قطار الموت

سادت كآبة ثقيلة أجواء غرفة فاخرة جمعت عددًا من وجهاء المدينة وكبارها. أحاطوا بجسد منهك، مسجى على سرير من الأبنوس، ينظرون إليه بتقدير واحترام. كان صاحبه في آخر معاركه مع الحياة، يهذي بين الحين والآخر بكلمات مبهمة لم يفهموا مغزاها.

ووسط العيون الذاهلة المترقبة، التي بات أصحابها يرون في الموت أملًا وراحة، تسللت الغيبوبة به إلى عالم ذكرياته القديمة. أحاط به ضباب كثيف لمح فيه قطار حياته المندفع على شريط متآكل من الذكريات، مطلقًا صفيرًا يعكس فرحه بالحياة.

وضع يده المرتجفة على جبينه ودقق النظر، فرأى “النهاية” تلوح من بعيد، كظل ثقيل يقترب منه. أقرب بكثير مما توقع.

عاش بواكير حياته فقيرًا، لا يملك من حطام الدنيا سوى جسده الفتي. صارع الجوع، والبرد، والهوان، سعيًا وراء مباهج الحياة. تخلى عن كل قيمه ليقهر الصعوبات، ويكدس الذهب والفضة، ويحيط نفسه بالنساء.
غش وخان وغدر، مستميتًا في سبيل معبوده الجديد. وعندما جاءت الثروة لتحتمي به كملاذ من طلابها، احتضنها بقوة وقاتل لأجلها قتال الأبطال. هزم جبابرة الدرهم والدينار بالحق والباطل، ثم أوهم نفسه بأنه قد فاز بمعركة الحياة.

حتى جاء اليوم الذي حولته فيه الشيخوخة إلى كومة من التجاعيد، تخنقه أثقالها وتذكره بأن دوام الحال من المحال. أحنى رأسه وظهره للزمن، مُرغمًا، وبدأ يفكر أخيرًا في ضيق القبر وسعة ما بعده في نعيم أو عذاب أبدي.

أدرك أنه كان مجرد مسافر إلى دار لم يستعد لها قط. وها قد اقترب القطار من محطته الأخيرة، وأصبح توقفه الذي لا حراك بعده، قدرًا لا مفر منه.

زاغ بصره في أرجاء الغرفة الواسعة المزينة بأغلى التحف وأفخم الأثاث. تحركت شفتاه ببطء ووهن، وامتدت الأعناق لسماع كلماته الأخيرة. لكنها اصطدمت بأنفاسه المتقطعة، التي بدأ يفقد السيطرة عليها.

كان قطار حياته، الذي عبر ألف محطة، وحقق ألف رغبة، واحتفل بألف ليلة وليلة، يخفف سرعته استعدادًا للتوقف الأخير، الذي لا حِراك بعده.

وبخفوت، خرجت من بين شفتيه المرتجفتين كلمة تضرع، حشد كل ما تبقى من قوته لينطقها. كانت آخر معاركه مع الحياة، قبل أن يسكن جسده المنهك سكونه الأخير.

محب التوحيد

محب التوحيد الشنقيطي. أسير على نهج السلف، متمسكًا بالكتاب والسنة. أستلهم من الصحابة وحدهم فهم منارات الهدى. لا أرى مجاملة أهل البدع، ولا أرى أيضا الغلظة معهم أو مع أي أحد. وأرى أن السكوت عنهم مداهنة في الدين. أكتب للعقول المتفتحة، وأغرس حب التوحيد في القلوب المزهرة، طمعًا في أن تكون كلماتي نورًا يهدي الباحثين إلى الحق. وفقنا الله وإياكم للخير والفضيلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!