة جامعة للكذب والخداع والنفاق وإطلاق الافتراءات وتجريح الآخرين بغير حق، وطلبا للمنافع والمصالح الخاصة، وصراعات شخصية وحزبية، بغية الوصول إلى الحكم لتحقيق المنافع الشخصية والأهواء والشهوات والعلو في الأرض.
وأُسست الأحزاب كي يمارس الشعب الديمقراطية ممارسة منظمة، وقامت بينها الصراعات والصدامات ودبت بسبب ذلك الفوضى في كثير من البلدان. وتعرضت الأحزاب لشراء ضمائرها أو ضمائر زعمائها من قبل أصحاب الأهواء والمصالح من الداخل والخارج، ثم لما وصلت إلى الحكم وجدت نفسها مضطرة لتحقيق أهواء ومصالح الذين اشتروا ضمائرها، على خلاف مصلحه الشعب الذي أوصلها بأصواته إلى سدة الحكم (إن كانت أصلا وصلت بأصواته لا التزوير).
وبعض هذه الأحزاب حققت مصالح المنظمات اليهودية العالمية التي اشترت ضمائرها، أو مصالح الدول الاستعمارية التي اشترت ضمائرها، أو مصالح طبقة خاصة من طبقات الشعب كالرأسماليين أو غيرهم، حينما وصلت إلى سدة الحكم. وكانت التنظيمات الحزبية الديمقراطية المخادعة للشعب بالأكاذيب والتضليلات والوعود التي لا يراد تنفيذ شيء منها، بمثابة قناع ديمقراطي تم عن طريقه تزوير إرادة الشعب.

وقد زعم البعض أن الإسلام ليس فيه نظام سياسي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من عمله إقامة دولة وإدارتها، وأن عمله لم يتجاوز حدود البلاغ والإنذار المجرد من كل معاني السلطان، وأن الخلافة ليس لها سند من الدين، وأن بيعة أبي بكر رضي الله عنه كانت بيعة سياسية ملكية قامت على أساس القوة والسيف، وأن الإسلام بريء من تلك الخلافة التي عرفها المسلمون، وأنه لا شيء في الدين يمنع المسلمين من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الإجتماع والسياسة، ويهدموا نظام الخلافة، ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم. فكانت تلك إحدى وسائلهم؛ وهي إنكار النظام السياسي في الإسلام جملة.
وهناك صورة أخرى لإنكار النظام الإسلامي، ولكن بطريقة أكثر ذكاءً وأشد خبثاً من الطريقة الأولى، وهذه الطريقة تعتمد على الهجوم على مصادر التشريع في الإسلام، وإخراجها عن أن تكون مصدراً للأحكام السياسية، حيث تقوم هذه الوسيلة على التسليم بأن الإسلام له نظام سياسي، وأن الإسلام دين ودولة، وهذا أمر لا غبار عليه، ثم ينطلقون من هذا إلى القول بأن مصادر الأحكام السياسية الدستورية إنما هي الكتاب والسنة فقط، ويرفضون بقية أدلة الأحكام الأخرى، حتى الإجماع عندهم مرفوض في مجال الأحكام السياسية ولو كان إجماع الصحابة رضي الله عنهم (وحاولون الآن حذف السنة أيضا).
ثم يخطون خطوة ثانية فيقولون إن ذكر القرآن الكريم للأحكام السياسية إنما كان على سبيل القواعد العامة لا الأحكام التفصيلية؛ ومعنى ذلك أنه ليس هناك أحكام محددة يجب التقيد بها في مجال النظام السياسي، وإنما هناك قواعد عامة فقط هي التي يجب التقيد بها، وما يترتب على ذلك من إدخال نظم أو طرق غربية إلى النظام الإسلامي بدعوى أنها لا تتعارض مع القواعد العامة.
ثم يخطون خطوة ثالثة لإفراغ المصدر الثاني عندهم وهو السنة من أن يكون مصدراً للأحكام السياسية الدستورية، فيقولون إن الأحكام التي جاءت بها السنة منها ما هو تشريع دائم، ومنها ما هو تشريع وقتي مرتبط بزمن النبوة، ويقولون – وهم في ذلك كاذبون – إن السنة المتعلقة بالأحكام السياسية الدستورية كقاعدة عامة هي من ذلك النوع الثاني الذي يُعد تشريعاً وقتياً أو زمنياً، ثم لا يكتفون بهذا القدر حتى يضيفوا إليه قولهم “ولا يوجد أحياناً حد فاصل دقيق بين ما يعد من السنة تشريعاً دائماً وما لا يعد كذلك”، وبهذا الطريق يكون هؤلاء قد أفرغوا الكتاب والسنة من أي مضمون يتعلق بالاحتجاج بنصوصهما في مجال مسائل الفقه السياسي الدستوري.
وهذا في الحقيقة يعد – من وجهة نظري – نفياً لما قرروه من قبل من أن الإسلام له نظام سياسي، لأنه إذا كانت نصوص القرآن المصدر الأول للأحكام ليس فيها – من وجهة نظرهم- أحكام تفصيلية محددة فيما يتعلق بالأحكام السياسية، وإذا كانت السنة المصدر الثاني للأحكام، ليس في أحكامها التفصيلية أحكام مُلزمة لنا في التقيد بها في النظام السياسي، فماذا يعني قولهم إذن أو إقرارهم بوجود نظام سياسي إسلامي؟!
ومن وسائلهم في محاربة النظام السياسي الإسلامي، استغلال خطأ بعض الخلفاء أو الأمراء أو الحكام المسلمين، وإلصاق هذه الأخطاء بالنظام الإسلامي نفسه، وتشويهه به، أو الادعاء أن النظام الإسلامي نظام يكرس الاستبداد ويدعو إليه تحت شعار طاعة الأمير (لاحظ كل هذا التعمق في دراسة الإسلام واستخراج مثالبه المزعومة! ولم يكلفوا أنفسهم عناء فعل ذلك بالديمقراطية وأهلها، على الأقل من باب العدل والبحث!).
وليس في النصوص الشرعية أدنى شيء يبرر للحاكم الجور أو الطغيان، بل نصوصه تحرم ذلك وتزجر عنه وتتوعد عليه الوعيد الشديد، وهذا بعض ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقَّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به”. وقال: “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”. وقال: “ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة”. وقال: “ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل مغلولاً يوم القيامة يده إلى عنقه فكه بِرُّه أو أَوْبَقَه إثمه”.
وليس في النصوص الشرعية بحمد الله ما يدعو الأمة إلى الرضوخ والاستكانة إلى الظلم والطغيان إذا حدث من الخليفة أو الحاكم أو من غيره، بل النصوص واضحة وصريحة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه المعروفة.
وليس في نصوصه ما يمنع من مراقبة أجهزة الحكم لمعرفة مدى استقامتها على أمر الله، وأنها لم تخرج عن الحدود التي حدتها لها الشريعة، ويكفينا في هذا أن نذكر خطبة أبي بكر الصديق بعد توليه أمر الخلافة وهو يقول لرعيته: “إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِموني”. وهل يمكن معرفة الإحسان من الإساءة، وبالتالي ما يترتب عليه من الإعانة أو التقويم إلا إذا كانت هناك مراقبة لأجهزة الحكم؟
ومن وسائلهم أيضاً القول بأن النظام الإسلامي نظام مثالي، ومثل هذه المقولة قد يفرح بها الذين لا يفهمون اصطلاحاتهم، ومرادهم بهذه المقولة أنه نظام غير قابل للتطبيق، وإذا طُبق فهو غير صالح لقيادة الحياة، وذلك لأن النظام المثالي – في عرفهم – لا يصلح إلا لأناس مثاليين، ولما كان الناس غير مثاليين، بل فيهم الطيب وفيهم الخبيث، وحتى الطيب عرضة للزلل، يكون النظام الإسلامي – على قولهم – غير قابل للتطبيق، أو غير صالح لقيادة الحياة!! ويكفي في الرد على هذا الزعم الباطل أن يقال إن النظام السياسي الإسلامي ظل يحكم دولة الإسلام منذ قيامها في المدينة المنورة بقيادة الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولعدة قرون بعده، وفتح المسلمون في ظله مشارق الأرض ومغاربها، ورفعوا على ربوعها رايات الإسلام، ونشروا الحق والعدل بين الناس، وغيروا وجه التاريخ الإنساني، كل ذلك حدث باسم الإسلام، وفي ظل دولة الإسلام، فهل حدث ذلك في ظل نظام غير قابل للتطبيق أو غير صالح لقيادة الحياة؟!
ومن وسائلهم أيضاً استخدام الكتابات التاريخية في محاولة تزييف تاريخ الدولة الإسلامية عبر قرونها المتطاولة، ومن خلال هذه الكتابات يصورون تاريخ الدولة الإسلامية المشرق على أنه سلسلة من المؤامرات والخيانات التي يقوم بها حاكم لكي يستولي على السلطة من الحاكم الذي يسبقه، معتمدين في ذلك على كثير من الروايات التاريخية الباطلة أو المكذوبة، أو التي لا ترقى إلى المرتبة التي يُحتج بها في إثبات القضايا التاريخية. وعلى تأويل بل تحريف كثير من الروايات الصحيحة لإبطال ما دلت عليه من الحق والصواب. وعلى استغلال جهل أكثر المسلمين بتاريخ دولتهم العظيمة، ومن خلال هذا الجهل تروج عليهم الأكاذيب.
لقد كذبوا ونجحوا في كذبهم في تصوير تاريخ الدولة الإسلامية، على أنه تاريخ كله جهل وظلام وظلم وطغيان، ولم ينجُ من ذلك غير فترة قصيرة من عمر الدولة الإسلامية، وهي فترة الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، وبعضهم يمدها لتشمل عصر الخلفاء الراشدين الأربعة ثم فترة عمر بن عبدالعزيز. والخلافة الراشدة مدتها ثلاثون سنة، ومدة خلافة عمر بن عبدالعزيز سنتان، فيكون المجموع اثنين وثلاثين عاماً، فكأنه – على حسب كذبهم الذي نجحوا في توصيله إلى أكثرية من المسلمين – أن الأربعة عشر قرناً من الزمان، التي هي عمر الرسالة المحمدية، لم يوجد فيها النظام الإسلامي إلا في فترة أقصاها اثنان وثلاثون عاماً.
ومما يُؤسَف له أن كثيراً من الناس مثقفين وغير مثقفين، بل وبعض طلبة العلم لا يكاد يعرف من تاريخ أمته المشرق المشرف، التي صالت وجالت وفتحت الممالك والبلدان شرقاً وغرباً وأقامت فيها نظام الإسلام، لا يكاد يعرف من ذلك غير فترة الراشدين ثم عمر بن عبدالعزيز، وبعضهم قد يضيف إليه صلاح الدين.
وعلى كلٍّ فإن توضيح هذه الحقائق التاريخية على وجه من السهولة واليسر، وتجلية التاريخ الصحيح لدولة الإسلام، وإزالة كل هذا الركام الزائف، الذي استطاع الدجالون إلصاقه بتاريخ الدولة الإسلامية، هو من الواجبات المهمة التي ينبغي على العلماء وطلبة العلم والكاتبين المسلمين الإسراع في تأديتها، وعدم التهوين من شأنها، أو حتى مجرد تأجيلها.

ومن وسائلهم أيضاً محاولة إلباس الديمقراطية ثوباً إسلامياً أو القول إن الديمقراطية هي التطبيق العصري أو الحديث لنظام الشورى في الإسلام، ولا بأس – عندهم- في ترويج هذه الفرية من الاستعانة ببعض القواعد الشرعية مثل المصالح المرسلة، وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، واختلاف الفتوى باختلاف الأحوال أو الزمان، والاستعانة بهذه القواعد من غير مراعاة لضوابطها لترويج باطلهم المذكور بين الناس. وهذه الوسيلة يكثر استخدامها في الأماكن التي فيها صحوة إسلامية، فلكي يمرروا الديمقراطية فيها، فلا بد لهم من إلباسها زيًّا إسلامياً.
ولا يوجد بين الشورى والديمقراطية نسب ولا سبب إلا كما يوجد بين الإسلام والكفر، فالشورى أساساً جزء من نظام متكامل قائم على الإيمان بأن السيادة للشرع المنـزل من عند الله العلي الكبير على خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فالأمر كله لله، والحكم كله لله، والتشريع كله لله. والديمقراطية مذهب قائم على الإيمان بأن السيادة للبشر المخلوقين المربوبين، فالأمر كله لهم والحكم كله لهم والتشريع كله لهم، الحلال ما أحلوه والحرام ما حرموه، الطيب ما استحسنته أهواؤهم، والخبيث ما استقبحته نفوسهم.
والشورى انطلاقاً من نظام الإسلام القائم على سيادة الشرع، لها نطاق محدد لا تتعداه. فهي شورى مقيدة بالأحكام الشرعية، لا تخرج عليها ولا تخالفها. وأما الديمقراطية فالأمر فيها مطلق، ويمكن للناس – بناء عليها – أن يتناقشوا وأن يتباحثوا، وأن يقرروا في النهاية ما لا يمكن أن يخطر على فكر رجل مسلم، وليس حكاية زواج الرجل برجل مثله منا ببعيد!
والشورى في النظام الإسلامي ليست حقاً لكل الناس على اختلاف قدراتهم واستعداداتهم وميولهم، وإنما للشورى أهلها وهم الثقات العدول أهل الاختصاص والخبرة في كل ما تطلب فيه المشورة. بينما النظام الديمقراطي لا يفرق في ذلك بين العالم والجاهل، وبين الحكيم والسفيه، بل كل من استطاع أن يحصل على أكبر عدد من أصوات الناخبين، حتى ولو كان ذلك بطريق الكذب والخداع، فهو من أهل الشورى الذين يُعتد بقولهم، ولهم حق تشريع القوانين.
والشورى معيار الصواب فيها اتباع الدليل أو القواعد الشرعية وتحقيق مصلحة الأمة الإسلامية، بينما النظام الديمقراطي يجعل الكثرة – أيا كانت – هي معيار الصواب.
ولعله بعد ذكر هذه الفروق الجلية بين الشورى والديمقراطية سواء منها ما تعلق بأصلها أو أحكامها يظهر فساد القول بأن الديمقراطية هي التطبيق العصري لنظام الشورى (والشورى ليست هي الحكم حتى في الإسلام بل هي البحث عن الرأي من أهل الإختصاص).
يقول حيدر علي: “إن الصيغة الإسلامية للديمقراطية مطالبة بتكييف نفسها مع ثوابت عقدية، وتحريمات، ونواة دينية قد تكون عقبات أمام الديمقراطية الصحيحة، فهناك قضايا تتقاطع مع أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان، مثل عقوبة الردة، ووضعية غير المسلمين – أهل الذمة، والمرأة، والحريات الشخصية، وحرية الرأي والتعبير، وطاعة ولي الأمر، والفتنة، ومخالفة الجماعة”. وبناء عليه، فالمطالبة بإقامة نظام ديمقراطي في بلاد المسلمين تقتضي بالضرورة جعل الحرية الفردية والتعددية قواعد تبنى عليها الحياة السياسية في الدولة، مما يؤدي إلى تناقض بين الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في واقع الحياة، وإقامة القواعد الديمقراطية.
وأسوق مثالاً يوضح الأمر، وهو حد الردة، فالردة حدها القتل لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من بدل دينه فأقتلوه”، ولكن قتل المرتد يعارض حرية العقيدة والرأي التي يقوم عليها النظام الديمقراطي، لأن الدين ينظر إليه على أنه مسألة شخصية فردية خاصة، والنظام الديمقراطي قائم على حيادية الدولة تجاه العقائد والأخلاق. وهنا يكون المسلم أمام خيارين، فإما أن يطبق حد الردة على المرتد عن دينه من العلمانيين والشيوعيين وغيرهم ممن ينكر أحكام الإسلام. وهذا كاتب معروف يقول: “فأنا لست مع إقامة حد الردة على من يرتد عن الإسلام”، ويجعل كذلك اختيار الدين نوعاً من الاختيار الفردي بقوله: “أيضاً إذا بدا لإنسان أن يعتنق النصرانية مثلاُ، فهذا لون من الاختيار يستوجب منا الحوار مع هذا الإنسان”! ومن ثم، فقيام الديمقراطية كما يشير داريوش شايغان يتطلب علمنة العقول والمؤسسات.
لقد سعى كثير من الكتاب والمفكرين، من باب تقليد الثقافة الغربية، إلى المناداة بإقرار الحرية والتعددية كقواعد للعمل السياسي في بلاد المسلمين. وقد دافع هؤلاء عن حرية الرأي، وشرعية الاختلاف التي تقوم عليها التعددية، وشرعية وجود تعددية حزبية. وهذه الأفكار والمعالجات التي صدرت مجاراة للفكر الغربي، لم تبن على شرعية ولم تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما انطلقت من واقع سياسي قائم وواقع سياسي مأمول، فعندما ابتليت بلاد المسلمين بالاستبداد السياسي ظن هؤلاء أن لا مخرج لهم ولا منجى إلا بالديمقراطية الغربية، فحاولوا تطويع أحكام الإسلام ومبادئه لتوافق ما أقروه صراحة من الحاجة إلى الديمقراطية، لكي لا يحبط عمل الأمة!! ولتسويغ تبني مفهومات الغرب وأحكامه ادعى بعضهم أن الشورى هي عين الديمقراطية، ومزجها آخرون وجعلوها “شوروقراطية”، وانطلق عديد من الكتاب من الادعاء بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد، وأن التنظيم السياسي متروك للاجتهاد البشري، وذلك لأن الإسلام في رأيهم اكتفى في مجال الظاهرة السياسية بالتعميم، حيث أتى بقواعد عامة وترك التفصيلات ولم يبينها للناس. وقد دفعهم هذا التصور إلى المناداة بتبني الديمقراطية والدعوة إليها من منطلق اندراجها تحت التفصيلات التي تركها الشرع للاجتهاد البشري. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل الدولة الإسلامية دولة قائمة على التعددية السياسية والفكرية؟ بمعنى هل نظام الدولة قائم على الحيادية الفكرية والعملية تجاه التيارات السياسية المختلفة؟ الإجابة بالنفي قطعاً، فالدولة الإسلامية دولة عقيدة، تحمل مفهومات شرعية عن الحياة وتطبقها في الواقع، فكيف يجوز لها أن تسمح بإقامة ما يخالف ما تدعو إليه؟ أما فيما يتعلق بوجود جماعات في الدولة الإسلامية تدعو إلى الزندقة أو الفكر الباطني أو الشيوعي، فهذا لا يعني إقرار شرعية وجودها أو الإذن لها بالدعوة إلى ما تدعو إليه. وهناك فرق بين أن توجد في الدولة جماعة لا تحمل الإسلام عقيدة وشريعة، وبين الإقرار بوجودها وإعطائها شرعية من قبل الدولة، إما بالوقوف منها موقف المحايد أو السماح لها بالدعوة إلى المنكرات الفكرية التي تحملها، وذلك لأن هذه الحيادية المزعومة لا تتفق أصلاً مع الدولة الشرعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هذه النظرة الديمقراطية لا تصلح في مجتمع إسلامي قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالعلمانية من أحكام الكفر سواء أطلقوا عليها “المتصالحة مع الدين” أو غير المتصالحة. والشيوعية تؤمن بأن الكون والإنسان والحياة مادة، فلا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار؛ فالإيمان يها كفر بالله، والسماح للحزب الشيوعي بالدعوة إلى ما يدعو إليه كفر بالله. وإقرار الأفراد من مفكرين سياسيين أو حزبيين إسلاميين بجواز قيام أحزاب مخالفة للشريعة الإسلامية لا يجعل وجود مثل تلك الأحزاب أمراً جائزاً في الدولة الإسلامية، لأن الأمر الذي يعول عليه في الحكم على ما يخالف الشرع أو يوافقه إنما هو أحكام الشرع المعالجة للواقع وليس أقوال الرجال”.

إن بعض الناس يظن أن لفظ الديمقراطية يعادل الشورى في الإسلام! وهذا ظن فاسد من وجوه كثيرة، منها أن الشورى تكون في الأمور المستحدثة أو النازلة، وفي الشؤون التي لا يفصل فيها نص من القرآن أو السنة، وأما حكم الشعب فهو يناقش قطعيات الدين، فيرفض تحريم الحرام، ويحرِّم ما أباحه الله أو أوجبه، فالخمور أبيح بيعها بتلك القوانين، والزنا والربا كذلك، وضُيق على المؤسسات الإسلامية، وعلى عمل الدعاة إلى الله بتلك القوانين، وهذا فيه مضادة للشريعة، وأين هذا من الشورى؟!
ومنها أن مجلس الشورى يتكون من أناسٍ على درجة من الفقه والعلم والفهم والوعي والأخلاق، فلا يُشاوَر مفسد ولا أحمق، فضلاً عن كافر أو ملحد، وأما مجالس النيابة الديمقراطية فإنه لا اعتبار لكل ما سبق، فقد يتولى النيابة كافر أو مفسد أو أحمق (الحمقى كُثر في البرلمان!)، وأين هذا من الشورى في الإسلام؟!.
ومنها أن الشورى غير ملزمة للحاكم، فقد يُقدم الحاكم رأي واحدٍ من المجلس قويت حجته، ورأى سداد رأيه على باقي أهل المجلس، بينما في الديمقراطية النيابية يصبح اتفاق الأغلبية قانوناً ملزماً للناس.
الواجب على المسلمين الاعتزاز بدينهم، والثقة بأحكام ربهم أنها تُصلح لهم دنياهم وأخراهم، والتبرؤ من النظم التي تخالف شرع الله. وعلى جميع المسلمين حكاما ومحكومين أن يلتزموا بشرع الله تعالى في جميع شؤونهم، ولا يحل لأحدٍ أن يتبنى نظاماً أو منهجاً غير الإسلام.
ومن مقتضى رضا المسلم بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً ورسولاً، أن يلتزم بالإسلام ظاهراً وباطناً، وأن يعظم شرع الله، وأن يتبع سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم (لا البدع والمحدثات، ما أحدثه الرجال مما لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، وهو كثير عند الصوفية على سبيل المثال).
يعد الإيمان بأن الشعب له حق التشريع ولو كان مخالفًا لشرع الله، كفر أكبر مخرج من الملة، فإن التشريع حق لله وحده، قال سبحانه: “وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا”، وقال سبحانه: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ”.
قال ابن تيمية: “والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه، كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء”. وقال محمد الأمين الشنقيطي: “وأما من شرع قانونًا يحل فيه الحرام ويحرم الحلال فكفره كفر أكبر. إذن من يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم”.
وقال: “اعْلَمُوا – أيها الإخوانُ – أن الإشراكَ بِاللَّهِ في حُكْمِهِ، والإشراكَ به في عبادتِه، كلاهما بمعنًى واحدٍ، لا فَرْقَ بينهما البتةَ، فالذي يَتْبَعُ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وتشريعًا غيرَ ما شَرَّعَهُ اللَّهُ، وقانونًا مُخَالِفًا لشرعِ اللَّهِ من وَضْعِ البشرِ، مُعْرِضًا عن نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِه، مَنْ كان يفعلُ هذا هو وَمَنْ يعبدُ الصنمَ ويسجدُ للوثنِ لاَ فرقَ بينَهما البتةَ بوجهٍ من الوجوهِ، فَهُمَا واحدٌ، فَكِلاَهُمَا مشركٌ بِاللَّهِ، هذا أَشْرَكَ به في عبادتِه، وهذا أَشْرَكَ به في حُكْمِهِ، والإشراكُ به في عبادتِه والإشراكُ به في حُكْمِهِ، كِلاَهُمَا سواءٌ”.

كم يحار العاقل حين يقف على ممارسات مُضلِّلة في مشرقنا الإسلامي تتميز بأنها مكشوفة، لا تنطلي على من أمعن النظر فيها، لا لمصادمتها للجوانب العلمية فحسب، بل لمصادمتها للواقع الذي يراه كل ذي عينين لم يُصِبْهما الغَبَش.
ومن أسوأ هذه الممارسات ما انتدب إليه فئآم نصّبوا أنفسهم وكلاء بالقوة عن عدد من التيارات المعاصرة ذات المناحي الفلسفية المكشوفة والرموز العالمية المشهورة، ليقربوا شُقَّة الخلاف بينها وبين الإسلام، بل ويعلنوا بلا تردد أن الإسلام في شموخه وعليائه وعظمة مصادره، متماشٍ تماماً مع تلك التيارات التائهة، مع أن تلك التيارات – في كتبها ومقالاتها، وجميع مؤتمراتها وملتقياتها عبر تاريخها الطويل – قد حددت حقيقة موقفها من الكون والحياة والإنسان، بما يبرهن على بطلان ادعاء قرب ما بينها وبين أي دين، لأنها قد قامت في أصل فلسفتها على ضرورة إقصاء الدين عن الحياة وإزالة سلطانه عنها بالكُليّة، وتنشئة إنسان غير مكترث بتاتاً بأمر الإيمان بالله، ليتجه بكل طاقاته إلى أمر حياته الماديّة الصِّرفة.
لقد أُقْحِم الإسلام في أكثر من تيار وفد إلى الأمة من الشرق أو الغرب، لا بدعوى عدم التعارض بين ذاك التيار وبين الإسلام فحسب، بل بدعوى الالتقاء التام، لذا روَّجوا لأسماء مُهجَّنة، كاسم “اشتراكية الإسلام” و”ديمقراطية الإسلام” و”ليبرالية الإسلام”، وأمثالها من الأسماء التي يصدق عليها قول الشاعر:
أيها المُنكِح الثُّرَيَّا سُهَيلا … عمرك الله كيف يلتقيان
هي شاميَّة إذا ما استقلَّت … وسهيل إذا استقلَّ يمان
فكتبوا عن ديمقراطية الإسلام، وسمَّوا عدداً من أحكام الشرع الشريف باسم النظم الديمقراطية، حتى مزج بعضهم بين الشورى والديمقراطية تحت اسم “شوروقراطية”، ومرة أخرى لم يسلم عمر رضي الله عنها من إقحامه في التيار الذي ارتضوه، فصار عندهم “الخليفة الديمقراطي”.
والذي لا ينقضي منه العجب أن بعض الذين روّجوا للاشتراكية قبل انهيارها بدعوى تآخيها مع الإسلام قد أعادوا الكَرَّة بالترويج للديمقراطية – خصم الاشتراكية – بدعوى تآخيها أيضاً مع الإسلام!!
فليت شعري كيف الْتَقَى الإسلام مع الاشتراكية ومع الديمقراطية على حدٍّ سواء!؟
إن الداء هنا يكمن في وجود من يسايرون هذه التيارات، على حساب الإسلام، مُدّعين أن ذلك مما يجعل الإسلام ديناً مقبولاً في الأوساط العالمية، إذ لا مصادمة فيه لديهم لأي اتجاه!

ومن أسوأ ما في خلط الإسلام بالديمقراطية أن يظهر الإسلام بمظهر القاصر الذي لا يتم قصوره إلا بترقيعه من غيره، إذ من المؤكد أن الديمقراطية ذات منحى أجنبي عن الإسلام، لها تاريخها وبيئتها التي ظهرت فيها وتطبيقاتها القديمة والمعاصرة التي رسمها منظِّروها بعيداً عن الإسلام، فإذا خلطنا الإسلام بها فكأنما وجدنا فيه قصوراً احتجنا معه إلى سدّه من الديمقراطية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى يُظْهِر هذا الخلط الباطل الديمقراطيةَ بمظهر مضلِّل، حاصِلُه أنها الحلم المنشود الذي إذا لجأت إليه المجتمعات الإسلامية حُلّت مشاكلها واستقامت أحوالها، مع أن الديمقراطية تعاني إشكالات كثيرة خلَّفتها في المجتمعات التي طبقتها، لكن تجاهل الحقيقة عند أنصار الديمقراطية حملهم على إظهارها بمظهر مضلل، يعتمد الانتقائية في عرضها لهذه الأمة التي كمَّل الله تعالى بنفسه لها دينها، فلم ولن يبقى بعد إكمال الحكيم الخبير مجال لوجود نقص تحتاج معه الأمة إلى تكميل.
أما دين الإسلام فإن تطبيقه السليم قد أخضع المنصفين حتى من خصومه إلى الإقرار بأنه يمثل الرحمة الحقيقية التي جعلها الله لهذه البشرية، ولذا لم تزدد هذه الأمة بتطبيقه إلا عزة ومنعة، إلى أن دخلت الدواخل والرواسب على الأمة ورضي فئام من أبنائها باستبدال الذي هو أدنى – من تيارات الانحراف – بالذي هو خير، فتراكمت في الأمة مشاكل يجزم من كان له عقل يعي به الأمور أن مِن المحال أن ترتفع هذه المشاكل بغير الإسلام.
فلماذا العدول عن مِنّة الله ورحمته إلى نقمة تيارات التيه؟ وإلى متى لا نعتبر بقوم من بني جلدتنا أضاعوا شبيبتهم في الدعاية الفارغة لتيارات اجتلبوها من الشرق أو الغرب، وجاؤوا كالمبشرين بها، ثم لم يجنوا منها إلا الفشل الذي عم بلادهم والنكد الذي ختموا به حياتهم – بعد أن انحنت في سبيلها ظهورهم واشتعلت شيباً لأجلها رؤوسهم، والعياذ بالله من سوء الخاتمة.
إذاً فخلْط ما بين الإسلام والديمقراطية ضرب من ضروب التضليل الذي يصدق عليه أنه كذب عليهما معاً، فليست حقيقة الديمقراطية بتلك التي تُصوَّر في أمتنا – مبتورة عن المنحى العقدي الضال الذي قامت عليه – ولا هي بالحل الحقيقي لبني الإنسان، كما يدّعيه أنصارها عندنا، مما لم يدَّعه للديمقراطية أهل الإنصاف في مواطنها التي جُلبت منها، كما أن الإسلام في عظمته وجلالة من كَمَّله تعالى ليس بالوضاعة التي يُجرّ من خلالها جرّاً ليتماشى مع تيار تائه سيرى الناس يوماً سقوطه كما سقط ما قبله (ولعل ذلك السقوط أصبح قريبا).


تعريف العلمانية

يوجد ترابط كبير بين هذه المصطلحات كالعلمانية والديمقراطية والرأسمالية، وغيرها، والإختلاف يكون فقط في زيادة بعضها على البعض في التطرف تجاه الدين أو غيره، وكلها متطرفة تجاه الدين، فالعلمانية لا تقبله مطلقا، أما الديمقراطية فلا تقبله، وفي نفس الوقت قد لا تصرح بذلك، فهي تتضمن العلمانية من هذه الناحية، وتزيد عليها بذلك النفاق، ويمكن القول بأنها هذه المصطلحات عبارة عن مسخ واحد، وفكرة واحدة، وحرب على الدين والمسلمين، وعلى غيرهم من الأمم لجعلها تابعة للماسون الذين يحكمون دول العالم في هذا الزمن.

تعني العلمانية SECULARISM اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين كالعلم الوضعي والعقل، ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين.
وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية.
وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم والمذهب العلمي البتة.
وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر، وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر، وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس، ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية.
ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع، وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه، فإن سُمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.
وتشجيع كل ما من شأنه إفساد هذه العبادات، وهو الشرك بالله المتمثل في بناء الأضرحة والمساجد على القبور وجعل السدنة لها لاستقبال الذبائح والنذور والهدايا، وتدمير عقيدة المسلم بربطها بصاحب القبر واتخاذه واسطة عند الله تعالى، وتشجيع التصوف الباطل – والتشيع المشابه له – الذي نشأت عنه تلك الخرافات والشركيات والبدع، وإحلال شيوخ الطرق الصوفية محل رجال الكنيسة في العصور الوسطى لكي يخرج المسلم من دينه الحق فيسهل القضاء على الإسلام لأنه الدين الوحيد الباقي الذي لا يسمح للماسونية ولا لأي مذهب باطل بأن يوجد في الأرض.
ويعمل الماسونيون على تولية المشايخ الصوفيين المشركين، المناصب الدينية ليكونوا لعبة في يد كل حاكم علماني وإبعاد علماء الإسلام الموحدين السائرين على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، والذين لا يقبلون الكفر والانحلال.
هذا بالنسبة للمسلمين أما بالنسبة للدين النصراني فإنه معزول منذ دخله التحريف بفعل أهله لكن عزله الكلي تم بقيام الثورة الفرنسية ضد الكنيسة سنة 1789م.

وتتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة. وهذا واضح فيما يُنسب إلى السيد المسيح من قوله: “اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية، والمسلم كله لله وحياته كلها لله كما في قوله تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”.
أما بالنسبة للديانة اليهودية، فإنها لم تُفصل عن الدولة، بل جعلت السيادة لها في تولية وعزل الحكام عن طريق أعضاء الكنيست. وهذا يعني بالضرورة الدين اليهودي المحرف، أما شريعة موسى عليه السلام، فإنها مفصولة ومبعدة كغيرها، لأنها حق من عند الله تبارك تعالى.
ويرجع عدم فصل الديانة اليهودية المحرفة عن الدولة إلى عدة أسباب، أهمها أن المسيطر على وضع القوانين القديمة والمستجد فيها هم الماسونيون الصهاينة الذين لا يريدون شيئاً يبقى من الأديان سوى الديانة اليهودية، وهذا برهان من البراهين على أن الماسونية هي المسيطرة على الديمقراطية والعلمانية والحكومات الآخذة بها (وأن مصدرها هم اليهود).
ومن أوضح البراهين التي دل عليها الواقع أن الشخص الذي يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة في الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، يعلن قبل كل شيء ولاءه لليهود ولدولتهم في فلسطين، وأنه سيكون في صفهم مدعياً أنهم أصحاب حق. إلخ، فإذا وصل إلى كرسي الرئاسة نفذ وعوده بكل دقة، ومن حاد عن ذلك من الرؤساء ووقف ضد اليهود، ولو في بعض قضاياهم لجورها وعدم شرعيتها، كان مصيره الإغتيال من قِبلهم كما حصل للرئيس كيندي وغيره، وخطة تنفيذ الإغتيال تتم من قبل الخلايا الماسونية السرية بطرق مباشرة يقوم بها بعض أفرادهم، أو بطريق استئجار شخص أو أشخاص وإغرائهم بالمال حتى يقوموا بذلك.
وقد يعترض معترض أو يتساءل: إذا كان الماسونيون اليهود هم المسيطرون على الدول الغربية، فلماذا لا يعلنونها دولة يهودية ويحكمون العالم بالقوة إذا لم تكفِ وسائل الإغراء والخديعة؟
الجواب هو أنهم لم يسيطروا على الغرب السيطرة الكاملة ولم يعلنوا لهم أسرارهم الماسونية لأنها في الغالب دول نصرانية معادية لليهود (رغم الصلح المعلن بين الديانتين بعد الحرب العالمية الثانية إذ برأ القساوسة العملاء اليهود من دم المسيح! لكن لن تزول العداوة والبغضاء بينهم أبدا كما أخبر الله تعالى).
بل ولم يفصح دعاة الماسونية عن هويتهم اليهودية، وإنما يدخلون في صفوف حكام تلك الدول ووظائفها المهمة بالهوية الأمريكية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية والروسية وغيرها، باعتبارهم أفراد من تلك الشعوب لهم الحق في العمل والتصويت. إلخ كما هي حال المنافقين من اليهود الماسونيين الذين دخلوا في صفوف المسلمين للدس والكيد لهم، والتفريق بينهم، كما فعل عبدالله بن سبأ اليهودي المنافق الذي أظهر الإسلام ليكيد له ولأهله.

من آثار العلمانية ومفاسدها:
– الطعن في الإسلام والقرآن والنبوة واعتباره طقوساً وشعائر روحية، لا يتلاءم مع الحضارة، ويدعو للتخلف والرجعية.
– فصل الدين عن السياسية وإقامة الحياة على أساس مادي.
– نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وهدم كيان الأسرة.
– إفساد العقائد الإسلامية، وأعظمها عقيدة توحيد الألوهية، وذلك من خلال اعتماد سلطة الشعب، وتفويض أمر التشريع والحكم للشعب، وكذلك إفساد المفاهيم الإسلامية عن الكون واليوم الآخر والنبوات، إذ تصور العلمانية هذه المعتقدات على أنها مرحلة بدائية من التفكير، أو ترفضها مباشرة لأنها ليست بنت البحث العقلي. كذلك إفساد خلق الله العظيم في نظر المؤمنين حتى لا يتأملوا فيه ويتدبروا فيزدادوا إيمانا، لذا قالوا إن الأرض كرة والسماء فضاء، والصدفة هي من صنع كل ذلك. بل أفسدوا البذور الزراعية والمزروعات برشها، والأدوية والأغذية بتعليبها والإضافة لها إلخ. لم يتركوا شيئا مما يضل الإنسان وينهكه إلا تدخلوا فيه لأنهم جند وعبدة الشيطان الحاسد الذي لا يريد خير لبني آدم.
– إفساد الشريعة الإسلامية، فالعلمانية تحصر صلاحية الشريعة الإسلامية في زوايا ضيقة، وتفسح المجال للإنسان ليشاق ويحاد الشريعة الإلهية في المجالات الحيوية الواسعة التي تشكل نظام دين المجتمع، كل ذلك خاضع في النظام العلماني لتسلط الانسان، يضيق منه ما شاء ويوسع ما شاء ويصادر ما شاء.
– إفساد أصل الولاء والبراء، فعندما استبدلت العلمانية تصور الانسان وصلته بالدين عقيدة وشريعة وحكما، استبدلت بذلك مناط الولاء والبراء وسببه ومعتقده، وغيرت أصل الرابطة الإجتماعية، فلم تترك للعقيدة تأصيل المبادئ والمفاهيم التي يقوم عليها الولاء والبراء، كالإيمان والكفر، أو الطاعة والمعصية، واليقين الشك، و المعروف والمنكر، والظلم والعدل. ولم تترك للشريعة أن تفصل وتحدد أسباب وتكليفات الولاء والبراء، مثل جهاد الكفرة، ووجوب إظهار الدين، والأمر بالمعروف وإنكار المنكر ، ورعاية الأسرة تربية وتعليما وتأديبا. بل تجعل الفاسقة في مفهوم الشرع، فنانة شهيرة. والملحد الذي يشك في عقيدة الإسلام، مفكرا عبقريا. وحجاب المرأة وحياءها واعتصامها بالقرار في بيتها، ذلا واستعبادا وتحجرا. وبغض الكافر والبراء منه وعداؤه أو تحذير المبتدع الضال، تعصبا وتطرفا. وإباحة الزنى والفجور، ترفيها وتسلية.
– إقصاء التشريع الإسلامي من حياة الأمة والأفراد.
– فرض الأنظمة والأحكام الصليبية في بلاد المسلمين تحت عباءة القانون والدستور أو سلطة الحزب الواحد، والحاكم التابع لهم.
– قتل روح الإسلام في أبنائه، بتشجيع وترويج أخلاق الإباحية الغربية، والطعن في أصول الشريعة الإسلامية بأقلام كتاب مأجورين.
– محاربة الدعوة إلى الله بكل الوسائل الممكنة، وسد طرقها وأبوابها، وشن الحملات الإعلامية عليها وعلى أهلها.
– إفساد النظام التربوي والتعليمي بنشر الاختلاط في المدارس ومحاربة الحجاب، ودس الأفكار الجاهلية من قومية ووطنية وحزبية وإباحية وإلحادية في الكتب والمقررات المدرسية والجامعية (واعتماد التعليم الغربي المادي الإلحادي المبعد للأبناء عن الدين، بدل التعليم الشرعي المبارك الذي يصلح الفرد في المجتمع على الأقل).
– التسلط على بلاد المسلمين، وهو تسلط ظاهر في التحكم في القرار في أكثر بلاد المسلمين، وفي التحكم في الإقتصاد من خلال التحكم في العملات والثروات، والتحكم في الحركات السياسية والدينية والإجتماعية، وأخيراً التواجد العسكري الجزئي أو الكلي في البلد المبتلى بهم، لعنهم الله.
– تثبيت الانقسامات: فمنذ سقوط الخلافة التركية انقسمت بلاد المسلمين إلى دويلات هي في تكوينها الإقتصادي والسياسي ضعيفة، وزادت اللعبة السياسية الدولية من تأصيل فرقتها لتثبيت ضعفها، وفي تشجيع روح العداء بين حكامها، وزرع التعصب والكره المتبادل حتى وصل ذلك إلى الشعوب، وحتى وصلت بين الأمة الواحدة.
– ومن أسس النظام الديمقراطي والعلماني، إعطاء الحرية المطلقة للفرد في الحرية الشخصية لكل من بلغ سن الثامنة عشرة من ذكر أو أنثى، ليس لأبيه ولا لأمه عليه حق الاعتراض أو المنع من الفساد الخلقي مهما كان قبحه طالما أن ذلك بطواعية منه.
وإعطاء الحرية المطلقة في الكسب من حلال أو حرام كالربا ومهر البغاء والقمار وإثمان الخمور. إلخ، شريطة عدم التعدي.
وإعطاء حرية الرأي، للكل أن يعلن رأيه مهما كان قبيحاً وهداماً، بل إن المحافل الماسونية تشجع أصحاب الأفكار الهدامة التي تحارب العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة، وتمنحهم المكافآت والرتب، وترشح كبارهم للجوائز العالمية مثل جائزة نوبل التي منحت للروائي المصري نجيب محفوظ على روايته لما ظهرت فيها السخرية والاستهزاء بالله عز وجل وبدينه وبرسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، في الوقت الذي لم يمنحوا المبرزين من المسلمين في شتى العلوم شيئا، بل لم يمنحوا ذلك الروائي نفسه الجائزة على رواية أخرى أرقى منها.
– ومن أسس النظام الديمقراطي والعلماني، تحريم الإجتماع والاتحاد على الدويلات الإسلامية بعد إسقاط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية، وتتريك تركيا على يد العلماني الملحد ربيب الماسونية مصطفى أتاتورك.
ومن حق الدول الكبيرة – بحسبهم – استعمال حق النقض المعروف بالفيتو الجائر، ضد أي تصويت جماعي من قبل أعضاء هيئة الأمم المتحدة، لا يتفق مع مصلحة أولئك الشياطين! فصار استعماله بصفة شبه مستمرة لصالح دولة اليهود ضد أي قرار يدينها بالظلم، أو يوجب عليها التخلي عن شيء ترغبه في فلسطين أو خارجها، وهذا أيضاً برهان من عشرات البراهين المثبتة لتبعية الدول الديمقراطية للماسونية الصهيونية وخضوعها لتعاليمها (الأمم الغربية من أغبى الأمم بدليل استغفال اليهود لها، والدليل على غبائها هو قبولها بالإلحاد الذي يرده أبسط عقل، وقبولها بالتثليث مع العجز حتى عن شرح معناه، وقبولها ببراءة اليهود من دم مصلوبها. والمعروف أن السذاجة والبراءة إذا تجاوزت حدها أصبحت بلاهة، وهو حالهم).
– ومن أسس النظام الديمقراطي والعلماني، اتخاذ القانون الفرنسي والقوانين الأخرى المستمدة منه ومن النظم الماسونية التي هي الأصل فيه، قانوناً وشريعة تحكم بها الدول الديمقراطية، وعدم الاعتراف بما يخالف ذلك.
– ظهور المذاهب الإلحادية الجنسية الضائعة المحيرة للنفس العقل والفطرة السليمة، والتي لا يقبل بها أو يتبناها إلا أكابر الشياطين والمرضى النفسانيين: ففي أوروبا، بعد الثورة الفرنسية ضد الكنيسة في مجال الفكر والأدب، وجد الشعب الفرنسي أنفسهم بعد التخلص من رق الكنيسة، في فراغ فكري وحرية مطلقة في الرأي والشخصية، ولم يكن لهم عقيدة صحيحة تستنير بها عقولهم وأفكارهم كما هو الحال عند المسلمين المتمسكين بدين الإسلام الحق، فكان ذلك سبباً رئيساً في ارتكاسهم في مآسن الإلحاد والزندقة والإباحية، واتباع كل ناعق يُنَظِّر لهم ما نَظَّرَه لنفسه من فلسفة للحياة حسبما تمليه عليه العاطفة والهوى والشيطان، فتمخض عن ذلك الكثير من الأفكار الشيطانية الهدامة، منها: بعث التراث الوثني الإغريقي، وهذه الفكرة الإلحادية المارقة عن الدين والفضيلة، جعلت الآخذين بها والمتبعين لأربابها قطيعا من الماشية المهملة الضائعة التي تتيه في غياهب ظلمات الأفكار الفاسدة المتضاربة، وساد في هذا الميدان الكتَّاب الخياليون مثل تبراك، ورابله، وشكسبير، وسرفانتس، والرسامون، والنحاتون، والموسيقيون.
ومنها الحركة الإنسانية، وهي الاهتمام بالحياة الدنيا والوجود الإنساني فيها كرد فعل على تركيز الكنيسة على عالم الآخرة، والغلو في الرهبانية المبنية على الاعتقاد الشركي الثالوثي وتقديس القديسين.. إلخ، وساد في ميدان هذه الحركة قديماً الكلب “دانتي”، وحذا أصحاب هذه الفكرة حذوه، وكان الخنزير “شكسبير” يمثل أرقى ما وصلت إليه حركة النهضة الأوربية، وهي في لبابها تتلخص في اكتشاف الجنس البشري لقيمته وأهميته التي أضاعتها الكنيسة وعصور الإقطاع. وهم يعنون بتلك القيمة للإنسان، الناحية المادية البحتة التي تحكمها الشهوة والهوى، والتي لا تتقيد بدين ولا فضيلة.
ومنها العودة إلى الإباحية الرومانية، وبعث مذهب التمتع باللذات والشهوات الجسدية المحرمة، وإشباع النـزوات والغرائز، واعتبار الاهتمام بالجسد كل شيء، وأما الروح فلا يعيرونها أي اهتمام. وكانوا يطلقون على ذلك في العصور الماضية “الكلاسيكية”، ثم ظهر مذهب جديد وهو ”الرومانسية” أو “عصر التنوير”، وكل اهتمام أصحابه منصب على التعليم الإلحادي والصناعي، وعلى السياسة، وتأليه الطبيعة، وإنكار الخالق عز وجل، وتقديس العقل وإقامته مقام الوحي، وألهوا الشعور العاطفي، وجعلوا العاطفة هي المحكمة، ورائد هذا المذهب اللعين هو “روسو” الذي وصف نفسه بأنه راهب الطبيعة وليس الكنيسة، ونحا نحوه “فاوست” و”كيتس” و”لأمارتين”.
ومنها الواقعية، وهي حركة قامت ضد الرومانسية، وأهم قضاياها هي الثورة ضد التقاليد الإقطاعية والمسيحية، وهو تجديد للثورة ضد الكنيسة. وكان “بلزاك” أحد روادها.
ومنها “الأدب المعاصر” (من الواقعية إلى اللامعقولية)، وعلى رأس زعماء هذا الاتجاه (الأدب الأوروبي الملحد المعاصر)، “داروين” و”فرويد”. ومدار أفكار داروين على الفلسفة الحيوانية مثل إرجاعه أصل الإنسان إلى أنه قرد، فيلغي بذلك المشاعر الروحية للإنسان، والعقل الذي ميزه الله به وجعله به مكلفاً. ومدار الفكر الفرويدي على تعميق فكرة الحيوانية في الإنسان حتى يجعلها تتركز في الناحية الجنسية بشتى صورها الهابطة. ويبنون جميعا تفكيرهم على إنكار الخالق جل وعلا، وعلى إنكار الدين، ويؤكدون الإحساس بالضياع، وبطل الرواية عند الكلاسيكيين هو معناه الصحيح، وعند الرومانسيين هو العاشق أو الصوفي، وعند الواقعيين هو الشهواني أو المادي. وفي أدب الضياع (أي عند المعاصرين) هو الصعلوك أو المتشرد، أي الإنسان الذي مصيره الخيبة والضياع. وأبرز مدارس الضياع هي الوجودية، وتعرض بعض جوانب المأساة البشرية، وأبرز معالمها رفض الإيمان بالله كما تصوره الأديان، ولكنها لا تجد البديل، والإنسان الذي تحاول تأليهه محصور مقهور أمام القدر الإلهي رغم أنوفهم. وبطل الوجوديين هو الخسيس “البير كأمو”.
ومنها الرمزية، وهي مدرسة ظهرت في القرن التاسع عشر كرد فعل للنـزعة الميكانيكية التي ادعت بفهم الكون وأسراره عن طريق العقل والعلم.
وبرزت الوجودية في إنتاج “أنيس منصور”، والماركسية في كتابات “نجيب محفوظ”، وبرز الاتجاه الضائع الناهج نهج اللامعقول في شعر “شاكر السياب“ (كما في أنشودة المطر)، وقبله الشاعر اللبناني الملقب “أدونيس”.
فنهج أولئك الحداثيون (السياب وأدونيس)، ومن حذا حذوهم من المنافقين العلمانيين المدعين للإسلام من عرب الجزيرة العربية وغيرها، نهج أولئك الحداثيون، نهج اليهودي “اليوت” الذي ظهر بما يسمى الشعر الحر، وكان ظهوره به في الشعر الإنجليزي، وأخذ تلامذته من أفراخ الإفرنج من العرب مثل “با كثير” و”السياب”، يترجمون الشعر الأوروبي إلى العربية منثورة، ثم جاء الجيل التالي الذي كان هزيلاً ممسوخاً في كل شيء في هذا الهذيان المسمى بالشعر الحر، مثل “محمد الفيتوري”، يكتبون أو ينشدون ذلك الشعر الحر ضد كل فضيلة ومعنى جميل. فهؤلاء الزمرة من الحداثيين العرب المتفسخين من دينهم ومن كل فضيلة ما هم إلا جراثيم الاستعمار أو الغزو الصليبي الذي سيطر على هؤلاء الضائعين الملحدين.


تعريف المعارضة

يعتبر من بديهيات الديمقراطية وجود معارضة دائمة للحكم، ولعلّه من الأساسات المهترئة التي بنيت عليها الديمقراطية.
وفي عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين أتباع الرسل والأنبياء، أن المعارضة من الخروج على الحكام، إذ الأصل عندنا هو السمع والطاعة بالمعروف، والنصح للحكام لا الخروج عليهم، وبسبب هذا الأصل صار السلفيون شرا مستطيرا يراه الموافق للسلطة والمخالف لها سبب التفرقة والدمار، وهذا بسبب النظرة النمطية التي تكرست في عقولهم حولها (بل افتروا على السلفية بجعلها داعش، مع أن داعش تكفر الحكام ولا تطيعهم في معروف ولا غيره).
والمعارضة أنواع، ففيهم الملحدون، وهم من أقصى اليسار، عندهم تطرف في الإنحلال الديني والبعد عن القيم الإسلامية، وأشباههم الذين يرون أن الإسلام دين قيم لكنه لا يصلح للحكم البتّة لسوء فقههم بالواقع قبل الدين، وفيهم الإسلاميون وأشباههم ممن يعتبرون الدين ظاهرا هو الحل، لكن في الحقيقة يستعملوه كوسيلة للوصول إلى الحكم فقط، فغرضهم دنيوي وهو الكرسي، ولو لم يكن ذلك صحيحا فكيف رضوا بالديمقراطية مطية لأحزابهم الإسلاموية، أين هم من الدين وهم من أقصى اليمين، أي عندهم تطرف في فهم الدين والعمل به، ولا يتورعون عن سفك الدماء البريئة في ذلك؟
أما السلفيّون أهل السنة والجماعة، الطائفة المكذوب عليها والمغيبة إعلاميا، فمن أصولهم عدم طلب الحكم أو السعي له والطمع فيه، وهم من أشد الناس دعما للإستقرار والأمن والدعوة إلى الحكم بما أنزل الله، وهذا ما سبب لهم العداء من طرف جميع الأطراف المعارضة والموافقة للسلطة، وكل أهل البدع.
لذا من المهم نشر التوحيد وما كان عليه السلف الصالح فهو الصحيح، ومحاربة البدع وأولها الديمقراطية، لن تقوم لنا قائمة بدون الإسلام كما قال عمر رضي الله عنه: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”. وقال الإمام مالك: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.

ويقوم الفكر الديمقراطي على طلب الولاية للنفس، بل على الصراع ‏من أجل ذلك، فما تكوين الأحزاب، ونشر الدعايات، وخوض الانتخابات، إلا للحصول ‏على الولاية، وهذا أمر منهي عنه، فالمسلم منهي عن طلب الإمارة لنفسه، قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم ‏:”إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه”، وقال ‏ صلى الله عليه وسلم ‏:”لا نستعمل على عملنا من أراده”، وقال ‏ صلى الله عليه وسلم ‏ لعبد الرحمن بن سمرة: “يا عبد الرحمن لا ‏تسأل الإمارة فإنك إن أُعطيتها عن مسألة أوكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت ‏عليها”‏، وهذا يشمل طلب الولاية بكل الطرق، ومنها الترشح في الانتخابات وطلب التأييد من الناس لذلك.
ولا يجب ‏معارضة هديه‏ صلى الله عليه وسلم في إسناد الإمارة بقول يوسف عليه السلام: “اجعلني على ‏خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، وذلك لأمرين: الأول، أن هذا من شرع من قبلنا، ‏والعلماء في شرع من قبلنا لهم قولان، أنه شرع لنا ما لم يأت شرعنا ‏بخلافه، وأنه ليس شرعا لنا إلا إذا ورد في شرعنا، وعلى كلا الرأيين ‏لا يصلح أن يحتج بما فعله يوسف عليه السلام في شرعنا، فإن طلب الإمارة لم يأت في ‏شرعنا إلا على سبيل النهي عنه، والأمر الثاني أن يوسف عليه السلام قال ذلك في ‏ظروف غير اعتيادية، وما جاء مخالفا للأصل فيُقتصر به على مَوْرِدِه ولا يتعداه لغيره.

قال محمد الصادق مغلِّس (مدرس بجامعة الإيمان):
غَزَتْنا فتنةُ “الدهماء” غزواً *** كما قال النبي بلا ارتيابِ
تصيبُ المسلمين بكلِّ أرضِ *** وما يُغني مُصابٌ عن مصابِ
إلى قوله:
وتمييْعٌ وتضييعٌ وقبح *** ونشرٌ للرذيلة في الشبابِ
وتجويعٌ وتطبيعٌ وفتحٌ *** لأمريكا لتدخل كلَّ بابِ
مُراباةٌ وعوْلمةٌ ونزعٌ *** لأية شوكةٍ ولأي نابِ
وقوله:
وكم من مُنكرٍ قد صار عُرْفاً *** بتقريب الخطاب من الخطابِ
وألوانُ الخلاعة ألفُ لونٍ *** بلا ردعٍ وعزفٍ كالشرابِ
وعرسٌ كل يومٍ وانتخابٌ *** تعيش الدهر أعراسُ انتخابِ
وللعمال ترشيحٌ وفرزٌ *** وللطلاب من أجل الطلابِ
وللفنَّان والحيطان فوزٌ *** نقابات تكالُ بلا حسابِ
يعيش الناخبون على ظُنونٍ *** وقانون لتمليك السَّحابِ
وكم أفنوا جهوداً أو نُقودا *** وكم ساروا ذهابا في إيابِ
فلم يجنوا سوى هم طويلٍ *** وأوهامٍ بتبييضِ الغرابِ
ولو عملوا قليلاً من كثيرٍ *** على نور لعادوا بالجوابِ
وللتزوير فنٌ لا يُبارى *** وقد يعلوا الرويبضُ كالشهابِ
ومن لم يفعل التزوير مكراً *** أعاد الفوز قهراً بانقلابِ
وأحلامٌ التداول في انتخابٍ *** لأحكام التحايل في انتخابِ
وقوله:
سلوا مصراً سلوا الإخوان فيها *** سلوا الأردن في العمل النيابي
سلوا الأتراك واليمن المعنَّى *** وما جنتِ الجزائرُ من مُصابِ
أما تكفي تجاربهم دروساً *** ليرتدع المؤمِّل في السرابِ
وزد يا صاح فـالمقراطُ نهجٌ *** يناقض غيهُ نهج الكتابِ
دمقراطية وردت شعاراً *** مزينة مزيفة الثيابِ
تخادعُ كل قومِ كل يومٍ *** بألفاظ منمَّقةٍ عذابِ
يُساوَى الوغدُ والمرتدُّ فيها *** بأكبر عالم بل بالصحابي
بل التدليل بالقرآن رأيٌ *** يساوي أي رأي في الخطابِ
يقولون الشريعة نفتديها *** ويثخنها الذئابُ بألف نابِ
وفي التصويت حسمٌ واختيارٌ *** وكم حسموا بإسقاط الصوابِ
فهل قد أصبح المقراط ربّاً *** وفي القاعات يُعبدُ بالنصابِ؟
وهل هو سافرٌ عند النصارى؟ *** وعند المسلمين مع الحجاب؟
وبالشورى يُشبِّهُهُ أناس*** وأين التبر من أدنى الترابِ
وقوله:
وتمضي المنكرات بلا أناةٍ *** وتسرع بالجميع إلى تبابِ
ونهيُ المنكرات به نجاةٌ *** ولكن المجاري كم يحابي
ونعصي كي نطيع ولا فلاحٌ *** لمن شاب الوسيلة بالشِّيابِ
وما الطاعات تُطلبُ بالمعاصي *** ولا الغايات تُكسبُ بالمعابِ
وإن التاركين لمنكراتٍ *** بزعم الجدِّ في نيل اكتسابِ
كمصطاد الجرادة بعد جُهدٍ *** وعشرٌ قد هربن من الجرابِ
وقوله:
ولو دخل الفرنجةُ جُحر ضبٍ *** فهل تلج الجحور مع الضبابِ؟
ولن ترضى الذيول وإن حرصنا *** فأذيالُ الذئاب من الذئابِ
وهل ترضى اليهود أو النصارى *** وقد حكم الكتابُ بلا ارتيابِ
وللإسلام رب لن تضيعوا *** وإدمان التنازل شرّ غابِ
وحسبُ العاجزين عن التناهي *** إذا حجبوا التهاني عن خرابِ
فقل للحائرين: كفى اغتراباً *** فلن ترثوا الخلافة باغترابِ
وخلطُ الدين بالطاغوت نُكرٌ *** وإن طرق المؤمِّلُ كل بابِ
ومن رام الحلاوة لم ينلها *** إذا خلط الحلاوة بالترابِ
وهذا القول قولٌ من خبيرٍ *** تشبَّع من سرابٍ وانتخابِ
وهذي الفتنة الكبرى بلاءٌ *** فكن يا صاح من أهل الصوابِ
وما قصد القصيدة لوم قومٍ *** ولكن دعوةٌ نحو الإيابِ
أقدِّمها عموماً لا خصوصاً *** لمن شرفوا بميراث الكتابِ
لكل المسلمين بكل أرضٍ *** وأرجو الله حُسناً في الثوابِ


الأحزاب الشيطانية

تلميع الخونة. عندما كان خالد بكداش يتحدث عن الحرية والديمقراطية كان يتحدث – كما يقول مجيد خدوري – بأسلوب يغري كثيرين من الشباب بالانضمام إلى الحزب سعياً وراء مبدأي الحرية والديمقراطية، ولشد ما تكون دهشتهم حين يكتشفون أن ليس للحرية ولا للديمقراطية وجود تحت قيادة بكداش. وذلك لأنه كان فظاً مستبداً مما حمل كثيرين على ترك الحزب.
وكان الحزب الوطني الديمقراطي في العراق يتمسك في برنامجه المنشور، بالديمقراطية وحرية الفكر، وإفساح المجال للتبشير بمختلف المبادئ والمذاهب السياسية، ولكن أحد أعضائه المتمسكين بالبرنامج طلب إخراج كل من يبشر بالمذهب الماركسي من الحزب.
والأمثلة كثيرة على تضليل البرامج الحزبية المنشورة للناس، وبُعدها عن الواقع والتطبيق، ولو أن أقل القليل مما وعدت به برامج الأحزاب قد حققته وهي في مواقع السلطة لما احتاج الدعاة اليوم للمطالبة بأي إصلاح للأحوال!! ألم تصل الكثير من الأحزاب الديمقراطية الشعبية إلى سدة الحكم؟ ألم يشغل مفكرو هذه الأحزاب، ومنذ تلامذة الأفغاني أمثال محمد عبده وقاسم أمين ولطفي السيد وسعد زغلول وبعدهم طه حسين وكثير غيرهم حتى يومنا هذا، مناصب فكرية وسياسية واقتصادية وتربوية الخ… وسيطروا على ساحة الفكر والسياسة معاً؟ فهل حققوا برامجهم وشعاراتهم ووضعوها موضع التنفيذ؟
ألم يهدر هؤلاء الدعاة الحرية قبل غيرهم؟ ألم يطؤوا بأقدامهم الثقيلة على صدور أفراد هذه الأمة – المبتلاة بهم – حتى لا يتنفسوا إلا بمقدار ما يسمحوا لهم به؟ مما جعل الأستاذ فتحي رضوان –رحمه الله- يصيح بعدد من المفكرين المتباكين على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد العربية، الذين اجتمعوا في ليماسول في قبرص ليتدارسوا ما آلت إليه أحوال الأمة، وبعد أن ذكرهم بملاحم التضحية والفداء التي سطرتها أجيال سابقة من أبناء الأمة، اتهمهم بقتل الحريات وانتهاك حقوق الإنسان لأنهم عندما كانوا في مقاعد السلطة نسوا وتناسوا حقوق الإنسان لمعارضيهم وشاركوا في انتهاكها.
والآن وبعد أكثر من مائة عام على بداية الدعوة للديمقراطية وحرية الفكر على الطريقة الأوروبية، سيطر خلالها الدعاة أنفسهم على الساحة بكل ما فيها، فكرياً وسياسياً، ماذا تحقق للمواطن العربي من الديمقراطية والحرية؟ ماذا حصل من حقوق؟ ألم تهدر حقوقه بأكثر مما كان يحدث قبل هذه الدعوات؟
وبعد أكثر من مائة عام على دعوة الديمقراطية والحرية، وفي عام 1989 شهد مجلس الشعب المصري صداماً عنيفاً بين نواب الأغلبية والمعارضة تحول إلى اشتباك بالأيدي. وفيه حاول وزير الداخلية ضرب النائب من كثرة الديمقراطية والحرية الفكرية والثقافة الحوارية.
وهم لانبهارهم لم يروا ما رآه محمد مزالي مثلاً من حقيقة الديمقراطية الأوروبية إذ قال: “في الظاهر تتمتع أمريكا والبلاد الأوربية بحريات وتعدد أحزاب وانتخابات وجرائد متصارعة مما يبدو وكأن الأمر على أحسن ما يرام ولكن إن تعمقنا بكل ذلك، حينئذ فقد ندرك أن سلطان الأغنياء ورؤوس الأموال لا يزال قوياً ومؤثراً في مجريات الأمور”. ويضرب مثلاً فرنسا – الجمهورية الرابعة – فيقول: “حيث كل كتلة كانت تؤثر على الحكومة وتسير الانتخابات والنواب بحسب مصالحها، فيتفوق المزارعون تارة، والتجار طوراً، والشغالون أخرى. والصحافة التي يقال عنها حرة تخضع في الغالب لمراكز قوة رأسمالية جشعة، أو مذهبية متعصبة، ومن المعروف أنها تمول بالإشهار الذي كثيراً ما يزدري بالأخلاق والتربية، ولا يقيم وزناً للمصلحة العليا، أو تعيش بالمنح الخفية”. ويتساءل فيقول: “فهل أنا حر حقيقة في اختياراتي وفي مواقفي، وأنا ومنذ صغر سني ومنذ عهد الدراسة أتأثر من حيث لا أشعر بنظريات وشعارات ومعلقات وأفلام وجرائد لا تخدم دائماً مصلحة العامة، ولا تقر حساباً للأخلاق؟!”.
أما عن الانتخابات فيرى أن إعطاء كل فرد صوتاً في الانتخابات شيء جميل نظرياً ولكنه في الواقع يؤدي إلى سيطرة عديمي الكفاءة؛ فالتصويت يستوي فيه الجاهل والمثقف الواعي. والسياسيون المتزعمون قيادة الأمة يُقدمون على كل شيء، ويعدون بكل شيء يجلب أصوات ما دامت المسألة أصوات وأغلبية. ويستشهد بقول مونتسكيو: إن الديمقراطية لا تنجح إلا إذا اقترنت بالفضيلة؛ أي أن السياسة تقتضي الأخلاق، ولكنه يرى أن شرط اقترانها بالأخلاق والفضيلة يسقط أهميتها ويساويها بالحكم الفردي؛ لأنه مع وجود الأخلاق سيكون أي حكم جميلاً، ديمقراطياً أو غير ديمقراطي، وتبقى للحكم الفردي في هذه الحالة الأفضلية، لأنه لإصلاح الحكم الفردي يتطلب الأمر إصلاح أخلاق فرد أما الحكم الجماعي فيتطلب الأمر إصلاح مجموعة كبيرة”. فالديمقراطية كما يراها البعض لها أنياب ومخالب، بل أشرس من الدكتاتورية.
وقد شكا الكثير من الغربيين من زيف الديمقراطية التي توجهها قوى ظاهرة وخفية لمصالح فئات معينة. ولكن النهضويون عنها غافلون!! وهم لانبهارهم أيضاً لم يتتبعوا نشأة هذه الحضارة وديمقراطيتها التي بدأت بالقتل وإبادة الالآف من البشر. فهناك أبحاث تقدر الضحايا من الأفارقة خلال الثلاث مائة عام الممتدة من 1600 إلى 1900 بأكثر من مائة مليون مستعبد بكل ما تحمله كلمة العبودية من معنى، وقتيل في المعارك ومن سياط التعذيب والاختناق في أقبية السفن التي تمخر عباب المحيط الأطلسي، هذا غير استعباد أو إبادة ملايين بل عشرات الملايين من الهنود الحمر في الأمريكيتين، وتقدر الإحصاءات أن عدد الهنود الحمر الذين أبيدوا في عصر النهضة الأوروبية هذا يفوق مائة مليون إنسان، هذا بالإضافة إلى مئات الألوف وربما ملايين الضحايا التي تكبدتها بلدان آسيا المختلفة بعد أن انطلق الوحش الأوروبي ليحرر العالم!! مضافاً إلى كل ذلك إبادة سكان أستراليا والكثير من جزر المحيط الهندي. كل هؤلاء قتلوا أو استعبدوا باسم نشر الحرية والديمقراطية وإخراجهم من الهمجية!! فهل أخذ النهضويون الذين أرادوا لنهضة الأمة العربية أن تكون مثل نهضة أوروبا وأن تكون ديمقراطيتها مثل ديمقراطية أوروبا، كل هذا بنظر الاعتبار على أنه جزء من هذه الحضارة وقيمتها وأهدافها وتوجهاتها؟
وهؤلاء الذين يرون عصر النهضة الأوروبية هو العصر الذي انتقل فيه الأوروبي من العبودية إلى المواطنية! كيف نظروا إلى عبودية هذه الملايين وخاصة منها عبودية أمتهم العربية واستعمارها؟!! وكيف برروها؟
إنهم لانبهارهم لم يروا من الديمقراطية الأوروبية إلا ما أراد لهم الأوروبيون رؤيته، فهم رأوا من الثورة الفرنسية – مثلاً – شعاراتها فقط: “الحرية والإخاء والمساواة”، ولكنهم لم يروا ما كانت تخفي هذه الشعارات وراءها من وحشية وسفك للدماء جعل الفرنسيين أنفسهم وبعد مائتي عام يشعرون بالخجل مما حدث فيها من مآس وسفك لدماء الأبرياء، فقد حرر الثوار سبعة مساجين من الباستيل بكل تلك الضجة التي أثاروها حوله، ولكنهم قتلوا خمسة وعشرين ألفاً من عامة الناس، لا يزيد عدد النبلاء ورجال الكنيسة منهم عن 10%!! وسحق الثوار الأحرار، مؤسسو الحرية والديمقراطية! المعارضة للثورة بعد ذلك وفي كل مكان من فرنسا بوحشية لا يمكن وصفها، يدل عليها ما كتبه أحد ضباط الجيش الجمهوري عام 1793 إلى رؤسائه يشرح لهم كيف عامل الثوار المعارضين في فائدتين ،فقال إنه “سحق الأطفال تحت حوافر جواده وقتل النسوة حتى لا ينجبن مزيداً من المنشقين المعارضين، وإنه لم يأخذ سجناء بل محا كل شيء”، وقد قُتل من رجال الكنيسة في تلك الحوادث وفي تلك المنطقة بالذات مالا يقل عن ألفي رجل، وقتل قبلها في باريس وحدها 191 رجل في سجن كارمي عام 1792.
ومما ينسب إلى نابليون قوله: “إن أي رجل يفكر هو عدوي”. إنهم لانبهارهم لم يروا اللا أخلاقية التي هي جزء من الديمقراطية الأوروبية التي تعتمد مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” فتستخدم الأحزاب كل الوسائل من أجل إيصال أفرادها إلى السلطة للقفز عليها، بغض النظر عن شرعية هذه الوسائل أو انسجامها مع المفهوم العام السائد للأخلاق حتى في مجتمعاتهم، فالنفاق وتزوير المشاعر وكيل الوعود – بالأطنان – لهذا، وكيل الاتهامات والشتائم – وبالأطنان أيضاً – لذاك ؛ هي من مستلزمات الحملات الانتخابية، والتي تسيّر الأحزاب فيها أفرادها – من أجل تحقيق الانتصارات على الحزب الخصم -كالأغنام، بغض النظر عن آرائهم ومشاعرهم، فكل عضو يستفيد، عليه أن يفيد الحزب”، فايزنهاور مثلاً الذي أوصله الحزب بقدرة قادر إلى رئاسة الجمهورية، وقبلها إلى رئاسة جامعة كولمبيا، وهو الجنرال العسكري!! عليه أن يدفع الثمن بمساعدة أعضاء آخرين للوصول إلى مواقع السلطة مستغلاً مركزه كرئيس دولة من أجل استمرار حزبه في الحكم!! فكان يقوم بمهام منصبه مكرهاً كما يقول سالزبرجر الذي كان يرافقه أحياناً، وكان يلعن اليوم الذي سيسافر فيه لتزكية أعضاء حزبه في انتخابات الكونجرس، وعندما حضر لتسلم جائزة فورستال هتف بسالزبرجر قائلاً بحنق: “والآن ما هي هذه الجائزة بحق الجحيم، إنهم لم يبلغوني بها ولا أعرف عنها شيئاً؟”.
وتصارع الأحزاب – والأفراد – على السلطة أبعد ما يكون عن كونه تصارعاً شريفاً ؛ حيث يسرف أحدهما في اتهام الآخر بشتى التهم ولا يهم إن كانت بالحق أو بالباطل ما دام ذلك يمكن أن يقرب أحدهما خطوة نحو الفوز في الانتخابات!!

واستخدمت، ولا تزال تستخدم، الحرية والديمقراطية لإحداث الفجوة بين الحاكم والمحكوم، هذه الفجوة التي تجعل الاثنين فريسة سهلة للاستعمار يقضي منها مآربه كيفما يشاء، ولن يستطيع أي منهما اتخاذ موقف صلب إزاءه. وما قصة عرابي وثورته إلا مثل واضح على ذلك، فقد هيأ لها فكرياً الأفغاني ومن ورائه الماسونية، وما أن غادر الأفغاني حتى تسلمها بلنت رجل المخابرات البريطانية، الذي حرض عليها وشجع عرابي على تأليف الحزب الوطني الذي كتب هو وعبده برنامجه، وأخذ موافقة الخارجية البريطانية عليه ونشره في الجرائد البريطانية قبل نشره في مصر!! وعندما قامت الثورة ووجد توفيق نفسه في موقف حرج، وذلك لأن عرابي وصحبه ما كانوا يخفون رغبتهم بجعل النظام جمهورياً، فقد كتب عرابي إلى بلنت يقول له: إن خلع إسماعيل أزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن قد فعلنا ذلك بأنفسنا لكنا تخلصنا من أسرة محمد علي بأجمعها، وكنا عندئذ أعلنا الجمهورية.
وكان البارودي، أحد قادة الثورة، يقول: “كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة، لأنهم متأخرين عن زمنهم، ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت”. فماذا يفعل توفيق لإنقاذ نفسه وهو يرى عرابي وصحبه يسيطرون على الموقف؟ لجأ إلى الأسطول الإنكليزي وتشبث باليد الإنكليزية الممدودة إليه مدعية إنقاذه من الغرق في الطوفان الذي أعدته وشاركت في إحداثه!!
وهكذا كانت الديمقراطية الأوروبية تحقق أهدافها! وما حدث للسلطان عبدالحميد لا يختلف كثيراً عن هذا. إذ تحالفت مجموعة حزب الاتحاد والترقي – الذي هو أساساً نبتة أوروبية نبتت في فرنسا وبريطانيا – مع كل أعداء الدولة العثمانية في الداخل والخارج، وعلى رأسها الماسونية والصهيونية، وأسقطوا السلطان عبدالحميد مستخدمين ذات السلاح الزائف البريق وهو الديمقراطية، التي يفتقر إليها حكم عبد الحميد ويتصفون هم بها!
وحريتهم وديمقراطيتهم هذه كانت وراء كل الاستبداد الذي لاقته الأمة العربية من الدولة العثمانية، وكانت الوباء الذي قضى على الدولة العثمانية نفسها، فهذه المجموعة هي التي أدخلت للدولة العثمانية الملكية الكبيرة، أو شبه الإقطاعية، وهي التي أسهمت في تدمير الإقتصاد المستقل، وفتحت الأبواب للتغلغل الغربي اقتصادياً وثقافياً وسياسياً”. وهي التي سنت القوانين والأنظمة التي تكرس العنصرية وتعمل على سيادة العنصر التركي في الإمبراطورية؛ مما أثار حفيظة بقية القوميات فيها، وأدى بالتالي إلى القضاء على الدولة العثمانية.
وتفريق كلمة الأمة وتشتيت شملها من خلال الأحزاب المختلفة بشكل يسهل للدول الأوروبية أمر الهيمنة على الساحة السياسية في البلاد، سواء قبل الاحتلال للتمهيد له، أو أثناء الاحتلال، أو بعد الجلاء عن البلاد، ولذلك شجعت تأليف الأحزاب، فالماسونية الأوروبية كانت وراء تأليف الأفغاني لحزبه الحر، ولحزب مصر الفتاة، كما كان بلنت وحزبه الحر وراء تشكيل حزب عرابي الوطني! كما كانت بريطانيا وفرنسا وراء تشكيل عدد من الأحزاب القومية والوطنية هنا وهناك في البلاد العثمانية وعلى رأسها حزب الاتحاد والترقي، وانتشرت حمى تشكيل الأحزاب بعد ذلك بأسماء مختلفة في مصر أولاً ؛ فهذا الحزب الوطني الحر وهذا الحزب الوطني – من غير حر! – وهذا حزب الأمة وذاك حزب الأحرار أو حزب الدستوريين الخ.. وكل حزب انشق إلى فروع، وكل فرع انشق إلى فروع الفروع، وهكذا، وانتقلت عدوى تشكيل الأحزاب من مصر إلى بقية البلاد العربية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط الدولة العثمانية، فالعراق لم يعرف الحياة الحزبية العلنية إلا منذ عهد الانتداب 1921-1932 حيث تألفت عشرة أحزاب! ومعظم مؤسسي هذه الأحزاب وأعضائها كانوا ممن لهم ارتباطات بالدول الأوروبية من خلال مدارسهم المنتشرة في البلاد العربية، أو من خلال جمعياتهم السرية كالماسونية والفابية والكاربوناري الخ، فأعضاء الحزب الوطني الحر وتلامذة كل من الأفغاني وعبده هم الذين سيطروا على الحياة الحزبية بعد ذلك في مصر إذ كونوا أولاً حزب الأمة الذي يسميه كرومر حزب الإمام، ومنه تفرعت الأحزاب الأخرى، فلم يكن حزب الوفد كما يؤكد محمد محمد حسين إلا أمتداد له”، واستمر الحال إلى يومنا هذا حيث خلفت تلك الأحزاب الأولى أبناء وأحفاد! وعندما قامت الثورات في الخمسينات من هذا القرن ألغت الأحزاب لمعرفتها بها وبانتماءاتها وبعجزها عن تحقيق شيء للأمة، قد ذكر على لسان جمال عبد الناصر أنه قال: “لو سمحنا بحرية الأحزاب السياسية اليوم، لقام عندنا 3 أحزاب، أحدهما موال للكتلة الغربية، والآخر للكتلة الشرقية، والثالث مستقل، إن مجادلاتهم يمكن أن تدمر الوحدة وتنقل إلينا الحرب الباردة”.
ولكن حتى عندما كونت الثورات هذه حزباً جديداً واحداً أو أبقت على حزب واحد هو حزبها، انتقل فكر وممارسات تلك الأحزاب الأولى إلى هذه الجديدة عبر الأعضاء الذين انتقلوا من تلك إلى هذه، أو من خلال تلامذتهم ومريديهم مع زيادة التطرف في العلمانية والتغريب، والإبتعاد أكثر عن القيم والتقاليد الدينية والإجتماعية للمجتمعات العربية، هذا غير ما أضافه هذا الدم الجديد إلى هذه الأحزاب، مما زاد الطين بلة كما يقول المثل الشعبي.
ولذلك لم تنقطع تبعية هذه الأحزاب الجديدة للدول الأوروبية، ولم تكن الصدفة وحدها هي التي جعلت أكثر مؤسسي الأحزاب من خريجي هذه الجامعة أو تلك من الجامعات الأجنبية العريقة. وقد نجحت خطط الدول الأوروبية في دفع الحزبية وتشكيل الأحزاب باسم الديمقراطية سواء السرية منها أم العلنية، وحققت أهدافها بشكل مدهش، فقد احتل الإنكليز مصر بأقل ما يمكن من الخسائر، وذلك لأن الأحزاب آنفة الذكر كانت قد مهدت للاحتلال بما أوجدته من فوضى فكرية شوشت فيها المفاهيم وشتت الانتماءات وفرقت كلمة الأمة وأسدلت ستاراً من الغموض على الأهداف الوطنية فحجبتها عن أبناء الأمة، مما أضعف مقاومة الأمة للغزو الأجنبي. أما بعد ذلك فلم تقتصر مساهمة الأحزاب والجمعيات التي أنشأتها الدول الأوروبية ودعمتها على هذا الدور في التمهيد لاحتلال البلاد العربية الأخرى، وإنما تعدت هذا وصارت إلى مساعدة عسكرية فعلية، فبالإضافة لكون الإنكليز حاربوا الدولة العثمانية بجنود مصريين، والفرنسيين بجنود تونسيين أو جزائريين، فقد ساهمت الأحزاب والجمعيات هذه من خلال الحركات العربية في دحر الدولة العثمانية والقضاء عليها وتسليم البلاد العربية للإنكليز والفرنسيين ليتصرفوا بها تصرف المالكين فيقسمونها كما يشاؤون، ويضعون على رأسها من يشاؤون من الحكام والملوك، ويهدون منها لمن يشاؤون!! ولذلك قال لورنس في كتابه أعمدة الحكمة السبعة: “كم أنا فخور بالمعارك الثلاثين التي خضتها، والتي لم ترق فيه نقطة دم لإنكليزي”. وفي تبرير دوره في غش العرب بوعود كاذبة لا تتحقق قال: “إنه كان متأكداً بأن مساعدة العرب كانت ضرورية لإحراز الإنكليز النصر في الشرق رخيصاً وسريعاً”. وبالتالي فإن انتصارهم – الإنكليز – ونقض عهودهم أفضل من اندحارهم!
أما بعد الاحتلال فقد انشغلت الأحزاب بالتنافس والتناحر فيما بينها، تاركين الاستعمار يتحكم في البلاد على هواه! هذا غير أن أكثرهم كان يحاول تقديم الخدمات للاستعمار ليكسب من دعمه! فعبده مثلاً كان يتبرع بتقديم الخدمات لكرومر؛ مثل تقديم لائحة إصلاح التعليم له، التي فيها يدل عبده الإنكليز على كيفية السيطرة على المصريين المسلمين من خلال الدين! ولائحة تنظيم إدارة البلاد التي يقترح فيها منح الإنكليز سلطات أوسع وتجريد الخديوي من أية سلطة مهما كانت، وعلى مثل ذلك جرى حزبه ومن جاء بعدهم.
ومن تبعية هذه الأحزاب للدول الأوروبية أنها أصبحت أدوات تستخدمها هذه الدول في مناهضتها لبعضها البعض، تماماً كما فعل الأفغاني وعبده من خلال العروة الوثقى إذ هاجما إنكلترا بدعم من فرنسا متغاضين عن استبداد فرنسا في البلاد العربية، وانقطع صوتهم الهادر ضد الإنكليز حال اصطلاح الطرفين، فرنسا وإنكلترا بتوقيع معاهدة بينهما اتفقا فيها على تقسيم مناطق النفوذ بينهما!!
وكذلك حدث بعد ذلك واستمر حتى يومنا هذا، فعندما ضرب الفرنسيون عام 1925 دمشق بالمدافع فتركوا شوارعها وقصورها خراباً، وأعملوا في ثوارها تقتيلاً حتى بلغ عدد القتلى من السوريين نحوًا من عشرة آلاف شهيد، لم تثر هذه النكبة في نفوس مدعي القومية والوطنية من السوريين المتواجدين في مصر من مشاعر الغضب ما يجعلهم يهاجمون فرنسا أو يلومونها، فهؤلاء – كما يقول محمد محمد حسين – وأمثالهم في مصر “لا يتحدثون إن تحدثوا، إلا عن ضحايا الاستعمار الإنجليزي، أما ضحايا الاستعمار الفرنسي فهم يغمضون أعينهم عنه، فإن اضطرتهم الظروف للكلام استعانوا بكل ما رزقوا من لباقة ولم يفصحوا”. وحتى عندما تقوم بعض الأحزاب الأخرى بحل ما عقده الأول، كما حدث مع الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل مع عبده وحزبه، حزب الأمة من بعده ومع الوفد وسعد زغلول وغيرهم بعد ذلك، حتى هذا الحزب المعارض نفسه لا يستطيع العمل مقابل هذه الأحزاب الموالية للمحتل والمدعومة من قبله إلا إن وجد له من يدعمه من الخارج، ولهذا نجد أن مصطفى كامل وحزبه مثلاً حاولوا دائماً الاتكال على دعم فرنسا لهم، خاصة بعد تولي الاتحاد والترقي الأمر في الدولة العثمانية. وهكذا استطاع المحتل بواسطة الأحزاب – أي الديمقراطية – أن يكرس احتلاله ويجعله أسهل وأرخص، كما كان احتلاله بفضل الأحزاب كذلك. وبدلاً من أن تجتمع كلمة الأمة ضد المحتل تفرقت بين الأحزاب المتنافسة التي اشتدت مع الأيام منافستها حتى صارت بعد عام 1923 في مصر مثلاً إلى حد لم يعد فيه هم الأحزاب وهدفهم بلوغ السلطة في البرلمان، بل التنديد بخصومها وإسقاطهم عبر الغوغائية بالتحريض حتى لو كانت النتائج تناقض المصلحة العامة، وكثيراً ما انهمك الزعماء السياسيون في تبادل الشتائم والسباب والمهاترات متهمين بعضهم البعض بالخيانة والنفاق مما أدى إلى زعزعة ثقة الناس بجميع الزعماء إلى حد كبير، ولم تحل سنة 1952 حتى كانت المهاترات وفوضى الخلافات الحزبية قد بلغت قمتها، وزاد الأمر سوءاً أن الشعب نفسه قد تقسمته أهواء الأحزاب التي يزعم كل منها أنه ينطق باسمه، وهي جميعاً أحزاب مصطنعة لا مبرر لوجودها، فكلها قد وجدت لأسباب شخصية، ولا فرق بين برامجها، لأنها جميعاً متولدة عن حزب الأمة، وقد بدأت جميعاً مستندة إلى العصبيات وإلى أصحاب المصالح من كبار الملاك”.
ولم يقتصر دور الأحزاب على تسهيل الاحتلال وتكريسه، وإنما استمر دورها في خدمة مصالح الاستعمار بعد الجلاء والاستقلال، وذلك إذ صارت تعمل على إدامة التبعية بكل أشكالها للاستعمار، ولم يأت عملها هذا بالصدفة!! وإنما جاء نتيجة تخطيط مسبق من قبل المحتل الذي أجرى خلال احتلاله عملية مسح للأفكار والنـزعات والآمال والأهداف السائدة في الوطن، ولما أدخله من أفكار وقيم ونزعات، ولما كان سائداً في العالم من نزعات عالمية كالاشتراكية والشيوعية الخ، التي كان من المتوقع لها أن تسود، ثم قام بصهر كل ذلك وصبه في القوالب التي يريد، فشجع تأليف الأحزاب المختلفة الأسماء والاتجاهات، منها ما هو قومي ومنها ما هو اشتراكي ومنها ما هو ديمقراطي ومنها ما هو شيوعي الخ.. ولكن الحزب القومي هذا يدعو إلى ذلك المفهوم من القومية الذي يريده الاستعمار والبعيد كل البعد عن كل مقومات الأمة وكل ما يشكل شخصيتها. وكذلك هو حال الأحزاب الاشتراكية، فهي رغم كونها فكرة عالمية فهي الأخرى مرتبطة بهذا أو ذاك من الأحزاب الاشتراكية في هذه أو تلك من الدول المستعمرة، تستمد منها الوحي والدعم معاً، وحتى الأحزاب الشيوعية وبالرغم من وجود النظام الماركسي الروسي الذي ترتبط به الشيوعية العالمية والأحزاب الشيوعية في العالم والذي يعتبر الأب الروحي لها، إلا أن ارتباط الأحزاب الشيوعية في الدول العربية بروسيا يمر خلال الأحزاب الشيوعية في دول الاستعمار هذه، التي أنشأتها ودعمتها منذ البداية، إذ يذكر مجيد خدوري في كتابه “الاتجاهات السياسية في العالم العربي” مثلا أن الحزب الشيوعي اللبناني كان يتلقى دعمه من الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان مقتصراً على الجالية اليهودية ومقاطع من قبل العرب، ولكن بعد تأسيس الحزب الشيوعي السوري في أوائل الثلاثينات اتجه الحزبان السوري واللبناني إلى الحزب الشيوعي الفرنسي طلباً للمساعدة والتوجيه”. وكل هذا تخطيط من أجل ما بعد الجلاء، فأي حزب يسيطر على الساحة السياسية في البلاد بعد الجلاء، لا يعدم الاستعمار من أن يجد من بين صفوفه من يواليه ويحقق مصالحه ويضمن استمرار تبعية البلاد له.
وليس هذا فقط، وإنما عمل الاستعمار أيضاً، وخاصة الإنكليزي على بناء زعامات وطنية يقوم بتربيتها وإبرازها وإشهارها كشخصية عبقرية فذة مؤكداً على وطنيتها من خلال ما يرتبه لها من موقف وطنية مناهضة للاستعمار، فيلتف حولها الوطنيون، وتنال دعماً شعبياً كبيراً فتصبح هذه الزعامة بفضل هذه المواقف التمثيلية المرتبة، والحزب الملتف حولها هي القوة الغالبة. وبهذا يهيئها لتسلم دفة الحكم عندما تزف ساعة الرحيل بعد أن ينتهي دور الاحتلال بتحقيق أهدافه، فالاستعمار لا يمكن كما يقول مالك بن نبي “أن يلغي من حسابه مبدئياً احتمال الاستقلال، فهو واثق اتجاه هذا الاحتمال، ولمواجهته في الوقت اللازم”، ولذلك يهيئ لمن يُسلم البلاد، ويقول عن حال الجزائر: “إن الصراع لم يكن صراع أفكار، وإنما صراع مصالح تشرف عليها السلطات العليا، متظاهرة بمقاومته أحياناً، عندما تعلن غضبها على هذا – العدو لفرنسا – أو ذاك حتى يرى الشعب المغرور في تلك العداوات بطولات توجب عليه السمع والطاعة لأصحابها”، وليس أدل على ذلك من الكيفية التي ظهر فيها سعد زغلول وأصبح أكبر زعيم وطني في مصر، وهو الذي استوزر لأول مرة وهو شاب صغير بترشيح من بلنت وكرومر، وأصبح وزيراً مزمنا في الوزارات المختلفة والمتعاقبة في الدولة ينتقل من وزارة إلى أخرى منفذاً للإنكليز كل استبدادهم ومكرساً احتلالهم لمصر!! فمن المعروف أن الوزير آنذاك هو المنفذ لسياسة الإنجليز وقد اعترف بذلك اللورد ويفل الذي قال عن كيفية الحكم في مصر: “إن الإنجليز ليس لديهم سلطات تنفيذية بأنفسهم، ولكنهم يباشرون التنفيذ عن طريق الوزراء المصريين”.
ولما أنشأ كتشنر عام 1913 الجمعية التشريعية استقال سعد وانتخب رئيساً لها، وتحول إلى معارض للإنكليز بقدرة قادر!! وتطرف سعد بعد ذلك لينافس الحزب الوطني المتطرف ضد الإنكليز، إلا أنه احتوى هو وجماعته من أعضاء حزب الأمة هذا التطرف ضد الإنكليز ووجهوه ضد الخديوي، وإن عارضوا الإنكليز كما يقول محمد محمد حسين: “فهم لا يعارضونهم إلا في تسامحهم مع الخديوي”. وبدأ بعد ذلك سلسلة من الخلافات والمهاترات التي يفتعلها مع هذا وذاك من أعضاء الحكومة ومن أعضاء الجمعية التشريعية مما عرقل نشاطها، حتى الوفد الذي ذهب للمفاوضات مع الإنكليز، والذي كان هو أحد أعضائه لم يسلم من هذه الخلافات، إذا افتعل سعد زغلول خلافاً مع أعضاء الوفد ونازع عدلي باشا رئيس الحكومة على رئاسة الوفد مما أضعف موقف المفاوضين! ولما اشتدت هذه الخلافات التي صارت إلى مهاترات سخيفة يمكن أن تضر به! نفي ولمدة شهر واحد في مارس 1919 فقط ليعود بعدها بطلاً مقداماً وشخصية جماهيرية فذة تنـزهه الجماهير وتبرر له كل أفعاله، فأصبح يحرك الجماهير كيفما يشاء، وطغى بشخصيته هذه على كل معارضيه، وأصبح الزعيم الذي جعل مصر رهن إشارته. فماذا حقق؟!
لقد أضعف موقف الحكومة والمفاوضين في مفاوضاتهم مع المحتلين، شغل الأمة حكومة وشعباً بخلافات جانبية تافهة لا طائل ورائها، وأمتص النقمة والثورة على الإنكليز وحماسة الشباب بخطبه الحماسية، وحولها كما يقول محمد محمد حسين: “إلى الاشتغال بالتوافه وبما لا طائل تحته، فبعثر هذه الطاقة الضخمة وبددها، وفوت على الأمة أن تستفيد بها حين كان يمكن الانتفاع بها فيما يجدي وينفع” (والأمر قد يتكرر اليوم مع أردوجان تركيا،وكثرة كلامه على قلة عمل وفائدة كأنه غير موجود، حتى أن العالم الإسلامي نسيه ونسي الحكام في عدوان اليهود على غزة اأواخر 2023)، وبعد أن أدى دوره هذا عاد إلى الواقعية وموالاة الإنكليز مرة أخرى كما كان من قبل! فلم يكد يصل اللورد لويد عام 1925 إلى مصر حتى سارع سعد إلى زيارته، ولم تلبث الصحف الوفدية أن مالت إلى مهادنة الإنكليز والدعوة إلى مسالمتهم والانتفاع بمزايا وجودهم، والانشغال بالأمور الإقتصادية والزراعية وتأجيل مسألة الجهاد السياسي إلى إشعار آخر حتى تحين الفرص!! وبدأ سعد يدافع عن الإمتيازات الأجنبية ويشيد بالأعمال الجليلة التي تقوم بها الحكومة الإنكليزية، ولكنه مات ولم يمهله الأجل ليحقق ما كان الإنكليز قد عقدوا عليه من آمال، وفوت موته على الإنكليز فرصة كبيرة في الاستفادة من استثمارهم فيه، ولذلك قال نيومان متأسفاً على موته: “كان من الممكن أن يكون سعد زغلول عاملا قوياً في هذه الفترة من العلاقات المصرية الإنجليزية “، وقد كان هناك أدلة لا تحتمل إلا قليلاً من الشك على ما ذهب إليه اللورد لويد والحكومة الإنجليزية من انتظار معونته وعطفه، وقد كان عطف زغلول على وجهة النظر الإنجليزية يعني عطف المصريين جميعاً.
فبريطانيا لم تحكم البلاد العربية التي احتلتها بشكل مباشر بل من خلال ما توجده من تنظيمات، ومنها الأحزاب والمجالس النيابية، وقد ذكر خدوري ما يؤكد هذا الأمر إذ قال: “أصرت فرنسا بصفتها السلطة المنتدبة على ضرورة تضمين دستور كل من سوريا ولبنان مواد تشترط موافقتها – فرنسا – المسبقة على كل إجراء رسمي، أما بريطانيا فقد آثرت إخضاع الشكل للمضمون، فلم تشترط مثل هذه السلطات بل فضلت الاعتماد على نفوذ غير مباشر عوضاً عن النفوذ المباشر”. أما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن انتصرت الديمقراطية الأوروبية متمثلة بالحلفاء، على جبهة المحور أو عزت الأولى إلى الأنظمة السائرة في ركابها بالسماح لشعوبها بممارسة الديمقراطية كأسلوب لإيقاف الاتجاهات التبشيرية الشيوعية، والتي كان نشاطها قد تزايد بفضل دعم الحلفاء لها خلال السنوات الأخيرة من الحرب من أجل الاستفادة من تنظيماتها في الدعاية للحرب الاستعمارية هذه، وجعلها حرب تحرير وديمقراطية!!، ولكن بعد أن حطت الحرب أوزارها، وتقاسم الحلفاء من جديد مناطق النفوذ، ظهر التخوف من انتشار الشيوعية من جديد، إذ قال تشرشل مثلا: “لقد خيم ظل على المناطق التي أضاءتها انتصارات الحلفاء مؤخراً، ولا يدري إنسان ماذا تنوي روسيا السوفيتية ومنظماتها الشيوعية الدولية أن تفعلا في المستقبل القريب أو ما هي الحدود، إن وجدت؛ لاتجاهاتها الواسعة التبشيرية”. فبدأوا في بعث الحياة الحزبية هنا وهناك ودعموا نشاطاتها بغير حدود من أجل القيام بواجباتها في توجيه الأمم ونشر مفاهيم الحرية والديمقراطية والاشتراكية أيضاً ليفرغوا الدعوة الشيوعية من محتواها ويعملوا على صدها.

إن إلحاح الدول الأوربية على الديمقراطية وتحريض الشعوب على المطالبة بها كحقوق إنسانية قبل الاحتلال، وهدرها بعده كما حدث في مصر وغيرها من البلاد المحتلة، واستخدامها وسيلة لإسقاط الحكام المعارضين، ولإضعاف الدولة العثمانية وإسقاطها، جعل الزعماء العرب الأوائل والأواخر يفهمونها كذلك وسيلة للمعارضة وهدم الأنظمة القائمة لا غير، تنتهي مهمتها عندما تحقق أغراضها هذه، وليس حلا لأزمة الحكم، خاصة وأنه لم يكن هناك قبل الاحتلال وقبل التدخل الأوروبي أزمة حكم، ولهذا جعلوا أشخاصهم وأحزابهم فوق هذه الديمقراطية التي يدعون لها مع الداعين، وقد أكد الأفغاني هذا الاتجاه عند الزعماء والأحزاب عندما قال: “تتخيل الأمة من وراء وعود الحزب سعادة ورفاه وحرية واستقلال ومساواة، فيؤازرون الحزب بكل معاني الطاعة والانقياد والنصرة والتضحية و… الخ فإذا ما تم للحزب ما طلبه من الأمة واستحكم له الأمر، ظهرت هنالك في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية… الخ”. ولذلك نجد مثلاً أن الملك فيصل الذي قاد الثورة العربية باسم الحرية والديمقراطية والذي استفاد مما أحدثته الدعوات هذه من فجوة بين الحكام العثمانيين والرعية، رفض إعطاء المجلس حق طرح الثقة بالحكومة، فقال في المؤتمر السوري الوطني الذي كان مجتمعاً لوضع دستور لسوريا “إنني أنا الذي أوجدته فلا أعطيه هذا الحق الذي يعرقل عمل الحكومة”!! مما جعل رشيد رضا يقول له: “نعم إن لك فضلاً بالسماح بجمعه إذ كنت تحكم هذه البلاد، أما وقد اجتمع – المؤتمر – باسم الأمة وهي صاحبة السلطان الأعلى بمقتضى الشرع الإسلامي، وبمقتضى أصول القوانين العصرية، أن تكون الحكومة مسؤولة تجاهه”. ويذكر مجيد خدوري أن الملك فيصل تابع، حتى بعد أن أصبح ملكاً على العراق 1921-1932، سيطرته على الحكومة، ولم يلتفت إلى الدستور في العراق أكثر مما فعل في سوريا”.
وكان سعد زغلول لدكتاتوريته وغروره يعتبر نفسه الأمة كلها إذ قال في رده على خصومه: “إن من يتحداه يتحدى المصلحة المصرية القومية”، وقال: “إن إحراجي هو إحراج الأمة”، وعمل دائماً على شل حركة مجلس النواب بما يفتعله من خلافات مع الأعضاء، وهكذا كانت سيرة معظم الحكام والدعاة في تعاملهم مع الديمقراطية مما سبب عجزها وفشلها.
فالزعماء العرب كما يرى مجيد خدوري كانوا غير مستعدين ذهنياً لمثل هذا النوع من التجديد الذي فُرض عليهم من الدول الأوروبية التي أوجدتهم ودعمتهم حتى كانت قراراتهم بهذا الصدد تعتمد على توجيهات الدول الأوروبية التي بسطت سيطرتها على البلاد العربية”.
إن الديمقراطية دخلت البلاد العربية مشوهة، وكوسيلة لتكريس الاستعمار لا غير. لقد فرضت الدول الأوروبية على الدول العربية نظامها الديمقراطي، ولم تدع للعرب حرية اختيار نظامهم السياسي الذي ينسجم مع ظروفهم الخاصة بهم، وجعلت الزعماء المحليين الذين وضعتهم على رأس السلطة يتبنون مؤسساتها هذه: المؤسسات الفرنسية في الدول الخاضعة لفرنسا، والمؤسسات البريطانية في الدول الخاضعة للنفوذ البريطاني، بغض النظر عن ملاءمة هذه المؤسسات لحال الدول العربية وأوضاعها المحلية. وفوق كل ذلك لم تسمح للمؤسسات التي أوجدتها أن تعمل بحرية بحيث تتمكن من تكييف نفسها للأوضاع القائمة في البلاد ؛ بل كثيراً ما كانت تفرض القيود عليها كلما لاح من هذه المؤسسات ما يناقض مصالحها، فنجد بريطانيا مثلاً في الوقت الذي تؤيد فيه سيطرة البرلمان على الحكومة ضد رغبة الملك كان قناصلتها في العراق وغيره يفضلون تعزيز سلطة الحكام وإعطاءهم حق النقض لقرارات البرلمان، هذا غير أن النماذج التي طبقتها الدول الأوروبية من مفاهيم الديمقراطية في البلاد العربية كان مهلهلا، إذ فرضت على هذه البلاد ما شاءت من أنظمة ودساتير، وحتى عندما كانت تجري استفتاء على أمر ما، كانت تدبره بشكل يجعل نتيجته توافق ما كانت قد قررته مسبقاً ويحقق مصالحها، وكانت تعامل الحكام بصلف وتفرض عليهم إرادتها، ففي العراق مثلاً كان تعامل بريطانيا مع الملك – وورثته ونظام الحكم ككل – ومنذ أول إنشاء الدولة خرقاً للديمقراطية؛ فبعد مرور 28 يوماً على تنصيب فيصل ملكاً على العراق قدم بيرس كوكس – المندوب البريطاني – مسودة معاهدة مع بريطانيا تتضمن أسس الانتداب ومطالبه وأغراضه، والتي كانت كلها لصالح بريطانيا؛ مما جعل الحركة الوطنية – الأحزاب التي أجيزت بعد ذلك – تعارضها وتطالب من التعديلات فيها ما لا يتفق ومطامع بريطانيا، فعمد كوكس منتهزاً مرض الملك فيصل إلى اعتقال زعماء الحركة والأحزاب، ونفيهم إلى جزيرة هنجام على مضيق هرمز، وعزل بعض المسؤولين في الألوية وأرسل الطائرات لتقصف العشائر المؤيدة للحركة الوطنية!! وبعد شفاء الملك من مرضه زاره كوكس وهنأه قائلا له: “إن الحكومة البريطانية سوف لا تتحمل بعد الآن اتصاله بأية حركة وطنية، ولا تتساهل في أي تأخير قد يحدث في شأن تصديق المعاهدة”، وطلب منه أن يكون ملكاً دستورياً، ويترك التدخل غير الضروري في شؤون الإدارة والموظفين”. وذكر فيليب أيرلند أن الملك فيصل اعتذر عن أعماله السابقة بأنه إنما قام بها لعدم وجود الدستور، ولأن الوزارة كانت غير متجانسة، وأنه حالما يحصل على الدستور والمعاهدة سوف يقوم بتنفيذ ما يطلب منه بطيبة خاطر”، وقدم كوكس إلى الملك مسودة كتاب يصادق فيه على الإجراءات القمعية التي قام بها كوكس من نفي وسجن وقصف للقرى والمدن ويشكره عليه، وقد فعل الملك ما أراد كوكس!! وهذا نص الكتاب: “عزيزي السيد بيرس، الآن وقد تم شفائي بحمد الله تعالى، وسمح لي أطبائي أن أستأنف أشغالي في الدولة، أرى من واجبي قبل أن أتولى هذه التبعة أن أقدم إلى فخامتكم تشكراتي القلبية، وأن أعبر عن إعجابي الشديد للسياسة الحازمة والتدابير الضرورية التي اتخذها فخامتكم بصفتكم ممثلاً لحكومة صاحب الجلالة لصيانة المصالح العامة، والمحافظة على النظام والأمن أثناء مرضي المفاجئ الذي صدف وقوعه بغتة في المدة التي تنقضي عادة بين استقالة الوزارة وتأليف وزارة غيرها، وختاماً أكرر تشكراتي الخالصة لفخامتكم على مساعدتكم الثمينة”! بغداد 11 أيلول 1922، صديقكم المخلص فيصل. وبعد هذا صارت العلاقة بين الملك وكوكس علاقة ودية، وعمل الملك بحسب اقتراحاته بالنسبة لتشكيل الوزارة، ووافق على جميع ما طلب كوكس منه!!!
وموقف آخر يدل على تشوه الديمقراطية في بلادنا ذكره سلامة موسى في كتاب الثورات إذ قال: “كان الإنجليز في حاجة إلى تأييد الشعب لنظام الحكم لأن هدير الحرب الكبرى الثانية التي بدأت في 1939م كانت له ذبذبة تحس وإن لم تسمع في 1934م، واحتاج الإنجليز إلى أن يربطونا بمعاهدة تكفل لهم الأمان والمعونة إذا وقعت الحرب. ولم يكن من المعقول أن يوقع المعاهدة هذه – إسماعيل صدقي وفؤاد – التركيان أو الشركسيان دون نواب الشعب! وجيء بالوفد للحكم ووقعت معاهدة 1936 ونال مصطفى النحاس رئيس الوزراء لقب سير من الإنجليز مكافأة له على هذه المعاهدة”!! وهذا قليل من كثير من المواقف التي تدل على ديمقراطية أصحاب الديمقراطية، وعلى الشكل الديمقراطي الذي غرسوا نبته في بلادنا!
هذا غير تعطيل الصحف والمجالس وفضها والتدخل في انتخاباتها بشكل مباشر وغير مباشر. مما جعل الديمقراطية شكلا غير مضمون إن وجدت ومتى وجدت.


حكم المظاهرات في الشرع

إن حكم الشرع في الإضرابات والمسيرات والمظاهرات السلمية منها وغير السلمية، والانتخابات، هو أنه تقليد لأعداء الإسلام، و صدق الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – إذ يقول: “لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن”.
فذلك تقليد لأعداء الإسلام، وليذكروا مظاهرة صحيحة عندما ضرب أبا بكر في الحرم، أو في وقت علي بن أبي طالب ومعاوية، وليذكروا لنا مظاهرة في الزمن الأموي أو في الزمن العباسي، فهي جاءت من قِبل أعداء الإسلام، وتلقاها الإخوان المفلسون.
ودعوة الإخوان المفلسين تعتبر بلاء، كلما جاء شيء من قِبل أعداء الإسلام، قالوا: مرحبا هاتوا، سواء المظاهرات السلمية والتمثيليات، وأي شيء يأتي من قبل أعداء الإسلام يصبغوه بصبغة الإسلام، فإن استطاعوا أن يأتوا بشبهة فبها، وإلا كذبوا. ويكفي تأجيجهم وعملهم الشيطاني في مظاهرات 25 يناير التي كادت تخرب مصر كما خربت مثيلاتها ليبيا وسوريا واليمن!

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إذا كان حاكم يحكم بغير ما أنزل الله، ثم سمح لبعض الناس أن يعملوا مظاهرة تسمى عصامية، مع ضوابط يضعها الحاكم نفسه، ويمضي هؤلاء الناس على هذا الفعل، وإذا أنكر عليهم هذا الفعل قالوا: نحن ما عارضنا الحاكم ونفعل برأي الحاكم، هل يجوز هذا شرعاً؟
الجواب: عليك باتباع السلف، إن كان هذا موجوداً عند السلف فهو خير، وإن لم يكن موجوداً فهو شر، ولا شك أن المظاهرات شر كلها سواء منها المظاهرات السلمية وغير السلمية، لأنها تؤدي إلى الفوضى من المتظاهرين ومن الآخرين، وربما يحصل فيها اعتداء، إما على الأعراض، وإما على الأموال، وإما على الأبدان، لأن الناس في خضم هذه الفوضوية قد يكون الإنسان كالسكران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فالمظاهرات كلها شر سواء أذن فيها الحاكم أو لم يأذن. وإذن بعض الحكام بها ما هو إلا دعاية، وإلا لو رجعت إلى ما في قلبه لكان يكرهها أشد كراهة، لكن يتظاهر بأنه كما يقولون “ديمقراطي”، وأنه قد فتح باب الحرية للناس، وهذا ليس من طريقة السلف.
وسُئل رحمه الله تعالى ما نصه: هل تعتبر المظاهرات وسيلة من وسائل الدعوة المشروعة؟
فأجاب: المظاهرات أمر حادث، لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا عهد الصحابة رضي الله عنهم، ثم إن فيه من الفوضى والشغب ما يجعله أمراً ممنوعاً، حيث يحصل فيه تكسير الزجاج والأبواب وغيرها، ويحصل فيه أيضاً اختلاط الرجال بالنساء، والشباب بالشيوخ، وما أشبه ذلك من المفاسد والمنكرات.
وأما مسألة الضغط على الحكومة فهي إنْ كانت مسلمة فيكفيها واعظاً كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا خير ما يعرض على المسلم، وإنْ كانت كافرة فإنها لا تبالي بهؤلاء المتظاهرين، وسوف تجاملهم ظاهراً، وهي ما هي عليه من الشر في الباطن، لذلك نرى أن المظاهرات أمر منكر. وأما قولهم إن هذه المظاهرات سلمية، فهي قد تكون سلمية في أول الأمر أو في أول مرة، ثم تكون تخريبية. وأنصح الشباب أن يتبعوا سبيل من سلف، فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على المهاجرين والأنصار، وأثنى على الذين اتبعوهم بإحسان.

وقال الشيخ الألباني رحمه الله بعد أن تكلم عن كون المظاهرات من التشبه بالكفار: هذه التظاهرات الأوربية ثم تقليد المسلمين لها، ليست وسيلة شرعية لإصلاح الحكم وبالتالي لإصلاح المجتمع، ومن هنا يخطئ كل الجماعات وكل الأحزاب الإسلامية، الذين لا يسلكون مسلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تغيير المجتمع، ولا يكون تغيير المجتمع في النظام الإسلامي بالهتافات وبالصيحات وبالتظاهرات، وإنما يكون ذلك على الصمت، وعلى بث العلم بين المسلمين، وتربيتهم على هذا الإسلام، حتى تؤتي هذه التربية أكلها ولو بعد زمن بعيد. فالوسائل التربوية في الشريعة الإسلامية تختلف كل الاختلاف عن الوسائل التربوية في الدول الكافرة، لهذا أقول باختصار إن التظاهرات التي تقع في بعض البلاد الإسلامية، أصلا هذا خروج عن طريق المسلمين وتشبه بالكافرين، وقد قال رب العالمين: “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا”.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، السؤال: مر بعض من الأعوام في مدينتنا مظاهرات، وكانت تلك المظاهرات مصحوبة بتخريب المؤسسات والشركات، فكانوا يأخذون كل شيء في المؤسسات، وأنا أيضًا شاركت في تلك المظاهرات، وأخذت من بعض المؤسسات كتبًا ومصحفًا، وحينما التزمت عرفت أن ذلك لا يجوز، وأريد من سماحتك أن تفيدني بماذا أفعل بهذه الكتب، وخاصة المصحف؟ وشكرًا، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: يجب عليك أن ترد ما أخذته من أشياء بغير حق، ولا يجوز لك تملكه أو الانتفاع به، فإن عرفت أصحابه وجب رده إليهم، وإن لم تعرف أصحابه ولم تستطع التوصل إليهم، فإنك تتخلص منه بجعل هذه الكتب والمصاحف في مكان يستفاد منه، كمكتبات المساجد أو المسجد أو المكتبات العامة ونحو ذلك، ويجب عليك التوبة النصوح، وعدم العودة لمثل هذا العمل السيء، مع التوجه لله سبحانه وحده، والاشتغال بطاعته، والتزود من نوافل العبادة، وكثرة الاستغفار، لعل الله أن يعفو عنك، ويقبل توبتك، ويختم لك بصالح أعمالك، كما ننصحك وكل مسلم ومسلمة بالابتعاد عن هذه المظاهرات الغوغائية التي لا تحترم مالًا ولا نفسًا ولا عرضًا، ولا تمت إلى الإسلام بصلة، ليسلم للمسلم دينه ودنياه، ويأمن على نفسه وعرضه وماله. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم”.

وسئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله ما نصه: هنالك من يقول أنه لا يجوز إنزال حديث الخوارج على من يخرجون اليوم في المظاهرات ضد حاكم معين، ويقول أيضا أن هنالك من يصف هذه المظاهرات أنها حراك سلمي ولا ينكرها إلا أهل البدع؟
الجواب: المظاهرات ليست من دين الإسلام، لما يترتب عليها من الشرور، من ضياع كلمة المسلمين، من تفريق بين المسلمين، لما يصاحبها من التخريب وسفك الدماء، لما يصاحبها من الشرور، وليست بحل صحيح للمشكلات، ولكن الحل يكون باتباع الكتاب والسنة وما جرى في الأزمان السابقة، أكثر مما يحصل الآن من الفتن. ولكن يعالجونها على ضوء الشريعة لا على ضوء نظم الكفار والمظاهرات المستوردة. هذا ليس من دين الإسلام. الفوضى ليست من دين الإسلام. دين الإسلام يدعو إلى الانضباط، يدعو إلى الصبر، يدعو إلى الحكمة، يدعو إلى رد الأمور إلى أهل الحل والعقد، إلى العلماء “فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ”.
وسئل حفظه الله: هل من وسائل الدعوة القيام بالمظاهرات لحل مشاكل الأمة الإسلامية؟
فأجاب بقوله: “ديننا ليس دين فوضى، ديننا دين انضباط، ودين نظام وهدوء وسكينة، والمظاهرات ليست من أعمال المسلمين، وما كان المسلمون يعرفونها. ودين الإسلام دين هدوء ودين رحمة ودين انضباط، لا فوضى ولا تشويش ولا إثارة فتن. هذا هو دين الإسلام. والحقوق يتوصل إليها بالمطالبة الشرعية والطرق الشرعية. والمظاهرات تحدث سفك دماء، وتحدث تخريب أموال، فلا تجوز.
وسئل أيضا حفظه الله: تكثر الدعوة هذه الأيام إلى المظاهرات، ونحن نعلم قرار هيئة كبار العلماء، ولكن هناك دعوة خاصة لطلاب الجامعة للمشاركة في هذه المظاهرات والاعتصامات، فنرجو منكم التوجيه.
الجواب: أنتم طلاب علم يجب أن تحذروا من هذه المظاهرات، وتبينوا للناس أضرارها، ماذا أثمرت المظاهرات الآن في الأماكن التي ظهرت فيها من الدول المجاورة لكم؟ ماذا أثمرت إلا سفك الدماء وتخريب الديار وتشريد الناس من مساكنهم، هذه ثمرة المظاهرات.

فتوى الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله :
السؤال: ما حكم المظاهرات في الإسلام؟ ألها أصل شرعي أم أنها بدعة اقتبسها المسلمون من أعداء الإسلام؟
الجواب: هي بدعة، والآيات القرآنية تدل على أن التظاهر يكون على الشر. وهي نعرة جاهلية، اقتدى المسلمون بأعداء الإسلام، وصدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه”. وإنني أحمد الله سبحانه وتعالى فما تجد سنيًّا يحمل لواء هذه المظاهرة، ولا يدعو إلى هذه المظاهرات إلا الهمج الرعاع، وماذا يستفيد المجتمع؟”.
ولقد أحسن الشيخ محمد بن سالم البيحاني – رحمه الله – إذ يقول:
هَيْهَاتَ لاَ يَنْفَعُ التَّصْفِيقُ مُمْتَلِئًا …. بِهِ الْفَضَاءُ وَلاَ صَوْتُ الهِتَافَاتِ
فَلْيَحْيَ أَوْ فَلْيَمُتْ لاَ يَسْتَقِيم بِهَا …. شَعْبٌ وَلاَ يَسْقُط الْجَبَّارُ والعَاتِي
يا أَسكَتَ اللهُ أَفْواهًا تَصِيحُ لَه …. فَكَمْ بُلِينَا بِتَصْفِيْقٍ وَأَصْواتِ
وكَمْ خَطِيبٍ سَمِعْنَا وَهُوَ مُنْدَفِعٌ …. وَمَا لَهُ أَثَرٌ مَاضٍ وَلا آتِ
وقال الشيخ:
المظاهرات تقليد لأعداء الإسلام، وكذلك الإضراب. وأهل السنة أعظم الناس إنكارًا لهذه الأمور، ولكنهم ينكرون هذه الأمور على بصيرة، وغيرهم ينكرها على جهل، حماسة بدون نظر إلى العواقب، فنحن ننكر هذه الأمور ولا نشجع على الثورات والانقلابات؛ لأنها ما صارت ثورة ولا انقلابات من صالح الإسلام والمسلمين، لكن يخسر المسلمون رجالهم وأعمارهم وأموالهم وتخرب دورهم، ثم يُؤتى بعلماني بدل العلماني، أو يؤتى ببعثي بدل البعثي، وربما تفضلوا وأتوا بعلماني بدل شيوعي. فأعداء الإسلام هم الذين يضعون هؤلاء الحكام على الكراسي، فمن كانت به غيرة على الإسلام فَلْيَبْدَأ بجهاد أمريكا؟ ونسأل الله أن يُقَيِّضَ لها شعبًا بطلا، كما قيض لروسيا إخواننا الأفغانيين جزاهم الله خيرًا، فهي رأس البلاء، وهي التي أفسدت المسلمين، وأفسدت حكامهم.
أما الثورات والانقلابات على الحكام الذين هم في الديار الإسلامية فهذه ليست سبيل الإصلاح، وسبيل الإصلاح هو تعليم المسلمين كتاب ربهم وسنة نبيهم وتعليمهم سيرة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وسيرة صحابته، وما صبروا عليه من الفقر وَالْعُرْيِ والخروج من الأوطان والأمراض الوبائية التي حصلت لهم في المدينة بعدما هاجروا، فهكذا ينبغي أن نربي شعوبًا قريبة من الصحابة، وما أظننا نستطيع، لكن ولو قريبة من الصحابة، أما شعب يغضب إذا قطع الغاز أو قطع السكر أو قطع الحبوب، ويقومون بثورة على حاكمهم الذي يريد لهم الخير، فيجب أن نعرف مجتمعاتنا، فبعض الدعوات تبني دعوتها على الخيالات وعلى الأوهام وعلى التلبيس على المجتمع، ينقلون الناس من كذبة إلى كذبة أخرى، فعُلم من هذا أن أهل السنة من أعظم الناس إنكارًا لشرك القصور.
والخروج ضد الحكام بلية من البلايا التي ابتلي بها المسلمون من زمن قديم، وأهل السنة بحمد الله لا يرون الخروج على الحاكم المسلم لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: “من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه”.
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “إذا بويع لخليفتين فاضربوا عنق الآخر منهما”.
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: “دعانا النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وَأَثَرَةٍ علينا، وَأَلَّا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان”.
فالخروج على الحاكم يعتبر فتنة، فبسببه تُسفك الدماء ويضعف المسلمون، حتى لو كان الحاكم كافرًا، إذ لا بد أن يكون لدى المسلمين القدرة على مواجهته، حتى لا تسفك دماء المسلمين؛ فإن الله عز وجل يقول: “وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا”.
وتاريخ أهل السنة من زمن قديم لا يجيزون الخروج على الحاكم المسلم، وفي هذا الزمن الخروج على الحاكم الكافر لا بد أن يكون بشروط، فإذا كان جاهلًا لا بد أن يُعَلَّم، وألا يؤدي تغيير المنكر إلى ما هو أنكر منه، ولا تسفك دماء المسلمين.
ولسنا ندعو الناس إلى الثورات والانقلابات، وقد قلت غير مرة إنها لو حدثت في اليمن فتنة واستطعت أن أهرب بديني إلى بلدة أخرى لفعلت، فلن أوجه بندقيتي إن شاء الله إلى مسلم يصلي بإذن الله تعالى.
ولست أدعو إلى الثورات والانقلابات، فإن الثورات والانقلابات ليست سبيل الإصلاح، أدعو إلى التعاون ومناشدة المسئولين، والجلوس في بيوت الله وتبليغ شرع الله، وعقد المحاضرات.
وإنني أناشدكم الله يا أهل السنة أن تناصحوا ولاة أموركم، وَأَلَّا تأخذكم في الله لومة لائم، وعقيدتكم بحمد الله معروفة لدى المسئولين أنكم لا تريدون الكراسي ولا تريدون الدنيا، وأنكم لا تشجعون على الخروج عليهم لأن عقيدتكم لا تجيز الخروج على الحاكم المسلم، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: “من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يفرق بينكم فاضربوا عنقه”، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: أفلا ننابذهم يا رسول الله؟ قال: لا، ما صلوا”.
من أجل هذا فأنا أُجَمْرِكُ سيارتي وأعتقد أن الجمرك محرم، وأقول هذا إلى ذمة الدولة، وأنا أيضًا أعطي الضرائب على سيارتي، وأعتقد أن الضرائب محرمة، لكن نقول هذا في ذمة الدولة، ولسنا دعاة فتنة، أهل السنة ليسوا دعاة فتنة، وليسوا دعاة ثورات وانقلابات، بل هم دعاة إصلاح، بل هم يعتبرون رحمة من الله إذا عملوا بسنة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لأن الله – سبحانه وتعالى – يقول لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”، ولئن كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد مات فإن سنته باقية. فلسنا ندعوا إلى الفتنة وإلى الثورات والانقلابات.
ونحب الحكومات بقدر ما فيها من الخير، ونبغضها لما فيها من الشر، ولا نجيز الخروج عليها إلا أن نرى كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان، وبشرط أن نكون قادرين، وألا تكون المعركة بين المسلمين من الجانبين، فإن الحكام يصورون الخارجين عليهم بصورة المخربين المفسدين، وَثَمَّةَ شروط تراجع من كتبنا الأخرى. وهؤلاء أصحاب الثورات والانقلابات على الملوك والرؤساء مساكين ما هم إلا ضرر على الدعوة الإسلامية.

فتوى العلاَّمة الشيخ عبد المحسن العباد:
لا أعلم شيئا يدل على مشروعية هذه المظاهرات ، لا نعلم أساساً في الدين يدل على هذه الأشياء. وإن هذه من الأمور المحدثة التي أحدثها الناس، والتي استوردوها من أعدائهم من البلاد الغربية والشرقية، يعني ليس لها أساس في الدين، ولا نعلم شيئاً يدل على جوازها وعلى مشروعيتها، لهذا الناس يسلكون المسالك الشرعية التي شرعت لهم ويتركون الأشياء التي ليس لها أساس ويترتب عليها أضرار، ويترتب عليها مفاسد ويترتب عليها قتل ويترتب عليها تضييق، لو لم يكن من أضرارها إلا التضييق على الناس في طرقاتهم وفي مسيراتهم، لكان كافياً في بيان سوئها وأنه ليس لأحد أن يقدم على مثل هذه الأشياء”.
والناس يبحثون عن المصالح ويتركون المفاسد، الناس يُعنون بتحصيل المصالح وترك المفاسد، وهي من الخروج على ولي الأمر لا شك.

حكم المظاهرات في الإسلام لعبدالمالك بن أحمد رمضاني:
يُنكِر العلماء المظاهرات المُخترَعة في هذا الزّمن بحقّين، الأوّل: حقّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الطّاعة؛ فإنّ الأمر الّذي من أجله يقوم المتظاهرون هو طلب حقوقهم الشّرعيّة الّتي يرون أنّ السّلطان قصّر في أدائها لهم، فلو تكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الحالة لكان له حقّ الطّاعة في ذلك كما له حقّ الطّاعة في كلِّ ما أمر به ونهى عنه، وبعضُ المفتونين بالمظاهرات يَحرصون على تخريجها مخرَج المصالح المرسلة وأنّها من النّوازل، لكنّ الّذي يَمنع مِنْ إدراجها تحت المصالح المرسلة هو أنّه صحّ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخبر عن فتنة السّلاطين وأعطى أمّتَه المخرج منها، فقد تواتر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه أنذر أمّته وُجودَ أمراءَ بعدَ زمنه يمنعون شعوبهم حقوقَهم، فأمر فيها بأمرين هما الدّعاء والصّبر، أمّا الدّعاء فثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنّها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر مَن أدرك منّا ذلك؟ قال: تؤدّون الحقّ الّذي عليكم، وتسألون الله الّذي لكم” رواه البخاريّ ومسلم والتّرمذيّ، فقد ذكر صلّى الله عليه وسلّم أنّ هؤلاء الحكّام يستأثرون بحقوق الرّعيّة ولا يؤدّونها لهم، فأمر مع ذلك الرّعيّة بأداءِ حقوق السّلطان له وطلبِ حقِّها مِن الله، فما محلُّ المظاهرات مِنْ هذا الحديث الواضح؟! فهل نسيَها صلّى الله عليه وسلّم حتّى يستدركَ عليه مستدركٌ، أو غفلَ عنها حتّى يَفطنَ لها كفرةُ الغرب ويقلّدَهم فيها المستغربون مِن هذه الأمّة؟!
قال ابن تيمة: “فقد أخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ الأمراء يَظلمون ويَفعلون أمورًا منكَرة، ومع هذا فأمرنا أن نؤتيَهم الحقّ الّذي لهم، ونسأل اللهَ الحقّ الّذي لنا، ولم يأذن في أخذِ الحقِّ بالقتال، ولم يُرخّص في ترك الحقِّ الّذي لهم”.
وقال النّوويّ: “هذا مِن معجزات النّبوّة، وقد وقع هذا الإخبار متكرّرًا ووُجِد مخبرُه متكرّرًا، وفيه الحثّ على السّمع والطّاعة وإنْ كان المتولّي ظالمًا عَسوفًا فيُعطَى حقَّه مِن الطّاعة ولا يُخرَج عليه ولا يُخلَع، بل يُتضرّع إلى الله تعالى في كشف أذاه ودفع شرّه وإصلاحِه”.
وروى مسلم عن وائل الحَضرميّ قال: “سأل سَلمةُ بن يزيدَ الجُعفيُّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبيّ الله! أرأيتَ إنْ قامتْ علينا أمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقَّنا فما تأمرُنا؟ فأعرضَ عنه، ثمّ سألَه فأعرضَ عنه، ثمّ سألَه في الثّانية أو في الثّالثة، فجذَبه الأشعث بن قيسٍ وقال: اسمَعوا وأطيعوا؛ فإنّما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم”. قال النّوويّ: “أي اسمَعوا وأطيعوا وإنِ اختصَّ الأمراء بالدّنيا ولم يوصِلوكم حقَّكم ممّا عِندَهم”، وهذه الأحاديثُ في الحثِّ على السّمع والطّاعة في جميع الأحوال، وسببُها اجتماع كلمة المسلمين؛ فإنّ الخلاف سببٌ لفساد أحوالهم في دِينهم ودُنياهم.
وأمّا الأمرُ بالصّبر فكَيلاَ يقولَ عَجِلٌ: إلى متَى نصبرُ على أثَرَة هؤلاء الجَوَرة؟! فقد روى البخاريّ ومسلم عنْ أُسَيْدِ بن حُضَيْر رضي الله عنه “أنَّ رجلاً مِنَ الأنصار قال: يا رسول الله! ألا تستعملُني كما استعملْتَ فلانًا؟ قال: سَتلْقَوْنَ بعدي أثَرَةً، فاصبروا حتّى تلْقَوني على الحوض”، قال ابنُ حجَر في “الفتح”: “أي يومَ القيامة، وفي رواية الزّهريّ: أي اصبروا حتّى تموتوا؛ فإنّكم ستجدونَني عند الحوض فيحصُل لكم الانتصافُ ممّن ظلَمكم والثّوابُ الجزيلُ على الصّبر.
هذا الدّاء والدّواء في حديثٍ واحدٍ، فهل يَحلُّ لطبيبٍ أنْ يَدخلَ بين النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمّتِه بشيءٍ زائدٍ؟! وكلُّ مؤمِن يَعلمُ أنّ هذا الدّواء قرّره مَنْ قال الله فيه: “وما ينطق عَنِ الهوى * إنْ هو إلاّ وَحْيٌ يُوحَى”؟!
فبأيِّ حقٍّ يُطاعُ الغربُ الكافرُ في اختراعِه المظاهرات لخلعِ الحكّام، ويُعصى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الرّؤوف الرّحيم بأمّتِه النّاصحُ لهم بتمام نصحٍ وإحكامٍ؟!
ومِنَ العجائب أنّ بعضَ المتظاهرين قالوا إنّهم قاموا بسبب أنّ حكّامَهم لا يَحكمون بما جاءهم به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وهَا هم أنفسُهم لا يَحكمون بما جاءهم به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في مسألَة ظلم الحكّام!!
الثّاني: حقُّ السّلطان المسلم في طاعته في المعروف وتركِ جميع أسباب الخروج عليه؛ فإنّ المتجمِّعين ضدَّه قصدُهم منازَعتُه في منصِبِه وإحلال غيرِه محلَّه، وقد حرّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلَّم منازَعةَ السُّلطان في إمارَتِه ما دام مسلِمًا؛ قال عُبادَة بنُ الصّامت: “دعانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبايَعْنَاه، فكان فيما أخَذَ علينا أنْ بايعنا على السّمع والطّاعة في منشَطِنا ومكْرَهِنا وعُسْرِنا ويُسْرِنا وأَثَرةٍ علينا، وأنْ لا ننازع الأمرَ أهلَه، قال: إلاَّ أنْ تَرَوْا كُفْرًا بواحًا عِنْدَكم فيه مِنَ الله برهانٌ” رواه البخاريّ، فإنّ أخْذَ السُّلطانِ أموالَ رعيّتِه بغير حقٍّ ظلمٌ عظيمٌ، ولكن لا تَسْقُط به حُقوقُه مِن السّمع والطّاعة وتَرْك منازَعَتِه، هذا هو حُكْمُ رَسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسِياسَتُه الحكيمَة الّتي لا يرضى بها أصحاب المظاهرات القائلون: الحاكمُ الّذي لا يُؤدِّي إلينا حقوقَنا المادّيَةَ نُنازِعُه الحُكْمَ!! فأين ذهبَتْ عقولُ المسلمين مع هذه الأدلَّة الصَّريحةِ؟!
قال ابنُ تيمية رحمه الله: “فهذا أمْرٌ بالطّاعة مع استئثار وليِّ الأمر، وذلك ظُلْمٌ منه، ونَهى عنْ منازعة الأمر أهلَه، وذلك نهيٌ عن الخروج عليه؛ لأنّ أهلَه هم أولو الأمر الَّذين أمَرَ بطاعتِهم، وهم الَّذين لهم سلطانٌ يَأمرون به، وليس المراد مَنْ يستحقُّ أنْ يُولَّى ولا المتولِّي العادِل؛ لأنَّه قد ذكَرَ أنّهم يَستأثرون، فدلَّ على أنَّه نهى عنْ منازعة وليِّ الأمر وإنْ كان مُستأثِرًا”.
وفي هذا ردٌّ مِنْه – رحمه الله – على مَنْ أرادَ أنْ يُعطِّلَ العملَ بالحديث زاعمًا أنَّ النّهيَ عنْ منازعة الأمر مَنْ كان أهلاً لأنْ يُوَلَّى مِنَ العُدولِ، فلْيُتأمَّل.
وأينَ هي دَعْوى محبّتِهم الرّسولَ صلّى الله عليه وسلّم وقد قال تعالى: “قُل إنْ كنتم تُحبُّون اللهَ فاتَّبعوني يُحبِبْكم اللهُ ويَغفِرْ لكم ذنوبَكم والله غفور رحيم”؟! أيكونُ النِّظامُ الدّيمقراطيُّ أهدى إلى استرجاع الحقوق مِنْ هَدْي رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، والله سبحانَه وتعالى يقول: “وإنْ تطيعوه تهتدوا”؟! أيكونُ النّظام الدّيمقراطيُّ أرحمَ بمهضومي الحقوق وأرأفَ واللهُ يقول: “لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أنفُسِكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم”.
وأينَ هم ممَّا روى مسلم مِنْ حديث حُذَيفةَ رضي الله عنه أنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلَّم قال: “يكونُ بعدي أئمَّةٌ لا يهتدون بِهُدايَ ولا يَستنُّون بسُنّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبُهم قلوبُ الشّياطينِ في جُثمانِ إنس، قال: قلتُ: كيف أصنعُ – يا رسول الله! – إنْ أدركتُ ذلك؟ قال: تَسمَعُ وتُطيعُ للأميرِ وإنْ ضُرِبَ ظهْرُك وأُخِذَ مالُك فاسمعْ وأطِعْ”؟! ونحنُ قد أدركْنا هذا الّذي أخبرَ به النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في كثيرٍ مِنَ البلاد، فلماذا لا تَسَعُنا وصيّتُه صلَّى الله عليه وسلَّم هذه لِحُذيفةَ رضي الله عنه ولسائر الأمّة؟! وقد أمَر صلّى الله عليه وسلّم بالسّمع والطّاعة كما أمَرَ بالصّبر، ولم يأمُر بالمظاهرات، فهلِ الكفّارُ أهدى مِنْه سبيلاً؟! وهلْ هُم بالحقِّ أقومُ قِيلاً؟!
مع أنّ مقوِّمات المظاهرات كانتْ متوفِّرةً في كلِّ عهدٍ، أقصِدُ البشرَ الَّذين يتجمَّعون، والأصوات الّتي بها يَصرُخون، والأرجلَ الّتي بها يمشون، والظّلمُ كان ينطحُ بقرنين ويَمشي قائمًا على قدَمَين يدعمُه كبراء قريش، حتّى منعوا خيرةَ أهل الأرض آنذاك الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابَه الكرام مِنَ الطّعام والشّراب والزَّواج حتَّى إنَّ أحدَهم ليفرحُ بجِلدِ بَعيرٍ جافٍّ يَجِدُه فيكونُ طعامَه ثلاثةَ أيّام!!! وقد مكثوا على مِثل هذا ثلاث سنين بشِعْب أبي طالبٍ لا يَفزعون إلى مظاهرةٍ ولا يتَتَرَّسونَ بديمقراطيَّة، فعدَمُ اتِّخاذِ الرّسولِ صلّى الله عليه وسلّم هذه الوسيلةَ ذات المقوّمات المتوفِّرةِ في وقته ألا يدلُّ دلالةً واضِحةً على عدَم مشروعيَّة المظاهراتِ، وأنَّه يَجبُ على المسلم المحبِّ له صلّى الله عليه وسلّم أنْ يتَّبِعَه ويقول قد اختار لي الرَّسولُ النّاصحُ صلَّى الله عليه وسلّم السّمعَ والطّاعةَ والصّبرَ، فلنْ أستدركَ عليه؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: “وما كان لمؤمِنٍ ولا مؤمِنَةٍ إذا قضى اللهُ ورسولُه أمرًا أنْ يكون لهم الخِيَرَةُ مِنْ أمرِهم ومَنْ يعصِ اللهَ ورسولَه فقد ضلّ ضلالاً مبينًا”، فإذا اختارَ الرّسولُ صلّى الله عليه وسلّم لأمّتِه المظلومة شيئًا أيَحِلُّ لأحَدٍ أنْ يختارَ غيرَ ما اختارَ أوْ يَستدْرِكَ عليه في هذا الاختيار؟! “فإنَّها لا تعمى الأبصارُ ولكنْ تعمى القلوبُ الَّتي في الصُّدورِ”!
قال ابنُ تيميةَ رحمه الله: “فعَلَى كلِّ مؤمنٍ أنْ لا يتكلَّمَ في شيءٍ مِنَ الدِّين إلاَّ تَبَعًا لِما جاء به الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ولا يتقدَّم بين يديه؛ بل ينظُرُ ما قالَ فيكونُ قولُه تَبَعًا لقولِه وعملُه تبعًا لأمرِه، فهكذا كان الصَّحابةُ ومَنْ سلكَ سبيلَهم مِنَ التّابعينَ لهُم بإحسان وأئمّةِ المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحدٌ منهم يُعارض النّصوصَ بمعقولِه، ولا يُؤسِّسُ دينًا غيرَ ما جاء به الرّسولُ صلّى الله عليه وسلّم، وإذا أرادَ معرفةَ شيءٍ مِنَ الدّين والكلامِ فيه نظَرَ فيما قالَه الله والرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، فمِنْهُ يَتعلّمُ، وبه يَتكلَّمُ، وبه يَنظُرُ ويَتفكَّرُ، وبه يَستدلُّ، فهذا أصلُ أهلِ السُّنَّة. وأهلُ البدعِ لا يَجعلون اعتمادَهم في الباطِنِ ونفسِ الأمرِ على ما تَلقَّوْهُ عنِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم؛ بلْ على ما رأوْهُ أوْ ذاقوه، ثمّ إنْ وَجَدُوا السُّنَّةَ توافِقُه، وإلاَّ لم يُبالوا بذلكَ، فإذا وجدوها تُخالِفُه أعرَضوا عنْها تفويضًا أوْ حَرَّفوها تأويلاً، فهذا هو الفرقان بين أهلِ الإيمان والسّنّة وأهلِ النّفاقِ والبدعةِ”.
وأمّا ما قيل في نجاح المظاهرات فإنَّه مِنْ تزيين الشّيطان؛ لأنّ مِنْ وظائفِه إضفاء المشروعيَّة على عملٍ ما بتحسينِ نتائجِه فيما يُظهِرُه للنّاس، ويُقنِعُهم بالنّتائج المزيَّنةِ حتّى يَصُدّهم عن البحث عن البيّنَة الّتي هي أصل المسألة، قال الله تعالى: “وزيّنَ لهم الشّيطان أعمالَهم فصدَّهم عن السّبيل فهم لا يَهتدون”، ولا ريبَ أنَّ النّجاحَ الظّاهريَّ لا يُعدُّ نجاحًا إلاّ بشرطين هما:
الأوّل: أنْ يكونَ العاملون فيه يُريدُونَ وجهَ ربِّهم لا أنْ يَقوموا مِنْ أجل بُطونِهم.
والثّاني: أنْ يكونوا فيه مُتَّبعِين للرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم لا مخالِفين له.
وممَّا سبَق فقد بان مخالفةُ المتظاهرين لهديِ نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلّم، أمَّا مِنْ جِهة النّيَّة فقد علِمَ النّاس أنّ أكثر المتظاهرين قاموا طلبًا لِشِبعٍ أو دفعًا لوجَعٍ، عَرَّاقون مرَّاقون “إنْ أُعْطوا مِنْها رَضُوا وإنْ لم يُعطَوا مِنْها إذا هم يَسخَطون” (أي طلاّبُ مَرَق وطلاَّبُ عَرْق، وهو العظم عليه بقيَّةٌ من اللَّحم).
فالنَّظرُ النَّاقدُ الشَّرعيُّ لكلِّ مسألةٍ مِنْ مسائل القُرَب يَنطلقُ مِنْ هذين الشَّرطَين، وهما سرُّ النَّجاح في الدُّنيا والآخرة، ومَن كان ينطلِقُ في وَزنِ أمورِه من نتائجها اختلَّ ميزانُه ودخل على أحكامِه من الفساد ما لا يَنضبطُ معه شيء مِن الحلال والحرام، ولم يُصبِح يُفكِّر في الدّليل الشّرعيِّ، وهل بِدايَة التّحلّل مِن الدّين إلاَّ هذا؟!


الأدلَّةَ على حُرْمة المظاهرات

المظاهراتِ قسمان:
القسمُ الأوَّل: المظاهراتُ الَّتي يُرادُ منها أمورٌ شرعيَّةٌ دينيَّةٌ.
القسم الثَّاني: المظاهراتُ الَّتي يُرادُ مِنْها أمورٌ دُنيَويَّة، وهذِه نوعان: النَّوع الأوَّل: المظاهراتُ لإسقاط حاكمٍ لدافعٍ دُنيَويٍّ لا دينيٍّ. النَّوع الثَّاني: المظاهراتُ لتَحصيلِ ما سوى ذلكَ مِنْ أمور الدُّنيا.
أمَّا القسمُ الأوَّل: المظاهراتُ الَّتي يُرادُ مِن ورائها تَحقيق أمورٍ شرعيَّةٍ دينيَّةٍ، فهذه بدعةٌ في الدِّين؛ لأنَّها مُحدَثة، والقاعدة الشَّرعيَّة النَّبويَّة: “أنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ”، كما أخرجَ ذلك مسلمٌ في صحيحِه.
فإنْ قيل: إنَّ هذه مِن الوسائل، والأصلُ في اتِّخاذِ الوسائل الجوازُ ما دامتْ مباحةً.
فيُقال: هذا حقٌّ، لكنْ في غير الوسائل المؤدِّيَة إلى العبادات، فإنَّ للوسائل أحوالاً ثلاثةً:
الحالةُ الأولى: الوسائلُ الملغاةُ، وهيَ الوسائلُ الَّتي جاءَ النَّهيُ عنها بدَليل خاصٍّ، ولا إشكالَ في بدعيَّةِ اتِّخاذِ هذه الوسائل، كاتِّخاذِ التَّمثيلِ وسيلةً مِنْ وسائلِ الدَّعوةِ؛ لأنَّه مُحَرَّمٌ؛ لكونِه مُتضمِّنًا الكذبَ.
الحالةُ الثَّانية: الوسائلُ المعتبَرَة، وهيَ الَّتي نصَّ الشَّرعُ على جَوازِها بنصٍّ خاصٍّ، مثلَ: جَعل الأذانِ وسيلةً للإعلامِ بدُخولِ وقت الصَّلاة، ولا إشكالَ في شرعيَّة هذه الوسائلِ.
الحالةُ الثَّالثة: الوسائل الَّتي لم يأتِ نصٌّ خاصٌّ بجوازِها ولا حُرْمتها، وهذه تتردَّدُ بينَ المصالحِ المرسَلةِ والبِدَع المحدَثة، والضَّابط في التَّفريقِ بينَ هذَين النَّوعَيْن دقيقٌ، حرَّرَه تحريرًا بديعًا شيخُ الإسلام ابن تَيمية، وكان يُردِّدُه كثيرًا العلاَّمةُ الألبانيُّ – رحمه الله -، وخلاصةُ ذلكَ أمرانِ:
الأوَّل: أن ينظُرَ في هذا الأمر المرادِ إحداثُه لكَونِه مصلحةً، هل المُقتَضِي لِفعلِه كانَ موجودًا في عهدِ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم والصَّحابةِ والمانعُ مُنتفيًا؟
أ- فإنْ كانَ كذلكَ فَفِعلُ هذه المصلحةِ المزعومةِ بدعةٌ؛ إذ لو كانت خيرًا لسَبَق القومُ إليه فإنَّهم بالله أعلمُ وله أخشى، وكلُّ خيرٍ في اتِّباعِهم فِعلاً وتركًا.
ب- أمَّا لو كانَ المُقتَضي – أي السَّببُ المُحوِجُ – غيرَ موجودٍ في عهدِهم، أو كانَ مَوجودًا لكنْ هناك مانعٌ يَمنعُ مِن اتِّخاذِ هذه المصلحةِ، فإنَّه لا يكونُ مَصلحةً مُرسَلةً، وذلكَ مِثلَ جَمعِ القرآنِ في عهدِ رَسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنَّ المُقتَضِيَ لِفِعلِه غيرُ موجودٍ؛ إذ هو بينَ أظهُرِهم لا يُخشَى ذهابُه ونِسيانُه، أمَّا بعدَ موتِه فخُشِيَ ذلكَ، لأجلِ هذا جَمَعَ الصَّحابةُ الكرامُ القرآنَ، ومِنَ الأمثلةِ أيضًا: الأذانُ في مُكَبِّراتِ الصَّوتِ، وتَسجيلُ المُحاضراتِ في الأشرطةِ السَّمعيَّة، وصلاةُ القِيامِ في رمضانَ جماعةً، فكلُّ هذه الأمورِ كانَ يوجَدُ مانعٌ في عَهدِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ فِعلِها.
أمَّا الأمرانِ الأوَّلان: فعدمُ إمكانِه لعدَم وُجودِها في زمانِه، أمَّا الأمرُ الثَّالثُ: فإنَّه ترَكَ الفعلَ خشيةَ فَرضِه، وبعدَ موتِه لم يَكُنْ لِيُفرضَ شيءٌ لمْ يَكنْ مَفروضًا مِنْ قبلُ.
الثَّاني: إنْ كانَ المُقتَضِي غيرَ موجودٍ في عهدِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيُنظَرُ فيه هل الدَّاعي له عندَنا بعضُ ذُنوبِ العبادِ؟ فمِثلُ هذا لا تُحدَثُ له ما قد يُسَمِّيه صاحِبُه مَصلحةً مُرسَلة، بل يُؤمرون بالرُّجوع إلى دين الله والتَّمسُّك به؛ إذ هذا المطلوبُ مِنهم فِعلُه، والمطلوبُ مِن غيرِهم دعوتُهم إليه، ويُمثَّلُ لهذا بتقديم الخُطبةِ على الصَّلاةِ في العيدَيْن لأجل حَبس النَّاس لسماع الذِّكْر، فمِثل هذا مِن البدَع المحدَثة لا مِن المصالح المرسَلة، وإليك كلامَ الإمام المحقِّق ابن تيميَّة في بيان هذا الضَّابط، قال ابنُ تيميَّة في “اقتضاء الصِّراط المُستقيم”: “والضَّابطُ في هذا – والله أعلم – أنْ يُقالَ: إنَّ النَّاسَ لا يُحدِثونَ شيئًا إلاَّ لأنَّهم يَروْنَه مَصلحةً؛ إذ لو اعتقدوه مَفسدةً لم يُحدِثوه، فإنَّه لا يَدعو إليه عقلٌ ولا دِينٌ، فما رآه النَّاسُ مَصلحةً نُظِر في السَّبب المُحوِج إليه، فإن كانَ السَّبب المُحوِج أمرًا حدَثَ بعدَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن غيرِ تفريطٍ منَّا، فهُنا قد يَجوزُ إحداثُ ما تَدعو الحاجةُ إليه، وكذلكَ إنْ كانَ المُقتضِي لِفِعلِه قائمًا على عهدِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لكن تَركَه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمُعارضٍ زالَ بموتِه. وأمَّا ما لم يَحدُث سببٌ يُحوجُ إليه، أو كانَ السَّببُ المُحوِجُ إليه بَعض ذنوبِ العباد، فهنا لا يجوز الإحداثُ، فكلُّ أمرٍ يكونُ المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مَوجودًا لو كانَ مَصلحةً، ولم يُفعَلْ يُعلَمُ أنَّه ليس بمصلحةٍ، وأمَّا ما حدثَ المُقتَضي له بعد موته مِن غير معصيةِ الخلق، فقد يكونُ مصلحةً”.
ثمَّ قال: “فأمَّا ما كانَ المُقتَضِي لفعلِه موجودًا لو كانَ مَصلحةً، وهو مع هذا لم يَشرعْهُ، فوَضعُه تَغييرٌ لدينِ الله، وإنَّما دَخل فيه مَن نُسِب إلى تغيير الدِّين مِن الملوكِ والعُلماء والعُبَّاد، أو مَن زلَّ مِنهم باجتهادٍ، كما رُوي عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وغيرِ واحدٍ مِنَ الصَّحابة: “إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم: زلَّةُ عالِمٍ، وجِدالُ منافِقٍ بالقُرآن، وأئمَّةٌ مُضِلُّون”.
فمِثالُ هذا القِسم: الأذانُ في العيدَيْن، فإنَّ هذا لمَّا أحدَثَه بعضُ الأمراء أنْكَرَه المسلمون؛ لأنَّه بدعة، فلو لم يَكن كونُه بِدعةً كان دليلاً على كراهيتِه، وإلاَّ لقيل: هذا ذِكرٌ لله ودُعاءٌ للخلقِ إلى عبادة الله، فيَدخُل في العموميات كقولِه: “اذكُروا اللهَ ذِكرًا كثيرًا”، وقولِه تعالى: “ومَنْ أحسَنُ قولاً مِمَّن دعا إلى اللهِ وعَمِلَ صالِحًا”.
وبعدَ هذا التَّحقيقِ البديعِ مِن شيخ الإسلام ابن تيميَّة، فإنَّ فِعالَ الصَّحابة والسَّلف دالَّة على دُخولِ البدَع في الوسائِل، كما تَدخلُ في الغاياتِ، ومَنْ نازَع في ذلكَ نازَعَ سلفَ الأمَّة وهُم خَصمُه، ومِنَ الأمثلة الدَّالَّة على ذلك ما روى البخاريُّ في قصَّة جَمْع المصحفِ وأنَّ عمرَ بن الخطَّاب أشارَ على أبي بكرٍ بالجمعِ، فقال له أبو بكرٍ: كيفَ تَفعلُ شيئًا لمْ يَفعلْهُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وبِمثلِ هذا أجابَ زيدُ بنُ ثابتٍ أبا بكرٍ الصِّدِّيق لمَّا عرض عليه جمعَ المصحف.
ففي هذا دلالة واضحة على أنَّ البدعَ تدخُل في الوسائل كما تدخل في العبادة ذاتِها؛ وذلك أنَّ جمعَ المصحف مِن الوسائل، ومع ذلك احتجُّوا بعدَم فعلِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنْ قيلَ: لماذا إذَن جمعوا المصحفَ مع أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَفعلْه؟ فيُقال: لأنَّ مُقتَضى – أي: سَبب – الجمع وُجِد في زمان أبي بكر رضي الله عنه، ولم يَكن موجودًا في زمان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ إذ هو حيٌّ بينَ أظهُرِهم فَبِوُجُودِه لا يُخشى ذهابُ القرآن.
ومِن الأدلَّة أيضًا: ما ثبتَ عند الدَّارميِّ وابنِ وضَّاح أنَّ ابنَ مسعودٍ أنكرَ على الَّذين كانوا يَعدُّون تَكبيرَهم وتَسبيحَهم وتهليلَهم بالحصى، واحتجَّ علَيهم بأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابَه لم يَفعلوا، مع أنَّ عدَّ التَّسبيح راجعٌ للوسائل.
وبعدَ أنْ تبيَّن أنَّ المظاهراتِ الَّتي تُفعَل لأمورٍ شرعيَّةٍ دينيَّةٍ بدعةٌ مُحدَثةٌ لم يَفعلْها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا صحابتُه مع إمكانِ فِعلها، فلا يصحُّ لأحدٍ بعدَ هذا أنْ يَعترِضَ بأنَّ الأصلَ فيها الإباحةُ فلا تُمنَعُ إلاَّ بدليلٍ؛ لأنَّها عبادةٌ، والأصلُ في العبادات الحُرمَة، وهذا مثل مَنْ لم يَقنَع بالمنع من الاحتفالِ بمولِد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بحجَّة أنَّه لا دليلَ يدلُّ على المَنع.
فيُقال: إنَّ الدَّليل على منعِها كَونُها عبادةً، ولا دليلَ على شرعيَّتِها، فتكونُ بدعةً؛ لأنَّ الأصلَ في العباداتِ الحظرُ والمنعُ، وانظُر بحثًا مُفيدًا لأخينا الشَّيخ حمَد العَتِيق بعُنوان: “المظاهراتُ بين الاتِّباع والابتداع”.
أمَّا القسمُ الثَّاني: المظاهراتُ الَّتي يُرادُ مِنْها تَحقيقُ أمورٍ دُنيَويَّةٍ، وهذه نوعان كما تقدَّم:
أمَّا النَّوعُ الأوَّل: وهي المظاهراتُ لإسقاط حاكمٍ لدافعٍ دُنيَويٍّ لا دينيٍّ، فهذه محرَّمةٌ بدلالةِ كلِّ نصٍّ على وُجوبِ السَّمع والطَّاعة للحاكم ولو كان فاسقًا غيرَ عدلٍ، فمع تكاثر الأدلَّة في حرمة هذا الفعل – وهذا كافٍ، فكذلك السَّلف أجمعوا على حرمة هذا الفعل وتَضليل مَن خالفَ فيه، ودونَكم ما شئتم مِنْ كُتُب الاعتقاد السَّلفيِّ، ومَن حاولَ المنازعةَ في هذا فقولُه مَردود، وهو ضالٌّ قد خالفَ ما عليه دلائل السُّنَّة وآثارُ السَّلف.
وتزدادُ حرمةُ هذا النَّوع إذا فُعِل لأجلِ الدِّين أيضًا، فإنَّه بالإضافة إلى كونِه محرَّمًا يكونُ بدعةً، ثمَّ كلُّ ما سيأتي مِنَ الأدلَّة في النَّوع الثَّاني يَصلُح دليلاً على حُرمَة هذا القِسم، وللشَّيخ عبد السَّلام بن بَرْجَس آل عبد الكريم – رحمه الله – كتابٌ نفيسٌ فيما يتعلَّق بهذا النَّوع، قد أثنى عليه شيخُنا العلاَّمة ابنُ عثيمين في شرحِه على “السِّياسة الشَّرعيَّة” لابنِ تيميَّةَ، واسمُ الكتاب: “مُعاملةُ الحُكَّام في ضوء الكتابِ والسُّنَّة”.
أمَّا النَّوع الثَّاني: المظاهراتُ لتَحصيلِ ما سوى ذلك مِنْ أمور الدُّنيا، فهيَ محرَّمةٌ لأوجُه كثيرة، مِنْها:
الوجْهُ الأوَّل: أنَّ المظاهراتِ – ولو كانتْ سِلميَّةً – خلافُ ما أمرَ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الصَّبْر على جَوْر الحكَّام الَّذينَ اغتصبوا الحقوقَ، كما أخرج الشَّيخان عن ابن مسعودٍ أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “ستكونُ أثَرَةٌ – أي حكَّامٌ يُؤثِرون أنفُسَهم علَيكم في أخذِ حُطامِ الدُّنيا – وأمورٌ تُنكِرونَها – أي حكَّام عندَهم معاصٍ شرعيَّة، قالوا: يا رسولَ الله! فما تأمُرُنا؟ قالَ: تُؤدُّونَ الحقَّ الَّذي عليكم، وتسألونَ الله الَّذي لكم”، وفي “الصَّحيحَيْن” عن أُسَيْد بن حُضَيْر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “ستلْقَون بعدِي أثرةً، فاصْبِروا حتَّى تلْقَوني على الحَوْض”، فنحنُ مأمورونَ بالصَّبر، لا بالمظاهرات للضَّغطِ على الحُكَّام، وقد أمَرَ أئمَّةُ السُّنَّة بالصَّبْر وقالوا: “حتَّى يَستريحَ بَرٌّ، أوْ يُستَراحَ مِنْ فاجِرٍ”.
الوجه الثَّاني: أنَّ فيها فتحَ بابِ شرٍّ بتحكيم الشُّعوب، فكلَّما أرادَ الشَّعبُ أمورًا تظاهَروا للمطالبةِ به، فإذا أرادَ أهلُ الشَّهواتِ أمرًا مِنْ أمورِ الشَّهواتِ المحرَّمة تظاهروا للمطالبةِ به، فاستُجيبَ لهم، وإذا أرادَ العلمانيُّونَ واللِّيبراليُّونَ أمرًا تظاهَروا للمطالبة به، فاستُجيبَ لهم، وهكذا… ومِنَ المعلوم أنَّ أهلَ الاستقامة والدِّيانةِ أقلُّ مِنْ غَيْرِهم بكثيرٍ في المجتمعات الإسلاميَّة؛ قالَ تعالى: “فمِنْهُم مهتَدٍ وكثيرٌ مِنْهم فاسقون”.
الوجه الثَّالث: أنَّ أكثَرَ المظاهرات – إنْ لم يَكُنْ كلُّها – متَضَمِّنةٌ على اختلاط الرِّجالِ بالنِّساء، الاختلاط المحرَّم، وما خالَفَ ذلكَ فهو قليل لا حُكْمَ له، والواقعُ المُشاهَد خيرُ بُرهانٍ.
الوجهُ الرَّابع: أنَّ جَوْرَ الحكَّام بسَبَبِ ذنوبِ المحكومين، والذُّنوبُ لا تُرْفَع إلاَّ بالتَّوبة والاستكانة إلى الله لا بالمظاهرات، قال شيخُ الإسلام في “منهاج السُّنَّة النَّبويَّة”: “وكانَ الحَسَن البصريُّ يقول: “إنَّ الحجَّاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذابَ الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتَّضرُّع؛ فإنَّ الله تعالى يقول: “ولقد أخذْناهم بالعذابِ فما استكانوا لربِّهم وما يَتَضَرَّعون”، وكانَ طَلْق بنُ حَبيب يقول: اتَّقوا الفتنةَ بالتَّقوى”.
هذه الأوجُه الأربعُ في المظاهراتِ الَّتي يقال سلميَّة!
أمَّا غيرُ السِّلميَّة فهيَ – زيادةً على ما تقدَّم – تحتوي على قتلٍ للنُّفوس وإهلاكٍ للأموالِ، وانتهاكٍ للأعراضِ، وغيرِ ذلكَ.

وبعدَ هذا كُلِّه إليكَ شُبَه المجيزينَ للمظاهرات وكَشفَها، وأؤكِّدُ أنَّ واقِعَ حالِهم: “اعتقدوا، ثمَّ سعَوْا لِيَستدِلُّوا، فتكلَّفوا وحرَّفوا نُصوصَ الشَّريعة”.
الشُّبهة الأولى: ادَّعى مُجَوِّزو المظاهرات أنَّ فعلَ المتظاهرينَ قد دلَّت عليه السُّنَّة؛ فقد أخرجَ أبو نُعَيم في “الحِلْيَة”: “أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم خرَجَ بعدَ إسلامِ عمرَ رضي الله عنه على رأس صفَّيْنِ مِنْ أصحابِه، وعلى الأوَّل مِنْهُما عُمَر رضي الله عنه، وعلى الثَّاني حَمزَة رضي الله عنه؛ رغبةً في إظهار قوَّة المسلِمينَ، فعلمتْ قُرَيْشٌ أنَّ لهم منَعةً”.
وهذا لا دلالةَ علَيه مِن وجهَيْن: دِرايَةً، وروايةً:
الوجه الأوَّل رِوايَةً: فإنَّ إسناده ضعيف؛ لأنَّ فيه إسحاقَ بنَ فَرْوة، قال الإمام أحمد: لا تَحِلُّ عندي الرِّوايةُ عنه، وقال: ما هو بأهلٍ أنْ يُحمَل عنه، ولا يُروَى عنه، وقال الإمام ابنُ مَعِين عنه: كذَّاب.
الوجه الثَّاني دِرايةً: أنَّه لا ولايةَ في مكَّة، وكان أعداؤهم حربيِّين، فلمَّا تقوَّوا استعملوا القوَّة في مقدار ما يستطيعون، فأين هذا مِنْ تجمُّع أناسٍ على حكَّامِهم لإظهار سخطِهم على فِعلٍ ما؟!
الشُّبهة الثَّانية: أنَّها – أي المظاهرات – وسيلةٌ قد جُرِّبَت فوُجِد نفعُها بأنْ حصلَ المطلوب.
وكَشفُ هذه الشُّبهة مِنْ وجهَيْن:
الوجه الأوَّل: أنَّها أيضًا جُرِّبَتْ في مواطِن كثيرة وكثيرةٍ جدًّا فلم تنفعْ، فهي وسيلةٌ مظنونة، وليس حدَثُ تظاهُرِ المسلمين في فرنسا ضدَّ قرار منع الحجابِ عنَّا ببعيدٍ، فلم يَنفع، والأمثلة كثيرة، وما كان كذلك فلا يُجَوَّز به المُحَرَّم، وقد تقدَّم ذكرُ الأدلَّة على منعِها وحُرْمَتها.
الوجه الثَّاني: أنَّه لو قُدِّر حصولُ النَّتيجة مِن هذه الوسيلة، فإنَّه لا يَدلُّ على حِلِّها ولا صِحَّتها بحالٍ، فإنَّ الغاية لا تُبَرِّر الوسيلةَ
وهذه فتاوى جماعةٍ مِن عُلمائِنا في حُرمةِ المظاهراتِ ليُقارَن بينها وبينَ كلامِ الحَرَكيِّين والحماسيِّين العاطفيِّين في هذه المسألة الَّتي تذرَّعَ الحركيُّون الثَّوريُّون بها للتَّهييج على الولاةِ وإشاعةِ الفَوْضى مُستَغلِّين عاطفةَ عامَّةِ النَّاس:
قال الشَّيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -: “فالأسلوبُ الحسنُ مِنْ أعظمِ الوسائل لقَبولِ الحقِّ، والأسلوبُ السَّيِّء العنيفُ مِنْ أخطَر الوسائل في ردِّ الحقِّ وعَدَم قبولِه، أو إثارةِ القلاقل والظُّلم والعُدوان والمضاربات، ويُلحَق بهذا البابِ ما يَفْعلُه بعضُ النَّاس مِنَ المظاهرات الَّتي تُسَبِّب شرًّا عظيمًا على الدُّعاة، فالمسيرات في الشَّوارِع والْهُتافاتُ ليسَت هيَ الطَّريق للإصلاح والدَّعوة، فالطَّريقُ الصَّحيحُ بالزِّيارة والمكاتبات بالَّتي هي أحسنُ، فتنصَحُ الرَّئيسَ والأميرَ وشيخَ القبيلةِ بهذه الطَّريقةِ، لا بالعُنْفِ والمظاهرَةِ، فالنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مكثَ في مكَّة ثلاثَ عشرةَ سنةً لم يَستعمل المظاهرات ولا المسيرات، ولم يُهَدِّدِ النَّاسَ بتخريبِ أموالِهم واغتيالِهم، ولا شكَّ أنَّ هذا الأسلوبَ يَضرُّ بالدَّعوةِ والدُّعاةِ، ويَمنَعُ انتشارَها، ويَحمِلُ الرُّؤساءَ والكبارَ على مُعاداتِها ومُضادَّتِها بكلِّ مُمْكِن، فهُم يُريدون الخيرَ بهذا الأسلوب، ولكن يَحصُل به ضدُّه، فكَونُ الدَّاعي إلى الله يَسلُك مسلكَ الرُّسل وأتباعِهم – ولو طالَت المدَّة – أولى به مِنْ عملٍ يضرُّ بالدَّعوة ويُضايِقُها أو يَقضِي عليها، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله”.
وقالَ الشَّيخ الألبانيّ – رحمه الله – في “سلسلة الهدى والنُّور”: “صحيحٌ أنَّ الوسائلَ إذا لم تَكُن مُخالِفةً للشَّريعة، فالأصلُ فيها الإباحة، هذا لا إشكال فيه، لكن الوسائل إذا كانت عبارةً عن تقليدٍ لمناهج غيرِ إسلاميَّة، فمِنْ هنا تُصبِحُ هذه الوسائل غيرَ شرعيَّة، فالخُروجُ للتَّظاهُرات أو المظاهرات وإعلانُ عدمِ الرِّضا أو الرِّضا وإعلانُ التَّأييدِ أو الرَّفضِ لبعضِ القرارات أو بعضِ القوانين، هذا نظامٌ يَلتَقي مع الحُكْم الَّذي يقول: الحُكْم للشَّعب، مِنَ الشَّعبِ وإلى الشَّعب!! أمَّا حينما يكون المجتمع إسلاميًّا فلا يَحتاجُ الأمرُ إلى مُظاهراتٍ، وإنَّما يَحتاجُ إلى إقامةِ الحُجَّة على الحاكِم الَّذي يُخالِفُ شَريعةَ الله… أقولُ عن هذه المظاهرات: ليسَتْ وسيلةً إسلاميَّةً تُنْبِئُ عن الرِّضا أو عدَم الرِّضا مِنَ الشُّعوب المسلِمة؛ لأنَّ هناك وسائلَ أخرى باستطاعتِهم أنْ يَسلكوها. وأخيرًا: هل صحيحٌ أنَّ هذه المظاهرات تغيِّر مِنْ نظامِ الحُكْم إذا كانَ القائمونَ مُصرِّينَ على ذلك؟ لا ندري! كَم وكَم مِن مظاهرات قامتْ، وقُتِل فيها قتلى كثيرون جدًّا، ثمَّ بقيَ الأمرُ على ما بقيَ عليه قبلَ المظاهرات، فلا نرى أنَّ هذه الوسيلةَ تَدخلُ في قاعدة أنَّ الأصلَ في الأشياء الإباحة؛ لأنَّها مِنْ تقاليد الغربِيِّين”.
وقال في “سلسلة الأحاديث الضَّعيفة والموضوعة”: “لا تزالُ بعضُ الجماعات الإسلاميَّة تتظاهرُ بها، غافِلينَ عنْ كونِها مِنْ عادات الكفَّار وأساليبِهم الَّتي تتناسَبُ مع زعمِهم أنَّ الحكمَ للشَّعب، وتتنافى مع قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: “خيرُ الهُدَى هُدَى محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم”.
وسُئِلَ الشَّيخ محمَّد بن عثيمين – رحمه الله -: هل تُعتَبرُ المظاهراتُ وسيلةً مِنْ وسائل الدَّعوة الشَّرعيَّة؟
فقال: “فإنَّ المظاهراتِ أمرٌ حادثٌ، لم يكُن معروفًا في عهدِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا في عهدِ الخُلَفاء الرَّاشِدين، ولا عهدِ الصَّحابة رضي الله عنهم.
ثمَّ إنَّ فيه مِنَ الفوضى والشَّغَبِ ما يَجعلُه أمرًا ممنوعًا؛ حيثُ يَحصُلُ فيه تكسير الزُّجاج والأبواب وغيرِها، ويَحصُل فيه أيضًا اختلاطُ الرِّجال بالنِّساء، والشَّباب بالشُّيوخ، وما أشبه ذلكَ مِنَ المفاسِد والمنكرات، وأمَّا مَسألةُ الضَّغط على الحكومة فهيَ إنْ كانتْ مُسلِمةً فيَكفيها واعظًا كتابُ الله وسُنَّة رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا خيرُ ما يُعرَض على المسلِم، وإنْ كانتْ كافِرَةً، فإنَّها لا تُبالي بهؤلاء المتظاهِرين وسوفَ تُجامِلُهم ظاهرًا وهي ما هي عليه مِنَ الشَّرِّ في الباطِن، لذلكَ نرى أنَّ المظاهرات أمرٌ مُنكَر.
وأمَّا قولُهم: إنَّ هذه المظاهراتِ سلميَّة، فهيَ قد تكونُ سلميَّةً في أوَّلِ الأمر، أو في أوَّلِ مرَّة، ثمَّ تكونُ تخريبيَّةً، وأنصحُ الشَّبابَ أنْ يتَّبِعوا سبيلَ مَنْ سلَف؛ فإنَّ الله سبحانَه وتعالى أثنى على المهاجرينَ والأنصارِ وأثنى على الَّذينَ اتَّبعوهُم بإحسانٍ”، انظر: “الجواب الأبهر”.
وبعدَ معرِفةِ حُكمِ المظاهراتِ فلا تجوزُ ولو أذِنَ بها النِّظامُ؛ لأنَّها مُحَرَّمةٌ، ولا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق، هذا ما كانَ يُقرِّره شيخُنا العلاَّمة ابنُ عثيمين.
بل ولو كان الحاكمُ كافرًا والدَّولةُ كافرةً لم تَجُزْ؛ لأنَّها وسيلةٌ محرَّمة.

عشرة أوجه لبطلان المظاهرات:
وقع بعض المسلمين وبعاطفة غير منضبطة بضوابط الشرع في وسائل بدعية جاءت من الكفار كالخروج الى الشوارع جماعات أو ما يسمى بالمظاهرات التي ما أطعمت جائعاً ولا سقت عطشان وما أنزل الله بها من سلطان.
واليك أخي القارئ بيان بطلانها من عشرة أوجه:
الوجه الأول: انها تعبد لله تعالى بوسيلة غير مشروعة، فأين السلف الصالح من فعلها؟ لو كان خيراً لسبقونا اليه. وأما الاستدلال بما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بعد اسلام عمر رضي الله عنه على رأس صفين من أصحابه وعلى الأول منهما عمر وعلى الثاني حمزة، رغبة في إظهار قوة المسلمين، فعلمت قريش أن لهم منعة، فهذا الأثر قد رواه أبو نعيم في الحلية وفي إسناده اسحاق بن عبدالله بن أبي فروة وهو منكر الحديث لا يحتج به، فالرواية اذا لا تثبت.
الوجه الثاني: أن فيها تشبها بالكفار، فهذه المظاهرات وسيلة ابتدأها الكفار للضغط على حكوماتهم والمطالبة بحقوقهم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لا تبعتموهم” رواه الشيخان، وفي مسند احمد قال صلى الله عليه وسلم: “ومن تشبه بقوم فهو منهم”.
الوجه الثالث: أن القيام بها مخالف للنظام ومعصية لولاة الأمر في بلادنا خاصة، وهذا يتضح من خلال تصريح كبار المسؤولين في منعها وعدم السماح بها، وقد قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ”.
قال شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله: “وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الامور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديما وحديثا ومن سيرة غيرهم”.
الوجه الرابع: زعزعة الأمن واثارة الفوضى والغوغائية، ولا يخفى على كل عاقل أن حفظ الأمن مطلب مهم، ومن الضروريات الخمس التي جاء الاسلام بحفظها، واذا أردت ان تعرف قدر هذه النعمة فانظر حال من فقدها، نسأل الله العافية والسلامة.
الوجه الخامس: إيقاع العداوة والتصادم والتقاتل بين رجال الأمن والمتظاهرين.
الوجه السادس: أن المظاهرات فرصة خطيرة لإندساس المفسدين والمجرمين لتحقيق مآربهم وأغراضهم السيئة، فليس كل من دخل في صفوف المتظاهرين يسعى إلى ما يسعون اليه ويهدف الى ما يهدفون اليه.
الوجه السابع: تعطيل مصالح الناس بما تحدثه هذه المظاهرات بجموعها الغفيرة من إغلاق للمحلات وتعطيل حركة السير، فقد يموت انسان مصاب أو تتضاعف اصابته بسبب عدم وصول سيارة الاسعاف إليه، والسبب في ذلك جموع المتظاهرين.
الوجه الثامن: ترك السنة وإحياء البدعة. فالناس اذا انشغلوا بالمظاهرات ظنوا أنهم قدموا كل شيء، ويكتفون بذلك عن الوسائل الشرعية النافعة المجدية كالتبرع بالمال والتضرع الى الله بالدعاء.
الوجه التاسع: أن القول بجوازها ذريعة لأهل البدع والأهواء وأصحاب الأفكار المنحرفة للقيام بها والوصول الى ما يريدون من مقاصد سيئة.
الوجه العاشر: ما يحدث في هذه المظاهرات من محاذير شرعية كالاختلاط بين الرجال والنساء، وتضييع الصلاة، وغير ذلك من المحاذير.


رأي القرضاوي في ديمقراطيته

يقول القرضاوي في جواب على أحد السائلين: يؤسفني كل الأسف أن تختلط الأمور، ويلتبس الحق بالباطل لدى بعض المتدينين عامة، ولدى بعض المتكلمين باسم الدين خاصة، إلى الحد الذي يكشف عنه سؤال الأخ السائل، شكر الله له، حتى أصبح اتهام الناس بالكفر أو الفسق – على الأقل – أمرًا سهلاً على صاحبه، كأنما لا يعتبر في نظر الشرع جريمة كبيرة موبقة، يُخشى أن ترتد على من ألصقها بغيره، كما جاء في الحديث الصحيح. فهل الديمقراطية كفر؟ الحكم على الشيء فرع عن تصوره. الغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح، أو كفر بواح، وهو لم يعرفها معرفة جيدة، تنفذ إلى جوهرها، وتخلص إلى لبابها، بغض النظر عن الصورة والعنوان.
ومن القاعد المقررة لدى علمائنا السابقين، أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن حكم على شيء يجهله فحكمه خاطئ، وإن صادف الصواب اعتباطًا، لأنها رمية من غير رام، لهذا ثبت في الحديث أن القاضي الذي يقضي على جهل في النار، كالذي عرف الحق وقضى بغيره. فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم، والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب (ما شاء الله!)، والتي وصلت إليها بعض الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة، أريقت فيه دماء وسقط فيه ضحايا بالألوف، بل بالملايين، كما في أوروبا الشرقية وغيرها، والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي، وتقليم أظفار التسلط السياسي الذي ابتليت به شعوبنا المسلمة، هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر كما يردد بعض السطحيين المتعجلين؟؟ (لاحظ، مشكلة هؤلاء الإخوان هي منافستهم للحاكم).
جوهر الديمقراطية ما هو؟ إن جوهر الديمقراطية – بعيدًا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية – أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها. فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل (مشكلته هي الحاكم، ولهذا تمسك بالديمقراطية).
هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغًا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة، واستقلال القضاء.. إلخ.
فهل الديمقراطية – في جوهرها الذي ذكرناه – تنافي الإسلام؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذا الدعوى؟
الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، ولا يرضون عنه، وفي الحديث: “ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرًا” وذكر أولهم: “رجل أم قومًا وهم له كارهون”. كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة؟
وفي الحديث الصحيح: خير أئمتكم – أي حكامكم – الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم – أي تدعون لهم – ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم”.
لقد شن القرآن حملة في غاية القسوة على الحكام المتألهين في الأرض، الذين يتخذون عباد الله عبادًا لهم مثل نمرود الذي ذكر القرآن موقفه من إبراهيم وموقف إبراهيم منه: “ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين”. فهذا الطاغية يزعم أنه يحيي ويميت، كما أن رب إبراهيم – وهو رب العالمين- يحيي ويميت، فيجب أن يدين الناس له، كما يدينون لرب إبراهيم! وبلغ من جرأته في دعوى الإحياء والإماتة، أن جاء برجلين من عرض الطريق، وحكم عليهما بالإعدام بلا جريرة، ونفذ في أحدهما ذلك فورًا، وقال: “ها قد أمته”، وعفا عن الآخر، وقال “ها قد أحييته!، ألست بهذا أحيي وأميت؟!”، ومثله فرعون الذي نادى في قومه: “أنا ربكم الأعلى”، وقال في تبجح: “يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري”.
وقد كشف القرآن عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة خبيثة: الأول، الحاكم المتأله المتجبر في بلاد الله، المتسلط على عباد الله، ويمثله فرعون. والثاني، السياسي الوصولي، الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية، وتثبيت حكمه، وترويض شعبه للخضوع له، ويمثله هامان. والثالث، الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله، ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه، ويمثله قارون (مثلث الكفر عندهم هو: الحاكم وجنوده والشعب، فماذا تركوا غير أنفسهم؟).
ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الإثم والعدوان، ووقوفه في وجه رسالة موسى، حتى أخذهم الله أخذ عزيز
من روائع القرآن أنه ربط بين الطغيان وانتشار الفساد، الذي هو سبب هلاك الأمم ودمارها، وقد يعبر القرآن عن الطغيان بلفظ العلو، ويعني به الاستكبار والتسلط على خلق الله بالإذلال والجبروت، كما قال تعالى عن فرعون: “إنه كان عاليًا من المسرفين”، وهكذا نرى العلو والإفساد متلازمين.
ذم القرآن للشعوب المطيعة للجبابرة: لم يقصر القرآن حملته على الطغاة المتأهلين وحدهم، بل أشرك معهم أقوامهم وشعوبهم الذين اتبعوا أمرهم وساروا في ركابهم، وأسلموا لهم أذمتهم، وحملهم المسئولية معهم، يقول تعالى عن قوم نوح: “قال نوح ربي إنهم عصوني واتبعوا ما لم يزده ماله وولده إلا خسارًا”، ويقول سبحانه عن عاد قوم هود: “وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد”، ويقول جل شأنه عن قوم فرعون: “فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين”، وإنما حَمّل الشعوب المسئولية أو جزءًا منها، لأنها هي التي تصنع الفراعنة والطغاة، وهو ما عبر عنه عامة الناس في أمثالهم حين قالوا قبل لفرعون: “ما فرعنك؟ قال لم أجد أحدًا يردني”.
جنود الطاغية وأدواته يتحملون الوزر معه: أكثر من يتحمل المسئولية مع الطغاة هم “أدوات السلطة” الذين يسميهم القرآن “الجنود”، ويقصد بهم “القوة العسكرية” التي هي أنياب القوة السياسية وأظفارها، وهي السياط التي ترهب بها الجماهير إن هي تمردت أو فكرت في أن تتمرد، يقول القرآن: “إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين” “فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين”.
حملة السنة على الأمراء الظلمة: السنة النبوية حملت كذلك على الأمراء الظلمة والجبابرة، الذين يسوقون الشعوب بالعصي الغليظة، وإذا تكلموا لا يرد أحد عليهم قولاً فهم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش، كما حملت على الذين يمشون في ركابهم، ويحرقون البخور بين أيديهم من أعوان الظلمة، ونددت السنة بالأمة التي ينتشر فيها الخوف حتى لا تقدر أن تقول للظالم: يا ظالم. فعن أبي موسى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن في جهنم واديًا وفي الوادي بئر يقال له هبهب، حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد”. وعن معاوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال “ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يفاحمون في النار كما تفاحم القردة”. وعن جابر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لكعب ابن عجرة: “أعاذك الله من إمارة السفهاء يا كعب. قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي، لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي”. وعن معاوية مرفوعًا: “لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف منها حقه من القوي غير متعتع”. وعن عبد الله ابن عمرو مرفوعًا: “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم”.
الشورى والنصيحة والأمر والنهي: لقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح، حتى جعل النصيحة هي الدين كله، ومنها النصيحة لأئمة المسلمين، أي أمرائهم وحكامهم.
كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة، بل جعل أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر، ومعنى هذا أنه جعل مقاومة الطغيان والفساد الداخلي أرجح عند الله من مقاومة الغزو الخارجي، لأن الأول كثيرًا ما يكون سببًا للثاني.
إن الحاكم في نظر الإسلام وكيل عن الأمة أو أجير عندها، ومن حق الأصيل أن يحاسب الوكيل أو يسحب منه الوكالة إن شاء، وخصوصًا إذا أخل بموجباتها، فليس الحاكم في الإسلام سلطة معصومة بل هو بشر يصيب ويخطئ، ويعدل ويجور، ومن حق عامة المسلمين أن يسددوه إذا أخطأ ويقوموه إذا اعوج، وهذا ما أعلنه أعظم حكام المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا أن نتبع سنتهم ونعض عليها بالنواجذ باعتبارها أمتدادًا لسنة المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الخليفة الأول أبو بكر في أول خطبة له: “أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني.. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم”.
ويقول الخليفة الثاني عمر الفاروق: “رحم الله أمرأ أهدى إلي عيوب نفسي”، ويقول: “أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومني”، ويرد عليه واحد من الجمهور فيقول: “والله يا بن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا”! وترد عليه أمرأة رأيه وهو فوق المنبر، فلا يجد غضاضة في ذلك، بل يقول: “أصابت المرأة وأخطأ عمر”!، ويقول على ابن أبي طالب كرم الله وجهه لرجل عارضه في أمر: أصبت وأخطأت، “وفوق كل ذي علم عليم”.
لقد سبق الإسلام بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين، وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد أحوال الإنسان.
ومزية الديمقراطية أنها اهتدت خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين من الأباطرة والملوك والأمراء إلى صيغ ووسائل، تعتبر – إلى اليوم – أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين. ولا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس نرى لزامًا علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لابد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض (لم يأخذوا غير الخروج على الحاكم بالمظاهرات، والذي كانت نتيجته خراب سوريا وليبيا واليمن).
ومن القواعد الشرعية المقررة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يوجد شرع يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي، من غير المسلمين، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب بفكرة حفر الخندق، وهو من أساليب الفرس.
واستفاد من أسرى المشركين في بدر ممن يعرفون القراءة والكتابة، في تعليم أولاد المسلمين الكتابة، برغم شركهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
وقد أشرت في بعض كتبي إلى أن من حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب ما يفيدنا، ما دام لا يعارض نصًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية ثابتة.
وعلينا أن نحور فيما نقتبسه، ونضيف إليه، ونضفي عليه من روحنا ما يجعله جزءًا منا، ويفقده جنسيته الأولى. “انظر: كتابي: “الحل الإسلامي فريضة وضرورة” (يقصد “التعقيد الإسلامي ليس فريضة ولا ضرورة”).
إذا نظرنا إلى نظام كنظام الانتخاب أو التصويت، فهو في نظر الإسلام “شهادة” للمرشح بالصلاحية.. فيجب أن يتوافر في صاحب الصوت ما يتوافر في الشاهد من الشروط بأن يكون عدلاً مرضي السيرة، كما قال تعالى: “وأشهدوا ذوي عدل منكم”، “ممن ترضون من الشهداء”. ومن شهد لغير صالح بأنه صالح، فقد ارتكب كبيرة شهادة الزور، وقد قرنها القرآن بالشرك بالله، إذ قال: “فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور”، ومن شهد لمرشح بالصلاحية لمجرد أنه قريبه أو ابن بلده، أو لمنفعة شخصية يرتجيها منه، فقد خالف أمر الله تعالى: “وأقيموا الشهادة لله”.
ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي، حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لم يتوافر فيه وصف القوي الأمين، فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها (يريد بذلك ضمان جميع أصوات المغترين بجماعته). وقد قال تعالى: “ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا”، “ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه”، ومثل ذلك يقال في صفات المرشح وشروطه من باب أولى. إننا بإضافة هذه الضوابط والتوجيهات لنظام الانتخاب، نجعله في النهاية نظامًا إسلاميًا، وإن كان في الأصل مقتبسًا من عند غيرنا.
حكم الشعب وحكم الله: الذي نريد التركيز عليه هنا هو ما نوهنا به في أول الأمر، وهو جوهر الديمقراطية، فهو بالقطع متفق مع جوهر الإسلام، إذا رجعنا إليه في مصادره الأصلية، واستمددناه من ينابيعه الصافية من القرآن والسنة، وعمل الراشدين من خلفائه، لا من تاريخ أمراء الجور وملوك السوء، ولا من فتاوى الهالكين المحترقين من علماء السلاطين، ولا من المخلصين المتعجلين من غير الراسخين.
وقول القائل إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل إن الحاكمية لله ـ قول غير مسلم به، فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الديكتاتورية المتسلطة، رفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.
أجل كل من يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة – وبعبارة إسلامية: إذا أمروا بمعصية، وأن يكون له الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير – المراد بمبدأ الحاكمية لله.
وأحب أن أنبه هنا على أن مبدأ الحاكمية لله مبدأ إسلامي أصيل، قرره جميع الأصوليين في مباحثهم عن الحكم الشرعي، وعن الحاكم، فقد اتفقوا على أن الحاكم هو الله تعالى، والنبي مبلغ عنه، فالله تعالى هو الذي يأمر وينهى، ويحلل ويحرم، ويحكم ويشرع.
وقول الخوارج: “لا حكم إلا لله” قول صادق في نفسه، حق في ذاته، ولكن الذي أُنكر عليهم هو وضعهم الكلمة، في غير موضعها، واستدلالهم بها على رفض تحكيم البشر في النزاع، وهو مخالف لنص القرآن الذي قرر التحكيم في أكثر من موضع، ومن أشهرها التحكيم بين الزوجين إن وقع الشقاق بينهما؛ ولهذا رد أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – على الخوارج بقوله: “كلمة حق أريد بها باطل”، فقد وصف قولهم بأنه “كلمة حق”، ولكن عابهم بأنهم أرادوا بها باطلاً. وكيف لا تكون كلمة حق وهي مأخوذة من صريح القرآن: “إن الحكم إلا لله”، فحاكمية الله تعالى للخلق ثابتة بيقين، وهي نوعان: حاكمية كونية قدرية، بمعنى أن الله هو المتصرف في الكون، المدبر لأمره الذي يجري فيه أقداره، ويحكمه بسننه التي لا تتبدل، ما عرف منها وما لم يعرف، وفي مثل هذا جاء قوله تعالى: “أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب”، فالمتبادر هنا أن حكم الله يراد به الحكم الكوني القدري لا التشريعي الأمري.
حاكمية تشريعية أمرية، وهي حاكمية التكليف والأمر والنهي، والإلزام والتخيير، وهي التي تجلت فيما بعث الله به الرسل، وأنزل الكتب، وبها شرع الشرائع وفرض الفرائض، وأحل الحلال، وحرم الحرام. وهذه لا يرفضها مسلم رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً.
والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلاً للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور، ورفض المعصية، وخصوصًا إذا وصلت إلى كفر بواح فيه من الله برهان.
ومما يؤكد ذلك أن الدستور ينص – مع التمسك بالديمقراطية – على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، وهذا تأكيد لحاكمية الله، أي حاكمية شريعته، وأن لها الكلمة العليا. ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة، إن كل قانون أو نظام يخالف قطعيات الشرع فهو باطل، وهي في الواقع تأكيد لا تأسيس؛ لا يلزم إذن من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله، إذ لا تناقض بينهما.
ولو كان ذلك لازمًا من لوازم الديمقراطية، فالقول الصحيح لدى المحققين من علماء الإسلام أن لازم المذاهب ليس بمذهب، وأنه لا يجوز أن يكفر الناس أو يفسقوا أخذًا لهم بلوازم مذاهبهم، فقد لا يلتزمون بهذه اللوازم، بل قد لا يفكرون فيها بالمرة.

تحكيم الأكثرية هل ينافي الإسلام:
من الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين على أن الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام، أنها تقوم على تحكيم الأكثرية، واعتبارها صاحب الحق في تنصيب الحكام، وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور المختلف فيها، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع، فأي رأي ظفر بالأغلبية المطلقة، أو المقيدة في بعض الأحيان، فهو الرأي النافذ، وربما كان خطأ أو باطلاً. هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره لموافقة الأكثرية عليه، بل ينظر إليه في ذاته، أهو صواب أم خطأ؟ فإن كان صوابًا نفذ، وإن لم يكن معه إلا صوت واحد أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأ رفض، وإن كان معه 100 (قال القرضاوي مادحا نزاهة انتخابات الدويلة اليهودية، أن الرب لو ترشح لما حصل على تلك النسبة من الأصوات، والعياذ بالله، وناقل الكفر ليس بكافر).
بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائمًا في صف الباطل، وفي جانب الطاغوت. كما في مثل قوله تعالى: “وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله”. كما دلت على أن أهل الخير والصلاح هم الأقلون عددًا، كما في قوله تعالى: “وقليل من عبادي الشاكرون”، وهذا الكلام مردود على قائله وهو قائم على الغلط أو المغالطة، فالمفروض أننا نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون. ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله.
ثم إن هناك أمورًا لا تدخل مجال التصويت، ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها، لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته، ولم يعد مسلمًا، فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع وأساسيات الدين وما علم منه بالضرورة، وإنما يكون التصويت في الأمور الإجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، مثل اختيار أحد المرشحين لمنصب ما، ولو كان منصب رئيس الدولة، ومثل إصدار قوانين لضبط حركة السير والمرور، أو لتنظيم بناء المحلات التجارية أو الصناعية أو المستشفيات، أو غير ذلك مما يدخل فيما يسميه الفقهاء المصالح المرسلة، ومثل اتخاذ قرار بإعلان الحرب أو عدمها، وبفرض ضرائب معينة أو عدمها، وبإعلان حالة الطوارئ أو لا، وتحديد مدة رئيس الدولة، وجواز تجديد انتخابه أو لا، وإلى أي حد.. إلخ، فإذا اختلفت الآراء في هذه القضايا، فهل تترك معلقة أو تحسم، هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أو لا بد من مرجح؟
إن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لا بد من مرجح. والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد، وفي الحديث: “إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد”.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: “لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما”. معنى ذلك أن صوتين يرجحان صوتًا واحدًا، وإن كان هو صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام ذلك بعيدًا عن مجال التشريع والتبليغ عن الله تعالى. كما رأينا صلى الله عليه وسلم ينزل على رأي الكثرة في غزوة أحد.
وقد ثبت في الحديث التنويه بالسواد الأعظم والأمر باتباعه، والسواد الأعظم يعني جمهور الناس وعامتهم والعدد الأكبر منهم.

الاستبداد السياسي السبب الأول لما أصاب الأمة قديمًا وحديثا:
إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى، وتحول الخلافة الراشدة إلى مُلك عضوض سماه بعض الصحابة كسروية أو قيصرية، أي أن عدوى الاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلى المسلمين من الممالك التي أورثهم الله إياها، وكان عليهم أن يتخذوا منهم عبرة، وأن يجتنبوا من المعاصي والرذائل ما كان سببًا في زوال دولتهم.
وما أصاب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جراء الحكم الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه، وما عُطلت الشريعة، ولا فُرضت العلمانية، وأُلزم الناس بالتغريب إلا بالقهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ولم تضرب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولم ينكل بدعاتها وأبنائها، ويشرد بهم كل مشرد، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي السافر حينا، والمقنع أحيانًا بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة، الذي تأمره القوى المعادية للإسلام جهرًا، أو توجهه من وراء ستار.
الحرية السياسية أول ما نحتاج إليه (كذب، بل نشر التوحيد هو أول ما نحتاج إليه لأنه أحد الطرق إلى ظهور الحاكم الجيد فينا). لم ينتعش الإسلام، ولم تنتشر دعوته، ولم تبرز صحوته، وتعل صيحته، إلا من خلال ما يتاح له من حرية محدودة، يجد فيها الفرصة ليتجاوب مع فطر الناس التي تترقبه، وليُسمِعَ الآذان التي طال شوقها إليه، وليقنعَ العقول التي تهفو إليه. إن المعركة الأولى للدعوة الإسلامية والصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية في عصرنا هي معركة الحرية، فيجب على كل الغيورين على الإسلام أن يقفوا صفًا واحدًا للدعوة إليها، والدفاع عنها، فلا غنى عنها ولا بديل لها (كذب، بل المعركة الأولى التي بدأها الأنبياء وكل من اتبعهم، هي نشر التوحيد ومحاربة الشرك).
وأنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة، والمنضبطة، لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة التي نستطيع فيها أن ندعو إلى الله وإلى الإسلام، كما نؤمن به، دون أن يزج بنا في ظلمات المعتقلات، أو تنصب لنا أعواد المشانق (لو لزم هذا الأبله داره، واحترم حدوده وحدود رعيته الصغيرة، ونشر التوحيد لكان ذلك خيرا له من النعيق والسجون، فهو ليس مسئولا عن غير نفسه ورعيته).


الفرق والجماعات

أولا: التحذير من الإختلاف

لقد بعث الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وعلى حين غفلة من الناس، و بُعث إلى أناس لم يكونوا يعرفون للحق أسماً ولا رسماً ، بل كانت الأهواء والميول تتقاذفهم ذات اليمين وذات الشمال ، وتسير بهم في طرق عديدة واتجاهات مختلفة، ففيما يخص علاقتهم بالله عز وجل فإنهم اتخذوا لأنفسهم آلهة شتى وراحوا يعبدونها من دون الله، يزعمون أنهم يريدون بهذا الفعل أن يجعلوهم وسائط بينهم وبين الله لنيل القربى والشفاعة.
أما فيما يخص العلاقة فيما بينهم، فقد كانت العداوة والبغضاء قد فشت بينهم، والتحزب للقبيلة قد أخذ مأخذاً عظيماً منهم. كل قبيلة تقدم ولائها و تحصر انتمائها، و تخص بنصرتها أفراد تلك القبيلة.
في ظل هذه الأحداث الجسيمة التي ألقت بظلالها على أرجاء الجزيرة العربية، أشرقت شمس النبوة ، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بدين ضمَّنه الله تعالى كل ما من شأنه أن يكفل السعادة للبشرية جمعاء، دين يصلح بأحكامه الربانية لكل زمان ومكان، دين أكمله الله وأتمه وارتضاه لعباده، دين يخرج العباد من عبادة العباد والشجر والحجر والشمس والقمر (والأشخاص، فالبعض يعبد شيوخ التصوف ومعممي الشيعة مثلا) إلى عبادة رب الأرض السموات.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الدولة النبوية الفتية قد قامت على ركيزتين مهمتين عظيمتين، الأولى: توحيد الله تعالى. والثانية: توحيد الأمة.
وهاتان الركيزتان قد جمع الله تعالى بينهما في قوله: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”.
فيجب علينا أن نعلم أن هذه الأمة أمة واحدة، وأن الشارع الحكيم قد أمر عبر نصوص الوحي المتواترة بالوحدة والالتئام ونبذ كل أشكال الفُرقة والانقسام، وسد كل الوسائل والذرائع التي يمكن أن تؤدي إلى التصدع والتفرق، ولهذا حُرِّم ومنع التحزب، ومعناه أن لكل جماعة رأس، سواء قلت أم كثرت، توالي وتعادي على أساس الحزب، وتنتصر لارادته ومقرراته.
عن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول اللّه، وما الوهن؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت”.
قال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي: “لما جاء الإسلام أمر بالوحدة والالتئام، ومنع التفرق والانقسام لأنَّ التفرق والانقسام يؤدي إلى التصدع والانفصام، لذلك فهو يرفض التحزب و الانشطار في قلب الأمة المحمدية الواحدة التي تدين لربها بالوحدانية، ولنبيها بالمتابعة. وقد وصى الله تعالى جميع الأنبياء على الائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. ومن هنا نعلم أنَّ هذين الأصلين اتفقت عليهما جميع الشرائع، و أمر بهما جميع الرسل من لدن أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى أخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذان الأصلان هما: توحيد الله عز وجل، والحرص على وحدة الأمة وعدم التفرق في الدين بإقامة أسباب الائتلاف وترك أسباب الإختلاف، و لهذا ذم الله عز و جل الفُرقة في غير آية من كتابه، كقوله تعالى: “وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ”. وقال تعالى: “إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء”.
لكن جاءت القاصمة، وتفرقت الأمة وتباغضت وتنافرت القلوب، ونسي الناس ما أمرهم الله سبحانه و تعالى من الاعتصام بحبله والاجتماع عليه، فأصابهم ما أصاب الأمم السابقة، وحلَّت العداوة والبغضاء محل الألفة والمودة، قال تعالى : “وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ”.
روى أبو نعيم : “عن جبير بن نفير قال : لما فُتحت قبرص فُرِقَ بين أهلها ، فبكى بعضهم بعضاً، ورأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي ، فقلت : يا أبا الدرداء ! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟ قال : ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره ، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى“.
ومن المعلوم أنَّ أمر الاختلاف و الافتراق أمر أمر كوني قدري أراده الله سبحانه وتعالى قدراً لحكمة علمها الله سبحانه، ولكنه لم يرده شرعاً. والإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله عز وجل، سواء وقع أو لم يقع، أما الكونية فتتعلق بما يقع، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه.
ولمعرفة الفرق بينهما، فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، أما الكونية فيلزم منها وقوع المراد. فقوله تعالى: “والله يريد أن يتوب عليكم”، هذه إرادة شرعية لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس، وأيضاً متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة.
وقوله : “إن كان الله يريد أن يغويكم”، هذه كونية لأن الله لا يريد الإغواء شرعاً، أما كوناً وقدراً فقد يريده، بدليل أنه نهى عنه، وحذَّر منه وتوعد أصحابه بالخسارة والهلاك والنار.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخبر آخر، وهو أن الأمة ستتبع الأمم السابقة، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن، وهو حديث : “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموه”، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟! قـال: فمن؟!”.
وليس وقوع الافتراق ذمًا إلا للمفترقين، وليس هو ذمًا على الإسلام، ولا انتقـاصًا ولا ذمًا لأهل السنة والجماعة وأهل الحق إنما هو ذم للمفترقين. والمفترقون ليسوا أهل السنة والجماعـة بل أهل السنة هم الباقون على الأصل الباقون على الإسلام، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس إلى قيام الساعة.
الثالث: والنصوص الواردة في القرآن والسنة تتضمن التحذير من إتباع السبل وهي الأهواء والفرق، ومن ذلك قوله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تتفرقوا “، وقال تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم“. وقال تعالى: “أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه“، وقوله تعالى: “وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله“.
وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات شرحًا بينًا مفصلا بأن خط خطًا طويلاً مستقيمًا، ثم خط خطوطًا تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه، فبيَّن أن هذا صراط الله، وهذه السبل هي الجواد التي تخرج عن السبيل الأساسية، وأنه سيكون على سبل الهلاك دعاة يدعون إلى سبل الشيطان فمن أطاعهم قذفوه في مهاوي الهلكة (وهو واقع الصوفية والإخوان والدواعش والشيعة والديمقراطيين إلخ، لا أحد منهم يتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم بإحسان).
رابعًا : وكذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع فقال : “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم“، والتنازع قد وقع في طوائف هذه الأمة، وافترقت به الفرق.
خامسًا: كذلك توعد الله سبحانه وتعالى الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين، قال تعالى: “ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا “، وقد حصلت المشاقة لله ولرسوله واتباع غير سبيل المؤمنين من أهل النفاق والشقاق والافتراق.
وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة .
سادسًا : كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب أحكامًا على المفارقة بدليل أنها ستقع، فقد حذر من مفارقة الجماعة في مثل قوله: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة” (متفق عليه).
سابعًا : وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراق في هذه الأمة حين أخبر عن الخوارج وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة، وأنهم يمرقون من الدين، والمروق قد لا يعني الكفر أو الخروج من الملة بالكلية إنما قد يعني الخروج من أصل الإسلام، أو عن حدوده، أو بعض ذلك، والخروج يكون بالكفر أو ما دون الكفر، وقد يعني الخروج من أمة الإسلام وهي جماعته أو من السنة التي عليها أهل السنة وهم أهل الإسلام في الحقيقة.
ثامنًا: والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل المفارق للجماعة كما مر في الحديث السابق، وهذا تشريع في أمر لابد حاصل إذ لا يكون تشريع النبي صلى الله عليه وسلم ترفًا أو افتراضًا.
تاسعًا: كذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مفارقًا للجماعة مات ميتة جاهلية، وأن الفرقة عذاب، وأن الشذوذ هلكة، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة، وأن التحذير منها لم يكن عبثًا، إنما لأنها ستقع ابتلاءً، ولا تقع إلا والناس على بصيرة ، يعرفون الحق وهو الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، والباحثون عن الحق يميزون بين الحق والباطل فمن أهتدى اهتدى على بصيرة، ومن ضل بعد ذلك ضل على علم، نسأل الله العافية من الضلالة.
وبعد: فإن هذه أدلة قاطعة على صحة حدوث الافتراق في الأمة ابتلاءً وفتنة، وأنه من سنن الله التي لا تتبدل، وأن الافتراق كله مذموم وعلى المسلم أن يعرفه ويعرف أهله، فيتجنب مواطن الزلل.
ومراد النبي صلى الله عليه وسلم من أخباره بحديث الافتراق هو تحذير أمته من إتباع سبيل الهالكين من الأمم السابقة، وسلوك مسالك الإختلاف والافتراق الوعرة، بدليل التهديد والوعيد الشديدين لمن يتبع طريقـاً غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه رضوان الله عليهم، قال تعالى: “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً”.
فإذا كان الأمر على هذا النحو من الأهمية والخطورة فما علينا إذن إلا أن نبحث عن الفرقة الناجيـة من بين هذا الكم الهائـل من الفرق الهالكة.
وإذا ما أردنا أن نعرف حكم الإسـلام في التحزب والتفرق بأشكالهما المتنوعة وأنواعهما المختلفة فإنه يجب علينا النظر في أمرين هما:
الأمر الأول: ورود نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم في التحذير من التحزب والتفرق.
الأمر الثاني: من خلال النظر في المساوئ والمفاسد الناتجة عنهما.

أبرز المفاسد والمساوئ للتحزب والتفرق المتمسلم:
أولاً : الفرقة في الإسلام لا تكون إلاَّ على أساس الاختلاف في الكتاب، ونتيجتها تَمَزُّق الأُمـَّة إلى أحزاب، قال الله تعالى: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ”.
ثانياً: قولهم لا عمل للإسلام إلاَّ بحزب، إذاً فإلى أي حزب ينتمي الداعية؟ أم يطلبون من المسلم أن يكون متحزِّباً مفرِّقاً لكلمة المسلمين، وأن تكون له الحرِّية في الانتماء إلى ما شاء من الأحزاب.
ثالثاً : الإذن بالأحزاب في الإسلام فيه فتح باب لا يرد بدخول أحزاب تتسمَّى بالإسلام وهي حرب عليه، فكم تبع أناس القاديانية والبهائية وما إليها، وكم التفَّ حولها من المسلمين ما لا يحصيهم إلاَّ الله، فأخرجهم من نور الإسلام إلى الضلال البعيد.
رابعاً: التعدُّد داعية الفرقة، والفرقة سبب للمنازعة المورِّثة للفشل والضعف والوهن، قال الله تعالى: “وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”. فالحزبية مظنَّة الفرقة، بل مئنّةٌ لها وللبغضاء بين أهل الإسلام، قال الله تعالى: “وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم”.
خامساً: كم كانت الحزبية – وبخاصَّة السياسية منها – سبباً لصرف الأنظار عن الأمراض الحقيقية التي تنخر في جسم الأُمـَّة من داخل، فتفرز فيها القابلية للتخلُّف والهزيمة.
سادساً: ومن أظهر مضارها أن تفتقد السير بالدَّعوة إلى الله تعالى في مراحلها على منهاج النبوة، فهي لا تعنى بـترسيخ الاعتقاد، ولا التفقه في الدين، ولا نشر لسان العرب. فإن قيل: بلى ، قيل أرونا هذا بأدلته المادية، فأين الدعاة الذين صفتهم في هذه الأحزاب رسوخ الاعتقاد في التوحيد خالصاً من البدع والأهواء في القدوة وفي العمل، مبرِّزاً في فقهه متضلِّعاً بلغة العرب ونصاعة بيانها؟ أين هؤلاء؟ وأين آثارهم العلمية؟ وأين معاقل العلم التي صنعوا بها رجالاً؟
سابعاً: وكم كانت الأحزاب المبنية على تصعيد النظرة السياسية الخالية من القاعدة الإسلامية الملتزمة، سبباً في التسلُّط على الإسلاميين وحصدهم، وتقهقر الدعوة وقهر الدعاة وكبت الانطلاقة في الدعوة إلى الله تعالى.
ثامناً: هل يسمح الحزب بتعدُّد الأحزاب في البلدة الواحدة، وتوزع انتماءات أهلها؟ فمن قال نعم، فهو جواب مَن لا يعقل ولا يريد بالأُمـَّة خيراً . وإن قال لا ، فكيف يسمح لنفسه بحزبه دون بقية الأحزاب؟
ليس أمامنا إلاَّ لزوم جماعة المسلمين السائرين على مدارج النبوة، مَن كان على مثل ما عليه النَّبِيُّ وأصحابه.
تاسعاً: بدعيتها، ولو لم يكن من أمر الحزبية التي تنفرد باسم أو رسم عن منهاج النبوة، إلاَّ أنَّها عمل مستحدث لم يُعْهَد في الصَّدر الأوَّل، لكان كافياً في المنع منها، فليسعنا ما وسعهم.
عاشراً: قال الشيخ بكر أبو زيد “إنَّ إنشاء أي حزب في الإسلام يخالفه بأمر كلي أو بجزئيات، لا يجوز، ويترتب عليه عدم جواز الانتماء إليه، ولنعتزل تلك الفرق كلها، وعليه فلا يجوز الانصهار مع راية أخرى تخالف راية التوحيد بأي وجهٍ كان من وسيلة أو غايـة”.
الحادي عشر: قال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري: “إنَّ الإسلام لا يتحمَّل في داخله تنظيماً آخر بحيث تكون أُسُس ذلك التنظيم وقواعده أساساً للولاء والبراء. وذلك لأنَّ الإسلام لمَّا قضى على جميع المواد التي كانت أساس الولاء والبراء في الجاهلية، وجعل الإسلام نفسه مادَّة الولاء والبراء، وجعل جميع المسلمين سواسية في الحقوق، لم يبق عنده مجال لتعدُّد الجماعات والتكتلات المتفرقة، بحيث لا يكون لإحداها حقوق وعلاقات بالأخرى حتى يحتاج إلى عقد التحالف بينها “.
وبما سبق يتبيَّن أنَّ الحزبية المفرِّقة بين الأُمـَّة ضررها أكبر من نفعها.
الثاني عشر: عقد الولاء والبراء على ما لم يعقده الله عليه من الكينونة داخل الحزب أو تأييده وإن لم ينتظم فيه.
مع أنَّ أصل الولاء يُعْطَى للمسلم لمجرَّد كونه مسلماً، ويزاد فيه لحسن إيمانه وتقواه وصحة منهجه، وبحسب علمه بالحق ونصرته له، ويُعَادَى الشَّخْص لإخلاله بمقتضيات الإيمان وتعصُّبه للباطل وأهله.
فالمؤمن أخو المؤمن يواليه وينصره وإن تناءت الديار واختلفت الأجناس. فالإسلام أقام الأُخُوَّة بين المؤمنين على أساسٍ متينٍ، وأحكمها بحيث لا تحتاج إلى عمادٍ من الحزبية. قال الله تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
قال صفي الرحمن المباركفوري: “إذا قلنا بتكوين الأحزاب السياسية في الإسلام فالحزب إمَّا أن يجعل الإسلام أساس الولاء والبراء أو يجعل أمراً آخر غيره، فإنْ جَعَلَ الإسلام هو الأساس فإنَّ الإسلام لا يحتاج إلى إقامة حزب آخر أو تنظيم جماعة أخرى بل هو نفسه يكفي لذلك، وإن جعل أساسهما أمراً آخر غير الإسلام، فإنَّ هذا الأمر في معظم أحواله لا يخلو من أن يكون من أُمور الجاهلية من العنصر والقبيلة واللغة والوطن وغيرها، ومعلوم أنَّ الإسلام قد نهى عن الدَّعوة إليها والانضمام تحت لوائها، روى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: “مَنْ قَاتَل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو لعصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية”. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله: “أبغض الناس إلى الله ثلاثة: مُلْحِد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سُنَّة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمـه”. رواه البخاري. إذن فلندع هذا الأساس المنتن للأحزاب ولا نلوِّث به الإسلام“.
أما حكم الانتماء إلى هذه الفرق والأحزاب، فيعرف ذلك من خلال معرفة مراد النبي صلى الله عليه وسلم من وراء إخباره بحديث افتراق أمته، فكل عاقل لبيب يدرك أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بذلك هو التحذير والوعيد من الاختلاف والافتراق، وكذلك وجوب اعتزال تلك الفرق والأحزاب عند وقوعها، وخاصة عند عدم وجود جماعة للمسلمين تجمعهم وإمام يقودهم، بدليل ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان، قال: “ كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك“. رواه البخاري ومسلم.

ومما يستفاد من حديث حذيفة رضي الله عنه :
قال أبن حجر في فتح الباري: “قال الطبري في شرح حديث حذيفة: وفي هذا الحديث أنـه متى لم يكن للناس إمـام فافترق الناس أحزابا، فلا يتَّبع أحداً في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشيةً من الوقوع في الشر“.
وقال الشيخ الألباني في حديث حذيفة الذي فيه “فاعتزِل تلك الفرق كُلّها” : “في هذا الحديث أنَّ المسلم إذا أدرك مثل هذا الوضع فعليه حينذاك ألاَّ يتحزَّب وألاَّ يتكتَّل مع أي جماعة أو مع أي فرقة مادام أنـه لا توجد الجماعة التي عليها إمام مبايع من المسلمين”.
وقال الشيخ سليم الهلالي : “تنوعت كلمات العلماء في شرح هذا الأمر النبوي بإعتزال كل تلك الفرق، والذي شرح الله صدري إليه أن هذا الأمر النبوي فيه وجوب إلتزام الحق ومناصرة أهله والتعاون على أساسه، ودونك البيان: أولا هذا أمر بلزوم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية “من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ”. ففي حيث حذيفة أمره أن يعض على أصل شجرة عند الاختلاف معتزلاً فرق الضلالة، وفي حديث العرباض أمره أن يعض على السنة النبوية بفهم الصحابة بالنواجذ عند الاختلاف وأن يبتعد عن المحدثات فإنها ضلالة. فإذا جمعنا بين الحديثين ظهر معنى رائق وهو إلتزام السنة النبوية بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم عند ظهور فرق الضلالة وغياب جماعة المسلمين وإمامها. والأمر بأن يعض على أصل شجرة في حديث حذيفة ليس ظاهره المراد وإنما معناه الثبات على الحق واعتزال فرق الضلالة التي جانبت الحق. أو معناه أن دوحة الإسلام الوارفة ستعصف بها الرياح الهوج فتحطم أغصانها فلا يبقى إلا أصلها الثابت الذي يقف متحدياً الأعاصير، عندئذ يجب على المسلمين أن يحتضنوا هذا الأصل، ويفدوه بالنفس والنفيس لأنه سينمو مرة أخرى رغم شدة رياح السموم“.
ورغم كل التحذيرات النبوية الواضحة يأبى الناس إلا الانحراف والميل عن صراط الله المستقيم وركوب كل صعب وذلول وامتطاء حصان الفتنة بعد أن ركبوا رؤوسهم وأصموا آذانهم حتى لا يسمعوا نصيحة ناصح أو موعظة واعظ.
ولم يبق لهؤلاء الذين أصابتهم بذرة الطائفية والحزبيـة المقيتة ووقعوا فيما وقعت فيه الأمم السابقة وانحرفوا عن سواء السبيل إلا أن يُدعوا إلى الله تبارك وتعالى وسلوك سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، أو هي درة عمر تهوي على رؤوسهم الخاوية (وهو دور الحاكم الموحد القوي) أو هو سيف أبي بكر ، وعلى الباغي تدور الدوائر “وما ربك بظلَّام للعبيد”.

المسلمون بين مرحلتين:
لقد مرت الأمة الإسلامية بمرحلتين مهمتين خطرتين بالنسبة لمسألة ظهور الفرق والأحزاب والطوائف والجماعات والتكتلات، وما نتج عن هاتين المرحلتين من إفرازات خطيرة ونتائج وخيمة كان لهما الأثر البالغ في إضعاف الأمة وتمزقيها وذهاب ريحها، حتى طمع فيها أعداء الإسلام الذين ما برحوا يتحينون الفرص الملائمة للانقضاض عليها وتدميرها وسلب خيراتها ومقداراتها.
وهذه الفرق والأحزاب والتكتلات سواء كانت سياسية لبست لبوس الإسلام أو عقدية أحدثت في دين الله ما لم ينزل سلطاناً أو عسكرية سارت في درب المواجهة والعنف أو أحزاباً ذات أفكار ومفاهيم ومعتقدات وافدة من مزابل الشرق والغرب لم يعهدها المسلمون في سابق عهدهم، فإننا يمكن أن نقسمها ونصنفها على حسب ظهورها وتكوينها وعلى حسب ما نتج عنها من إفرازات وثمرات إلى قسمين، وأنها مرت بمرحلتين هما:

المرحلة الأولى : فرق وأحزاب قديمة الظهور
وهي قديمة في ظهورها وتكوينها، حيث يمكن القول فيها أنها تمتد منذ أواخر القرن الأول الهجري إلى وقت قريب من سقوط الدولة العثمانية حيث بدأت معطيات المرحلة الثانية تلوح بالأفق.
ولو أننا تأملنا في حال فرق وأحزاب هذه المرحلة لرأينا أنها قد أفرزت عدة إفرازات وأثمرت عدة ثمرات لم يأمر بها الكتاب ولم تأتِ بها السنة، يشعر بخبثها ومرارتها كل مسلم رزقه الله تعالى العلم والفقه في الدين، منها:
– الغلو في تكفير المسلمين واستحلال دماءهم.
– تكفير أمراء وحكام المسلمين وإعلان الخروج عليهم.
– التكلم في ذات الله تعالى وما يجب له من الأسماء والصفات وما لا يجب له بين مثبت ممثل، ونافٍ معطل، كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة.
– التنازع في القدر بين من غلا في إثباته وبين من غلا في نفيه كالقدرية والجبرية.
– التكلم في أصحاب النبي إنكاراً لحقهم وفضلهم وسابقتهم في الإسلام حتى غلا البعض في تكفيرهم ومقاتلتهم وقتلهم كالخوارج والرافضة.

المرحلة الثانية: فرق وأحزاب معاصرة
الفرق والأحزاب والتكتلات المعاصرة بأفكارها ومعتقداتها الوافدة، وما نتج عنها من إفرازات ونتائج جديدة على المسلمين وعقيدتهم ، تمثل إنقلاباً حقيقياً وخطيراً في مجتمعاتهم. وتنقسم من حيث التوجهات والمقاصد والمسميات إلى قسمين:
القسم الأول: أحزاب وجماعات إسلامية، وأبرز من يمثل هذا التيار على سبيل المثال لا الحصر، جماعة الأخوان المسلمين.
القسم الثاني: أحزاب وتكتلات علمانية، وهي ما يهمنا في هذا البحث، وهي أحزاب وتكتلات ذات أفكار ومعتقدات باطلة تختلف وتتباين في توجهاتها ومشاربها، حيث يقود الكثير منها إلى الإلحاد والكفر بالله العظيم، برزت قبل وبعد سقوط الدولة العثمانية، وساعد في ظهورها وانتشارها عدة عوامل أهمها:
– حملات الاستعمار التي كانت تقودها دول الكفر على الأمة الإسلامية بعد أن ضعفت وذهب ريحها حتى صارت أمة لا يحسب لها حساب في ميزان الأمم.
– حملات التنصير، والتنصير عبارة عن حركة دينية سياسية استعمارية بدأت بالظهور إثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية بين الأمم المختلفة في دول العالم الثالث بعامة، وبين المسلمين بخاصة، بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب. ويساعدهم في ذلك ثلاثة عوامل هي انتشار الفقر والجهل والمرض في معظم بلدان العالم الإسلامي. النفوذ الغربي في كثير من بلدان المسلمين. ضعف بعض حكام المسلمين الذين يسكتون عنهم أو ييسرون لهم السبل رغباً ورهباً أو نفاقاً لهم.

مقارنة بين المرحلتين وما نتج عنهما من إفرازات ونتائج :
– لو نظرنا إلى مسيرة هاتين المرحلتين (مرحلة الأحزاب القديمة ومرحلة الأحزاب المعاصرة)، وما نتج عنهما من إفرازات ونتائج، فإننا سنرى بجلاء ووضوح أن كلاً منهما تمثل خطراً على الإسلام وأهله، وكل واحدة منهما أساءت للإسلام بقدر ما أفرزت من إفرازات خطيرة وثمار مرة ونتنة.
– وسنرى أيضا أن أصحاب المرحلة الأولى لم يقصدوا معارضة الكتاب والسنة، وأن اجتهادهم قد قادهم إلى ما ذهبوا إليه حيث انهم أرادوا إصابة الحق فأخطأوه، وخطأهم هذا ناتج عن سوء فهمهم للنصوص الشرعية، حيث اعتقدوا أنها توجب وتصحح ما ذهبوا إليه، وهذا قد أدركه أهل العلم وأثبتوه لهم. قال شيخ الإسلام أبن تيمية: “وكانت البدع الأولى مثل ‏‏بدعة الخوارج‏‏ إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب إذ كان المؤمن هو البر التقي ، قالوا‏‏ فمن لم يكن برًا تقيًا فهو كافر، وهو مخلد في النار” .
كما أن الغلو والتطرف جعلهم يأخذون بجانب من النصوص دون النظر والالتفات إلى الجانب الآخر ، حيث أن البعض منهم أخذ بجانب الوعد والرجاء، وسارت أفعاله وأقواله في هذا الإتجاه، والبعض الآخر أخذ بجانب الخوف والوعيد وسار فيه لا يخرج عنه أبداً، فنتج عن هذا التباين والاختلاف في النظرة إلى النصوص الشرعية مقالات ونتائج عكسية أثَّرت في مسيرة الأمة الإسلامية. ولو تأملنا فيما سبق ذكره فسنرى أنه دائر في دائرة الإسلام، ولهذا نرى أهل العلم لم يكفروا هذه المقالات ولا أصحابها إلا وفق شروط وضوابط شرعية معتبرة.
أما إذا نظرنا إلى إفرازات المرحلة الثانية فإننا سنرى أن أصحابها قد عارضوا الكتاب والسنة، وجاءوا بمفاهيم ومعتقدات استوردوها معهم من محاضن الشرق والغرب تصادم وتضاد الشريعة الإسلامية من كل الوجوه والجوانب، فإذا كان الأولون أرادوا الحق فأخطأوه، فهؤلاء أرادوا الباطل فأصابوه، ومن ثَم جمَّلوه وزينوه وجاءوا به إلى أرض المسلمين.
– إن الأولين لم يقصدوا غالباً معارضة الإسلام لذات الإسلام ولا لذات المعارضة وأنهم لم يعمدوا إلى تنحية الشريعة الإسلامية عن مسرح الوجود بل نرى البعض منهم كالخوارج مثلاً قاتلوا حتى يكون الحكم لله وحده – كما يزعمون – لأنهم يرون أن الصحابة قد أخفوه ولم يعملوا به.
أما المتأخرون فإنهم عارضوا الإسلام وعمدوا إلى تنحية الشريعة الإسلامية بحجة عدم صلاحيتها لهذا الزمان، ومن ثّم رفعوا عقيرتهم بالصياح والعويل وملأوا الدنيا ضجيجاً لأجل إحلال مفاهيمهم ومعتقداتهم بدلاً عنها لأنها -كما يزعمون – الأصلح والأنفع والأكمل.
– إن الأولين نصروا أحكام الشريعة ودعوا إلى الفضيلة وحسن الخلق وباقي الأخلاق الحميدة التي جاء بها الإسلام، حتى كفَّرت الخوارج من يخرج عن هذه الأحكام الشرعية مثلما كفَّرت شارب الخمر ومرتكب الزنا، مع تثبيتنا لأخطاء كثيرة وقعوا بها من خلال إتباعهم وسائل وأساليب في النصر والإنكار لم يأمر بها الكتاب ولم تأتي بها السنة.
أما المتأخرون فإنهم هدموا أحكام الإسلام وحاربوا الفضيلة والأخلاق الحميدة عبر دعوتهم إلى تحرير المرأة من القيود التي قيدها بها الإسلام -كما يزعمون – عبر مناداتهم المرأة بنزع الحجاب والسفور ومخالطة الرجال سواء كان في الدراسة أو العمل ، كما أشاعوا شرب الخمر وإرتكاب الزنا بأسم الحرية الشخصية التي ضمنتها لهم الديمقراطية والدساتير الكافرة.
– ومن أوجه التشابه بين هذه الأحزاب أنهم لجأوا إلى نظام البيعة للحزب أو زعيمه حتى يقيدوا أتباعهم بقيود الحزبية والطائفية ليضمنوا بالتالي ولائهم وبقائهم معهم. قال الشيخ عثمان بن معلم: “أخذ البيعة – وهي العهد بالطاعة – للحزب أو لزعيمه بقصد الربط بين أفراد مجموعة الحزب وإحكام تنظيمهم ليُنطلَق بهم إلى تنفيذ أهداف الحزب، فالمسلمون لا يخلو حالهم من أمرين: أن يكون لهم إمام ثبتت ولايته بإحدى الطُّرق المعتبرة عند أهل السُنَّة، فلا يجوز إحداث بيعة أخرى، قال رسول الله: “مَن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر”. وقال: “إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما”.
ومنها أن يكونوا متفرقين متحزِّبين فلا يُتَّبع أحد هذه الأحزاب في الفرقة، ولا يُبابع أحد المتنافسين من أهل الشوكة، وهي الحال التي سأل عنها حذيفة حين قال: “فإن لَمْ يكن لهم جماعة ولا إمام؟”، فأجابه النبيُّ بقوله: فاعتزل تلك الفرق كلها”.
ومَن لا شوكة لهم، ولا يحصل بهم مقصود الإمارة من إنصاف المظلومين وتأمين السُّبُل وإقامـة الحدود وإيصال الحقوق والولايات إلى أهلها، فهم أبعد من أن يُبَايَعُوا. قال شيخ الإسلام أبن تيمية: “إنَّ النبي أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون بـه على سياسة الناس لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا مَن ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً. كما أمر النَّبيُّ بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقاً بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته”.
فما هُوَ المقصود بالبيعة وكيف تكون ولمن تكون؟
قال الشيخ محمد بن رمزان آل طامي: “البيعة اصطلاحًا هِيَ العهد عَلَى الطاعة كأن المبايع يُعاهد أميره عَلَى أن يُسلم النظر فِي أمر نفسه وأمور المسلمين لا يُنازعه فِي شيء من ذَلِكَ، ويُطيعه فيما يُكلفه به من الأمر عَلَى المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير، وعقدوا عهده، جعلوا أيديهم فِي يده تأكيدًا للعهد، فأشبه فعل البائع والمشتري فسمي بيعة، مصدر باع، وصارت البيعة مُصافحة بالأيدي، وهذا مدلولَها فِي عُرف اللغة ومعهود الشرع. ولا يكون ذَلِكَ شرعًا وعُرْفًا إلا للحاكم المسلم الممكن الَّذِي يَمتلك من الصلاحية والمسئولية ما يَجعله قادرًا عَلَى إقامة الدين وإنفاذ الأحكام، وتنفيذ العقوبات الشرعية وإعلان الحرب والجنوح إلى السلم، وما إلى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُختص بالحاكم المسلم فِي أي بلد من البلدان الإسلامية. فالبيعة إذن تعني إعطاء العهد من المبايع عَلَى السمع والطاعة للأمير فِي المنشط والمكره والعسر واليسر وعدم مُنازعته الأمر وتفويض الأمور إليه”.
وَقَالَ الشوكاني: “طريقها – أي البيعة – أن يَجتمع جَماعة من أهل الحل والعقد، فيعقدون له البيعة. وأن المعتبر هُوَ وقوع البيعة له – يعني الإمام – من أهل الحل والعقد، فإنَّها هِيَ الأمر الَّذِي يَجب بعده الطاعة، ويثبت به الولاية وتَحرم معه المخالفة، وقد قامت عَلَى ذَلِكَ الأدلة وثبتت به الحجة. وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يُبايعه كل من يصلح للمبايعة ولا من شرط الطاعة عَلَى الرجل أن يكون من جُملة المبايعين”.

ثانيا: الفرق القديمة

– الخوارج

من الفرق والأحزاب القديمة. هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب، وخرجوا على الأمة الإسلامية، لذلك سموا بالخوارج لخروجهم على إمام المسلمين والأمة الإسلامية. وهم من أوائل الفرق خروجًا، ويقال لهم الحرورية نسبة إلى حروراء – موضع بالعراق قرب الكوفة – وهم يوصفون بأنهم من أشد الناس تدينًا كما قال عليه الصلاة والسلام : “يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم إلى يوم القيامة“.
وهم يستحلون قتل المسلمين، ويجعلون ديارهم ديار حرب، ويكفرون أهل التحكيم كعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، ومن شارك في القتال ورضي بالتحكيم. وينكرون الأخذ بالسنة فلا يأخذون بها جملة وتفصيلاً، ويكفرون مرتكب الكبيرة، ويعتقدون أنه إن مات مصرًا عليها فهو خالد في النار أبدًا كخلود الكفار، وينكرون الشفاعة في الآخرة، ويقولون في كثير من الصفات كقول الجهمية، فينكرون الرؤية، ويقولون إن القرآن مخلوق ويحرفون سائر الصفات، وقد تفرقوا أحزابًا وتمزقوا شيعًا وصاروا طوائف كثيرة، ومن أخبث فرقهم في هذا الزمان الإباضية، فإنهم هم الخوارج، والله أعلم.

– الجهمية

من الفرق والأحزاب القديمة. وهم أتباع الجهم بن صفوان الترمذي الذي أخذ مقالة التعطيل عن الجعد بن درهم، وهو الذي أذاعها ونشرها فنسبت الفرقة إليه، وقُتل الجهم في خراسان سنة 128هـ. وهم من أخبث الطوائف وأضلها وأبعدها عن الحق. ومذهبهم في الصفات والأسماء إنكارها وتعطيلها، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة بل هم رؤوس المعطلة. ومذهبهم في أفعال العباد الجبر أي أن العبد مجبور على فعله، فيسلبون العبد مطلق القدرة والاختيار، فهم في باب القدر جبرية، ومذهبهم في الوعد الوعيد الإرجاء أي أنه لا يضر مع الإيمان فعل الكبائر ما خلا الشرك، فهم في باب أسماء الأحكام والدين يقال لهم المرجئة،
ولذلك فإن كثيرًا من أهل السنة المتأخرين يخرجونهم من جملة طوائف الأمة؛ لأنهم كفار الكفر الأكبر، وقد ذكر بعض أهل السنة الإجماع على ذلك ويعني به إجماع المتأخرين، والله أعلم.

– المعتزلة

من الفرق والأحزاب القديمة. هم أتباع واصل بن عطاء، وهي فرقة ظهرت في أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجًا عقليًا متطرفًا في بحث العقائد الإسلامية. وسموا بالمعتزلة لأن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل حلقة الحسن البصري لما خالفه في حكم مرتكب الكبيرة، فاعتزله وجلس عند سارية يقرر هذا المذهب فاجتمع معه بعض الأتباع كعمرو بن عبيد وغيره فسمي واصل ومن جلس إليه بالمعتزلة لاعتزالهم حلقة أهل السنة وأهل الحديث.
ومذهبهم مبني على خمسة أصول، وهي التي يسميها أصحابها الأصول الخمسة، الأول التوحيد، ويقصدون به نفي صفات الله تعالى. والثاني عندهم العدل، ويقصدون به إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة لله تعالى لأنهم يعتقدون أن العبد هو الذي يخلق فعـله وأنه لا تعلق أبدًا لأفعال العباد بمشيئة الله تعالى.. إلخ.

– المرجئة

من الفرق والأحزاب القديمة. المرجئة اسم فاعل من الإرجاء، ويأتي الإرجاء في اللغة بمعنيين أحدهما بمعنى التأخير والثاني إعطاء الرجاء حيث تقول: أرجيت فلاناً أي أنك أعطيته الرجاء. ويمكن أن تكون تسمية هذه الفرقة مأخوذة من المعنى الأول لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن الإيمان وعقد القلب. ويمكن أن تكون مأخوذة من المعنى الثاني لأنهم كانوا يقولون “لا تضر مع الإيمان معصية”، وكانوا يعطون المؤمن العاصي الرجاء، وكذلك يحكمون بأنَّ صاحب الكبيرة مؤمن لا يعذب لأنَّ العذاب للكفار.
أما المرجئة في الاصطلاح فقد عرفهم الإمام أحمد بن حنبل، فقال: “هم الذين يزعمون أنَّ الإيمان مجرد النطق باللسان، وأنَّ الناس لا يتفاضلون في الإيمان، وأنَّ إيمانهم وإيمان الملائكـة والأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – واحد، وأنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأنَّ الإيمان ليس فيه استثناء، وأنَّ من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقاً”.

– القدرية

من الفرق والأحزاب القديمة. هم أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وأتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد من المعتزلة ومن وافقهم هؤلاء هم القدرية. وقولهم بالقدر أي أنَّ العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته في ذلك أثر. ويقولون إنَّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله وإنما العباد هم الخالقون لها. ويقولون إنَّ الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله، وغلاتهم ينكرون أنَّ يكون الله قد علمها، فيجحدون مشيئته الشاملة وقدرته النافذة، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا إنَّ للكون إلهين إله النور وهو خالق الخير وإله الظلمة وهو خالق الشر .
إذن القدرية هم الذين أنكروا علم الله بالأفعال قبل وقوعها، وأنه لم يقدرها وقالوا “لا قدر وأنَّ الأمر أنف” أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه.
ومن هذا نعلم أنَّ بدعة القدر مركبة من أمرين، الأول إنكار علم الله تعالى السابق للحوادث. والثاني أنَّ العبد هو الذي أوجد فعله وأنَّ الله لم يقدره.
وهذا باطل من القول بل أثبت الله تعالى أنَّ للعبد مشيئة وقدرة على الفعل، وأنَّ هذا الفعل مخلوق لله وأنه لا يقع إلا بأذنه، قال تعالى: “وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً “. وقال تعالى: “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ”.
وأول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة أسمه سوسن، فأخذ عنه معبد الجهني.

– الرافضة

من الفرق والأحزاب القديمة. هم الذين يغلون في آل البيت ويرفعونهم عن مرتبة البشرية إلى مرتبة الإلهية، ويضيفون عليهم من الصفات والأفعال ما لا يليق إلا برب الأرض والسماء. ويفضلون علي بن أبي طالب على سائر الصحابة، وبعضهم يعتقد أنه هو الرسول ولكن الملك أخطأ في الرسالة. وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قالوا له: ما قولك في أبي بكرٍ وعمر؟ فقال: هما وزيرا جدي – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – فانصرفوا عنه ورفضوه. ويقال لهم الشيعة وذلك لتشيعهم لآل البيت وغلوهم فيهم. وأشهر طوائفهم الاثني عشرية. وهم الذين يعتقدون أن الإمامة في الاثني عشر الذين أخرهم محمد بن الحسن العسكري صاحب السرداب أعني سرداب سامراء بالعراق.

– الأشاعرة

من الفرق والأحزاب القديمة. هم أتباع أبي الحسن الأشعري، وهذه الفرقة تنسب إليه، وقد تاب وعاد إلى مذهب أهل السنة وألف في ذلك بعض الكتب ولكن لم يسلم من بعض الألفاظ الكلامية حتى بعد توبته (ويقول آخرون أنه لم يكن يوما معتزليا كما يشاع عنه).
والأشاعرة في باب الأسماء والصفات معطلة، فهم يثبتون الأسماء ولكن لا يثبتون من الصفات إلا الصفات السبع فقط، وهي الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة، فقط، مع اختلاف مع أهل السنة في طريق إثباتها، ويسمونها بالصفات العقلية.
وهم في باب القدر مرجئة، لأنهم يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، بل ويخرجون القول أيضًا، ويزعمون أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي فقط، وأما القول والعمل فهما فضلة زائدة لا تأثير لوجودهما ولا لعدمهما في زيادة الإيمان ونقصه، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وهم في باب القدر جبرية لاعتقادهم أن العبد لا قدرة له ولا اختيار، والله أعلم.

– الإخوان

من الفرق والأحزاب المعاصرة. جماعة الأخوان المسلمين، جماعة معاصرة أسسها حسن البنا الذي توفي 1949م، وهي جماعة لا تدعو إلى توحيد الإلهية والتحذير من الشرك الأكبر والبدع، بل هي متلبسة ببدع مختلفة، وذلك يتضح بما يلي:
– معرفة حال المؤسس الأول لهذه الجماعة وهو حسن البنا، فقد كان صوفيا. قال سعيد حوى، وهو أحد كبار منظري الإخوان: “ثم إن حركة الإخوان المسلمين نفسها أنشأها صوفي، وأخذت حقيقة التصوف دون سلبياته!”. وقد بايع على الطريقة الحصفية، ويرى شد الرحال إلى القبور.
وهو موالي لليهود والنصارى بزعم أن الدين الإسلامي الحنيف لا يعاديهم ديناً وأنهم إخوان لنا. وأن عداوتنا مع اليهود عداوة أرض فحسب (وهذا أحد مبررات ديمقراطيتهم الحالية، فهم أكثر ديمقراطية وتساهلا من العلمانيين أنفسهم). وهو من دعاة القومية العربية .
وهو من دعاة التقريب مع الشيعة (لهذا جلب مرسي رئيس إيران لمصر لأول مرة). قال عمر التلمساني – المرشد العام للإخوان المسلمين: “التقريب بين الشيعة والسنة واجب الفقهاء الآن”، وقال: “ولم تفتر علاقة الإخوان بزعماء الشيعة، فاتصلوا بآية الله الكاشاني، واستضافوا في مصر نواب صفوي، كل هذا فعلـه الإخوان لا ليحملوا الشيعة على ترك مذهبهـم (انظر!!) ، ولكن لغرض نبيل يدعو إليه إسلامهم وهو محاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية إلى أقرب حد ممكن” (يعتقدون أنهم أذكى وأكثر تدينا من الصحابة والتابعين والسلف الصالح لأنه خوارج، والخوارج هم وحدهم من يعتقدون ذلك).
و كان يحضر الموالد ، وينشد هذا البيت في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا … وسامح الكل فيما قد مضى وجرى
نقله عنه أخوه عبد الرحمن البنا. وهذا البيت متضمن للشرك الأكبر، لأنه لا أحد يسامح فيما مضى وجرى إلا الله سبحانه (إضافة إلى كذبة حضور النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجالس الصوفية البدعية).
وقد نشأت هذه الجماعة في أرض يكثر فيها الشرك الأكبر، فلا تراهم يحاربونه وينكرونه، وكان المفترض لو كانوا سائرين على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يؤلفوا المؤلفات الكثيرة في إنكار الشرك بدل المؤلفات الفكرية المليئة بالأخطاء العقدية (والمؤلفات السياسية الديمقراطية)، لكن أنى لهم هذا وهم فاقدوه وفاقد الشيء لا يعطيه.
والشيء يعرف بآثاره، والأثر الذي خلفته هذه لجماعة هو امتلاء السجون بالشباب، وكثرة الاعتقالات بسبب فكر الثورة الذي ربتهم عليه.
وقد بنيت هذه الجماعة على أسس منها القاعدة – السياسية الدبلوماسية الإنتخابية – التي يرددها حسن البنا : “نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”. وهي قاعدة فاسدة، معناها تمييع الخلاف مع المبتدعة من الصوفية والرافضة والمعتزلة والعلمانيين وغيرهم؛ لذا أنكرها علماؤنا الإجلاء.
يقولون للرافضة مدغدغين مشاعرهم: “ليس بيننا وبينكم اختلاف، بيننا وبينكم أمور بسيطة يمكن حلها كالمتعة”، فأين سبُّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل أين تكفيرهم إلا ثلاثة أو عشرة أو سبعة؟ أين قولهم إن القرآن محرف؟ فهم يتعاملون معه حتى يظهر المهدي المنتظر! وأين قولهم على عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين زوج سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بالبهتان؟ هذه كلها من مقولات الرافضة، تغافل عنها حسن البنا وأتباعه ولم يَرَها شيئا لأنه يجمع ويُقَمِّش ويُلَفِّق (وهذا يدلك على أن عائشة رضي الله عنها ليست أمهم أيضا، فهم مثل الشيعة في ذلك).
ثانيا: قال مقولة هي كفرية في الحقيقة وهي قوله: “ليس بيننا وبين اليهود خصومة دينيّة، وإنما بيننا وبينهم خصومة اقتصادية، واللهُ أمرنا بمودتهم ومصافحتهم”، واستدل على قوله بالآية: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن”.
وكل من كان على منهج البنا والإخوان في الدعوة فهو على القاعدة السابقة؛ فانطلقت منها الدعوة إلى وحدة الأديان، والحوار بين الأديان؛ فلا تجد إخوانيا جَلْدا إلاَّ وهو على التقريب؛ وأجلد من عرفنا في هذه الدعوة حسن الترابي السوداني ويوسف القرضاوي المصري الذي يُسمي هذه القاعدة بالقاعدة الذهبية، ويعلِّلُ بالدعوة إلى وحدة الأديان بأنَّ الحياة تتسع لأكثر من حضارة وتتَّسع لأكثر من دين، بل الدين الواحد يتسع لأكثر من اتجاه، يعني دين مطّاط يتسع لعدة مشاريع ينشئها القرضاوي ومَن على شاكلته.
وهذا ليس دين الإسلام الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، والذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. فالإسلام عند هؤلاء مجرد دعوة تجميعية تلفيقية تضم من تضم، فالرافضة والصوفية أصحاب وحدة الوجود والباطنية والحلولية والقبورية، هم مسلمون حقـًّا بناء على هذه القاعدة لأنهم مجتمعون مع سائر أهل الإسلام وأهل السنة على قول لا إله إلا الله، ومختلفون فيما عدا ذلك؛ إذًا كلٌّ اجتهد فوصل إلى ما أدَّى به اجتهادُه“.
وقد انخدعت الأحزاب والجماعات الإسلامية ببعض إفرازات الأحزاب العلمانية كالديمقراطية مثلاً، بل الأدهى والأمر من ذلك راحت تفتش عن بعض النصوص والمخارج لها في سبيل ترويجها بين الناس مثل قولهم ان الديمقراطية والانتخابات يشبهان نظام الشورى الذي جاء به الإسلام!

ثالثا: العلمانيون

أبرز الإفرازات والنتائج التي ظهرت من الأحزاب العلمانية هي:
الديمقراطية – العلمانية – الرأسمالية – الاشتراكية – القومية العربية – حركات التغريب – حركات تحرير المرأة.

– الرأسمالية

من الفرق والأحزاب العلمانية. والرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية، يقوم على أساس إشباع حاجات الإنسان الضرورية والكمالية، وتنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها، متوسعاً في مفهوم الحرية، معتمداً على سياسة فصل الدين نهائياً عن الحياة.
وقد ذاق العلم بسببه ويلات كثيرة نتيجة إصراره على كون المنفعة واللذة هما أقصى ما يمكن تحقيقه من السعادة للإنسان. وما تزال الرأسمالية تمارس ضغوطها وتدخلها السياسي والاجتماعي والثقافي، وترمي بثقلها على مختلف شعوب الأرض.
وهي نظام وضعي يقف على قدم المساواة مع الشيوعية وغيرها من النظم التي وضعها البشر بعيداً عن منهج الله الذي ارتضاه لعباده ولخلقه من بني الإنسان.
ومن عيوبها:
الأنانية، حيث يتحكم فرد أو أفراد قلائل بالأسواق تحقيقاً لمصالحهم الذاتية دون تقدير لحاجة المجتمع أو احترام للمصلحة العامة.
ومنها الاحتكار، إذ يقوم الشخص الرأسمالي باحتكار البضائع وتخزينها حتى إذا ما فقدت من الأسواق نزل بها ليبيعها بسعر مضاعف يبتز به المستهلكين الضعفاء.
ومنها التطرف في تضخيم شأن الملكية الفردية مثل تطرف الشيوعية في إلغاء هذه الملكية.
ومنها المزاحمة والمنافسة، إن بنية الرأسمالية تجعل الحياة ميدان سباق مسعور إذ يتنافس الجميع في سبيل إحراز الغلبة، وتتحول الحياة عندها إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى إفلاس المصانع والشركات بين عشية وضحاها.
ومنها إبتزاز الأيدي العاملة، ذلك أن الرأسمالية تجعل الأيدي العاملة سلعة خاضعة لمفهومي العرض والطلب مما يجعل العامل معرضاً في كل لحظة لأن يُستبدَل به غيره ممن يأخذ أجراً أقل، أو يؤدي عملاً أكثر أو خدمة أفضل (العبودية المطبقة على العمال الذين يزدادون فقرا وكآبة، في حين يزداد الرأسماليون غنى وتبطرا).
ومنها البطالة، وهي ظاهرة مألوفة في المجتمع الرأسمالي، وتكون شديدة البروز إذا كان الإنتاج أكثر من الاستهلاك مما يدفع بصاحب العمل إلى الاستغناء عن الزيادة في هذه الأيدي التي تثقل كاهله.
ومنها الحياة المحمومة، وذلك نتيجة للصراع القائم بين طبقتين إحداهما مبتزة يهمها جمع المال من كل السبل وأخرى محروقة تبحث عن المقومات الأساسية لحياتها، دون أن يشملها شيء من التراحم والتعاطف المتبادل.
ومنها الاستعمار، ذلك أن الرأسمالية بدافع البحث عن المواد الأولية، وعن أسواق جديدة لتسويق المنتجات تدخل في غمار استعمار الشعوب والأمم استعماراً اقتصاديّاً أولاً، وفكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا ثانياً، وذلك فضلاً عن استرقاق الشعوب وتسخير الأيدي العاملة فيها لمصلحتها. وقد شهدت البشرية ألواناً عجيبة من القتل والتدمير، وذلك نتيجة طبيعية للاستعمار الذي أنزل بأمم الأرض أفظع الأهوال وأشرسها.
ومنها أن النظام الرأسمالي يقوم على أساس ربوي، ومعروف أن الربا هو جوهر العلل التي يعاني منها العالم أجمع.

– حزب البعث العربي الاشتراكي

من الفرق والأحزاب العلمانية. وهو حزب قومي علماني، يدعو إلى الانقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي، شعاره المعلن “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” وهي رسالة الحزب، أما أهدافه فتتمثل في الوحدة والحرية والاشتراكية. فهو حزب قومي علماني انقلابي له طروحات فكرية متعددة يتعذر الجمع بينها أحياناً فضلاً عن الإقناع بها، لقد كُتِبَ عنه كثيراً وتحدث زعماؤه طويلاً، ولكن هناك بون واسع بين ممارسات وأقوال فترة ما قبل السلطة، وممارسات وأقوال فترة ما بعدها. والرابطة القومية عنده هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكبح جماح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية حتى قال شاعرهم:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له … وبالعروبة ديناً ما لــه ثان
تم تأسيس الحزب في نيسان 1947م، تحت اسم “حزب البعث العربي”، وقد كان من المؤسسين: ميشيل عفلق وصلاح البيطار وجلال السيد وزكي الأرسوزين كما قرروا إصدار مجلة باسم البعث.
وادعت سياسة الحزب أن تحقيق الاشتراكية شرط أساسي لبقاء الأمة العربية وتقدمها مع أن النتيجة الحتمية للسياسة الاشتراكية التي طبقت في العراق لم تجلب الرخاء للشعب ولم ترفع مستوى الفقراء ولكنها ساوت الجميع في الفقر، وبعد أن كان العراق قمة في الثراء ووفرة الموارد والثروات أصبح بطيش حزب البعث عاجزاً عن توفير القوت الأساسي لشعبه.
ومن ثم قام الحزب بتجريد الدستور العراقي من كل القوانين التي تمت إلى الإسلام بصلة، وأصبحت العلمانية هي دستور العراق، ومعتقدات البعث ومبادئه هي مصدر التشريع لقوانينه.
وقالوا في السلفية: “فالقدوة هم أصحاب العصور الثلاثة، والمنهج هو الطريقة المتبعة في هذه العصور في الفهم العقدي والاستدلال والتقرير والعلم والإيمان. وأما الوصف بها دون تحقيق ما دلت عليه فليس فيه مدح وثناء لأن العبرة بالمعاني لا بالمصطلحات اللفظية“ ـ وذموا السلفية وانتقصوا منها ووصفوها بالتخلف بقولهم: “ومتخلفة في النظرة والممارسة”! فماذا بعد الحق إلا الضلال.
ويعتمد الحزب على الفكر القومي الذي ظهر وبرز بعد سقوط الدولة العثمانية في العالم العربي، والذي نادت به أوروبا، والذي نادى به منظَّر القومية العربية في العالم العربي آنذاك ساطع الحصري.
ويعتمد الحزب على الفكر العلماني إذ ينحي مسألة العقيدة الدينية جانباً ولا يقيم لها أي وزن سواء على صعيد الفكر الحزبي أو على صعيد الانتساب إلى الحزب أو على صعيد التطبيق العملي.
ويستلهم الحزب تصوراته من الفكر الاشتراكي، ويترسم طريق الماركسية رغم انهيارها، والخلاف الوحيد بينهما أن اتجاهات الماركسية أممية، أما البعث فقومي، وفيما عدا ذلك فإن الأفكار الماركسية تمثل العمود الفقري في فكر الحزب ومعتقده، وهي لا تزال كذلك رغم انهيار البنيان الماركسي فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي.
وقد كان الحزب واجهة انضوت تحته كل الاتجاهات الطائفية (درزية – نصيرية – إسماعيلية – مسيحية)، وأخذ هؤلاء يتحركون من خلاله بدوافع باطنية يطرحونها ويطبقونها تحت شعار الثورة والوحدة والحرية والاشتراكية والتقدمية، وقد كانت الطائفة النصيرية أقدر هذه الطوائف على استغلال الحزب لتحقيق أهدافها وترسيخ وجودها.
ومن المعلوم أن حزب البعث يحكم بلدين عربيين مهمين هما سوريا والعراق، وقد عجز الحزب عن تحقيق الوحدة بين فصائله، بل إن الصراع بين شطري البعث مستمر وعلى أشده، واتهامات الخيانة بين الطرفين لا تنقضي، وإذا كان هذا هو شأن الحزب في بلدين يخضعان له، فهو من باب أولى عاجز عن تحقيق وحدة الأمة العربية بكاملها.
والبعثيون يتطلعون إلى استلام السلطة في جميع أرجاء الوطن العربي باعتبار ذلك جزءً لا يتجزأ من طموحاتهم البعيدة، وقد أدت بهم هذه الرغبة العارمة إلى السقوط في حمأة الإنذار المقنع والتهديد السافر والعدوان الصريح.
وبالتالي فإن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قومي سلطوي يحاد الله ورسوله، ويسعى إلى قلب الأوضاع في العالم العربي، ويتخذ العلمانية وتحقيق الاشتراكية مطلباً يبرر سياسته القمعية، ورسالته التي يصفها – على خلاف الحقيقة – بالتقدمية، ويجعل من الوحدة العربية هدفاً ينفذه بالضم والإرغام رغم إرادة الشعوب.
والعلاقة معه يجب أن يحكمها قول الله سبحانه: “لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله”.
وبالمحصلة تبقى فترة حكم البعث للعراق فترة مظلمة وتجربة قاسية عانى منها العراقيون أشد المعاناة من حروب متتالية وحصار وتجويع، ومن ثم الطامة الكبرى عندما جر برعونة وسفه، الكفار إلى أرض العراق حتى احتلوا أرضه وأذلوا شعبه وضيعوا أمنه وهتكوا ستره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

– الحزب الشيوعي

من الفرق والأحزاب العلمانية. الشيوعية مذهب فكري يقوم على الإِلحاد وأن المادة هي أساس كل شيء، ويفسر التاريخ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي. وقد ظهرت في ألمانيا على يد ماركس وانجلز، وتجسدت في الثورة البلشيفية التي ظهرت في روسيا سنة 1917م بتخطيط من اليهود، وتوسعت على حساب غيرها بالحديد والنار، وقد تضرر المسلمون منها كثيراً، وتعرضت شعوب للاستئصال والانقراض بسبب هذه الدعوة، ولكن الشيوعية أصبحت الآن في ذمة التاريخ بعد أن تخلى عنها الاتحاد السوفيتي الذي تفكك بدوره إلى دول مستقلة تخلت كلها عن الماركسية واعتبرتها نظرية غير قابلة للتطبيق.
التأسيس ، وأبرز الشخصيات:
كارل ماركس اليهودي الألماني 1818 – 1883م الذي وضع أسسها الفكرية النظرية، وهو حفيد الحاخام اليهودي المعروف مردخاي ماركس. وكارل ماركس شخص قصير النظر متقلب المزاج حاقد على المجتمع مادي النزعة، من مؤلفاته:
البيان الشيوعي الذي صدر سنة 1848م. وغيره.
ساعده في التنظير للمذهب فردريك إنجلز 1820 – 1895م، وهو صديقه الحميم، ساعده في نشر المذهب كما أنه ظل ينفق على ماركس وعائلته حتى مات، ومن مؤلفاته أصل الأسرة.. إلخ.
لينين: واسمه الحقيقي “فلاديمير أليتش بوليانوف”، وهو قائد الثورة البلشفية ادامية في روسيا 1917م ودكتاتورها المرهوب، قاسي القلب مستبد برأيه حاقد على البشرية. ولد سنة 1870م ومات سنة 1924م، وهناك دراسات تقول بأنه يهودي الأصل، وكان يحمل اسماً يهوديًّا ثم تسمى باسمه الروسي الذي عرف به مثل تروتسكي في ذلك.
وهو الذي وضع الشيوعية موضع التنفيذ، وله كتب كثيرة وخطب ونشرات أهمها ما جُمع في ما يسمى مجموعة المؤلفات الكبرى.
ستالين: واسمه الحقيقي جوزيف فاديونوفتش زوجا شفلي 1879-1954م، وهو سكرتير الحزب الشيوعي ورئيسه بعد لينين، اشتهر بالقسوة والجبروت والطغيان والدكتاتورية وشدة الإصرار على رأيه، يعتمد في تصفية خصومه على القتل والنفي كما أثبتت تصرفاته أنه مستعد للتضحية بالشعب كله في سبيل شخصه، وقد ناقشته زوجته مرة فقتلها.
تروتسكي: ولد سنة 1879م واغتيل سنة 1940م بتدبير من ستالين، وهو يهودي واسمه الحقيقي بروشتاين، له مكانة هامة في الحزب، وقد تولى الشؤون الخارجية بعد الثورة، ثم أسندت إليه شؤون الحزب. ثم فصل من الحزب بتهمة العمل ضد مصلحة الحزب ليخلو الجو لستالين الذي دبر اغتياله للخلاص منه نهائيا.
من أبرز اعتقاداتهم وأفكارهم:
إنكار وجود الله تعالى وكل الغيبيات، والقول بأن المادة هي أساس كل شيء، وشعارهم “نؤمن بثلاثة ماركس ولينين وستالين، ونكفر بثلاثة، الله الدين الملكية الخاصة”، عليهم من الله ما يستحقون.
يحاربون الأديان ويعتبرونها وسيلة لتخدير الشعوب وخادماً للرأسمالية والإمبريالية والاستغلال، مستثنين من ذلك اليهود لأن اليهود شعب مظلوم يحتاج إلى دينه ليستعيد حقوقه المغتصبة!
يحاربون الملكية الفردية، ويقولون بشيوعية الأموال وإلغاء الوراثة.
يعتقدون بأنه لا آخرة وعقاب ولا ثواب في غير هذه الحياة الدنيا.

– القومية العربية

من الفرق والأحزاب العلمانية. وهي حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحدة لهم على أساس من رابطة الدم واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين. وهي صدى للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوروبا، يصفها سماحة الشيخ ابن باز بأنها “دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه”. ويقول عنها: “وقد أحدثها الغربيين من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول، فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان”. ويقول أيضاً : “هي دعوة باطلة، وخطأ عظيم، ومكر ظاهر، وجاهلية نكراء، وكيد سافر للإسلام وأهله”.
ويقرر الفكر القومي أن الوحدة العربية حقيقة أما الوحدة الإسلامية فهي حلم. وأن فكرة القومية العربية من التيارات الطبيعية التي تنبع من أغوار الطبيعة الاجتماعية لا من الآراء الاصطناعية التي يستطيع أن يبدعها الأفراد.
وكثيراً ما يتمثل دعاة الفكر القومي بقول الشاعر القروي:
هبوني عيداً يجعل العرب أمةً … وسيروا بجثماني على دين بَرْهَمِ
سلام على كفرٍ يوحِّد بيننا … وأهـلاً وسـهلاً بعـده بجهنمِ
يقول بعض دعاة الفكر القومي “إن العبقرية العربية عبرت عن نفسها بأشكال شتى، فمثلاً عبرت ذات مرة عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة أخرى بالشعر الجاهلي، وثالثة بالإسلام”، وقال أحد مشاهيرهم “لقد كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب محمداً”. وقال بعض مفكري القومية العربية “إذا كان لكل عصر نبوته المقدسة فإن القومية العربية نبوة هذا العصر”.
فتأمل في جنونهم بقوميتهم العربية حتى جعلوها أعلى مرتبة من الدين، ونسوا او تناسوا أننا قوم أعزهم الله بالإسلام، ولن تقوم لهم قائمة بدونه.
وقد ظهرت بدايات الفكر القومي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متمثلة في حركة سرية تألفت من أجلها الجمعيات والخلايا في عاصمة الخلافة العثمانية، ثم في حركة علنية في جمعيات أدبية تتخذ من دمشق وبيروت مقرًّا لها، ثم في حركة سياسية واضحة المعالم في المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس سنة 1912.

ومن أفكار ومعتقدات القوميين:
أن الفكر القومي يعلي من شأن رابطة القربى والدم على حساب رابطة الدين، وإذا كان بعض كتاب القومية العربية يسكتون عن الدين، فإن بعضهم الآخر يصر على إبعاده إبعاداً تامًّا عن الروابط التي تقوم عليها الأمة بحجة أن ذلك يمزق الأمة بسبب وجود غير المسلمين فيها، ويرون أن رابطة اللغة والجنس أقدر على جمع كلمة العرب من رابطة الدين.
ويرى دعاة الفكر القومي – على اختلاف بينهم في ترتيب مقومات هذا الفكر – أن أهم المقومات التي تقوم عليها القومية العربية هي اللغة والدم والتاريخ والأرض والآلام والآمال المشتركة.
ويرون أن العرب أمة واحدة لها مقومات الأمة وأنها تعيش على أرض واحدة هي الوطن العربي الواحد الذي يمتد من الخليج إلى المحيط.
كما يرون أن الحدود بين أجزاء هذا الوطن هي حدود طارئة ينبغي أن تزول وينبغي أن تكون للعرب دولة واحدة وحكومة واحدة تقوم على أساس من الفكر العلماني.
ويدعو الفكر القومي إلى تحرير الإنسان العربي من الخرافات والغيبيات والأديان كما يزعمون.
لذلك يتبنى شعار “الدين لله والوطن للجميع”، والهدف من هذا الشعار إقصاء الإسلام عن أن يكون له أي وجود فعلي من ناحية، وجعل أخوة الوطن مقدمة على أخوة الدين من ناحية أخرى.
و يلاحظ أن الفكر القومي الآن هو في حالة تراجع وانحسار.

– التغريبيون

من الفرق والأحزاب العلمانية. والتغريب هو تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبْغ حياة الأمم بعامة، والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.
ومن أبرز شخصياته، جمال الدين الأفغاني 1838-1897م، حيث تجول كثيراً في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، وقد أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث إلى مصر، كما يقال بأنه انضم إلى المحافل الماسونية، وكان على صلة بالمستر بلنت البريطاني.
وكان الشيخ محمد عبده 1849-1905م من أبرز تلاميذ الأفغاني، وشريكه في إنشاء مجلة العروة الوثقى، وكانت له صداقة مع اللورد كرومر والمستر بلنت، ولقد كانت مدرسته – ومنها رشيد رضا – تدعو إلى مهاجمة التقاليد، كما ظهرت لهم فتاوى تعتمد على أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل بغية إظهار الإسلام بمظهر المتقبل لحضارة الغرب، كما دعا الشيخ محمد عبده إلى إدخال العلوم العصرية إلى الأزهر لتطويره وتحديثه.
ومن ثم قاد قاسم أمين 1865 – 1908م وهو تلميذ محمد عبده، الدعوة إلى تحرير المرأة وتمكينها من العمل في الوظائف والأعمال العامة. وقد كتب كتاب “تحرير المرأة” 1899م، وكتاب ”المرأة الجديدة” 1900م.
وكان سعد زغلول الذي صار وزيراً للمعارف سنة 1906م شديد التأثر بآراء محمد عبده، وقد نفذ فكرة كرومر القديمة والداعية إلى إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي بقصد تطوير الفكر الإسلامي من خلال مؤسسة غير أزهرية منافسة له.
وكان طه حسين 1889- 1973م من أبرز دعاة التغريب في العالم الإسلامي حيث تلقى علومه على يد المستشرق دور كايم، وقد نشر أخطر آرائه في كتابيه الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر.
يقول في كتابه الشعر الجاهلي ص 26: “للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضاً، ولكن ورود هذين الأسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي”. ويقول بعد ذلك: “وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح”. كما ينفي فيه نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أشراف قريش.
وقد بدأ محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه ثم قال: “سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني أبدأ هذه المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة العصر” (فأي غرور وزيف هذا الذي تأثر به هؤلاء الأوغاد).
ازدهرت حركة التغريب بعد سيطرة الاتحاديين عام 1908م على الحكم في الدولة العثمانية وسقوط السلطان عبد الحميد.
وفي سنة 1924م ألغت حكومة مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية مما مهد لانضمام تركيا إلى الركب العلماني الحديث، وفرض عليها التغريب بأقصى صورة وأعنفها.

– حركة تحرير المرأة

من الفرق والأحزاب العلمانية. هي حركة علمانية نشأت في مصر في بادئ الأمر ثم انتشرت في أرجاء البلاد العربية والإسلامية. تدعو إلى تحرير المرأة من الآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها مثل الحجاب، وتقييد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات، والمساواة في الميراث، وتقليد المرأة الغربية في كل أمر.
ونشرت دعوتها من خلال الجمعيات والاتحادات النسائية في العالم الغربي.
وقبل تبلور الحركة بشكل دعوة منظمة لتحرير المرأة ضمن جمعية تسمى الاتحاد النسائي، كان هناك تأسيس نظري فكري لها، ظهر من خلال كتب ثلاث ومجلة صدرت في مصر. فالكتب هي كتاب “المرأة في الشرق” تأليف مرقص فهمي المحامي، نصراني الديانة، دعا فيه إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والنصارى. وكتاب “تحرير المرأة” تأليف قاسم أمين، نشره عام 1899م، بدعم من الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد. زعم فيه أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين. وكتاب “المرأة الجديدة” تأليف قاسم أمين أيضاً ـ نشره عام 1900م يتضمن نفس أفكار الكتاب الأول، ويستدل على أقواله وادعاءاته بآراء الغربيين. و“مجلة السفور”، صدرت أثناء الحرب العالمية الأولى من قِبل أنصار سفور المرأة، وتركز على السفور و الاختلاط.
وقد نبتت أفكار كتاب “تحرير المرأة” في حديقة أفكار الشيخ محمد عبده، وتطابقت مع كثير من أفكار الشيخ التي عبر فيها عن حقوق المرأة وحديثه عنها في مقالات الوقائع المصرية، وفي تفسيره لآيات أحكام النساء.
وكذلك زعيم حزب الوفد المصري سعد زغلول الذي أعان قاسم أمين على إظهار كتبه وشجعه في هذا المجال.
وأمينة السعيد، وهي من تلميذات طه حسين، الأديب المصري الذي دعا إلى تغريب مصر. ترأست مجلة حواء، وهاجمت حجاب المرأة بجرأة، ومن أقوالها في عهد عبد الناصر: “كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟”، تقصد ميثاق عبد الناصر الذي يدعو فيه إلى الإشتراكيةـ وسخرت مجلة حواء للهجوم على الآداب الإسلامية.
د. نوال السعداوي، ولدت عام 1931م بالقاهرة. ودخلت كلية الطب في قصر العيني بالقاهرة 1949-1954م ثم جامعة كولومبيا بنيويورك 1965-1966م.
قال الخراشي: “وهي – قبحها الله – من أشد المنحرفين والمنحرفات تصريحاً بكفرها وزندقتها، فتجدها تطعن وتسخر من الله – عز وجل – بصراحة عجيبة، وتنتقد أحكام الإسلام المتعلقة بالمرأة وترفضها بوضوح، وإليك شيئاً من كفرياتها وبذاءاتها:
تقول في مقال لها في مجلة إبداع: “منذ علمتني أمي الحروف، عرفت تكوين كلمة ذات معنى هي اسمي، بدأت أكتبها كل يوم، أربعة حروف متشابكة (نوال)، أحببت شكل الاسم ومعناه النوال أو العطاء، ارتبط بي أصبح جزءاً مني، عرفت اسم أمي زينب، كتبته إلى جوار اسمي فوق كراستي الصغيرة، أحببت شكل الاسمين معاً ومعناهما كما أحببت نفسي وأمي. أكبر حب في حياتي منذ ولدت كان لنفسي ولأمي، بعد ذلك يأتي الآخرون، منهم أبي، شطب على اسم أمي، وضع اسمه إلى جوار اسمي، ثم وضع اسم أبيه السعداوي، رجل مات قبل أن أولد. ودار في عقلي السؤال : لماذا يشطب أبي اسم أمي؟ ولدتني أرضعتني علمتني الكتابة، ترعاني كل يوم؟! يضع مكانه اسم رجل غريب لم أره في حياتي، مات قبل أن أولد؟ كرهت اسم الرجل السعداوي، يلغي اسم أمي من الوجود، سألت أبي عن السبب، فقال لي إنها إرادة الله. كلمة الله، سمعتها لأول مرة في حياتي من أبي، عرفت أنه يسكن السماء، هو المسئول عن شطب اسم أمي، لم يكن لي أن أحب من يشطب أمي واسمها زينب، أحبها باسمها جسمها شكلها، أصابعها الحانية الدافئة تداعب وجهي كشعاع الشمس، صوتها يناديني في الصبح كل يوم جديد تعلمني كلمات جديدة”.
وقالت: “إن النبي نفسه محمد رسول الله لم يستطع أن يعدل بين زوجاته، إذ كان يقضي منه أن يقسم ليله بالتساوي بين زوجاته بحيث لا تجور واحدة على ليلة الأخرى، إلا أن محمداً كان بشراً ، ولم يكن في وسعه دائماً أن يحقق هذا التقسيم العادل فقد كان يفضل زوجته عائشة”.
وقالت: “لم يكن محمد يُرغم الزوجة أن تعيش مع زوجها إذا رغبت الانفصال عنه. وقد أعطى محمد زوجاته حرية البقاء معه أو الانفصال عنه بعد أن حالت ظروف حياته في فترة من الفترات أن يوفي حاجتهن الجنسية”.
قدحها في النبي “لوط” عليه السلام: حيث تتابع أحبابها اليهود في اتهامه بالزنا، والعياذ بالله. قالت – قاتلها الله – : “برغم القيود على المرأة فقد كان الرجل متعدد الزوجات يمارس الجنس مع زوجاته وإمائه بل وبناته أحياناً، فقد اضطجعت ابنتا لوط مع أبيهما نفسه وحملتا منه”!!
نجمل أفكار ومعتقدات أنصار حركة تحرير المرأة فيما يلي:
– تحرير المرأة من كل الآداب والشرائع الإسلامية وذلك عن طريق:
الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب الإسلامي.
الدعوة إلى اختلاط الرجال مع النساء في كل المجالات في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، والأسواق.
تقييد الطلاق، والاكتفاء بزوجة واحدة.
المساواة في الميراث مع الرجل.
– الدعوة العلمانية الغربية أو اللادينية بحيث لا يتحكم الدين في مجال الحياة الاجتماعية خاصة.
– المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية.
– أوروبا والغرب هم القدوة في كل الأمور التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للمرأة كالعمل والحرية الجنسية ومجالات الأنشطة الرياضية والثقافية.
ويتضح مما سبق أن حركة تحرير المرأة هي حركة علمانية نشأت في مصر، ومنها نُشرت في أرجاء البلاد العربية والإسلامية. وهدفها هو قطع صلة المرأة بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها، وتمتد أهداف هذه الحركة لتصل إلى جعل العلمانية واللادينية أساس حركة المرأة والمجتمع.


الأمور التي شابهت فيها الأمة اليهود والنصارى

من كتب ابن تيمية رحمه الله. اعلم أن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق على فترة من الرسل وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا – أو أكثرهم – قبيل مبعثه، والناس إذ ذاك أحد رجلين إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما مبدل منسوخ، ودين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك، وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك.
(و) كفر اليهود أصله عدم العمل بالعلم، وكفر النصارى أصله عملهم بلا علم. ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم، فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه، حيث قال فيما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن”. فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم.

ذكر بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتلي بها بعض المسلمين:

– الحسد

قال الله سبحانه: “وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ”. وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله بعلم نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم. قال الله سبحانه: “إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ”، فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر. وكذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية مثل قوله تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ”. وهذا قد يبتلى به طوائف من المنتسبين للعلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بخلاً به وكراهة لأن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة إعتياضاً عنه برئاسة أو مال، فيخاف من إظهاره انتقاص رئاسته أو نقص ماله. وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل. ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره: “أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم”.
وقال تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ علينا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ” بعد أن قال: “وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ”. فوصف اليهود أنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به، والداعي إليه، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم. وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة مع أن دين الإسلام يوجب إتباع الحق مطلقاً رواية ورأيا من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى في صفة المغضوب عليهم: “مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ”، وصفهم بأنهم: “يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُو مِنَ الْكِتَابِ”، والتحريف قد فسر بتحريف التنزيل وبتحريف التأويل. فأما تحريف التأويل فكثير جداً، وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة. وأما تحريف التنزيل فقد وقع في كثير من الناس، يحرفون ألفاظ الرسول ويروون الحديث بروايات منكرة. وأما لي الألسنة بما يظن أنه من عند الله فهو كوضع الوضاعين الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجة، وهذا الضرب من أنواع أخلاق اليهود، وذمها كثير لمن تدبره في كتاب الله وسنة رسوله ثم نظر بنور الإيمان إلى ما وقع في الأمة من الأحداث.

قال سبحانه عن النصارى: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ”. وقال تعالى: “لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ” إلى غير ذلك من المواضع. ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة حتى خالط كثيراً منهم من مذهب الحلول والإتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه.

– التعبد بالأصوات المطربة

تجد أن عامة الضالين يقوم دينهم بالأصوات المطربة والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات، ثم تجد الأمة قد ابتليت من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد وإصلاح القلوب والأحوال به ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين. قال الله سبحانه وتعالى: “وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ”، فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما عليه الأخرى. وأنت تجد كثيراً من المتفقهة إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئاً ولا يعدهم إلا جهالاً ضلالاً، ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئاً. وترى كثيراً من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة ولا العلم شيئاً، بل يرى المتمسك بها منقطعاً عن الله وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند الله شيئاً. وإنما الصواب أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق، وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل.
وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل في هذه الأمة من الآثار الرومية قولاً وعملاً والآثار الفارسية قولاً وعملاً ما لا خفاء به على مؤمن عليم بدين الإسلام وبما حدث فيه.

– الأمر بمخالفة المغضوب عليهم والضالين في الهدي الظاهر لأمور منها

أن المشاركة في الظاهر تورث تناسباً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال.. فالمشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم. والمخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الإنقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال.
لاحظ كيف يتبعهم المسلمون اليوم في كل شيء نحو جحر الضب المذكور في الحديث!

– الاستمتاع بالخلاق والخوض الذي وقعت فيه الأمم الأخرى

الخلاق هو النصيب والحظ كأنه ما خُلق للإنسان أي ما قدر له. قال تعالى: “فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا”، جمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق. والأول هو البدع ونحوها، والثاني فسق الأعمال ونحوها.
والأول يكون من جهة الشبهات. والثاني من جهة الشهوات. ولهذا كان السلف يقولون: “احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه”. وكانوا يقولون: “إحذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون”، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم.
ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال: “عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها”.
وقد وصف الله أئمة المتقين فقال: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ”، فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات.
والاستمتاع بالخلاق إشارة إلى إتباع الشهوات، وهو داء العصاة، وقوله: “وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا” إشارة إلى إتباع الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وكثيراً ما يجتمعان، فقل من تجد في اعتقاده فساداً إلا وهو يظهر في عمله.
ثم قوله: “فَاسْتَمْتَعْتُمْ وخُضْتُمْ” خبر عن وقوع ذلك في الماضي، وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة.
ومما جاء في الاستمتاع، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعاً بذراع وشبراً بشبر وباعاً بباع حتى لو أن أحداً من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه”، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم “كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً”، قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟”.
وفي الصحيحين عن عمرو بن عوف “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم”. فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يخاف فتنة الفقر وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها وإهلاكها، وهذا هو الإستمتاع بالخلاق المذكور في الآية.
وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه يشير إلى أن التفرقة والإختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلامة كما روى النزال بن سيرة عن عبد الله بن مسعود، قال: “سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا” رواه مسلم.
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق، لأن كلا القارئين كان محسناً فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا. ولهذا قال حذيفة لعثمان: “أدرك هذه الأمة لا تختلف في الكتاب كما اختلف فيه الأمم قبلهم” لما رأى أهل الشام والعراق يختلفون في حروف القرآن الإختلاف الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأكثر الإختلاف بين الأمة يكون فيه كل واحد من المختلفين مصيباً فيما يثبته مخطئاً في نفي ما عليه خصمه. كما أن القارئين كل منهما كان مصيباً في القراءة بالحرف الذي علمه مخطئاً في نفي حرف غيره، فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه.
والإختلاف في الكتاب سبب هلاك الأمم السابقة.. وإختلاف التنوع كل واحد من المختلفين فيه مصيب فيه بلا تردد لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك إذا لم يحصل بغي كما في قوله: “مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ”، وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار فقطع قوم وترك آخرون، وكما في قوله: “وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً”، فخص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالعلم والحكم. وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة. وكما في قوله صلى الله عليه وسلم “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر”، ونظائره كثيرة.
وأما القسم الثاني من الإختلاف المذكور في كتاب الله فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى: “تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ” إلى قوله: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا”. فقوله: “وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ” حمد لإحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم الأخرى.
وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: “وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ” لأن البغي مجاوزة الحد. وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة.

– النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء

وقال سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ”. وقال سبحانه: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ” يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود. إلى قوله: “لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ” إلى قوله: “أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ”.
كما جاء القرآن بالنهي عن موالاة الكفار ومودتهم وكذلك جاءت السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين، وأجمع الفقهاء عليها، فمن ذلك الأمر بصبغ الشيب لأن اليهود والنصارى لا يصبغون. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم”.
وأيضاً ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى” رواه البخاري و مسلم. فأمر بمخالفة المشركين مطلقاً ثم قال: “أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى”.
والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب، وتارة بالتشبه بالأعاجم، وكلا العلتين منصوصة في السنة مع أن الصادق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما قدمنا بيانه.

– النهي عن ترك الصلاة بالنعال مخالفة لليهود

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم” رواه أبو داود، وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له: “فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ”.

– الأمر بالسحور مخالفة لأهل الكتاب

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر” رواه مسلم في صحيحه.

– الأمر بتعجيل الفطور مخالفة لأهل الكتاب

وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع، وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون”.

– النهي عن تأخير المغرب إلى أن تشتبك النجوم

وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزال أمتي بخير – أو على الفطرة – ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم”. ورواه الإمام أحمد من حديث السائب بن يزيد وقد جاء مفسراً تعليله: “لا يزالون بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى طلوع النجم مضاهاة لليهودية، ويؤخروا الفجر إلى محاق النجوم مضاهاة للنصرانية”.

– النهي عن مواصلة الصوم كما يفعل النصارى

وقال سعيد بن منصور: “حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، عن أبيه عن ليلى – امرأة بشير بن الخصاصية – قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك وقال: “إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله، وأتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا” وقد رواه أحمد في المسند. فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى.

– الأمر بمؤاكلة الحائض والإجتماع بها في البيوت مخالفة لليهود

وعن حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه “أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: “وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اصنعوا كل شيء إلا النكاح” فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.
فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.

– النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس

ففي حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة قال: “فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة؟ قال: صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار” رواه مسلم.
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها حسماً لمادة مشابهة الكفار لأنهم يسجدون لها حينئذ. ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة بكل طريق.
وقطعت الشريعة مشابهة الكفار في الجهات كالقبلة وما يصلون إليه وفي الأوقات، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة وإن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات، وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد فساداً فإن القبلة شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى: “وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ”.

– النهي عن الإعتماد على اليد في الصلاة لأنها جلسة الذين يعذبون

وأيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما “أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له لا تجلس هكذا فهكذا يجلس الذين يعذبون” وفي رواية “تلك صلاة المغضوب عليهم”. ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللة بأنها جلسة المعذبين وهذه مبالغة في مجانبة هديهم.

يكره أن يجعل الرجل يده في خاصرته في الصلاة لأن اليهود تفعله:
وأيضاً روى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته وتقول إن اليهود تفعله، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة قال: “نهي عن الخصر في الصلاة”، وفي لفظ “نهي أن يصلى الرجل مختصراً”.. وعن زياد بن صبيح قال: “صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه” رواه أحمد.

كراهية القيام وراء الإمام القاعد كما تفعل فارس والروم:
وأيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: “اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً فلما سلم قال: إن كدتم آنفاً تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلى قائماً فصلوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً ” رواه مسلم..
ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهو قعود، ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه..

كراهية القيام للجنازة إذا مرت لأنه من فعل أهل الكتاب وأهل الجاهلية:
وأيضاً فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فعرض له حبر فقال هكذا نصنع يا محمد، قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “خالفوهم”. رواه أبو داود.
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم “أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها، يقولون إذا رأوها كنت في أهلك ما كنت مرتين” فقد استدل من كره القيام بأنه كان من فعل الجاهلية وليس الغرض هنا الكلام في عين هذه المسألة.

كراهية الشق واستحباب اللحد في القبور:
وأيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللحد لنا والشق لغيرنا” رواه أهل السنن الأربعة. وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر.
والنهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب والتداعي بدعوى الجاهلية. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية” متفق عليه. ودعوى الجاهلية ندب الميت، وتكون دعوى الجاهلية في العصبية.

النهي عن النياحة والفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم لأنها من أمر الجاهلية:
وأيضاً عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة”. وقال: “النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب” رواه مسلم.

كيف كان المسلمون يعاملون الكفار؟

قطعا ليس بالذل والهوان الذي تعاملهم به الأمة اليوم خوفا منهم وحرصا على الدنيا، حتى أصبح قتل الناس بالأوبئة والمغيرات الوراثية موضة، بل بفرض المظاهرات والحقوق الديمقراطية التي تبث الفتن في المسلمين، ولا أحد قادر على الإعتراض بكلمة.
أما حرق القرآن علنا، وقتل المسلمين في كل مكان، وامتهانهم، وسحب أطفالهم في دول الكفر كالسويد وغيرها، لتربيهم الأسر الملحدة والمسيحية على ما هي عليه بدعوى تطرف الإسلام، فقد أصبح شائعا لدرجة أن بعض حكام دولنا قد يفكرون في إعطاء أوسمة شرف لقادة الدول الفاعلة تعبيرا عن مدى ذلهم وتقبلهم لذلك، بدل الأخذ على أيديهم! ضعنا بسبب ابتعادنا عن دين ربه وقواعده التي لا عزة لنا بدونها…

يتبع..

المواضيع المتعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!