ملخص رحلة ابن بطوطة حصريا لموقع زاد الحق، بطريقة مخترعة غريبة حاولوا فهمها 🙂🙂
الرحالة ابن بطوطة
اشتهر الرحالة ابن بطوطة برحلته “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، التي نلخصها تلخيصا حصريا باستخدام فكرة الأوسمة من أجل تسهيل الوصول إلى مجالاتها.
الحرف (s) مخصص للقصص التي فيها التصوف (وهذه ركزت عليها لإظهار ذلك الباطل المتقنع بقناع الصلاح).
والحرف (t) للقصص التي فيها التشيع.
والأرقام من 1 إلى 7 مستخدمة للقصص الأخرى وفق الترتيب التالي:
(1) قصص متعلقة بشخص الرحالة
(2) قصص فيها إقبال الدنيا وإدبارها ومواعظ وابتلاءات (أكثر قصص الرحلة)
(3) قصص فيها أشياء خارقة للعادة
(4) قصص فيها عادات وظرافة
(5) قصص فيها وصف للبلدان
(6) قصص فيها صفات الرجال والنساء والحب وأمثاله
(7) قصص فيها ذكر للأديان والبدع (غير التشيع والتصوف)
اضغط على Ctrl+T في لوحة المفاتيح لإظهار صندوق البحث، ثم ضع الحرف أو الرقم المراد الحصول على القصص المرتبطة به، واضغط على كلمة “إبحث”، بصورة متتالية للوصول إلى نتائج مختلفة.
والنقطتان (..) تدلان على أن الكلام الذي بعدهما في الكتاب الأصلي، تم حذفه لأجل التلخيص، والهدف منهما هو الربط بين أجزاء الملخص ربطا منطقيا..
أما القوسان () فللتعليق. أي أن ما بينهما ليس من كلام المؤلف بل من كلامنا..
أولا: بدء الرحلة
بدء الرحلة والخروج من طنجة (1)
قال الشيخ أبو عبد الله: كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة (1304م تقريبا)، معتمدا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. منفردا عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. فحزمت أمرى على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور. وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصبا، ولقيت كما لقيا من الفراق نصبا وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة.. وكان ارتحالي في أيام أمير المؤمنين.. أبي سعيد ابن مولانا.. الإمام المقدس أبي يوسف ابن عبد الحق..
وما تدري نفس بأي أرض تموت (1،2)
وارتحلت مع رفقة من تجار تونس فوصلنا مدينة الجزائر، وأقمنا بخارجها أياما، إلى أن قدم الشيخ أبو عبد الله وابن القاضي.. وكان قد توفي من تجار تونس الذين صحبتهم من مليانة محمد بن الحجر.. وترك ثلاثة آلاف دينار من الذهب، وأوصى بها لرجل من أهل الجزائر يعرف بابن حديدة، ليوصلها إلى ورثته بتونس فانتهى خبره لابن سيد الناس المذكور فانتزعها من يده، وهذا أول ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم، ولما وصلنا إلى بجاية كما ذكرته، أصابتني الحمى، فأشار علي أبو عبد الله الزبيدي بالإقامة فيها حتى يتمكن البرء مني، فأبيت وقلت إن قضى الله عز وجل بالموت فتكون وفاتي بالطريق وأنا قاصد أرض الحجاز. فقال لي أما إن عزمت فبع دابتك وثقل المتاع، وأنا أعيرك دابة وخباء وتصحبنا خفيفا، فإننا نجد السير خوف غارة العرب في الطريق، ففعلت هذا، وأعارني ما وعد به جزاه الله خيرا، وكان ذلك أول ما ظهر لي من الألطاف الإلهية في تلك الوجهة الحجازية. وسرنا إلى أن وصلنا مدينة قسنطينية، فنزلنا خارجها وأصابنا مطر جود فاضطررنا إلى الخروج عن الأخبية ليلا إلى دور هنالك..
ثم تركنا بها ما كان في صحبتنا من التجار لأجل الخوف في الطريق، وتجردنا للسير، وواصلنا الجد، وأصابتني الحمى، فكنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج خوف السقوط بسبب الضعف، ولا يمكنني النزول من الخوف، إلى أن وصلنا إلى مدينة تونس فبرز أهلها للقاء الشيخ أبي عبد الله الزبيدي ولقاء أبي الطيب ابن القاضي أبي عبد الله النفزاوي، فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال ولم يسلم علي أحد، لعدم معرفتي بهم، فوجدت من ذلك النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة واشتد بكائي، فشعر بحالي بعض الحجاج فأقبل علي بالسلام والإيناس، وما زال يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة..
أمطار وأعراس وخوف في الطريق (1)
ثم وصلنا إلى مدينة قابس ونزلنا بداخلها، وأقمنا بها عشرا لتوالي نزول الأمطار.. ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس وكان بالركب قوم رماة فهابتهم العرب، وتحامت مكانهم، وعصمنا الله منهم، وأظلنا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل. وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس، فبنيت عليها بطرابلس ثم خرجت من طرابلس في أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين، ومعي أهلي، وفي صحبتي جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفا من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومسراتة وقصور سرت. وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة، وحالت دون ما راموه من أذيتنا، ثم توسطنا الغابة، وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد، إلى قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووقع بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته، وتزوجت بنتا لبعض طلبة فاس وبنيت بها بقصر الزعافية، وأولمت وليمة حبست لها الركب يوما وأطعمتهم، ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية حرسها الله.
صاحب العمامة الكبيرة (3)
ذكر بعض علماء الإسكندرية: فمنهم قاضيها عماد الدين الكندي، إمام من أئمة علم اللسان. وكان يعتم بعمامة خرقت المعتاد للعمائم لم أر في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم منها، رأيته يوما قاعدا في صدر محراب، وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب..
أدخل يا قاضي (2)
ويذكر أن جد القاضي فخر الدين الريغي من أهل ريغة، واشتغل بطلب العلم، ثم رحل إلى الحجاز، فوصل الإسكندرية بالعشي. وهو قليل ذات اليد، فأحب أن لا يدخلها حتى يسمع فالا حسنا، فقعد قريبا من بابها، إلى أن دخل جميع الناس. وجاء وقت سد الباب ولم يبق هنالك سواه فاغتاظ الموكل بالباب من إبطائه، وقال متهكما أدخل يا قاضي، فقال: قاض إن شاء الله، ودخل إلى بعض المدارس، ولازم القراءة وسلك طريق الفضلاء، فعظم صيته وشهر اسمه وعرف بالزهد والورع، واتصلت أخباره بملك مصر. واتفق أن توفي قاضي الإسكندرية وبها إذ ذاك الجم الغفير من الفقهاء والعلماء، وكلهم متشوف للولاية، وهو من بينهم، لا يتشوف لذلك فبعث إليه السلطان بالتقليد، وهو ظهير القضاء، وأتاه البريد بذلك..
لا أحد يعرف متى يموت (3،s)
أخبرني الشيخ ياقوت عن شيخه أبي العباس المرسي أن أبا الحسن (الشاذلي) كان يحج في كل سنة، ويجعل طريقه على صعيد مصر، ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج، ويزور القبر الشريف، ويعود على الدرب الكبير إلى بلده. فلما كان في بعض السنين، وهي آخر سنة خرج فيها، قال لخديمه استصحب فأسا وقفة وحنوطا وما يجهز به الميت. فقال له الخديم: ولم ذا يا سيدي فقال له: في “حميثرا” سوف ترى. و”حميثرا” في صعيد مصر في صحراء عيذاب، وبها عين ماء زعاق، وهي كثيرة الضباع. فلما بلغا “حميثرا” اغتسل الشيخ أبو الحسن، وصلى ركعتين، وقبضه الله عز وجل في آخر سجدة من صلاته، ودفن هناك. وقد زرت قبره وعليه تبرية مكتوب فيها اسمه ونسبه متصلا بالحسن بن علي رضي الله عنه (ذكر ابن بطوطة حزب البحر المنسوب إليه، قيل انه كان يقوله كلما ركب البحر طمعا في السلامة ! وابن بطوطة كما يظهر من قصته صوفي إلى النخاع، ورغم اعتراضه على بعض خرافات مشايخ التصوف – كما سيأتي – إلا أنه كان مؤمنا بأكثرها).
طريقة في مراقبة الهلال (4)
ثم وصلت إلى مدينة “أبيار”، وهي قديمة البناء، أرجة الأرجاء كثيرة المساجد، ذات حسن. ولقيت بها قاضيها عز الدين المليجي الشافعي، وهو كريم الشمائل كبير القدر. حضرت عنده مرة يوم الركبة، وهم يسمون ذلك “يوم ارتقاب هلال رمضان”. وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة. فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه، تلقاه ذلك النقيب، ومشى بين يديه قائلا: بسم الله، سيدنا فلان الدين فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به. فإذا تكاملوا هنالك، ركب القاضي وركب من معه أجمعون، وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال عندهم، وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس. ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره، ثم ينصرفون هكذا فعلهم في كل سنة.
حلق الحواجب واللحى (s)
(ثم وصلت إلى) دمياط وهذه حديثة البناء، والمدينة القديمة هي التي خربها الإفرنج على عهد الملك الصالح. وبها زاوية الشيخ جمال الدين الساوي، قدوة الطائفة المعروفة بالقلندرية، وهم الذين يحلقون لحاهم وحواجبهم. ويسكن الزاوية في هذا العهد الشيخ فتح التكروري. ويذكر أن السبب الداعي للشيخ جمال الدين الساوي إلى حلق لحيته وحاجبيه أنه كان جميل الصورة حسن الوجه فعلقت به امرأة من أهل ساوة، وكانت تراسله وتعارضه في الطرق وتدعوه لنفسها، وهو يمتنع ويتهاون، فلما أعياها أمره دست له عجوزا تصدت له إزاء دار على طريقه إلى المسجد، وبيدها كتاب مختوم. فلما مر بها قالت له: يا سيدي أتحسن القراءة قال: نعم. قالت له: الكتاب وجهه إلي ولدي، وأحب أن تقرأه علي. فقال لها، نعم. فلما فتح الكتاب، قالت له: يا سيدي إن لولدي زوجة، وهي بأسطوان الدار، فلو تفضلت بقراءته بين بابي الدار بحيث تسمعها. فأجابها لذلك. فلما توسط بين البابين غلقت العجوز الباب، وأخرجت المرأة حواريها فتعلقن به. وأدخلنه إلى داخل الدار. وراودته المرأة عن نفسه، فلما رأى أن لا خلاص له، قال لها: إني حيث تريدين. فأريني بيت الخلاء. فأرته إياه. فأدخل معه الماء، وكانت عنده موسى جديدة، فحلق لحيته وحاجيبه، وخرج عليها، فاستقبحت هيئته، واستنكرت فعله، وأمرت بإخراجه وعصمه الله بذلك، فبقى على هيئته فيما بعد، وصار كل من يسلك طريقته أن يحلق رأسه ولحيته وحاجبيه. (و) يذكر أنه لما قصد مدينة دمياط لزم مقبرتها. وكان بها قاض يعرف بابن العميد. فخرج يوما إلى جنازة بعض الأعيان، فرأى الشيخ جمال الدين بالمقبرة فقال له: أنت الشيخ المبتدع. فقال له: وأنت القاضي الجاهل، تمر بدابتك بين القبور، وتعلم أن حرمة الإنسان ميتا كحرمته حيا. فقال له القاضي: وأعظم من ذلك حلقك للحيتك. فقال له: إياي تعني. وزعق الشيخ، ثم رفع رأسه، فإذا هو ذو لحية سوداء عظيمة. فعجب القاضي ومن معه، ونزل إليه عن بغلته. ثم زعق ثانيا فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة، ثم زعق ثالثا ورفع رأسه. فإذا هو بلا لحية كهيئته الأولى فقبل القاضي يده، وتتلمذ له، وبني له الزاوية الحسنة، وصحبه أيام حياته حتى مات الشيخ، فدفن بزاويته. ولما حضرت القاضي وفاته أوصى أن يدفن بباب الزاوية، حتى يكون كل داخل إلى زيارة الشيخ يطأ قبره (كل ما في هذه الحكاية يدل على أنها خرافة بدءا بحلق الحواجب واللحى، والتعاهد على ذلك، وجعله علامة للورع والتدين – ما أنزل الله بها من سلطان -، وانتهاء بالقبر الذي يداس بالأقدام عند عتبة الشيطان).
تهييج الأشواق إلى الحج (4)
ذكر يوم المحمل: وهو يوم دوران الجمل، يوم مشهود وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب فيه القضاة الأربعة، ووكيل بيت المال والمحتسب ، ويركب معهم أعلام الفقهاء وأمناء الرؤساء وأرباب الدولة، ويقصدون جميعا باب القلعة، دار الملك الناصر، فيخرج إليهم المحل على جمل، وأمامه الأمير المعين لسفر الحجاز في تلك السنة، ومعه عسكره والسقاؤون على جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء، ثم يطوفون بالمحمل وجميع من ذكرنا معه بمدينة القاهرة ومصر، والحداة يحدون أمامهم، ويكون ذلك في رجب فعند ذلك تهيج العزمات، وتنبعث الأشواق، وتتحرك البواعيث، ويلقي الله تعالى العزيمة على الحج في قلب من يشاء من عباده، فيأخذون في التأهب لذلك والاستعداد .
أعماه الكرم (2)
حكاية خصيب: يذكر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي الله عنهم غضب على أهل مصر. فآلى أن يولي عليهم أحقر عبيده، وأصغرهم شأنا، قصدا لإرذالهم والتنكيل بهم وكان خصيب أحقرهم إذ كان يتولى تسخين الحمام فخلع عليه، وأمره على مصر، وظن أنه يسير فيهم سيرة سوء ويقصدهم بالإذاية حسبما هو المعهود ممن ولي عن غير عهد بالعز. فلما استقر خصيب بمصر، سار في أهلها أحسن سيرة. وشهر بالكرم والإيثار. فكان أقارب الخلفاء وسواهم يقصدونه، فيجزل العطاء لهم.. وافتقد الخليفة بعض العباسيين وغاب عنه مدة ثم أتاه، فسأله عن مغيبه، فأخبره أنه قصد خصيبا. وذكر له ما أعطاه خصيب. وكان عطاء جزيلا. فغضب الخليفة، وأمر بسمل عيني خصيب، وإخراجه من مصر إلى بغداد، وأن يطرح في أسواقها. فلما ورد الأمر بالقبض عليه حيل بينه وبين دخوله منزله وكانت بيده ياقوته عظيمة الشأن فخبأها عنده، وخاطها في ثوب له ليلا وسملت عيناه، وطرح في أسواق بغداد. فمر به بعض الشعراء فقال له يا خصيب: إني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحا لك بقصيدة فوافقت انصرافك عنها، وأحب أن تسمعها. فقال: كيف بسماعها وأنا على ما تراه؟ فقال: إنما قصدي سماعك لها. وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيرا، قال: فافعل، فأنشد:
أنت الخصيب وهذه مصر … فتدفقا فكلاكمـا بـحـر
فلما أتى على آخرها قال له: افتق هذه الخياطة، ففعل ذلك. فقال له: خذ الياقوتة. فأبى، فأقسم عليه أن يأخذها. فأخذها وذهب بها إلى سوق الجوهريين. فلما عرضها عليهم قالوا له إن هذه لا تصلح إلا للخليفة. فرفعوا أمرها إلى الخليفة، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة، فأخبره بخبرها. فتأسف على ما فعله بخصيب وأمر بمثوله بين يديه، وأجزل له العطاء، وحكمه فيما يريد. فرغب أن يعطيه هذه المنية، ففعل ذلك، وسكنها خصيب إلى أن توفي وأورثها عقبه إلى أن انقرضوا..
البناء ابتداؤه من الأساس (t)
ثم سافرت إلى مدينة صور، وهي خراب وبخارجها قرية معمورة وأكثر أهلها أرفاض (الرافضة هم الشيعة الذين رفضوا أبو بكر وعمر ، وكفروهما، وكفروا أمهات المؤمنين كعائشة، بل كفرو كل الصحابة إلا عدد قليل يعد على رؤوس الأصابع، ويمثلهم اليوم شيعة إيران وحزب اللات اللبناني، والحوثيين، عجبا لمسلم يتولى هؤلاء وهو يزعم أن عائشة أمه!)، ولقد نزلت بها مرة على بعض المياه أريد الوضوء. فأتى بعض أهل تلك القرية ليتوضأ فبدأ بغسل رجليه، ثم غسل وجهه، ولم يتمضمض ولا اسنتشق، ثم مسح بعض رأسه، فأخذت عليه في فعله فقال لي: إن البناء إنما يكون ابتداؤه من الأساس..
تورع عن إتيان الزوجة (s)
ثم سافرت إلى مدينة جبلة، وهي ذات أنهار مطردة وأشجار، البحر على نحو ميل منها. وبها قبر الولي الصالح الشهير إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، وهو الذي نبذ الملك، وانقطع إلى الله تعالى، حسبما شهر ذلك. ولم يكن إبراهيم من بيت ملك كما يظنه الناس إنما ورث الملك عن جده أبي أمه. وأما أبوه أدهم فكان من الفقراء الصالحين السائحين المتعبدين الورعين المنقطعين. يذكر أن أدهم مر ذات يوم ببساتين مدينة بخارى، وتوضأ من بعض الأنهار التي تتخللها، فإذا بتفاحة يحملها ماء النهر. فقال: هذه لا خطر لها. فأكلها، ثم وقع في خاطره من ذلك وسواس، فعزم على أن يستحل من صاحب البستان، فقرع باب البستان فخرجت إليه جارية. فقال: أدعي لي صاحب المنزل فقالت إنه امرأة، فقال: استأذني لي عليها، ففعلت، فأخبر المرأة بخبر التفاحة. فقالت له: إن هذا البستان نصفه لي، ونصفه للسلطان، والسلطان يومئذ ببلخ، وهي على مسيرة عشرة من بخارى وأحلته المرأة من نصفها، وذهب إلى بلخ فاعترض السلطان في موكبه فأخبره الخبر، واستحله. فأمره أن يعود إليه من الغد. وكان للسلطان بنت بارعة الجمال، قد خطبها أبناء الملوك فتمنعت وحببت إليها العبادة وحب الصالحين. وهي تحب أن تتزوج من ورع زاهد في الدنيا. فلما عاد السلطان إلى منزله أخبر ابنته بخبر أدهم، وقال: ما رأيت أورع من هذا، يأتي من بخارى إلى بلخ لأجل نصف تفاحة. فرغبت في تزوجه. فلما أتاه من الغد، قال: لا أحلك إلا أن تتزوج ببنتي. فانقاد لذلك بعد استعصاء وتمنع، فتزوج منها، فلما دخل عليها وجدها متزينة، والبيت مزين بالفرش وسواها. فعمد إلى ناحية من البيت، وأقبل على صلاته حتى أصبح، ولم يزل كذلك سبع ليال. وكان السلطان ما أحله قبل فبعث إليه أن يحله فقال لا أحلك حتى يقع اجتماعك بزوجتك. فلما كان الليل واقعها، ثم اغتسل، وقام إلى الصلاة فصاح صيحة وسجد في مصلاه فوجد ميتا رحمه الله، وحملت منه، فولدت إبراهيم. ولم يكن لجده ولد فأسند الملك إليه. وكان من تخليه عن الملك ما اشتهر.
لا تنهق علفك يأتيك (t)
وعلى قبر إبراهيم بن أدهم زاوية حسنة فيها بركة ماء، وبها الطعام للصادر والوارد وخادمها إبراهيم الجمحي من كبار الصالحين.. وكل من يأتي من الزوار لهذه التربة يعطي لخادمها شمعة، فيجتمع من ذلك قناطير كثيرة. وأكثر أهل هذه السواحل هم الطائفة النصيرية الذين يعتقدون أن علي بن أبي طالب إله، وهم لا يصلون ولا يتطهرون ولا يصومون. وكان الملك الظاهر ألزمهم بناء المساجد بقراهم، فبنوا بكل قرية مسجدا بعيدا عن العمارة ولا يدخلونه ولا يعمرونه. وربما أوت إليه مواشيهم ودوابهم وربما وصل الغريب إليهم فينزل بالمسجد ويؤذن إلى الصلاة فيقولون لا تنهق علفك يأتيك وعددهم كثير.
ذُكر لي أن رجلا مجهولا وقع ببلاد هذه الطائفة، فادعى الهداية، وتكاثروا عليه فوعدهم بتملك البلاد، وقسم بينهم بلاد الشام.. ثم إنه أمرهم بالتجهيز لقتال المسلمين وأن يبدؤوا بمدينة جبلة وأمرهم أن يأخذوا عوض السيوف قضبان الآس، ووعدهم أنها تصير في أيديهم سيوفا عند القتال، فغدروا مدينة جبلة وأهلها في صلاة الجمعة، فدخلوا الدور وهتكوا الحريم. وثار المسلمون من مسجدهم فأخذوا السلاح وقتلوهم كيف شاءوا.. وكان الخبر قد طير به الحمام إلى الملك الناصر، وصدر جوابه أن يحمل عليهم السيف. فراجعه ملك الأمراء، وألقي له أنهم عمال المسلمين في حراثة الأرض، وإنهم إن قتلوا ضعف المسلمون لذلك، فأمر بالإبقاء عليهم.
جبل لبنان ودمشق (5)
ثم سافرت إلى جبل لبنان، وهو من أخصب جبال الدنيا، فيه أصناف الفواكه وعيون الماء والظلال الوافرة، ولا يخلوا من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصالحين، وهو شهير بذلك..
(ثم) وصلت يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين إلى مدينة دمشق الشام، فنزلت منها بمدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية، ودمشق هي التي تفضل جميع البلاد حسنا وتتقدمها جمالا، وكل وصف وإن طال، فهو قاصر عن محاسنها.. وأهل دمشق لا يعملون يوم السبت عملا، إنما يخرجون إلى المتنزهات وشطوط الأنهار ودوحات الأشجار، بين البساتين النضرة والمياه الجارية فيكونون بها يومهم إلى الليل.
الإفتراء على ابن تيمية (s)
وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئا، وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، ويعظهم على المنبر. وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي وقال: إن هذا الرجل قال كذا وكذا، وعدد ما أنكر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة، وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلا الله، فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله. فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعواما. وصنف في السجن كتابا في تفسير القرآن سماه البحر المحيط، في نحو أربعين مجلدا. ثم إن أمه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه، فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية. وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم. فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به. فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربا كثيرا حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك. فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم. فكتب إلى الملك الناصر بذلك، وكتب عقدا شرعيا على ابن تيمية بأمور منكرة، منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة ومنها المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبا لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك ما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة، فسجن بها حتى مات في السجن (هذا افتراء لا يخفى على من عرف منهج ابن تيمية في كتبه، فهو ضد التشبيه، ويستحيل أن يقول ان الله تعالى ينزل كنزول أي مخلوق نعرفه، لأننا ببساطة نجهل كيفية نزوله سبحانه وتعالى. هذه هي عقيدة الصحابة وابن تيمية وأهل السنة والجماعة من غير الأشاعرة. لاحظ أن ابن بطوطة شهد له بأنه كبير الشام في العلم، مع ما فيها من علماء في عصره، وأن العوام يحبونه ويدافعون عنه، وتلك ميزة، وشهد بأن المطعون فيه هم أعداء ابن تيمية كالقاضي المذكور الذي يمكن التأكد من ابتداعه بلبسه للحرير. خلاصة القول أن ابن تيمية حورب لأنه دافع عن الدين ضد أهل البدع الذين منهم ابن بطوطة نفسه – أو من حرف كتابه بعده -، فلم يتركوه، ولم يتركوا السلفية الوهابية ولا كل من يدافع عن الحق ضد ضلالاتهم، واهم أسلحتهم هو الكذب والإفتراء والتدليس لأن يفتقرون إلى الدليل)..
التضرع إلى الله علامة ضعف الإنسان (2)
وشاهدت أيام الطاعون الأعظم بدمشق في أواخر ربيع الثاني سنة تسع وأربعين من تعظيم أهل دمشق لهذا المسجد ما يعجب منه، وهو أن ملك الأمراء نائب السلطان أرغون شاه أمر مناديا ينادي بدمشق أن يصوم الناس ثلاثة أيام، ولا يطبخون بالسوق. فصام الناس ثلاثة أيام متوالية، كان آخرها يوم الخميس. ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في الجامع، حتى غص بهم، وباتوا ليلة الجمعة ما بين مصل وذاكر وداع، ثم صلوا الصبح، وخرجوا جميعا على أقدامهم، وبأيديهم المصاحف، والأمراء حفاة، وخرج جميع أهل البلد ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وخرج اليهود بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ومعهم النساء والولدان، وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه، وقصدوا مسجد الأقدام، وأقاموا به في تضرعهم ودعائهم إلى قرب الزوال، وعادوا إلى البلد، وصلوا الجمعة. وخفف الله تعالى عنهم عندما انتهى عدد الموتى إلى ألفين في اليوم الواحد، وقد انتهى عددهم بالقاهرة ومصر إلى أربعة وعشرين ألفا باليوم الواحد.. وبالباب الشرقي من دمشق منارة بيضاء يقال إنها التي ينزل عيسى عليه السلام عندها حسبما ورد في صحيح مسلم.
الخروج يوم عرفة في دمشق (4)
ومن عادة أهل دمشق وسائر تلك البلاد أنهم يخرجون بعد صلاة العصر من يوم عرفة، فيقفون بصحون المساجد كبيت المقدس وجامع بني أمية وسواها، ويقف بهم أئمتهم كاشفي رؤوسهم داعين خاضعين خاشعين ملتمسين البركة، ويتوخون الساعة التي يقف فيها وفد الله تعالى وحجاج بيته بعرفات، ولا يزالون في خضوع ودعاء وابتهال وتوسل إلى الله تعالى بحجاج بيته إلى أن تغيب الشمس، فينفرون كما ينفر الحاج، باكين على ما حرموه من ذلك الموقف الشريف بعرفات، داعين إلى الله تعالى أن يوصلهم إليها ولا يخيبهم من بركة القبول فيما فعلوه (لاحظ أن أي عبادة لله يجب أن تكون معروفة عند السابقين إلى الإسلام، أي يقرها السلف الصالح لا أهل البدع الذين ابتدعوها، يأتي مجهول منهم في عصور متأخرة ليبتكر للناس عبادات وأدعية ما أنزل الله بها منس لطانن وما عرفها الجيل الأول من المسلمين، أي لا دليل عليها).
شؤم ديار المعذبين (2)
ثم رحل الركب من “تبوك”.. وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون البئر الحجر حجر ثمود، وهي كثيرة الماء، ولكن لا يردها أحد من الناس، مع شدة عطشهم، اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزوة تبوك، فأسرع براحلته وأمر أن لا يسقى منها أحد. ومن عجن به أطعمه الجمال. وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة، لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت. إن في ذلك لعبرة، ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك..
توضأ بدم ابن عمه فلعقوا دمه (2)
(ثم وصلنا) إلى “المدينة”، وكان أميرها كبيش بن منصور بن جماز. وكان قد قتل عمه مقبلا. ويقال: إنه توضأ بدمه. ثم إن كبيشا خرج سنة سبع وعشرين إلى الفلاة في شدة الحر ومعه أصحابه، فأدركتهم القائلة في بعض الأيام، فتفرقوا تحت ظلال الأشجار فما راعهم إلا وأبناء مقبل في جماعة من عبيدهم ينادون: يا لثارات مقبل، فقتلوا كبيش بن منصور صبرا، ولعقوا دمه..
الكعبة المشرفة (5)
ثم دخلنا البيت الحرام الشريف الذي من دخله كان آمنا من باب بني شيبة، وشاهدنا الكعبة الشريفة، زادها الله تعظيما، وهي كالعروس تجلى على منصة الجلال، وترفل في برود الجمال، محفوفة بوفود الرحمن، موصلة إلى جنة الرضوان. وطفنا بها طواف القدوم، واستلمنا الحجر الكريم، وصلينا ركعتين بمقام إبراهيم، وتعلقنا بأستار الكعبة عند الملتزم بين الباب والحجر الأسود، حيث يستجاب الدعاء، وشربنا من ماء زمزم، وهو لما شرب له حسبما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تسليما، ثم سعينا بين الصفا والمروة.. ومن عجائب صنع الله تعالى أنه طبع القلوب على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة، والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة، وجعل حبها متمكنا في القلوب، فلا يحلها أحد إلا أخذت بمجاميع قلبه، ولا يفارقها إلا أسفا لفراقها، متولها لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناويا لتكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة نصب الأعين، ومحبتها حشو القلوب، حكمة من الله بالغة، وتصديقا لدعوة خليله عليه السلام. ومن عجائب الآيات في الكعبة الشريفة أن بابها يفتح، والحرم غاص بأمم لا يحصيها إلا الله الذي خلقهم ورزقهم، فيدخلونها أجمعين ولا تضيق عنهم، ومن عجائبها أنها لا تخلو عن طائف أبدا ليلا ولا نهارا، ولم يذكر أحد أنه رآها قط دون طائف. ومن عجائبها أن حمام مكة وسواه من الطير، لا ينزل عليها ولا يعلوها في الطيران وتجد الحمام يطير على أعلى الحرم كله فإذا حاذى الكعبة الشريفة عرج عنها إلى إحدى الجهات ولم يعلها، ويقال لا ينزل عليها طائر إلا إذا كان به مرض فإما أن يموت لحينه أو يبرأ من مرضه فسبحان الذي خصها بالتشريف والتكريم وجعل لها المهابة والتعظيم.
غار حراء (5)
والناس يقصدون زيارة هذا الغار المبارك، فيرومون دخوله من الباب الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم تبركا بذلك. فمنهم من يتأتى له، ومنهم من لا يتأتى له وينشب فيه، حتى يتناول بالجذب العنيف، ومن الناس من يصلي أمامه ولا يدخله. وأهل تلك البلاد يقولون: إنه من كان لرشده دخله، ومن كان لزينة لم يقدر على دخوله. ولهذا يتحاماه كثير من الناس لأنه مخجل فاضح. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخنا الحجاج الأكياس أن سبب صعوبة الدخول إليه هو أن بداخله مما يلي هذا الشق الذي يدخل منه حجرا كبيرا معترضا. فمن دخل من ذلك الشق منبطحا على وجهه وصل رأسه إلى ذلك الحجر، فلم يمكنه التولج، ولا يمكنه أن ينطوي إلى العلو، ووجهه وصدره يليان الأرض. فذلك هو الذي ينشب ولا يخلص إلا بعد الجهد والجذب إلى خارج ومن دخل منه مستلقيا على ظهره أمكنه، لأنه إذا وصل رأسه إلى الحجر المعترض رفع رأسه، واستوى قاعدا، فكان ظهره مستندا إلى الحجر المعترض وأوسطه في الشق ورجلاه من خارج الغار ثم يقوم قائما بداخل الغار.
من عطشه شرب قربة ماء (2)
ومما اتفق بهذا الجبل لصاحبين من أصحابي: أحدهما الفقيه المكرم أبو محمد عبد الله بن فرحان.. والآخر أبو العباس أحمد الأندلسي.. أنهما قصدا الغار في حين مجاورتهما بمكة شرفها الله تعالى في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وذهبا منفردين، لم يستصحبا دليلا عارفا بطريقه فتاها. وضلا طريق الغار وسلكا طريقا سواها منقطعة، وذلك في أوان اشتداد الحر وحمى القيظ، فلما نفد ما كان عندهما من الماء، وهما لم يصلا إلى الغار، أخذا في الرجوع إلى مكة شرفها الله تعالى، فوجدا طريقا فاتبعاه وكان يفضي إلى جبل آخر، واشتد بهما الحر، وأجهدهما العطش، وعاينا الهلاك، وعجز الفقيه أبو محمد عبد الله بن فرحان عن المشي جملة، والقى بنفسه إلى الأرض، ونجا الأندلسي بنفسه. وكان فيه فضل قوة، ولم يزل يسلك تلك الجبال حتى أفضى به الطريق إلى أجياد، فدخل إلى مكة شرفها الله تعالى، وقصدني، وأعلمني بهذه الحادثة وبما كان من أمر عبد الله التورزي وانقطاعه في الجبل، وكان ذلك في آخر النهار. ولعبد الله المذكور ابن عم اسمه حسن، وهو من سكان وادي نخلة، وكان إذ ذاك بمكة، فأعلمته بما جرى على ابن عمه، وقصدت الشيخ الصالح الإمام أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بخليل إمام ألمالكية نفع الله به، فأعلمته بخبره، فبعث بجماعة من أهل مكة عارفين بتلك الجبال والشعاب في طلبه. وكان من أمر عبد الله التوزري أنه لما فارقه رفيقه، لجأ إلى حجر كبير، فاستظل بظله، وأقام على هذه الحالة من الجهد والعطش، والغربان تطير فوق رأسه، وتنتظر موته. فلما انصرم النهار، وأتى الليل، وجد في نفسه قوة وأنعشه برد الليل، فقام عند الصباح على قدميه ونزل من الجبل إلى بطن واد حجبت الجبال عنه الشمس، فلم يزل ماشيا إلى أن بدأت له دابة فقصد قصدها، فوجد خيمة للعرب. فلما رآها وقع إلى الأرض ولم يستطع النهوض، فرأته صاحبة الخيمة، وكان زوجها قد ذهب إلى ورد الماء فسقته ما كان عندها من الماء فلم يرو، وجاء زوجها فسقاه قربة ماء فلم يرو، وأركبه حمارا له، وقدم به مكة فوصلها عند صلاة العصر من الثاني متغيرا كأنه قام من قبر..
عادات عند أهل مكة (5)
ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء. ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم يطعمهم. وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران حيث يطبخ الناس أخبازهم. فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله فيتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له، ولا يردهم خائبين، ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيب النفس بذلك من غير ضجر.
وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس وأكثر لباسهم البياض فترى ثيابهم أبدا ناصعة ساطعة. ويستعملون الطيب كثيرا ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر. ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف. وهن يكثرن التطيب، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيبا. وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة، فيأتين في أحسن زي وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب المرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقا..
وأهل مكة لا يأكلون في اليوم إلا مرة واحدة بعد العصر، ويقتصرون عليها إلى مثل ذلك الوقت. ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر. ولذلك صحت أبدانهم، وقلت فيهم الأمراض والعاهات..
مغبة التدخل فيما لا يعني (2)
كان تقي الدين المصري محتسبا بمكة، وكان له دخول فيما يعنيه وفيما لا يعنيه. فاتفق في بعض السنين أن أتى أمير الحاج بصبي من ذوي الدعارة بمكة قد سرق بعض الحجاج. فأمر بقطع يده فقال له تقي الدين: إن لم تقطعها بحضرتك وإلا غلب أهل مكة خدامك عليه فاستنقذوه منهم وخلصوه، فأمر بقطع يده في حضرته فقطعت. وحقدها لتقي الدين. ولم يزل يتربص به الدوائر، ولا قدرة له عليه لأن له حسبا من الأميرين رميثة وعطيفة، والحسب عندهم أن يعطي أحدهم هدية من عمامة أو شاشية بمحضر الناس تكون جوارا لمن أعطيته ولا تزول حرمتها معه حتى يريد الرحلة والتحول عن مكة. فأقام تقي الدين بمكة أعواما، ثم عزم على الرحلة، وودع الأميرين، وطاف طواف الوداع وخرج من باب الصفا. فلقيه صاحبه الأقطع وتشكى له ضعف حاله وطلب منه ما يستعين به على حاجته. فانتهره تقي الدين وزجره، فاستل خنجرا له يعرف عندهم بالجنبية، وضربه ضربة واحدة كان فيها حتفه..
محمول بين السماء والأرض (s)
كان بمكة أيام مجاورتي بها حسن المغربي المجنون، وأمره غريب وشأنه عجيب. وكان قبل ذلك صحيح العقل خديما لولي الله تعالى نجم الدين الأصبهاني أيام حياته. كان حسن المجنون كثير الطواف بالليل، وكان يرى في طوافه بالليل فقيرا يكثر الطواف، ولا يراه بالنهار. فلقيه ذلك الفقير ليلة وسأله عن حاله، وقال يا حسن: إن أمك تبكي عليك وهي مشتاقة إلى رؤيتك، وكانت من إماء الله الصالحات، أفتحب أن تراها، قال له: نعم، ولكني لا قدرة لي على ذلك. فقال له: نجتمع ها هنا في الليلة المقبلة إن شاء الله تعالى، فلما كانت الليلة المقبلة وهي ليلة الجمعة، وجده حيث واعده، فطافا بالبيت ما شاء الله، ثم خرج وهو في أثره إلى باب المعلى. فأمره أن يسد عينيه ويمسك بثوبه ففعل ذلك. ثم قال: بعد ساعة: أتعرف بلدك؟ قال نعم. قال: ها هو ذا. ففتح عينيه، فإذا به على دار أمه، فدخل عليها، ولم يعلمها بشيء مما جرى، وأقام عندها نصف شهر، وأظن أن بلده مدينة “أسفي”. ثم خرج إلى الجبانة، فوجد الفقير صاحبه، فقال له: كيف أنت؟ فقال: يا سيدي، إني اشتقت إلى رؤية الشيخ نجم الدين، وكنت خرجت على عادتي وغبت عنه هذه الأيام، وأحب أن تردني إليه، فقال له: نعم، وواعده الجبانة (المقبرة) ليلا. فلما وافاه بها أمره أن يفعل كفعله في مكة شرفها الله من تغميض عينيه والإمساك بذيله، ففعل ذلك، فإذا به في مكة شرفها الله. وأوصاه أن لا يحدث نجم الدين بشيء مما جرى، ولا يحدث به غيره فلما دخل على نجم الدين قال له: أين كنت يا حسن في غيبتك؟ فأبى أن يخبره. فعزم عليه، فأخبره بالحكاية. فقال: أرني الرجل، فأتي معه ليلا، وأتى الرجل على عادته فلما مر بهما قال له: يا سيدي هو هذا، فسمعه الرجل فضربه بيده على فمه وقال اسكت اسكتك الله. فخرس لسانه وذهب عقله، وبقي بالحرم مولها يطوف بالليل والنهار من غير وضوء ولا صلاة، والناس يتبركون به ويكسونه، وإذا جاع خرج إلى السوق التي بين الصفا والمروة، فيقصد حانوتا من الحوانيت، فيأكل منها ما أحب، لا يصده أحد ولا يمنعه بل يسر كل من أكل له شيئا، وتظهر له البركة والنماء في بيعه وربحه (لقصص هؤلاء المتصوفة علاقة وطيدة بالشياطين الذين يضلونهم)..
المسلمون والروافض الشيعة (t)
وأقمنا بالمدينة كرمها الله تعالى ستة أيام، واستصحبنا منها الماء لمسيرة ثلاث.. ثم رحلنا فنزلنا ببركة المرجوم، وهو مشهد على الطريق عليه كوم عظيم من حجارة، وكل من مر به رجمه. ويذكر أن هذا المرجوم كان رافضيا، فسافر مع الركب يريد الحج، فوقعت بينه وبين أهل السنة من الأتراك مشاجرة، فسب بعض الصحابة، فقتلوه بالحجارة..
كرامات الروافض (t)
ثم نزلنا مدينة مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنجف، وهي مدينة حسنة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناسا وأتقنها بناء ولها أسواق حسنة نظيفة.. ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة، ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز واللحم والتمر مرتين في اليوم، ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبة، وعلى بابها الحجاب والنقباء والطواشية فعندما يصل الزائر يقوم إليه أحدهم أو جميعم وذلك على قدر الزائر، فيقفون معه على العتبة ويستأذنون له، ويقولون عن أمركم يا أمير المؤمنين هذا العبد الضعيف يستأذن على دخوله الروضة العلية، فإن أذنتم له وإلا رجع، وإن لم يكن أهلا لذلك فأنتم أهل المكارم والستر ثم يأمرونه بتقبيل العتبة وهي من الفضة وكذلك العضادتان، ثم يدخل.. وأهل هذه المدينة كلهم رافضية. وهذه الروضة ظهرت لها كرامات ثبت بها عندهم أن بها قبر علي رضي الله عنه فمنها أنه في ليلة السابع والعشرين من رجب وتسمى عندهم ليلة المحيا، يؤتى إلى تلك الروضة بكل مقعد من العراقين وخراسان وبلاد فارس والروم، فيجتمع منهم الثلاثون والأربعون ونحو ذلك. فإذ كان بعد العشاء الآخرة جعلوا فوق الضريح المقدس، والناس ينظرون قيامهم، وهم ما بين مصل وذاكر وتال ومشاهد للروضة فإذا مضى من الليل نصفه، أو ثلثاه أو نحو ذلك، قام الجميع أصحاء من غير سوء، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله، وهذا أمر مستفيض عندهم سمعته من الثقات. ولم أحضر تلك الليلة لكني رأيت بمدرسة الضياف ثلاثة من الرجال: أحدهم من أرض الروم والثاني من أصبهان والثالث من خراسان، وهم مقعدون، فاستخبرتهم عن شأنهم، فأخبروني أنهم لم يدركوا ليلة المحيا، وأنهم منتظرون أوانها من عام آخر (سمعت أن وليا صوفيا عندنا هنا في موريتانيا يُفعل عند ضريحه مثل هذا الإستئذان المبتدع، فعجبا لأهل البدع يتشابهون في أمور كثيرة مما يدل على أن المصدر واحد وهو الشيطان)..
زد نقرة يا نقار (2)
وكان النقيب في عهد دخولي إليها نظام الدين حسين بن تاج الدين الآوي.. وكان قبله جماعة.. منهم أبو غرة بن سالم بن مهنا.. وكان قد غلب عليه في أول أمره العبادة وتعلم العلم واشتهر بذلك، وكان بالمدينة الشريفة كرمها.. ثم إنه استوطن العراق وسكن منها بالحلة، فمات النقيب قوام الدين بن طاوس فانفق أهل العراق على تولية أبي غرة نقابة الأشراف، وكتبوا بذلك إلى السلطان أبي سعيد (ملك العراق) فأمضاه.. وبعث له الخلعة والأعلام والطبول على عادة النقباء ببلاد العراق، فغلبت عليه الدنيا، وترك العبادة والزهد، وتصرف في الأموال تصرفا قبيحا، فرفع أمره إلى السلطان، فلما علم بذلك أعمل السفر، مظهرا أنه يريد خراسان قاصدا زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، وكان قصده الفرار. فلما زار علي ابن موسى قدم “هراة”، وهي آخر بلاد خراسان وأعلم أصحابه أنه يريد بلاد الهند فرجع أكثرهم عنه، وتجاوز هو أرض خراسان، إلى السند فلما جاوز وادي السند المعروف “ببنج آب” ضرب طبوله وأنفاره فراع ذلك أهل القرى وظنوا أن التتر أتوا للاغارة عليهم، وأجفلوا إلى المدينة المسماة بأوجا، وأعلموا أميرها بما سمعوه، فركب في عساكره واستعد للحرب وبعث الطلايع، فرأوا نحو عشرة من الفرسان وجماعة من التجار والرجال ممن صحب الشريف في طريقه معهم الأطبال والأعلام، فسألوهم عن شأنهم، فأخبروهم أن الشريف نقيب العراق أتى وافدا على ملك الهند.. فاستضعف (الأمير) عقل الشريف لرفعة العلامات وضربه الطبول في غير بلاده. ودخل الشريف مدينة أوجا وأقام بها مدة تضرب الأطبال على باب داره غدوة وعشية، وكان مولعا بذلك، ويذكر أنه كان في أيام نقابته بالعراق تضرب الأطبال على رأسه، فإذا أمسك النقار عن الضرب يقول له “زد نقرة يا نقار” حتى لقب بذلك. وكتب صاحب مدينة اوجا إلى ملك الهند بخبر الشريف وضربه الأطبال بالطريق وعلى باب داره غدوة وعشيا ورفعه الأعلام، وعادة أهل الهند أن لا يرفع علما ولا يضرب طبلا إلا من أعطاه الملك ذلك، ولا يفعله الا في السفر وأما في حال الإقامة فلا يضرب الطبل إلا على باب الملك خاصة بخلاف مصر والشام والعراق فإن الطبول تضرب على أبواب الأمراء، فلما بلغ خبره ملك الهند كره فعله وأنكره، وفعل في نفسه.. وكان الأمير “كشلي خان” والخان عندهم أعظم الأمراء، وهو الساكن بملتان كرسي بلاد السند، وهو عظيم القدر عند ملك الهند يدعوه بالعم لأنه كان ممن أعان أباه السلطان غياث الدين تغلق شاه على قتال السلطان ناصر الدين خسرو شاه، قد قدم على حضرة ملك الهند فخرج الملك إلى لقائه فاتفق أن كان وصول الشريف في ذلك اليوم، وكان الشريف قد سبق الأمير بأميال وهو على حاله من ضرب الأطبال، فلم يرعه إلا السلطان في موكبه، فتقدم الشريف إلى السلطان فسلم عليه، وسأله السلطان عن حاله وما الذي جاء به فأخبره، ومضى السلطان حتى لقي الأمير كشلي خان وعاد إلى حضرته، ولم يلتفت إلى الشريف ولا أمر له بإنزال ولا غيره، وكان الملك عازما على السفر إلى مدينة دولة أباد.. وهي على مسيرة أربعين يوما من مدينة دهلي حاضرة الملك، فلما شرع الملك في السفر بعث إلى الشريف بخمسمائة دينار.. وقال لرسوله اليه: قل له إن أراد الرجوع إلى بلاده فهذا زاده، وإن أراد السفر معنا فهي نفقته في الطريق، وان أراد الإقامة بالحضرة فهي نفقته حتى نرجع، فاغتم الشريف لذلك وكان قصده أن يجزل له العطاء كما هي عادته مع أمثاله، واختار السفر صحبة السلطان، وتعلق بالوزير أحمد بن أياس المدعو بخواجة جهان فتأكدت المودة بينهما، فأحسن إليه ورفع قدره ولاطف الملك حتى حسن فيه رأيه، وأمر له بقريتين من قرى دور أباد، وأمره أن تكون إقامته بها، وكان هذا الوزير من أهل الفضل والمروءة ومكارم الأخلاق والمحبة في الغرباء والإحسان إليهم وفعل الخير وإطعام الطعام وعمارة الزوايا، فأقام الشريف يستغل القريتين ثمانية أعوام، وحصل من ذلك مالا عظيما، ثم أراد الخروج فلم يمكنه فإنه من خدم السلطان لا يمكنه الخروج إلا بإذنه وهو محب في الغرباء فقليلا ما يأذن لأحدهم في السراح، فأراد الفرار من طريق الساحل فرد منه، وقدم الحضرة، ورغب من الوزير أن يحاول قضية انصرافه، فتلطف الوزير في ذلك حتى أذن له السلطان في الخروج عن بلاد الهند، وأعطاه عشرة آلاف دينار من دراهمهم، وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار، فأتى بها في بدرة فجعلها تحت فراشه ونام عليها، لمحبته في الدنانير وفرحه بها وخوفه أن يتصل لأحد من أصحابه شيء منها، فإنه كان بخيلا، فأصابه وجع في جنبه بسبب رقاده عليها ولم يزل يتزايد به وهو آخذ في حركة سفره إلى أن توفي بعد عشرين يوما من وصول البدرة إليه.. وهذا الشريف أبو غرة له أخ اسمه قاسم، سكن غرناطة مدة، وبها تزوج بنت الشريف أبي عبد الله بن إبراهيم الشهير بالمكي، ثم انتقل إلى جبل طارق فسكنه إلى أن استشهد بوادي كرة من نظر الجزيرة الخضراء، وكان بهمة من البهم لا يصطلي بناره، خرق المعتاد في الشجاعة وله فيها أخبار شهيرة عند الناس..
التمرغ في النار (s)
فسنح لي زيارة قبر الولي أبي العباس أحمد الرفاعي، وهو بقرية تعرف بأم عبيدة، على مسيرة يوم من واسط.. ووصلنا في ظهر اليوم الثاني إلى الرواق، وهو رباط عظيم فيه آلاف من الفقراء. وصادفنا به قدوم الشيخ أحمد كوجك حفيد ولي الله أبي العباس الرفاعي الذي قصدنا زيارته. وقد قدم من موضع سكناه من بلاد الروم برسم زيارته قبر جده، وإليه انتهت الشياخة بالرواق. ولما انقضت صلاة العصر ضربت الطبول والدفوف، وأخذ الفقراء في الرقص، ثم صلوا المغرب وقدموا السماط، وهو خبز الأرز والسمك واللبن والتمر، فأكل الناس، ثم صلوا العشاء الآخرة، وأخذوا في الذكر، والشيخ أحمد قاعد على سجادة جده المذكور، ثم أخذوا في السماع، وقد أعدوا أحمالا من الحطب فأججوها نارا، ودخلوا في وسطها يرقصون ومنهم من يتمرغ فيها ومنهم من يأكلها بفمه حتى أطفأها جميعا وهذا دأبهم. وهذه الطائفة الأحمدية مخصوصون بهذا، وفيهم من يأخذ الحية العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه..
كنت مررت بموضع يقال له، أفقانبور، من عمالة هزار أمروها، وبينها وبين دهلي حضرة الهند مسيرة خمس. وقد نزلنا بها على نهر يعرف بنهر السرور، وذلك في أوان الشكال، والشكال عندهم هو المطر، وينزل في إبان القيظ. وكان السيل ينحدر في هذا النهر من جبال قراجيل، فكل من يشرب منه من إنسان أو بهيمة يموت لنزول المطر على الحشائش المسمومة. فأقمنا على النهر أربعة أيام لا يقربه أحد، ووصل إلى هنالك جماعة من الفقراء في أعناقهم أطواق الحديد وفي أيديهم، وكبيرهم رجل أسود حالك اللون. وهم من الطائفة المعروفة بالحيدرية، فباتوا عندنا ليلة، وطلب مني كبيرهم أن آتيه بالحطب ليوقدوه عند رقصهم، فكلفت والي تلك الجهة وهو عزيز المعروف بالخمار، وسيأتي ذكره، أن يأتي بالحطب فوجه منه عشرة أحمال، فأضرموا فيه النار بعد صلاة العشاء الآخرة حتى صارت جمرا، وأخذوا في السماع، ثم دخلوا في تلك النار. فما زالوا يرقصون ويتمرغون فيها، وطلب مني كبيرهم قميصا، فأعطيته قميصا في النهاية من الرقة، فلبسه وجعل يتمرغ به في النار ويضربها بأكمامه حتى طفئت تلك النار، وخمدت. وجاء إلي بالقميص، والنار لم تؤثر فيه شيئا البتة، فطال عجبي منه (إن العجب كل العجب ممن يتصور أن لمثل هذه الخزعبلات علاقة بالكرامة والتدين، بل لها علاقة بالشياطين، فهذه طرقهم وألاعيبهم، أما الدين فلم يكن في الصحابة ولا تابعيهم بإحسان من يتمرغ في النار!).
الصومعة المتحركة (t،5)
ولهذا الجامع سبع صوامع (من جوامع مدينة البصرة)، إحداها الصومعة التي تتحرك بزعمهم عند ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. صعدت إليها من أعلى سطح الجامع ومعي بعض أهل البصرة، فوجدت في ركن من أركانها مقبض خشب مسمرا فيها كأنه مقبض مملسة البناء. فجعل الرجل الذي كان معي يده في ذلك المقبض، وقال: بحق رأس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه تحركي، وهز المقبض فتحركت الصومعة، فجعلت أنا يدي في المقبض وقلت له، وأنا أقول: بحق رأس أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركي، وهززت المقبض فتحركت الصومعة، فعجبوا من ذلك. وأهل البصرة على مذهب السنة والجماعة، ولا يخاف من يفعل مثل فعلي عندهم، ولو جرى مثل هذا بمشهد الحسين أو بالحلة أو بالبحرين أو قم أو قاشان أو ساوة أو آوة أو طوس، لهلك فاعله لأنهم رافضة غالية.
عبادان (5)
ثم ركبنا في الخليج الخارج من بحر فارس في مركب صغير لرجل من أهل الأبلة يسمى بمغامس، وذلك فيما بعد المغرب، فصبحنا عبادان، وهي قرية كبيرة في سبخة، لا عمارة بها، وفيها مساجد كثيرة ومتعبدات ورباطات للصالحين. وبينها وبين الساحل ثلاثة أميال. قال ابن جزي: عبادان كانت بلدا فيما تقدم، وهي مجدبة لا زرع بها، وإنما يجلب إليها، والماء أيضا بها قليل. وقد قال فيها بعض الشعراء:
من مبلغ أنـدلـسـا أنـنـي … حللت عبادان أقصى الثـرى
أوحش ما أبصرت لكـنـنـي … قصدت فيها ذكرها في الورى
الخبـز فـيهـا يتـهـادونـه … وشربة الماء بها تـشـتـرى
ربما أخذ هذا من قولي:
من مبلغ باريس أنني … حللت نواكشوط أقصى الثرى
أقبح ما أبصرت لكنني … بُليتُ بها فما استطيع تحولا
المال الحرام فيها يتهادونه … وحق الآدمي فيها يُشترى
الفقير المنزوي (2)
ثم وصلنا إلى مدينة إيذج وهي حضرة السلطان أتابك.. ولما كان نصف الليل سمعنا الصراخ، وقد مات المريض المذكور (ابن السلطان) وفي الغد دخل علي شيخ الزاوية وأهل البلد وقالوا: إن كبراء المدينة من القضاة والفقهاء والأشراف والأمراء قد ذهبوا إلى دار السلطان للعزاء، فينبغي لك أن تذهب في جملتهم فأبيت، فعزموا علي، فلم يكن لي بد من المسير، وسرت معهم، فوجدت مشوار دار السلطان ممتلئا رجالا وصبيانا من المماليك، وأبناء الملوك والوزراء والأجناد.. قد جعلوا فوق رؤوسهم التراب والتبن، وبعضهم قد جز ناصيته وانقسموا فرقتين فرقة بأعلى المشور، وفرقة بأسفله.. فلما رأيت جهات المشور غاصة بالناس نظرت يمينا وشمالا، أرتاد موضعا لجلوسي فرأيت هنالك سقيفة مرتفعة من الأرض بمقدار شبر، وفي إحدى زواياها رجل منفرد عن الناس قاعد، عليه ثوب صوف مثل اللبد يلبسه بتلك البلاد ضعفاء الناس أيام المطر والثلج وفي الأسفار، فتقدمت منه وانقطع عني أصحابي لما رأوا إقدامي نحوه، وعجبوا مني وأنا لا علم لي بشيء من حاله، فصعدت السقيفة وسلمت على الرجل فرد علي السلام، وارتفع عن الأرض كأنه يريد القيام، وهم يسمون ذلك نصف القيام وقعدت في الركن المقابل له، ثم نظرت إلى الناس، وقد رموني بأبصارهم جميعا فعجبت منهم.. وأشار إلي أحد القضاة أن أنحط إلى جانبه فلم أفعل، وحينئذ استشعرت أنه السلطان فلما كان بعد ساعة أتى شيخ المشايخ نور الدين الكرماني الذي ذكرناه قبل، فصعد إلى السقيفة وسلم على الرجل فقام إليه وجلس فيما بيني وبينه، فحينئذ علمت أنه السلطان. ثم جيء بالجنازة، وهي بين أشجار الأترج والليمون.. وهي بأيدي الرجال فكان الجنازة تمشي في بستان، والمشاعل في رماح طوال بين يديها، والشمع كذلك، فصلى عليها، وذهب الناس معها إلى مدفن الملوك.. على أربعة أميال من المدينة (هي الآجال لا تمهل أحدا، والجنة فاردة ذراعيها لكن الإنسان غافل، جعلنا الله وإياكم من أهلها).
نساء يحببن الوعظ (5)
(ثم سافرنا إلى أصفهان ثم شيراز) وأهل شيراز أهل صلاح ودين وعفاف، وخصوصا نساؤها وهن يلبسن الخفاف، ويخرجن ملتحفات متبرقعات فلا يظهر منهم شيء ولهن الصدقات والإيثار، ومن غريب حالهن أنهن يجتمعن لسماع الواعظ في كل يوم اثنين وخميس وجمعة بالجامع الأعظم، فربما اجتمع منهن الألف والألفان بأيديهن المراوح، يروحن بها على أنفسهن من شدة الحر. ولم أر اجتماع النساء في مثل عددهن في بلدة من البلاد..
معركة بين الرفض والقبول (3)
وعند دخولي إلى مدينة شيراز لم يكن لي هم إلا قصد الشيخ القاضي الإمام قطب الأولياء فريد الدهر ذي الكرامات الظاهرة مجد الدين اسماعيل بن محمد بن خداد.. حكاية هي السبب في تعظيم هذا الشيخ وهي من الكرامات الباهرة: كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الإمامية يسمى جمال الدين بن مطهر. فلما أسلم السلطان المذكور وأسلمت بإسلامه التتر، زاد في تعظيم هذا الفقيه، فزين له مذهب الروافض وفضله في غيره.. فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض.. وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أول بلاد وصل إليها بغداد وشيراز وأصفهان. فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الأزج منهم وهم أهل السنة وأكثرهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقالوا لا سمع ولا طاعة. وأتوا المسجد الجامع في يوم الجمعة ومعهم السلاح وبه رسول السلطان، فلما صعد الخطيب المنبر قاموا إليه وهم اثنا عشر ألفا من سلاحهم، وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها. فحلفوا له أنه إن غير الخطبة المعتادة، إن زاد فيها أو نقص منها، فإنهم قاتلوه، وقاتلوا رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاءه الله. وكان السلطان أمر بأن تسقط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من الخطبة، ولا يذكر إلا اسم علي ومن تبعه كعمار رضي الله عنهم. فخاف الخطيب من القتل، وخطب الخطبة المعتادة. وفعل أهل شيراز وأصفهان كفعل أهل بغداد. فرجعت الرسل إلى الملك فأخبروه بما جرى في ذلك فأمر أن يؤتى بقضاة المدن الثلاث. فكان أول من أتي به منهم القاضي مجد الدين قاضي شيراز.. فلما وصل القاضي أمر أن يرمي به إلى الكلاب التي عنده، وهي كلاب ضخام في أعناقها السلاسل معدة لأكل بني آدم. فإذا أوتي بمن يسلط عليه الكلاب جعل في رحبة كبيرة مطلقا غير مقيد، ثم بعثت تلك الكلاب عليه فيفر أمامها ولا مفر له، فتدركه فتمزقه، وتأكل لحمه. فلما أرسلت الكلاب على القاضي مجد الدين ووصلت إليه، بصبصت إليه وحركت أذنابها بين يديه، ولم تهجم عليه بشيء، فبلغ ذلك السلطان، فخرج من داره حافي القدمين فأكب على رجل القاضي يقبلهما، وأخذ بيده وخلع عليه جميع ما كان عليه من الثياب، وهي أعظم كرامات السلطان عندهم، وإذا خلع ثيابه كذلك على أحد، كانت شرفا له ولبنيه وأعقابه يتوارثونه، ما دامت تلك الثياب أو شيء منها، وأعظمها في ذلك السراويل. ولما خلع السلطان ثيابه على القاضي مجد الدين أخذ بيده وأدخله إلى داره وأمر نساءه بتعظيمه والتبرك به. ورجع السلطان عن مذهب الرفض، وكتب إلى بلاده أن يقر الناس على مذهب أهل السنة والجماعة، وأجزل العطاء للقاضي وصرفه إلى بلاده مكرما معظما، وأعطاه في جملة عطاياه مائة قرية من قرى جمكان، وهو خندق بين جبلين طوله أربعة وعشرون فرسخا، يشقه نهر عظيم. القرى منتظمة بجانبيه، وهو أحس موضع بشيراز. ومن قراه العظيمة التي تضاهي المدن قرية ميمن ، وهي للقاضي المذكور. ومن عجائب هذا الموضع المعروف بجمكان أن نصفه مما يلي شيراز وذلك مسافة اثني عشر فرسخا شديد البرد وينزل فيه الثلج وأكثر شجره الجوز، والجزء الآخر مما يلي بلاد هنج وبال وبلاد اللار في طريق هرمز شديد الحر وفيه شجر النخيل..
الهنود وفقراء المسلمين (3)
من المشاهد بها مشهد الإمام القطب الولي أبي عبد الله ابن خفيف المعروف عندهم بالشيخ. وهو قدوة بلاد فارس كلها..
كرامة لهذا الشيخ: يحكى أنه قصد مرة جبل سرنديب ومعه نحو ثلاثين من الفقراء، فأصابتهم مجاعة في طريق الجبل حيث لا عمارة، وتاهوا عن الطريق وطلبوا من الشيخ أن يأذن لهم في القبض على بعض الفيلة الصغار، وهي في ذلك المحل كثيرة جدا، ومنه تحمل إلى حضرة ملك الهند. فنهاهم الشيخ عن ذلك. فغلب عليهم الجوع، فتعدوا قول الشيخ وقبضوا على فيل صغير منها وذكوه وأكلوا لحمه، وامتنع الشيخ عن أكله، فلما ناموا تلك الليلة اجتمعت الفيلة من كل ناحية وأتت إليهم. فكانت تشم الرجل منهم وتقتله، حتى أتت على جميعهم. وشمت الشيخ ولم تتعرض له. وأخذه فيل منها ولف عليه خرطومه، ورمى به على ظهره، وأتى به الموضع الذي فيه العمارة فلما رآه أهل تلك الناحية عجبوا منه واستقبلوه ليتعرفوا أمره. فلما قرب منهم أمسكه الفيل بخرطومه ووضعه عن ظهره إلى الأرض بحيث يرونه. فجاءوا إليه وتمسكوا به إلى ملكهم، فعرفوه خبره وهم كفار، وأقام عندهم أياما. وذلك الموضع على خور يسمى خور الخيزران، والخور هو النهر. وبذلك الموضع مغاص الجوهر. ويذكر أن الشيخ غاص في بعض الأيام بمحضر ملكهم وخرج وقد ضم يديه معا، وقال للملك: اختر ما في إحداهما. فاختار ما في اليمنى فرمى إليه بما فيها، وكانت ثلاثة أحجار من الياقوت لا مثيل لها، وهي عند ملوكهم في التاج يتوارثونها. وقد دخلت جزيرة سيلان هذه، وهم مقيمون على الكفر، إلا أنهم يعظمون فقراء المسلمين، ويؤوونهم إلى دورهم، ويطعمونهم الطعام، ويكونون في بيوتهم وبين أهليهم وأولادهم، خلافا لسائر كفار الهند فإنهم لا يقربون المسلمين ولا يطعمونهم في آنيتهم، ولا يسقونهم فيها مع أنهم لا يؤذونهم ولا يهجونهم. ولقد كنا نضطر إلى أن يطبخ لنا بعض اللحم، فيأتون به في قدورهم، ويقعدون على بعد منا، ويأتون بأوراق الموز فيجعلون عليها الأرز وهو طعامهم، ويصبون عليه الكوشال وهو الإدام، ويذهبون فنأكل منه. وما فضل علينا تأكله الكلاب والطير. وإن أكل منه الولد الصغير الذي لا يعقل ضربوه وأطعموه روث البقر، وهو الذي يطهر ذلك في زعمهم..
قبر الشقي ابن ملجم (5)
ثم وصلنا.. إلى مدينة الكوفة.. ورأيت بغربي جبانة الكوفة موضعا مسودا شديد السواد في بسيط أبيض، فأخبرت أنه قبر الشقي ابن ملجم، وأن أهل الكوفة يأتون كل سنة بالحطب الكثير فيوقدون النار على موضع قبره سبعة أيام وعلى قرب منه قبة أخبرت أنها على قبر المختار بن أبي عبيد..
مهدي الشيعة المسجون (t)
ورحلنا منها الصبح فنزلنا مدينة “الحلة” وهي مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات وهو بشرقيها، ولها أسواق حسنة جامعة للمرافق والصناعات وهي كثيرة العمارة، وحدائق النخل منتظمة بها داخلا وخارجا.. وأهل هذا المدينة كلها إمامية اثنا عشرية.. وبهذه المدينة مسجد على بابه ستر حرير مسدول، وهم يسمونه مشهد صاحب الزمان، ومن عاداتهم أن يخرج في كل ليلة مائة رجل من أهل المدينة عليهم السلاح وبأيديهم سيوف مشهورة. فيأتون أمير المدينة بعد صلاة العصر يأخذون منه فرسا مسرجا ملجما أو بغلة كذلك، ويضربون الطبول والأنفار والبوقات أمام تلك الدابة، ويتقدمها خمسون منهم ويتبعها مثلهم ويمشي آخرون عن يمينها وشمالها، ويأتون مشهد صاحب الزمان فيقفون بالباب ويقولون: باسم الله يا صاحب الزمان باسم الله اخرج قد ظهر الفساد وكثر الظلم، وهذا أوان خروجك فيفرق الله بك بين الحق والباطل، ولا يزالون كذلك وهم يضربون الأبواق والأطبال والأنفار إلى صلاة المغرب، وهم يقولون: إن محمد بن الحسن العسكري دخل ذلك المسجد وغاب فيه وأنه سيخرج، وهو الإمام المنتظر عندهم (تأمل في قلة عقول الرافضة، ألا يكفيهم انتظار أجدادهم الطويل لذلك الخروج المستحيل؟!)..
سبحان مغير الأحوال (5)
ثم سافرنا منها إلى بغداد مدينة دار السلام، وحضرة الإسلام.. قال أبو الحسن بن جبير رضي الله عنه: وهذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية، فقد ذهب رسمها. ولم يبق إلا اسمها.. فلا حسن فيها يستوقف البصر.. إلا دجلتها التي هي بين شرقيها.. قال ابن جزي: وكان أبا تمام حبيب بن أوس اطلع على ما آل إليه أمرها حين قال فيها:
لقد أقام على بغـداد نـاعـيهـا … فليبكيها لخراب الدهر باكـيهـا
كانت على مائها والحرب موقـدة … والنار تطفأ حسنا في نواحـيهـا
ترجى لها عودة في الدهر صالحة … فالآن أضمر منها اليأس راجيهـا
مثل العجوز التي ولت شبيبتـهـا … وبان عنها جمال كان يحظـيهـا
كرامة لقبر الإمام أحمد (s)
وبقرب الرصافة (ببغداد) قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وعليه قبة عظيمة، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر. وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الطعام فيها ما عدا هذه الزاوية. فسبحان مبيد الأشياء ومغيرها. وبالقرب منها قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه ولا قبة عليه. ويذكر أنها بنيت على قبره مرارا فتهدمت بقدرة الله تعالى. وقبره عند أهل بغداد معظم، وأكثرهم على مذهبه. وبالقرب منه قبر أبي بكر الشبلي من أئمة المتصوفة رحمه الله، وقبر سري السقطي وقبر بشر الحافي وقبر داود الطائي وقبر أبي القاسم الجنيد، رضي الله عنهم أجمعين. وأهل بغداد لهم يوم في كل جمعة لزيارة شيخ من هؤلاء المشايخ، ويوم لشيخ آخر يليه، هكذا إلى آخر الأسبوع (راجع أقوال علماء الإسلام في أهل الضلال كالشبلي وابن عربي وغيرهما ممن يقدسهم بعض المغترين)..
تبادل الزوجات (2)
ذكر سلطان العراقين وخراسان: وهو السلطان الجليل أبو سعيد بهادرخان، وخان عندهم الملك.. ابن السلطان الجليل محمد خذابنده، وهو الذي أسلم من ملوك التتر.. وقدمنا قصته وكيف أراد أن يحمل الناس لما أسلم على الرفض، وقصة القاضي مجد الدين معه، ولما مات ولي الملك ولده أبو سعيد بهادرخان، وكان ملكا فاضلا كريما ملك وهو صغير السن، ورأيته ببغداد وهو شامل أجمل خلق الله صورة لا نبات بعارضيه.. ولما ولي استولى على أمره أمير الأمراء الجوبان، وحجر عليه التصرفات، حتى لم يكن بيده من الملك إلا الاسم.. ولم يزل كذلك إلى أن دخلت عليه يوما زوجة أبيه دنيا خاتون فقالت له: لو كنا نحن الرجال ما تركنا الجوبان وولده على ما هما عليه فاستفهمها عن مرادها بهذا الكلام فقالت له: لقد انتهى أمر “دمشق خواجه” بن الجوبان أن يفتك بحرم أبيك، وأنه بات البارحة عند طغى خاتون. وقد بعث إلي قال لي: الليلة أبيت عندك. وما الرأي إلا أن تجمع الأمراء والعساكر، فإذا صعد إلى القلعة مختفيا برسم المبيت، أمكنك القبض عليه. وأبوه يكفي الله أمره. وكان الجوبان إذ ذاك غائبا بخراسان، فغلبته الغيرة وبات يدبر أمره، فلما علم أن دمشق خواجه بالقلعة أمر الأمراء والعساكر أن يطيفوا بها من كل ناحية، فلما كان بالغد، وخرج دمشق ومعه جندي يعرف بالحاج المصري، فوجد سلسلة معرضة على باب القلعة وعليها قفل لم يمكنه الخروج راكبا. فضرب الحاج المصري السلسلة بسيفه فقطعها وخرجا معا، فأحاطت بهما العساكر، ولحق به أمير من الأمراء الخاصكية يعرف بمصر خواجه وفتى يعرف بلؤلؤ دمشق فقتلاه، وأتيا الملك أبا سعيد برأسه فرموا به بين يدي فرسه. وتلك عادتهم أن يفعلوا برأس كبار أعدائهم. وأمر السلطان بنهب داره وقتل من قاتل من خدامه ومماليكه. واتصل الخبر بأبيه الجوبان وهو بخراسان ومعه أولاده مير حسن وهو الأكبر وطالش وجلوخان وهو أصغرهم وهو ابن اخت السلطان أبي سعيد من أمه ساطي بك بنت السلطان خذابنده، ومعه عساكر التتر وحاميها. فاتفقوا على قتال السلطان أبي سعيد وزحفوا إليه فلما التقى الجمعان هرب التتر إلى سلطانهم. وأفردوا الجوبان. فلما رأى ذلك نكص على عقبيه وفر إلى صحراء سجستان وأوغل فيها، وأجمع على اللحاق بملك هراة “غياث الدين” مستجيرا به ومتحصنا بمدينته. وكانت له عليه أياد سابقة فلم يوافقه ولداه حسن وطالش على ذلك، وقالا له: إنه لا يفي بالعهد، وقد غدر بفيروزشاه بعد ان لجأ إليه وقتله. فأبى الجوبان إلا أن يلحق به، ففارقه ولداه، وتوجه معه ابنه الصغير جلوخان، فخرج غياث لاستقباله وترجل له وأدخله المدينة على الأمان، ثم غدر به بعد أيام وقتله وقتل ولده وبعث برأسيهما إلى السلطان أبي سعيد. وأما الحسن وطالش فإنهما قصدا خوارزم وتوجها إلى السلطان محمد أوزبك فأكرم مثواهما وأنزلهما إلى أن صدر منهما ما أوجب قتلهما فقتلهما. وكان للجوبان ولد رابع اسمه الدمرطاش فهرب إلى ديار مصر، فأكرمه الملك الناصر وأعطاه الإسكندرية، فأبى من قبولها وقال: إنما أريد العساكر لأقاتل أبا سعيد. وكان متى بعث إليه الملك الناصر بكسوة أعطى هو للذي يوصلها إليه أحسن منها إزراء على الملك الناصر، وأظهر أمورا أوجبت قتله فقتله، وبعث برأسه إلى أبي سعيد.. ولما استقل السلطان أبو سعيد بالملك أراد أن يتزوج بنت الجوبان وكانت تسمى “بغداد خاتون”، وهي من أجمل النساء، وكانت تحت الشيخ حسن الذي تغلب بعد موت أبي سعيد على الملك، وهو ابن عمته، فأمره فنزل عنها، وتزوجها أبو سعيد، وكانت أحظى النساء لديه. والنساء لدى الأتراك والتتر لهن حظ عظيم. وهم إذا كتبوا أمرا يقولون فيه عن امر السلطان والخواتين، ولكل خاتون كثير من البلاد والولايات والمجابي العظيمة، وإذا سافرت مع السلطان تكون في محلة على حدة. وغلبت هذه الخاتون على أبي سعيد وفضلها على سواها، وأقامت على هذه الحال مدة أيام. ثم تزوج امرأة تسمى بدلشاد فأحبها حبا شديدا وهجر بغداد خاتون، فغارت لذلك، وسمته في منديل مسحته به بعد الجماع فمات وانقرض عقبه وغلبت أمراؤه على الجهات… ولما عرف الأمراء أن “بغداد خاتون” هي التي سمته أجمعوا على قتلها، وبدر لذلك الفتى الرومي “خواجة لؤلؤ”، وهو من كبار الأمراء وقدمائهم، فأتاها وهي في الحمام فضربها بدبوسه وقتلها. وطرحت هنالك أياما مستورة العورة بقطعة تليس، واستقل الشيخ حسن بملك عراق العرب، وتزوج دلشاد امرأة السلطان أبي سعيد كمثل ما كان أبو سعيد فعله من تزوج امرأته..
إغواء (5)
فوصلنا بعد عشرة أيام إلى مدينة “تبريز”، ونزلنا بخارجها في موضع يعرف بالشام. وهنالك قبر قازان ملك العراق.. ووصلنا إلى سوق عظيمة تعرف بسوق قازان، من أحسن أسواق بلاد الدنيا، كل صناعة فيها على حدة لا تخالطها أخرى واجتزت بسوق الجوهريين، فحار بصري مما رأيته من أنواع الجواهر، وهي بأيدي مماليك حسان الصور، عليهم الثياب الفاخرة وأوساطهم مشدودة بمناديل الحرير، وهم بين أيدي التجار يعرضون الجواهر على نساء الأتراك، وهن يشترينه كثيرا، ويتنافسن فيه. فرأيت من ذلك كله فتنة يستعاذ الله منها. ودخلنا سوق العنبر والمسك فرأينا مثل ذلك وأعظم..
ضُعف الرحالة (1)
وأصابني عند خروجنا من الكوفة إسهال فكانوا ينزلونني من أعلى المحمل مرات كثيرة في اليوم، والأمير يتفقد حالي ويوصي بي ولم أزل مريضا حتى وصلت مكة حرم الله تعالى، زادها الله شرفا وتعظيما، وطفت بالبيت الحرام كرمه الله تعالى طواف القدوم، وكنت ضعيفا بحيث أؤدي المكتوبة قاعدا.. فلما نزلنا “مِنى” أخذت في الراحة والاستقلال من مرضي..
مغبة الغضب والتطاول (2)
(ثم جاورت مكة سنة 29) وسنة ثلاثين. وفي موسمها وقعت الفتنة بين أمير مكة عطيفة وبين أيدمور أمير جندار الناصري وسبب ذلك أن تجارا من أهل اليمن سُرقوا فتشكوا إلى أيدمور بذلك، فقال أيدمور لمبارك ابن الأمير عطيفة (أمير مكة) إئت بهؤلاء السراق، فقال: لا أعرفهم فكيف نأتي بهم، وبعد فأهل اليمن تحت حكمنا ولا حكم لك عليهم، إن سرق لأهل مصر والشام شيء فاطلبني به فشتمه أيدمور وقال له يا قواد تقول لي هكذا، وضربه على صدره فسقط ووقعت عمامته عن رأسه، وغضب له عبيدة، وركب أيدمور يريد عسكره، فلحقه مبارك وعبيدة فقتلوه وقتلوا ولده. ووقعت الفتنة بالحرم، وكان به الأمير أحمد ابن عم الملك الناصر، ورمى الترك بالنشاب فقتلوا امرأة قيل إنها كانت تحرض أهل مكة على القتال، وركب من ركب من الأتراك، وأميرهم “خاص ترك”، فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورين وفوق رؤوسهم المصاحف وحاولوا الصلح، ودخل الحجاج مكة فأخذوا ما لهم بها وانصرفوا إلى مصر، وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشق عليه وبعث العساكر إلى مكة ففر الأمير عطيفة وابنه مبارك، وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة، فلما وصل العسكر إلى مكة بعث الأمير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان ولولده، فأمنوا، وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الأمير، فخلع عليه وسلمت إليه مكة، وعاد العسكر إلى مصر، وكان الملك الناصر رحمه الله حليما فاضلا (يجب الحذر من تجاوز الخطوط الحمراء مع الآخرين مهما كان، وتعويد النفس على الحلم فهو خير)..
المتسول (s،1)
ومن غريب ما اتفق لي ب”جدة” أنه وقف على بابي سائل أعمى يطلب الماء يقوده غلام، فسلم علي وسماني باسمي وأخذ بيدي، ولم أكن عرفته قط ولا عرفني، فعجبت من شأنه، ثم أمسك أصبعي بيده وقال: أين الفتخة؟ وهي الخاتم، وكنت حين خروجي من مكة لقيني بعض الفقراء وسألني، ولم يكن عندي في ذلك الحين شيء، فدفعت له خاتمي. فلما سألني عنه هذا الأعمى قلت له: أعطيته لفقير. فقال: ارجع في طلبه فإن فيه أسماء مكتوبة فيها سر من الأسرار، فطال تعجبي منه ومن معرفته بذلك، والله أعلم بحاله (نعم، الله أعلم بحاله، وتمسك أمثاله بالدين والسنة هو الذي يميزهم عن أهل الكذب والدجل، فلا تغتر بالخوارق فأكثرها من الشياطين)..
نساء مريحات جدا (5،6)
وركبنا البحر من جزيرة “سواكن” نريد أرض اليمن، وهذا البحر لا يسافر فيه بالليل لكثرة أحجاره، وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون وينزلون إلى البر فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب.. ثم (وصلنا) إلى مدينة “زبيد”، مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخا، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها، ولا أغنى من أهلها، واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره… ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور، ولنسائها الحسن الفائق الفائت.. ولأهل هذه المدينة سبوت النخل المشهورة، وذلك لأنهم يخرجون في أيام البسر والرطب في كل سبت إلى حدائق النخل، ولا يبقى بالمدينة أحد من أهلها ولا من الغرباء.. وتخرج النساء ممتطيات الجمال في المحامل، ولهن مع ما ذكرناه من الجمال الفائق الأخلاق الحسنة والمكارم. وللغريب عندهن مزية، ولا يمتعن من تزوجه كما يفعله نساء بلادنا. فإذا أراد السفر خرجت معه وودعته، وإن كان بينهما ولد فهي تكفله وتقوم بما يجب له إلى أن يرجع أبوه، ولا تطالبه في أيام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها. وإذا كان مقيما فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة، لكنهن لا يخرجن عن بلدهن أبدا، ولو أعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه على أن تخرج من بلدها لم تفعل..
كرامة (7)
ذكروا أن فقهاء الزيدية وكبراءهم أتوا مرة إلى زيارة الشيخ أحمد بن العجيل، فجلس لهم خارج الزاوية، واستقبلهم أصحابه. ولم يبرح الشيخ عن موضعه، فسلموا عليه وصافحهم ورحب بهم. ووقع بينهم الكلام في مسألة القدر. وكانوا يقولون أن لا قدر وأن المكلف يخلق أفعاله. فقال لهم الشيخ فإن كان الأمر على ما تقولون فقوموا عن مكانكم هذا. فأرادوا القيام فلم يستطيعوا. وتركهم الشيخ على حالهم ودخل الزاوية. وأقاموا كذلك، واشتد بهم الحر ولحقهم وهج الشمس وضجوا مما نزل بهم. فدخل أصحاب الشيخ إليه وقالوا له إن هؤلاء القوم قد تابوا إلى الله ورجعوا عن مذهبهم الفاسد، فخرج عليهم الشيخ فأخذ بأيديهم وعاهدهم على الرجوع إلى الحق وترك مذهبهم السيئ، وأدخلهم زاويته فأقاموا في ضيافته ثلاثا وانصرفوا إلى بلادهم.
تفاخر (2)
ثم سافرت منها إلى مدينة عدن، مرسى بلاد اليمن، على ساحل البحر الأعظم. والجبال تحف بها ولا مدخل إليها إلا من جانب واحد؛ وهي مدينة كبيرة، ولا زرع بها ولا شجر ولا ماء.. وأهل عدن ما بين تجار وحمالين وصيادين للسمك. وللتجار منهم أموال عريضة.. ذُكر لي أن بعضهم بعث غلاما له ليشتري له كبشا، وبعث آخر منهم غلاما له برسم ذلك أيضا، فاتفق أنه لم يكن بالسوق في ذلك اليوم إلا كبش واحد. فوقعت المزايدة فيه بين الغلامين، فأنتهى ثمنه إلى أربعمائة دينار. فأخذه أحدهما وقال إن رأس مالي أربعمائة دينار فإن أعطاني مولاي ثمنه فحسن وإلا دفعت فيه رأس مالي ونصرت نفسي وغلبت صاحبي، وذهب بالكبش إلى سيده فأعتقه وأعطاه ألف دينار، وعاد الآخر إلى سيده خائبا فضربه وأخذ ماله ونفاه عنه..
أقذر مدينة في ذلك الزمن (5)
وسافرت من مدينة “عدن” في البحر أربعة أيام، ووصلت إلى مدينة “زيلع” وهي مدينة البرابرة، وهم طائفة من السودان شافعية المذهب، وبلادهم صحراء مسيرة شهرين. أولها زيلع وآخرها “مقدشو”.. وأهل زيلع سود الألوان، وأكثرهم رافضة. وهي مدينة كبيرة لها سوق عظيمة، إلا أنها أقذر مدينة في المعمور وأوحشها وأكثرها نتنا. وسبب نتنها كثرة سمكها ودماء الإبل التي ينحرونها في الأزقة. ولما وصلنا إليها اخترنا المبيت بالبحر على شدة هوله ولم نبت بها لقذرها.
مات الذي كان يُعطي (2)
ثم ركبت من مدينة “مقديشو” متوجها إلى بلاد السواحل قاصدا مدينة “كلوا” من بلاد الزنوج.. ومدينة “كلوا” من أحسن المدن وأتقنها عمارة، وكلها بالخشب. وسقف بيوتها الدبس. والأمطار بها كثيرة. وهم أهل جهاد لأنهم في بر واحد مع كفار الزنوج. والغالب عليهم الدين والصلاح، وهم شافعية المذهب.. وكان سلطانها في عهد دخولي إليها أبو المظفر حسن، ويكنى أيضا أبا المواهب لكثرة مواهبه ومكارمه. وكان كثير الغزو إلى أرض الزنوج، يغير عليهم ويأخذ الغنائم فيخرج خمسها ويصرفه في مصارفه المعينة في كتاب الله تعالى، ويجعل نصيب ذوي القربى في خزانة على حدة فإذا جاءه الشرفاء دفعه إليهم. وكان الشرفاء يقصدونه من العراق والحجاز وسواها.. وهذا السلطان له تواضع شديد، ويجلس مع الفقراء ويأكل معهم، ويعظم أهل الدين والشرف.. حضرته يوم جمعة وقد خرج من الصلاة قاصدا إلى داره، فتعرض له أحد الفقراء اليمنيين فقال له: أبا المواهب، فقال: لبيك يا فقير ما حاجتك؟ قال: أعطني هذه الثياب التي عليك. فقال له: نعم، أعطيكها. قال: الساعة، قال: نعم الساعة. فرجع إلى المسجد ودخل بيت الخطيب فلبس ثيابا سواها وخلع تلك الثياب، وقال للفقير: أدخل فخذها، فدخل الفقير وأخذها وربطها في منديل وجعلها فوق رأسه وانصرف. فعظم شكر الناس للسلطان على ما ظهر من تواضعه وكرمه، وأخذ ابنه ولي عهده تلك الكسوة من الفقير وعوضه عنها بعشرة من العبيد.. ولما توفي هذا السلطان الفاضل الكريم رحمة الله عليه، ولي أخوه داود فكان على الضد، إذا أتاه سائل يقول له: مات الذي كان يعطي ولم يترك من بعده ما يُعطى..
جزيرة الطير (5)
وركبنا البحر. ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة الطير، وليست بها عمارة. فأرسينا وصعدنا إليها، فوجدناها ملآنة بطيور تشبه الشقاشق، إلا أنها أعظم منها وجاءت الناس ببيض تلك الطيور فطبخوها وأكلوها، واصطادوا جملة من تلك الطيور فطبخوها دون ذكاة وأكلوها. وكان يجالسني تاجر من أهل جزيرة مصيرة ساكن بظفار اسمه مسلم، ورأيته يأكل معهم تلك الطيور فأنكرت ذلك عليه، فاشتد خجله وقال لي: ظننت أنهم ذبحوها وانقطع عني بعد ذلك من الخجل فكان لا يقربني حتى أدعو به. وكان طعامي في تلك الأيام بذلك المركب التمر والسمك.. وعيدنا عيد الأضحى على ظهر البحر، وهبت علينا في يومه ريح عاصف بعد طلوع الفجر، ودامت إلى طلوع الشمس، وكادت تغرقنا.. وكان معنا في المركب حاج من أهل الهند يسمى بخضر، ويدعى بمولانا، لأنه يحفظ القرآن ويحسن الكتابة، فلما رأى هول البحر لف رأسه بعباءة كانت له وتناوم، فلما فرج الله ما نزل بنا قلت له: يا مولانا خضر كيف رأيت؟ قال: كنت عند الهول أفتح عيني أنظر هل أرى الملائكة الذين يقبضون الأرواح جاءوا فلا أراهم، فأقول الحمد لله لو كان الغرق لأتوا لقبض الأرواح ثم أغلق عيني ثم أفتحهما فأنظر كذلك إلى أن فرج الله عنا. وكان قد تقدمنا مركب لبعض التجار فغرق، ولم ينج منه إلا رجل واحد خرج عوما بعد جهد شديد..
شر (1)
ووصلنا إلى مرسى قرية كبيرة على ساحل البحر تعرف بصور، ورأينا منها مدينة “قلهات” في سفح جبل، فخيل لنا أنها قريبة. وكان وصولنا إلى المرسى وقت الزوال أو قبله. فلما ظهرت لنا المدينة أحببت المشي إليها والمبيت بها، وكنت قد كرهت صحبة أهل المركب، فسألت عن طريقها، فأخبرت أني أصل إليها العصر. فاكتريت أحد البحريين ليدلني على طريقها، وصحبني خضر الهندي الذي تقدم ذكره، وتركت أصحابي مع ما كان لي بالمركب ليلحقوا بي في غد ذلك اليوم، وأخذت أثوابا كانت لي فدفعتها للدليل ليكفيني مؤونة حملها، وحملت في يدي رمحا إذا كان ذلك الدليل يحب أن يستولي على أثوابي، فأتى بنا إلى خليج يخرج من البحر فيه المد والجزر فأراد عبوره بالثياب، فقلت له: إنما تعبر وحدك وتترك الثياب عندنا، فإن قدرنا الجواز جزنا وإلا صعدنا نطلب المجاز، فرجع. ثم رأينا رجالا جاوزه عوما فتحققنا أنه كان قصده أن يغرقنا ويذهب بالثياب. فحينئذ أظهرت النشاط وأخذت بالحزم وشددت وسطي، وكنت أهز الرمح فهابني ذلك الدليل، وصعدنا حتى وجدنا مجازا ثم خرجنا إلى صحراء لا ماء بها، واشتد الأمر، فبعث الله لنا فارسا في جماعة من أصحابه وبيد أحدهم ركوة ماء فسقاني وسقى صاحبي. وذهبنا نحسب المدينة قريبة منا، وبيننا وبينها خنادق نمشي فيها الأميال الكثيرة. فلما جاء العشي أراد الدليل أن يميل بنا إلى ناحية البحر، وهو لا طريق له لأن ساحله حجارة. فأراد أن ننشب فيها ويذهب بالثياب. فقلت له: إنما نمشي على هذه الطريق التي نحن عليها، وبينها وبين البحر نحو ميل. فلما أظلم الليل قال لنا إن المدينة قريبة فتعالوا نمشي حتى نبيت بخارجها إلى الصباح. فخفت أن يتعرض لنا أحد في الطريق ولم أحقق مقدار ما بقي، إليها، فقلت له: إنما الحق أن نخرج عن الطريق فننام، فإذا أصبحنا أتينا المدينة إن شاء الله. وكنت قد رأيت جملة من الرجال في سفح جبل هنالك، فخفت أن يكونوا لصوصا، وقلت التستر أولى. وغلب العطش على صاحبي فلم يوافق على ذلك. فخرجت عن الطريق وقصدت شجرة من شجر أم غيلان، وقد أعييت وأدركني الجهد لكني أظهرت قوة وتجلدا خوف الدليل. وأما صاحبي فمريض لا قوة له. فجعلت الدليل بيني وبين صاحبي، وجعلت الثياب بين ثوبي وجسدي، وأمسكت الرمح بيدي ورقد صاحبي ورقد الدليل، وبقيت ساهرا. فكلما تحرك الدليل كلمته وأريته أني مستيقظ، ولم نزل كذلك حتى الصبح. ثم خرجنا إلى الطريق فوجدنا الناس ذاهبين بالمرافق إلى المدينة، فبعثت الدليل ليأتينا بماء، وأخذ صاحبي الثياب، وكان بيننا وبين المدينة مهاو وخنادق. فأتانا بالماء فشربنا، وذلك أوان الحر، ثم وصلنا إلى مدينة قلهات.. فأتيناها ونحن في جهد عظيم. وكنت قد ضاقت نعلي على رجلي حتى كاد الدم يخرج من تحت أظفارها، فلما وصلنا باب المدينة كان ختام المشقة أن قال لنا الموكل بالباب: لا بد لك أن تذهب معي إلى أمير المدينة ليعرف قضيتك ومن أين قدمت. فذهبت معه إليه فرأيته فاضلا حسن الأخلاق، وسألني عن حالي وأنزلني، وأقمت عنده ستة أيام لا قدرة لي فيها على النهوض على قدمي لما لحقها من الآلام..
طغا الشيطان في رأسي (5،6)
ثم قصدنا بلاد عمان، فسرنا ستة أيام في صحراء، ثم وصلنا بلاد عمان في اليوم السابع. وهي خصبة ذات أنهار وأشجار وبساتين وحدائق ونخل وفاكهة كثيرة مختلفة الأجناس. ووصلنا إلى قاعدة هذه البلاد وهي مدينة “نَزْوَا”، مدينة في سفح جبل تحف بها البساتين والأنهار. يأتي كل إنسان بما عنده ويجتمعون للأكل في صحن المسجد، ويأكل معهم الوارد والصادر. ولهم نجدة وشجاعة. والحرب قائمة فيما بينهم أبدا. وهم إباضية المذهب. ويصلون الجمعة ظهرا أربعا، فإذا فرغوا منها قرأ الإمام آيات من القرآن، ونثر كلاما شبه الخطبة يرضى فيه عن أبي بكر وعمر، ويسكت عن عثمان وعلي. وإذا أرادوا ذكر علي رضي الله عنه كنوا عنه، فقالوا: ذكر عن الرجل أو قال الرجل. ويرضون عن الشقي اللعين ابن ملجم، ويقولون فيه: العبد الصالح قامع الفتنة. ونساؤهم يكثرن الفساد، ولا غيرة عندهم ولا إنكار لذلك.. وعادة (سلطانها) أن يجلس خارج باب داره في مجلس هنالك، ولا حاجب له ولا وزير، ولا يمنع أحدا من الدخول إليه من غريب أو غيره، ويكرم الضيف على عادة العرب، ويعين له الضيافة، ويعطيه على قدره. وله أخلاق حسنة. ويؤكل على مائدته لحم الحمار الإنسي ويباع بالسوق، لأنهم قائلون بتحليله، ولكنهم يخفون ذلك عن الوارد عليهم ولا يظهرونه بمحضره.
كنت يوما عند السلطان أبي محمد بن نبهان فأتته امرأة صغيرة السن حسنة الصورة بادية الوجه، فوقفت بين يديه وقالت له: يا أبا محمد، طغا الشيطان في رأسي. فقال لها: اذهبي واطردي الشيطان. فقالت له: لا أستطيع وأنا في جوارك يا أبا محمد. فقال لها: اذهبي فافعلي ما شئت. فذكر لي لما انصرفت عنه أن هذه ومن فعل مثل فعلها تكون في جوار السلطان، وتذهب للفساد، ولا يقدر أبوها ولا ذوو قرابتها أن يغيروا عليها، وإن قتلوها قتلوا بها، لأنها في جوار السلطان.
المنقطع (5)
ثم سافرت من بلاد عمان إلى بلاد هرمز.. وقصدنا من هنالك زيارة رجل صالح منقطع في آخر هذه الجزيرة، قد نحت غارا لسكناه. فيه زاوية ومجلس ودار صغيرة له فيها جارية، وله عبيد خارج الغار يرعون بقرا له وغنما. وكان هذا الرجل من كبار التجار فحج البيت وقطع العلائق وانقطع هنالك للعبادة، ودفع ماله لرجل من إخوانه يتجر له به. وبتنا عنده ليلة فأحسن القرى وأجمل رضي الله تعالى عنه، وسيمة الخير والعبادة لائحة عليه..
تواضع ومُلك (1،2)
(وسلطان هرمز) هو السلطان قطب الدين “تمتهن طوران شاه”.. وهو من كرماء السلاطين، كثير التواضع حسن الأخلاق، وعادته أن يأتي لزيارة كل من يقدم عليه من فقيه أو صالح أو شريف ويقوم بحقه، ولما دخلنا جزيرته وجدناه مهيأ للحرب مشغولا بها مع ابني أخيه نظام الدين.. وأقمنا عندهم ستة عشر يوما. فلما أردنا الانصراف قلت لبعض الأصحاب: كيف ننصرف ولا نرى هذا السلطان؟ فجئنا إلى الوزير وكانت داره في جوار الزاوية التي نزلت بها، فقلت له إني أريد السلام على الملك. فقال بسم الله، وأخذ بيدي فذهب بي إلى داره وهي على ساحل البحر، والأجفان مجلسة عندها. فإذا شيخ عليه أقبية ضيقة دنسة وعلى رأسه عمامة، وهو مشدود الوسط بمنديل، فسلم عليه الوزير وسلمت عليه ولم أعرف انه الملك. وكان إلى جانبه ابن أخته وهو علي شاه ابن جلال الدين الكيجي، وكانت بيني وبينه معرفة فأنشأت أحادثه وأنا لا أعرف الملك، فعرفني الوزير بذلك. فخجلت منه لإقبالي بالحديث على ابن أخته دونه، واعتذرت، ثم قام فدخل داره، وتبعه الأمراء.. ودخلت مع الوزير، فوجدناه قاعدا على سرير ملكه وثيابه عليه لم يبدلها وفي يده سبحة جوهر لم تر العيون مثلها لأن مغاصات الجوهر تحت حكمه.. وسألني عن حالي ومقدمي وعمن لقيته من الملوك فأخبرته بذلك. وحضر الطعام فأكل الحاضرون ولم يأكل معهم ثم قام فودعته وانصرفت. وسبب الحرب التي بينه وبين ابني أخيه أنه ركب البحر مرة من مدينته الجديدة برسم النزهة في هرمز القديمة وبساتينها.. فخالف عليه أخوه نظام الدين، ودعا لنفسه وبايعه أهل الجزيرة وبايعته العساكر، فخاف قطب الدين على نفسه وركب البحر إلى مدينة قلهات.. وهي من جملة بلاده، فأقام بها شهورا وجهز المراكب وأتى الجزيرة، فقاتله أهلها مع أخيه وهزموه. وعاد إلى قلهات، وفعل ذلك مرارا. فلم تكن له حيلة إلا أن يراسل بعض نساء أخيه فسمته ومات. وأتى هو إلى الجزيرة فدخلها، وفر ابنا أخيه بالخزائن والأموال والعساكر إلى جزيرة قيس حيث مغاص الجوهر، وصاروا يقطعون الطريق على من يقصد الجزيرة من أهل الهند والسند، ويغيرون على بلاده البحرية حتى تخرب معظمها..
الريح (5)
ثم سافرنا من مدينة “جرون” برسم لقاء رجل صالح ببلد خنج بال. فلما عدينا البحر اكترينا دواب من التركمان، وهم سكان تلك البلاد، ولا يسافر فيها إلا معهم لشجاعتهم ومعرفتهم بالطرق. وفيها صحراء مسيرة أربع، يقطع بها الطريق لصوص الأعراب، وتهب فيها ريح السموم في شهري تموز وحزيران، فمن صادفته فيها قتلته. ولقد ذكر لي أن الرجل إذا قتلته تلك الريح وأراد أصحابه غسله ينفصل كل عضو منه عن سائر الأعضاء. وبها قبور كثيرة للذين ماتوا فيها بهذه الريح، وكنا نسافر فيها بالليل فإذا طلعت الشمس نزلنا تحت ظلال الأشجار من أم غيلان، ونرحل بعد العصر إلى طلوع الشمس.
الأقطع (2،4)
وفي هذه الصحراء (السابقة) وما والاها كان يقطع الطريق بها جمال اللك الشهير الاسم هنالك.. (و) كان جمال اللُك من أهل سجستان أعجمي الأصل، واللك معناه الأقطع. وكانت يده قطعت في بعض حروبه. وكانت له جماعة كثيرة من فرسان الأعراب والأعاجم يقطع بهم الطرق. وكان يبني الزوايا ويطعم الوارد والصادر من الأموال التي يسلبها من الناس. ويقال: إنه كان يدعو أن لا يسلط إلا على من لا يزكي ماله، وأقام على ذلك دهرا. وكان يغير هو وفرسانه ويسلكون براري لا يعرفها سواهم ويدفنون بها قرب الماء ورواياه فإذا تبعهم عسكر السلطان دخلوا الصحراء واستخرجوا المياه، ويرجع العسكر عنهم خوفا من الهلاك. وأقام على هذه الحالة مدة لا يقدر عليه ملك العراق ولا غيره ثم تاب وتعبد حتى مات، وقبره يزار ببلده.
رأي الرافضة في السنة (t)
ثم سافرنا إلى مدينة القطيف.. وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير يسكنها طوائف العرب، وهم رافضية غلاة، يظهرون الرفض جهارا لا يبقون أحدا، ويقول مؤذنهم في أذانه بعد الشهادتين: أشهد أن عليا ولي الله، ويزيد بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، ويزيد بعد التكبير الأخير محمد وعلي خير البشر، ومن خالفهما فقد كفر.
في سبيل الدنيا (2)
ذكر أن الملك الناصر وهب لبكتمور الساقي جارية، فلما أراد الدنو منها قالت له: إني حامل من الملك الناصر فاعتزلها وولدت ولدا سماه بأمير أحمد، ونشأ في حجره، فظهرت نجابته واشتهر بابن الملك الناصر، فلما كان في هذه الحجة تعاهد على الفتك بالملك الناصر، وأن يتولى أمير أحمد الملك، وحمل بكتمور معه العلامات والطبول والكسوات والأموال، فنمي الخبر إلى الملك الناصر، فبعث إلى أمير أحمد في يوم شديد الحر، فدخل عليه، وبين يديه أقداح الشرب، فشرب الملك الناصر قدحا، وناول أمير أحمد قدحا ثانيا فيه السم فشربه، وأمر بالرحيل في تلك الساعة ليشغل الوقت فرحل الناس، ولم يبلغوا المنزل حتى مات أمير أحمد، فاكترث بكتمور لموته، وقطع أثوابه، وامتنع من الطعام والشراب وبلغ خبره إلى الملك الناصر فأتاه بنفسه ولاطفه وسلاه، وأخذ قدحا فيه سم فناوله إياه وقال له: بحياتي عليك إلا شربت فبردت نار قلبك، فشربه ومات من حينه، ووجد عنده الخلع السلطنة والأموال فتحقق ما نسب من الفتك بالملك الناصر.
من صفات نساء الروم (6)
وفي العاشر وصلنا إلى مدينة العلايا، وهي أول بلاد الروم وهذا الإقليم المعروف ببلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا وقد جمع الله فيه ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس صورا وأنظفهم ملابس وأطيبهم مطاعم، وأكثر خلق الله شفقة ولذلك يقال البركة في الشام، والشفقة في الروم وإنما عنى به أهل هذه البلاد. وكنا متى نزلنا بهذه البلاد زاوية أو دارا، يتفقد أحوالنا جيراننا من الرجال والنساء، وهن لا يحتجبن، فإذا سافرنا عنهم ودعونا كأنهم أقاربنا وأهلنا وترى النساء باكيات لفراقنا متأسفات ومن عادتهم بتلك البلاد أن يخبزوا الخبز في يوم واحد من الجمعة، يعدون فيه ما يقوتهم سائرها فكان رجالهم يأتون إلينا بالخبز الحار في يوم خبزه، ومعه الإدام الطيب إطرافا لنا بذلك، ويقولون لنا: إن النساء بعثن هذا إليكم وهن يطلبن منكم الدعاء، وجميع أهل هذه البلاد على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، مقيمين على السنة لا قدري فيهم ولا رافضي ولا معتزلي ولا خارجي ولا مبتدع، وتلك فضيلة خصهم الله تعالى بها. إلا أنهم يأكلون الحشيش ولا يعيبون ذلك.
تعايش (5)
وسافرت من هنالك إلى مدينة أنطاليا (ليست انطاكيا التي بالشام).. وهي من أحسن المدن.. وكل فرقة من سكانها منفردة بأنفسها عن الفرقة الأخرى فتجار النصارى ماكثون منها بالموضع المعروف بالميناء، وعليهم سور تسد أبوابه عليهم ليلا وعند صلاة الجمعة. والروم الذين كانوا أهلها قديما ساكنون بموضع آخر منفردين به، وعليهم أيضا سور. واليهود في موضع آخر، وعليهم سور، والملك وأهل دولته ومماليكه يسكنون ببلدة عليها أيضا سور يحيط بها، ويفرق بينها وبين ما ذكرناه من الفرق، وسائر الناس من المسلمين يسكنون المدينة العظمى، وبها مسجد جامع ومدرسة وحمامات كثيرة وأسواق ضخمة مرتبة بأبدع ترتيب.. نزلنا من هذه المدينة بمدرستها وشيخها شهاب الدين الحموي..
الفساد (6)
(ثم) وصلنا إلى مدينة “لاذق”، وتسمى أيضا “دون غزله” وتفسيره بلد الخنازير، وهي من أبدع المدن وأضخمها.. وأكثر الصناع بها نساء الروم، وبها من الروم كثير تحت الذمة، وعليهم وظائف للسلطان من الجزية وسواها، وعلامة الروم بها القلانس الطوال منها الحمر والبيض. ونساء الروم لهن عمائم كبار. وأهل هذه المدينة لا يغيرون المنكر، بل كذلك أهل هذا الإقليم كلهم، وهم يشترون الجواري الروميات الحسان ويتركونهن للفساد وكل واحدة عليها وظيف لمالكها تؤديه له. وسمعت هنالك أن الجواري يدخلن الحمام مع الرجال، فمن أراد الفساد فعل ذلك بالحمام من غير منكر عليه. وذكر لي أن القاضي بها له جوار على هذه الصورة.. وأقمنا بهذه البلدة مدة بسبب مخاوف الطريق..
معاملة أعداء الله (1،7)
ثم انصرفنا إلى مدينة “بِرْكِي”، ووصلنا إليها بعد العصر، فلقينا رجلا من أهلها.. فذهب بنا إلى منزل نفسه في بستان له، فأنزلنا بأعلى سطح بيته، والأشجار مظللة، وذلك أوان الحر الشديد، وأتى إلينا بأنواع الفاكهة وأحسن في ضيافته.. وكنا قد تعرفنا أن بهذه المدينة مدرسا فاضلا يسمى بمحيي الدين.. وكتب هذا المدرس إلى السلطان بخبرنا وأثنى في كتابه، والسلطان في جبل هنالك يصيف فيه لأجل شدة الحر، وذلك الجبل بارد. وعادته أن يصيف فيه.. وصعدنا إلى الجبل في طريق قد نحتت وسويت، فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال، فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز، وصادفنا السلطان في قلق وشغل بال بسبب فرار ابنه الأصغر سليمان عنه إلى صهره السلطان أرخان بك، فلما بلغه خبر وصولنا بعث إلينا ولديه خضر بك وعمر بك، فسلما على الفقيه، وأمرهما بالسلام علي ففعلا ذلك، وسألاني عن حالي ومقدمي وانصرفا.. وبعث إلي ببيت يسمى عندهم الخرقة، وهو عصي من الخشب.. وأتوا بالفرش ففرشوه، وقعد الفقيه وقعدت معه أصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز، وذلك الموضع شديدة البرد، ومات لي تلك الليلة فرس من شدة البرد.. وأتى يوما إلينا بعد الظهر، وقعد الفقيه في صدر المجلس، وأنا عن يساره، وقعد السلطان عن يمين الفقيه، وذلك لعزة الفقهاء عند الترك، وطلب مني أن أكتب له أحاديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبتها له، وعرضها الفقيه عليه في تلك الساعة فأمره أن يكتب له شرحها باللسان التركي، ثم قام فخرج، ورأى الخدام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير إدام ولا خضر. فأمر بعقاب صاحب خزانته، وبعث بالأبزار والسمن. وطالت إقامتنا بذلك الجبل فأدركني الملل وأردت الإنصراف.. (ثم نزلوا إلى المدينة واجتمعوا بالسلطان) وقعد الفقيه عن يمينه، والقاضي مما يلي الفقيه، وأنا مما يلي القاضي، وقعد القراء أسفل المصطبة، والقراء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه.. وتكلمت بشكر السلطان وأثنيت على الفقيه، وبالغت في ذلك فأعجب ذلك السلطان وسره. وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلم عليه، وقام له القاضي والفقيه، وقعد أمام السلطان فوق المصطبة، والقراء أسفل منه. فقلت للفقيه: من هذا الشيخ؟ فضحك وسكت. ثم أعدت السؤال، فقال لي: هذا يهودي طبيب وكلنا محتاج إليه فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له. فأخذني ما حدث وأبديت الامتعاض، فقلت لليهودي يا ملعون ابن ملعون كيف تجلس فوق قراء القرآن وأنت يهودي؟ وشتمته ورفعت صوتي، فعجب السلطان وسأل عن معنى كلامي، فأخبره الفقيه به. وغضب اليهودي فخرج عن المجلس في أسوأ حال. ولما انصرفنا، قال لي الفقيه أحسنت بارك الله فيك. إن أحدا سواك لا يتجاسر على مخاطبته بذلك، ولقد عرفته بنفسه (انظر كيف كانوا يعاملون أعداء الله من يهود ونصارى،، وتأمل في معاملتنا لهم اليوم. لقد أفسدنا الجهل بالدين، وهذه الديمقراطية اللعينة المبنية على رفض الدين – العلمانية -، ووسطية الشيوخ المتعالمين، عقيدة الولاء والبراء، طالع موضوع الولاء والبراء في الإسلام هنا).
حرمان وأبكار (1)
ثم قصدنا مدينة “تيرة” وهي من بلاد هذا السلطان.. وأمير هذه المدينة “خضر بك” ابن السلطان محمد بن آيدين، وقد كنت رأيته عند أبيه ببركي ثم لقيته بهذه المدينة خارجها فسلمت عليه وأنا راكب، فكره ذلك مني وكان سبب حرماني لديه. فإن عادتهم إذا نزل لهم الوارد نزلوا وأعجبهم ذلك. ولم يبعث إلي إلا ثوبا واحدا من الحرير.. واشتريت بهذه المدينة جارية رومية بكرا بأربعين دينارا ذهبا..
اقتات من نبات الأرض بعد موت أمه (2،6)
لما حضرنا ليلة عاشوراء بزاوية شمس الدين، وعظ بها مجد الدين آخر الليل. فصاح أحد الفقراء صيحة غشي عليه منها. فصبوا عليه ماء الورد فلم يفق، فأعادوا عليه ذلك فلم يفق، واختلفت الناس فيه، فمن قائل إنه ميت، ومن قائل إنه مغشي عليه. وأتم الواعظ كلامه وقرأ القراء وصلينا الصبح وطلعت الشمس، فاختبروا حال الرجل فوجدوه فارق الدنيا رحمه الله. فاشتغلوا بغسله وتكفينه. وكنت فيمن حضر الصلاة عليه ودفنه. وكان هذا الفقير يسمى الصياح. وذكروا أنه كان يتعبد بغار هنالك في جبل. فمتى علم أن الواعظ مجد الدين يعظ قصده وحضر وعظه ولم يأكل طعام أحد. فإذا وعظ مجد الدين يصيح ويغشى عليه ثم يفيق، فيتوضأ ويصلي ركعتين. ثم إذا سمع الواعظ صاح يفعل ذلك مرارا في الليلة، وسمي الصياح لأجل ذلك. وكان أعذر اليد والرجل، لا قدرة له على الخدمة، وكانت له والدة تقوته من غزلها، فلما توفيت اقتات من نبات الأرض..
الفقيه والعربية (1،6)
ووصلنا.. إلى “كاوية”.. نزلنا منها بزاوية أحد “الأخية” فكلمناه بالعربية فلم يفهم عنا، وكلمنا بالتركية فلم نفهم عنه، فقال: اطلبوا الفقيه فإنه يعرف العربية. فأتى الفقيه فكلمنا بالفارسية وكلمناه بالعربية فلم يفهمها منا، فقال: للفتى (ما معناه أن هؤلاء يتكلمون بالعربية القديمة) وإنما أراد الفقيه بهذا الكلام ستر نفسه عن الفضيحة حين ظنوا أنه يعرف اللسان العربي وهو لا يعرفه. فقال لهم: هؤلاء يتكلمون بالكلام العربي القديم وأنا لا أعرف إلا العربي الجديد، فظن الفتى أن الأمر على ما قاله الفقيه.. ونفعنا ذلك عنده وبالغ في إكرامنا، وقال: هؤلاء تجب كرامتهم لأنهم يتكلمون باللسان العربي القديم وهو لسان النبي صلى الله عليه وسلم تسليما وأصحابه. ولم نفهم كلام الفقيه إذ ذاك لكنني حفظت لفظه. فلما تعلمت اللسان الفارسي فهمت مراده..
ضياع في الثلوج (1)
(ثم أعطانا نائب البلدة) فارسا من أصحابه، وتوجه معنا إلى كبنوك.. وهي بلدة صغيرة يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين، وليس بها غير بيت واحد من المسلمين، وهم الحكام عليهم. وهي من بلاد السلطان أرخان بك، فنزلنا بدار عجوز كافرة، وذلك إبان الثلج والشتاء.. فبعث معنا فارسا غيره ليوصلنا إلى مدينة مطرني. وقد وقع في تلك الليلة ثلج كثير عفى عن الطريق ، فتقدمنا ذلك الفارس فاتبعنا أثره إلى أن وصلنا في نصف النهار إلى قرية للتركمان، فأتوا بطعام فأكلنا منه، وكلمهم ذلك الفارس فركب معنا أحدهم، وسلك بنا أوعارا وجبالا ومجرى ماء تكرر لنا جوازه أزيد من الثلاثين مرة. فلما خلصنا من ذلك قال لنا ذلك الفارس: أعطوني شيئا من الدراهم. فقلنا له: إذا وصلنا إلى المدينة نعطيك ونرضيك فلم يرض ذلك منا أو لم يفهم عنا. فأخذ قوسا لبعض أصحابي ومضى غير بعيد ثم رجع فرد إلينا القوس فأعطيته شيئا من الدراهم، فأخذها وهرب عنا وتركنا لا نعرف أين نقصد ولا طريق لنا، فكنا نتلمح أثر الطريق تحت الثلج ونسلكه إلى أن بلغنا عند غروب الشمس إلى جبل يظهر الطريق به لكثرة الحجارة، فخفت الهلاك علي ومن معي وتوقعت نزول الثلج ليلا ولا عمارة هنالك. فإن نزلنا عن الدواب هلكنا، وإن سرينا ليلتنا لا نعرف أين نتوجه. وكان لي فرس من الجياد فعملت على الخلاص، وقلت في نفسي: إذا سلمت لعلي أحتال في سلامة أصحابي فكان كذلك. واستودعتهم الله تعالى وسرت. وأهل تلك البلاد يبنون على القبور بيوتا من الخشب يظن رائيها أنها عمارة، فيجدها قبورا. فظهر لي منها كثير. فلما كان بعد العشاء وصلت إلى البيوت فقلت: اللهم اجعلها عامرة، فوجدتها عامرة، ووفقني الله تعالى إلى باب دار، فرأيت عليها شيخا فكلمته بالعربي فكلمني بالتركي، وأشار إلي بالدخول. فأخبرته بشأن أصحابي فلم يفهم عني، وكان من لطف الله أن تلك الدار زاوية للفقراء، والواقف بالباب شيخها. فلما سمع الفقراء الذين بداخل الزاوية كلامي مع الشيخ خرج بعضهم. وكانت بيني وبينه معرفة فسلم علي، وأخبرته خبر أصحابي وأشرت إليه بأن يمضي مع الفقراء لاستخلاص الأصحاب، ففعلوا ذلك وتوجهوا معي إلى أصحابي، وجئنا جميعا إلى الزاوية وحمدنا الله تعالى على السلامة، وكانت ليلة جمعة، فاجتمعوا أهل القرية وقطعوا ليلتهم بذكر الله تعالى.
الحاج الخسيس (6)
ورحلنا عند الصباح فوصلنا مدينة مطرني.. فنزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية، وبها جماعة من المسافرين.. فلقينا أحد الحجاج من أهلها فسلم علينا، وكان يعرف اللسان العربي فسررت برؤيته.. ولما اجتمعنا بهذا الحاج الذي يعرف اللسان العربي رغبنا منه أن يسافر معنا إلى قصطومنية، وبينها وبين هذه البلدة عشرة، وكسوته ثوبا مصريا من ثيابي، وأعطيته نفقه تركها لعياله، وعينت له دابة لركوبه، ووعدته الخير. وسافر معنا، فظهر لنا من حاله أنه صاحب مال كثير، وله ديون على الناس، غير أنه ساقط الهمة خسيس الطبع سيء الأفعال، وكنا نعطيه الدارهم لنفقتنا فيأخذ ما يفضل من الخبز ويشتري به الأبزار والخضر والملح ويمسك ثمن ذلك لنفسه. وذكر لي أنه كان يسرق من دارهم النفقة دون ذلك، وكنا نحتمله لما كنا نكابده من عدم المعرفة بلسان الترك، وانتهت حاله إلى أن فضحناه، وكنا نقول له في آخر النهار يا حاج، كم سرقت اليوم من النفقة؟ فيقول: كذا، فنضحك منه ونرضى بذلك. ومن أفعاله الخسيسة أنه مات لنا فرس في بعض المنازل، فتولى سلخ جلده بيده وباعه. ومنها أنا نزلنا ليلة عند أخت له في بعض القرى فجاءت بطعام وفاكهة من الأجاص والتفاح والمشمش والخوخ، كلها ميبسة وتجعل في الماء حتى ترطب فتؤكل ويشرب ماؤها. فأردنا أن نحسن إليها فعلم بذلك فقال لا تعطوها شيئا، وأعطوا ذلك لي فأعطيناه إرضاء له، وأعطيناها إحسانا في خفية بحيث لم يعلم بذلك.
مهمة عبور (1)
ثم وصلنا إلى مدينة “بولي”.. ولما انتهينا إلى قريب منها وجدنا واديا يظهر في رأي العين صغيرا، فلما دخله بعض أصحابنا وجدوه شديد الجرية والانزعاج، فجاوزه جميعا. وبقيت جارية صغيرة خافوا في تجويزها، وكان فرسي خيرا من أفراسهم فأردفتها، وأخذت في جواز الوادي فلما توسطته وقع بي الفرس ووقعت الجارية، فأخرجها أصحابي وبها رمق وخلصت أنا..
عُمْر (6)
(ثم) وصلنا إلى مدينة “قصطمونية”.. ولم أر في البلاد مدينة أرخص أسعارا منها.. ولقيت بها الشيخ المعمر الصالح دادا أمير علي، دخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل، فوجده ملقى على ظهره، فأجلسه بعض خدامه، ورفع بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما، وكلمني بالعربي الفصيح، وقال: قدمت خير مقدم، وسألته عن عمره فقال: كنت من أصحاب الخليفة المستنصر بالله، وتوفي وأنا ابن ثلاثين سنة. وعمري الآن مائة وثلاث وستون سنة، فطلبت منه الدعاء فدعا لي..
نساء لهن قيمة (5،6،2)
وسافرت إلى مدينة “الماجر”.. ورأيت بهذه البلاد عجبا من تعظيم النساء عندهم وهن أعلى شأنا من الرجال. فأما نساء الأمراء فكانت أول رؤيتي لهن عند خروجي من القرم رؤية الخاتون زوجة الأمير سلطية في عربة لها، وكلها مجللة بالملف الأزرق الطيب، وطيقان البيت مفتوحة، وأبوابه، وبين يديها أربع جوار، فاتنات الحسن بديعات اللباس، وخلفها جملة من العربات فيها جوار يتبعنها ولما قربت من منزل الأمير نزلت عن العربة إلى الأرض ونزل معها نحو ثلاثين من الجواري يرفعن أذيالها، ولأثوابها عرى تأخذ كل جارية بعروة، ويرفعن الأذيال عن الأرض من كل جانب، ومشت كذلك متبخترة، فلما وصلت إلى الأمير قام إليها وسلم عليها وأجلسها إلى جانبه، ودار بها جواريها وجاءوا بروايا القمز، فصبت منه في قدح وجلست على ركبتيها قدام الأمير، وناولته القدح فشرب، ثم سقت أخاه وسقاها الأمير، وحضر الطعام فأكلت معه وأعطاها كسوة وانصرفت. وعلى هذا الترتيب نساء الأمراء، وسنذكر نساء الملك فيما بعد. وأما نساء الباعة والسوقة فرأيتهن وإحداهن تكون في العربة والخيل تجرها وبين يديها الثلاث والأربع من الجواري يرفعن أذيالها. وعلى رأسها البغطاق وهو أقروف مرصع بالجوهر وفي أعلاه ريش الطواويس، وتكون طيقان البيت مفتحة، وهي بادية الوجه، لأن نساء الأتراك لا يحتجبن، وتأتي إحداهن على هذا الترتيب ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من الناس بالسلع العطرية، وربما كان مع المرأة منهن زوجها فيظنه من يراها بعض خدامها، ولا يكون عليه من الثياب إلا فروة من جلد الغنم وفي رأسه قلنسوة تناسب ذلك يسمونها الكلا (أناقة)..
وتجهزنا من مدينة الماجر نقصد معسكر السلطان، وكان على أربعة أيام من الماجر بموضع يقال له “بش دغ”.. فضربت بيتي على تلة هنالك، وركزت العلم أمام البيت، وجعلت الخيل والعربات وراء ذلك، وأقبلت المحلة.. فرأينا مدينة عظيمة تسير بأهلها فيها المساجد والأسواق، ودخان المطبخ صاعد في الهواء وهم يطبخون في حال رحيلهم، والعربات تجرها الخيل بهم، فإذا بلغوا المنزل أنزلوا البيوت عن العربات، وجعلوها على الأرض، وهي خفيفة المحمل، وكذلك يصنعون بالمساجد والحوانيت. واجتاز بنا خواتين السلطان، كل واحدة بناسها على حدة ولما اجتازت الرابعة منهن وهي بنت الأمير عيسى بك، وسنذكرها، رأت البيت بأعلى التل والعلم أمامه، وهو علامة الوارد فبعثت الفتيان والجواري فسلموا علي وبلغوا سلامها إلي، وهي واقفة تنتظرهم، فبعثت إليها هدية مع بعض أصحابي ومع معرف الأمير تلكتمور فقبلتها تبركا، وأمرت أن أنزل في جوارها وانصرفت، وأقبل السلطان فنزل في محلته على حدة.. واسمه محمد أوزبك.. ومعنى خان عندهم السلطان. وهذا السلطان عظيم المملكة شديد القوة كبير الشأن رفيع المكان. قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى، مجتهد في جهادهم.. وهو أحد الملوك السبعة الذين هم كبراء الدنيا وعظماؤها وهم مولانا أمير المؤمنين.. وسلطان مصر والشام، وسلطان العراق، والسلطان أوزبك هذا، وسلطان بلاد تركستان وما وراء النهر، وسلطان الهند، وسلطان الصين.. وله في محل قعوده وسفره وأموره ترتيب عجيب بديع. ومن عادته أن يجلس يوم الجمعة بعد الصلاة في قبة تسمى قبة الذهب مزينة بديعة.. ويقعد على السرير، وعلى يمينه الخاتون طيطغلي، وتليها الخاتون كبك، وعلى يساره الخاتون بيلون، وتليها الخاتون أردوجا، ويقف أسفل السرير على اليمين ولد السلطان تين بك، وعن الشمال ولده الثاني جان بك وتجلس بين يديه ابنته إيت كجك.. وأما طيطغلي، وهي الملكة وأحظاهن عنده، فإنه يستقبلها إلى باب القبة، فيسلم عليها ويأخذ بيدها فإذا صعدت على السرير وجلست، حينئذ يجلس السلطان وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب.. وعندها يبيت أكثر لياليه ويعظمها الناس بسبب تعظيمه لها وإلا فهي أبخل الخواتين، وحدثني من أعتمده من العارفين بأخبار هذه الملكة أن السلطان يحبها للخاصية التي فيها وهي أنه يجدها كل ليلة كأنها بكر. وذكر لي غيره أنها من سلالة المرأة التي يذكر أن الملك زال عن سليمان عليه السلام بسببها ولما عاد إليه ملكه أمر أن توضع بصحراء لا عمارة فيها فوضعت بصحراء قفجق. وأن رحم هذه الخاتون شبه الحلقة خلقة وكذلك كل من هو من نسل المرأة المذكورة..
ذِكر الخاتون الثالثة واسمها بيلون.. وهي بنت ملك القسطنطينية العظمى السلطان تكفور ودخلنا على هذه الخاتون، وهي قاعدة على سرير مرصع قوائمه فضة وبين يديها نحو مائة جارية روميات وتركيات ونوبيات منهن قائمات وقاعدات، والفتيان على رأسها، والحجاب بين يديها من رجال الروم، فسألت عن حالنا ومقدمنا وبعد أوطاننا، وبكت ومسحت وجهها بمنديل كان بين يديها رقة منها وشفقة وأمرت بالطعام فأحضر وأكلنا بين يديها وهي تنظر إلينا. ولما أردنا الانصراف قالت: لا تنقطعوا عنا وترددوا إلينا وطالبونا بحوائجكم وأظهرت مكارم الأخلاق وبعثت في أثرنا بطعام وخبز كثير وسمن وغنم ودراهم وكسوة جيدة وثلاثة من جياد الخيل وعشرة من سائرها، ومع هذه الخاتون كان سفري إلى القسطنطينية العظمى، كما نذكره بعد..
ليل ونهار (5)
وكنت سمعت بمدينة “بلغار” فأردت التوجه إليها لأرى ما ذكر عنها من انتهاء قصر الليل بها وقصر النهار أيضا، في عكس ذلك الفصل. وكان بينها وبين محلة السلطان مسيرة عشر. فطلبت منه من يوصلني إليها، فبعث معي من أوصلني إليها وردني إليه. ووصلتها في رمضان، فلما صلينا المغرب أفطرنا. وأذن بالعشاء في أثناء إفطارنا فصليناها وصلينا التراويح والشفع والوتر. وطلع الفجر إثر ذلك. وكذلك يقصر النهار بها في فصل قصره أيضا. وأقمت بها ثلاثا..
ظلمة (5)
وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة، والدخول إليها من بلغار، وبينهما أربعون يوما. ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة فيه وقلة الجدوى. والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار. فإن تلك المفازة فيها الجليد فلا يثبت قدم الآدمي ولا حافر الدابة فيها. والكلاب لها الأظفار، فتثبت أقدامها في الجليد. ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها موقرة بطعامه وشرابه وحطبه فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر. والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مرارا كثيرة، وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها، وتربط العربة إلى عنقه ويقرن معه ثلاثة من الكلاب ويكون هو المقدم تتبعه سائر الكلاب بالعربات فإذا وقف وقفت. وهذا الكلب لا يضربه صاحبه ولا ينهره، وإذا حضر الطعام أطعم الكلاب أولا قبل بني آدم، وإلا غضب الكلب وفر وترك صاحبه للتلف. فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظلمة، وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك وعادوا إلى منزلهم المعتاد. فإذا كان من الغد عادوا لتفقد متاعهم فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم (فروة بيضاء غالية لا يدخلها القمل)، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذه، وإن لم يرضه تركه فيزيدونه، وربما رفعوا متاعهم، أعني أهل الظلمة، وتركوا متاع التجار. وهكذا بيعهم وشراؤهم. ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم ويشاريهم، أمن الجن هو أم الإنس. ولا يرون أحدا..
القسطنطينية (5،7)
وسافرنا في العاشر من شوال في صحبة الخاتون بيلون وتحت حرمتها، ورحل السلطان في تشييعها مرحلة ورجع هو والملكة وولي عهده.. وسافر صحبتها الأمير بيدره في خمسة آلاف من عسكره. وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين والباقون من الترك. وكان معها من الجواري نحو مائتين وأكثرهن روميات.. ثم وصلنا إلى البلدة المعروفة باسم “بابا سلطوق”، وبابا عندهم بمعناه عند البربر سواء، إلا أنهم يفخمون الباء.. ويذكرون أن سلطوق هذا كان مكاشفا، لكن يذكر عنه أشياء ينكرها الشرع. وهذه البلاد آخر بلاد الأتراك، بينها وبين أول عمالة الروم ثمانية عشر يوما في برية غير معمورة، منها ثمانية أيام لا ماء بها يتزود لها الماء ويحمل في الروايا والقرب على العربات، وكان دخولنا إليها في أيام البرد فلم نحتج إلى كثير من الماء.. ثم وصلنا بعد ذلك إلى حصن مهتولي، وهو أول عمالة الروم.. وكانت الروم قد سمعت بقدوم هذه الخاتون على بلادها، فوصلنا إلى هذا الحصن فاستقبلنا كفالي نقوله الرومي، في عسكر عظيم وضيافة عظيمة.. وبين مهتولي والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوما.. ولا يسافر من هذا الحصن إلا بالخيل والبغال، وتترك العربات به، لأجل الوعر والجبال. وجاء كفالي المذكور ببغال كثيرة، وبعثت إلي الخاتون بستة منها، وأوصت أمير ذلك الحصن بمن تركته من أصحابي وغلماني مع العربات والأثقال، فأمر لهم بدار.. ورجع الأمير بيدرة بعساكره، لم يسافر مع الخاتون إلا ناسها، وتركت مسجدها بهذا الحصن، وارتفع حكم الأذان. وكان يؤتى إليها بالخمور في الضيافة فتشربها وبالخنازير، وأخبرني بعض خواصها أنها أكلتها. ولم يبق معها من يصلي إلا بعض الأتراك كان يصلي معنا. وتغيرت البواطن لدخولنا في بلاد الكفر، ولكن الخاتون أوصت الأمير كفالي بإكرامي. ولقد ضرب مرة بعض مماليكه لما ضحك من صلاتنا..
وكان دخولنا عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى، وقد ضربوا نواقيسهم حتى ارتجت الآفاق لاختلاط أصواتها. ولما وصلنا الباب الأول من أبواب قصر الملك وجدنا به مائة رجل، معهم قائد لهم فوق دكانه. وسمعتهم يقولون: سراكنوا سراكنوا، ومعناه المسلمون. ومنعونا من الدخول. فقال لهم أصحاب الخاتون: إنهم من جهتنا. فقالوا: لا يدخلون إلا بإذن. فأقمنا بالباب، وذهب بعض أصحاب الخاتون، فبعث من أعلمها بذلك، وهي بين يدي والدها، فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا. وعين لنا دارا بمقربة من دار الخاتون، وكتب لنا أمرا بأن لا نعترض حيث نذهب من المدينة، ونودي بذلك في الأسواق. وأقمنا بالدار ثلاثا، فبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغنم والدجاج والسمن والفاكهة والحوت والدراهم والفرش. وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان.. واسمه تكفور.. وأبوه السلطان جرجيس.. تزهد وترهب وانقطع للعبادة في الكنائس، وترك الملك لولده.. وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى القسطنطينية بعثت إلي الخاتون الفتى سنبل الهندي فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر.. فلما وصلنا إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل ودخل، ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين، ففتشوني لئلا يكون معي سكين، وقال لي القائد: تلك عادة لهم لا بد من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاص أو عام، غريب أو بلدي، وكذلك الفعل بأرض الهند.. ثم لما فتشوني قام الموكل بالباب، فأخذ بيدي.. فدخلوا بي إلى مشور كبير، حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صور المخلوقات من الحيوانات والجماد، وفي وسطه ساقيه ماء، ومن جهتها الأشجار والناس واقفون يمينا ويسارا سكوتا لا يتكلم أحد منهم، وفي وسط المشور ثلاثة رجال وقوف، أسلمني أولئك الأربعة إليهم فأمسكوا بثيابي كما فعل الآخرون، وأشار إليهم رجل فتقدموا بي، وكان أحدهم يهوديا فقال لي بالعربي: لا تخف فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد وأنا الترجماني وأصلي من بلاد الشام. فسألته كيف أسلم، فقال: قل السلام عليكم. ثم وصلت إلى قبة عظيمة والسلطان على سريره وزوجته أم هذا الخاتون بين يديه، وأسفل السرير الخاتون وإخوتها، وعن يمينه ستة رجال، وعن يساره أربعة، وكلهم بالسلاح، فأشار إلي قبل السلام والوصول إليه بالجلوس هنيهة ليسكن روعي، ففعلت ذلك ثم وصلت إليه فسلمت عليه، وأشار إلي أن أجلس فلم أفعل، وسألني عن بيت المقدس وعن الصخرة المقدسة وعن القيامة وعن مهد عيسى وعن بيت لحم وعن مدينة الخليل عليه السلام ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلاد الروم، فأجبته عن ذلك كله، واليهودي يترجم بيني وبينه. فأعجبه كلامي وقال لأولاده: أكرموا هذا الرجل وأمنوه ثم خلع علي خلعة وأمر لي بفرس مسرج ملجم ومظلة من التي يجعلها الملك فوق رأسه وهي علامة الأمان. وطلبت منه أن يعين من يركب معي بالمدينة في كل يوم حتى أشاهد عجائبها وغرائبها وأذكرها في بلادي. فعين لي ذلك. ومن العوائد عندهم ان الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والأنفار والأطبال ليراه الناس وأكثر ما يفعل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك لئلا يؤذوا، فطافوا بي في الأسواق..
وأحد القسمين من المدينة يسمى اصطنبول.. وهو بالعدوة الشرقية من النهر، وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس.. وأما القسم الثاني منها فيسمى الغلطة.. شبيه برباط الفتح في قربه من النهر. وهذا القسم خاص بنصارى الإفرنج يسكنونه. وهم أصناف فمنهم الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل إفرانسة، وحكمهم إلى ملك القسطنطينية، يقدم عليهم منهم من يرتضونه ويسمونه القمص، وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية وربما استعصوا عليه فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا. وجميعها أهل تجارة، ومرساهم من أعظم المراسي.. وأسواق هذا القسم حسنة إلا أن الأقذار غالبة عليها ويشقها نهر صغير قذر نجس، وكنائسهم لا خير فيها..
ذكر الكنيسة العظمى: وإنما نذكر خارجها، وأما داخلها فلم أشاهده. وهي تسمى عندهم أيا صوفيا.. وهي من أعظم كنائس الروم، وعليها سور يطيف به فكأنها مدينة.. ولا يدعون أحدا بداخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلام، وهو على باب الكنيسة.. وذكر لي أن عدد من بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلاف، وأن بعضهم من ذرية الحواريين. وأن بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من الأبكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف. وأما القواعد من النساء فأكثر من ذلك كله. ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحا إلى زيارة هذه الكنيسة، ويأتي إليها البابا مرة في السنة..
(وقد) ولى الملك (جرجيس) لابنه، وانقطع للعبادة، وبنى مانستارا (يبنيه الملوك إذا انقطعوا للعبادة) كما ذكرناه خارج المدينة على ساحلها… وكنت يوما مع الرومي المعين للركوب معي فإذا بهذا الملك ماش على قدميه، وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد، وله لحية بيضاء طويلة ووجهه حسن عليه أثر العبادة، وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان، وبيده عكاز، وعلى عنقه سبحة. فلما رآه الرومي نزل وقال لي: انزل فهذا والد الملك. فلما سلم عليه الرومي سأله عني، ثم وقف وبعث لي فجئت إليه فأخذ بيدي وقال لذلك الرومي وكان يعرف اللسان العربي قل لهذا السراكنوا، يعني المسلم، أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدس والرجل التي مشت داخل الصخرة والكنيسة العظمى.. وبيت لحم، وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه، فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملتهم، ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى، وأطال السؤال، ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفا. ولما قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه وهو من كبارهم في الرهبانية. ولما رآهم أرسل يدي فقلت له: أريد الدخول معك إلى الكنيسة. فقال للترجمان قل له لابد لداخلها من السجود للصليب الأعظم، فإن هذا مما سنته الأوائل ولا يمكن خلافه، فتركته ودخل وحده ولم أره بعد..
البرد (1)
ولما ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها على دين أبيها وراغبة في المقام معه، طلبوا منها الإذن في العودة إلى بلادهم فأذنت لهم وأعطتهم عطاء جزيلا وبعثت معهم من يوصلهم إلى بلادهم أميرا يسمى ساروجة الصغير في خمسمائة فارس، وبحثت عني فأعطتني ثلاثمائة دينار من ذهبهم.. وأوصت بي ساروجة، وودعتها وانصرفت. وكانت مدة مقامي عندهم شهرا وستة أيام. وسافرنا صحبة ساروجة، فكان يكرمني، حتى وصلنا إلى آخر بلادهم، حيث تركنا أصحابنا وعرباتنا، فركبنا العربات ودخلنا البرية.. وذلك في اشتداد البرد، وكنت ألبس ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن، وفي رجلي خف من صوف وفوقه خف مبطن بثوب كتان وفوقه خف من البرغالي وهو جلد الفرس مبطن بجلد ذئب، وكنت أتوضأ بالماء الحار بمقربة من النار، فما تقطر من الماء قطرة إلا جمدت لحينها. وإذا غسلت وجهي بالماء إلى لحيتي فيجمد فأحركها فيسقط منها شبه الثلج، والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب، وكنت لا أستطيع الركوب لكثرة ما علي من الثياب حتى يركبني أصحابي.. وكنا إذا احتجنا الماء قطعنا قطعا من الجليد وجعلناه في القدرة حتى يصير ماء، فنشرب منه ونطبخ به..
فقيه فوق السلطان (6)
ووصلنا إلى مدينة “السرا”.. وهي حضرة السلطان أوزبك. ودخلنا على السلطان فسألنا عن كيفية سفرنا وعن ملك الروم ومدينته، فأعلمناه. وأمر بإجراء النفقة علينا وأنزلنا.. ومدينة السرا من أحسن المدن، متناهية الكبر، في بسيط من الأرض، تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق، متسعة الشوارع. وركبنا يوما مع بعض كبرائها، وغرضنا التطوف عليها ومعرفة مقدارها، وكان منزلنا في طرف منها، فركبنا منه غدوة. فما وصلنا لآخرها إلا بعد الزوال، فصلينا الظهر، وأكلنا طعامنا فما وصلنا إلى المنزل إلا عند المغرب، ومشينا يوما في عرضها ذاهبين راجعين في نصف يوم، وذلك في عمارة متصلة الدور لا خراب فيها ولا بساتين.. وبها زاوية الفقيه الإمام العالم نعمان الدين الخوارزمي، رأيته بها وهو من فضلاء المشايخ حسن الأخلاق كريم النفع شديد التواضع شديد السطوة على أهل الدنيا، يأتي إليه السلطان أوزبك زائرا في كل جمعة فلا يستقبله ولا يقوم إليه، ويقعد السلطان بين يديه ويكلمه ألطف كلام ويتواضع له والشيخ بضد ذلك. وفعله مع الفقراء والمساكين والواردين خلاف فعله مع السلطان فإنه يتواضع لهم ويكلمهم بألطف كلام ويكرمهم، وأكرمني جزاه الله خيرا وبعث إلي بغلام تركي، وشاهدت له بركة..
صلاة الجمعة في خوارزم (5)
(و) وصلنا إلى خوارزم، وهي أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكثيرة والمحاسن الأثيرة. وهي ترتج بسكانها لكثرتهم وتموج بهم موج البحر. ولقد ركبت بها يوما ودخلت السوق، فلما توسطته وبلغت منتهى الزحام في موضع يقال له الشهور لم أستطع أن أجوز ذلك الموضع لكثرة الازدحام، وأردت الرجوع فما أمكنني لكثرة الناس فبقيت متحيرا، وبعد جهد شديد رجعت.. وهذه المدينة تحت إمرة السلطان أوزبك.. وبخوارزم مارستان له طبيب شامي يعرف بالصهيوني، نسبة إلى صهيون من بلاد الشام. ولم أر في بلاد الدنيا أحسن أخلاقا من أهل خوارزم ولا أكرم نفوسا ولا أحب في الغرباء. ولهم عادة جميلة في الصلاة لم أرها لغيرهم. وهي أن المؤذنين بمساجدها يطوف كل واحد منهم على دور جيران مسجده معلما لهم بحضور الصلاة فمن لم يحضر الصلاة مع الجماعة ضربه الإمام بمحضر الجماعة. وفي كل جامع درة معلقة برسم ذلك، ويغرم خمسة دنانير تنفق في مصالح الجامع أو تطعم للفقراء والمساكين.. وبخارج خوارزم نهر جيحون أحد الأنهار الأربعة التي من الجنة وهو يجمد في أوان البرد كما يجمد نهر أتل. ويسلك الناس عليه، وتبقى مدة جموده خمسة أشهر. وربما سلكوا عليه عند أخذه في الذوبان فهلكوا. ويسافر فيه أيام الصيف بالمراكب إلى “ترمذ”، ويجلبون منها القمح والشعير، وهي مسيرة عشر للمنحدر..
ثراء (1)
ثم بعث (إلي) الأمير (بألف درهم) صحبة إمامه شمس الدين السنجري في خريطة يحملها غلامه.. وكنت قد اشتريت ذلك اليوم فرسا أدهم اللون بخمسة وثلاثين دينارا دراهم وركبته في ذهابي إلى المسجد، فما أعطيت ثمنه إلا من تلك الألف، وتكاثرت عندي الخيل بعد ذلك، حتى انتهت إلى عدد لا أذكره خيفة مكذب يكذب به، ولم تزل حالي في الزيادة حتى دخلت أرض الهند، وكانت عندي خيل كثيرة، لكني كنت أفضل هذا الفرس وأوثره وأربطه أمام الخيل. وبقي عندي إلى انقضاء ثلاث سنين، ولما هلك تغيرت حالي..
لم يقف لمضيفته (1)
وبعثت إلي الخاتون “جيجا أغا” امرأة القاضي مائة دينار دراهم. وصنعت لي أختها ترابك زوجة الأمير دعوة جمعت لها الفقهاء ووجوه المدينة بزاويتها التي بنتها.. وهي من أفضل النساء وأصلحهن وأكرمهن جزاها الله خيرا. ولما انفصلت من الدعوة التي صنعت لي هذه الخاتون وخرجت عن الزاوية، تعرضت لي بالباب امرأة عليها ثياب دنسة وعلى رأسها مقنعة ومعها نسوة لا أذكر عددهن. فسلمت علي فرددت عليها السلام ولم أقف معها ولا التفت إليها. فلما خرجت أدركني بعض الناس وقال لي: إن المرأة التي سلمت عليك هي الخاتون. فخجلت عند ذلك وأردت الرجوع إليها فوجدتها قد انصرفت. فأبلغت إليها السلام مع بعض خدامها واعتذرت عما كان مني لعدم معرفتي بها (هيئة المرء من ثياب وغيرها تؤثر على حكم الناس عليه، والتواضع وسط بين الإفراط والتفريط، لا تفريط!)..
كرامة نفس (2)
(و) كان قد صحبني من مدينة “السرا” إلى “خوارزم” شريف من أهل كربلاء يسمى علي بن منصور، وكان من التجار، فكنت أكلفه أن يشتري لي الثياب وسواها، فكان يشتري لي الثوب بعشرة دنانير، ويقول اشتريته بثمانية ويحاسبني بالثمانية ويدفع الدينارين من ماله، وأنا لا علم لي بفعله، إلى أن تعرفت ذلك على ألسنة الناس، وكان مع ذلك قد أسلفني دنانير، فلما وصل إلي إحسان أمير خوارزم رددت إليه ما أسلفنيه، وأردت أن أحسن بعده إليه مكافأة لأفعاله الحسنة فأبى ذلك وحلف أن لا أفعل. وأردت أن أحسن إلى فتى كان له اسمه كافور فحلف أن لا أفعل، وكان أكرم من لقيته من العراقيين. وعزم على السفر معي إلى بلاد الهند. ثم إن جماعة من أهل بلده وصلوا إلى خوارزم برسم السفر إلى الصين فأخذ في السفر معهم فقلت له في ذلك فقال هؤلاء أهل بلدي، يعودون إلى أهلي وأقاربي ويذكرون أني سافرت إلى الهند برسم الكدية فيكون سبة علي، لا أفعل ذلك، وسافر معهم إلى الصين فبلغني بعد وأنا بأرض الهند أنه لما بلغ إلى مدينة المالق وهي آخر البلاد التي من عمالة ما وراء النهر وأول بلاد الصين، أقام بها، وبعث فتى له بما كان عنده من المتاع فأبطأ الفتى عليه. وفي أثناء ذلك وصل من بلده بعض التجار ونزل معه في فندق واحد فطلب منه الشريف أن يسلفه شيئا بخلال ما يصل فتاه فلم يفعل، ثم أكد قبح ما صنع في عدم التوسعة على الشريف بأن أراد الزيادة عليه في المسكن الذي كان له في الفندق، فبلغ ذلك الشريف فاغتم منه ودخل إلى بيته فذبح نفسه، فأدرك وبه رمق، واتهموا غلاما كان له بقتله. فقال لا تظلموه فإني أنا فعلت ذلك ومات من يومه غفر الله له..
وكان قد حكى لي عن نفسه أنه أخذ مرة من بعض تجار دمشق ستة آلاف درهم قراضا ، فلقيه ذلك التاجر بمدينة حماة من أرض الشام فطلبه بالمال، وكان قد باع ما اشترى به من المتاع بالدين، فاستحيا من صاحب المال ودخل إلى بيته وربط عمامته بسقف البيت وأراد أن يخنق نفسه، وكان في أجله تأخير فتذكر صاحبا له من الصيارفة فقصده وذكر له القضية فسلفه مالا دفعه للتاجر..
بخارى وتنكيز خان (2،5)
(ثم) وصلنا إلى مدينة “بخارى” التي ينسب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وهذه المدينة كانت قاعدة ما وراء نهر جيحون من البلاد، وخربها اللعين تنكيز التتري جد ملوك العراق. فمساجدها الآن ومدارسها وأسواقها خربة إلا القليل، وأهلها أذلاء وشهادتهم لا تقبل بخوارزم وغيرها لإشتهارهم بالتعصب ودعوى الباطل وإنكار الحق. وليس بها اليوم من الناس من يعلم شيئا من العلم ولا من له عناية به..
(و) كان تنكيز خان حدادا بأرض الخطا، وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم، وكان يجمع الناس ويطعمهم. ثم صارت له جماعة فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أمره فغلب على ملك الخطا ثم على ملك الصين. وعظمت جيوشه، وتغلب على بلاد الختن وكاشغر والمالق، وكان جلال الدين سنجر بن خوارزم شاه ملك خوارزم وخراسان وما وراء النهر، له قوة عظيمة وشوكة، فهابه تنكيز وأحجم عنه ولم يتعرض له. فاتفق أن بعث تنكيز تجارا بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أطرار.. وهي آخر عمالة جلال الدين. فبعث إليه عامله عليها معلما بذلك، واستأذنه ما يفعل في أمرهم، فكتب إليه يأمره أن يأخذ موالهم ويمثل بهم ويقطع أعضائهم ويردهم إلى بلادهم لما أراد الله تعالى من شقاء أهل بلاد المشرق ومحنتهم.. فلما فعل ذلك، تجهز تنكيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرة برسم غزو بلاد الإسلام. فلما سمع عامل أطرار بحركته بعث الجواسيس ليأتوه بخبره، فذكر أن أحدهم دخل محلة بعض أمراء تنكيز في صورة سائل فلم يجد من يطعمه. ونزل إلى جانب رجل منهم فلم ير عنده زادا، ولا أطعمه شيئا. فلما أمسى أخرج مطرانا يابسة عنده فبلها بالماء وفصد فرسه وملأها بدمه وعقدها وشواها بالنار، فكانت طعامه. فعاد إلى أطرار فأخبر عاملها بأمرهم، وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم. فاستمد مليكه جلال الدين فأمده بستين ألفا زيادة على من كان عنده من العساكر. فلما وقع القتال هزمهم تنكيز ودخل مدينة أطرار بالسيف فقتل الرجال وسبى الذراري. وأتى جلال الدين بنفسه لمحاربته، فكانت بينهم وقائع لا يعلم في الإسلام مثلها. وآل الأمر إلى أن تملك تنكيز ما وراء النهر، وخرب بخارى وسمرقند وترمذ، وعبر النهر، وهو نهر جيحون، إلى مدينة بلخ فتملكها ثم إلى الياميان الباميان فتملكها، وأوغل في بلاد خراسان وعراق العجم. فثار عليه المسلمون في بلخ وفي ما وراء النهر. فكر عليهم ودخل بلخ بالسيف وتركها خاوية على عروشها.. ثم فعل مثل ذلك في ترمذ فخربت ولم تعمر بعد، لكن بنيت مدينة على ميلين منها هي التي تسمى اليوم ترمذ. وقتل أهل الياميان وهدمها بأسرها إلا صومعة جامعها، وعفا عن أهل بخارى وسمرقند، ثم عاد بعد ذلك إلى العراق. وانتهى أمر التتر حتى دخلوا حضرة الاسلام ودار الخلافة بغداد بالسيف وذبحوا الخليفة المستعصم بالله العباسي رحمه الله.
قال ابن جزي: أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات ابن الحاج أعزه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق، ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتر بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه..
المولود الجديد (1)
ثم سافرنا من بخارى قاصدين معسكر السلطان الصالح المعظم علاء الدين طرمشيرين.. وعندي جارية قد قاربت الولادة.. وكان السلطان غائبا عن المحلة في الصيد، فاجتمعت بنائبه الأمير تقبغا، فأنزلني بقرب مسجده، وأعطاني خرقة.. وهي شبه الخباء.. فجعلت الجارية في تلك الخرقة، فولدت تلك الليلة مولودا، وأخبروني أنه ولد ذكر. ولم يكن كذلك، فلما كان بعد العقيقة، أخبرني بعض الأصحاب أن المولد بنت.. وكانت هذه البنت مولودة في طالع سعد، فرأيت كل ما يسرني ويرضيني منذ ولدت. وتوفيت بعد وصولي إلى الهند بشهرين، وسيذكر ذلك..
تقلب الدنيا على السلاطين (2)
وهو السلطان المعظم علاء الدين طرمشيرين.. وهو عظيم المقدار كثير الجيوش والعساكر ضخم المملكة شديد القوة عادل الحكم، وبلاده متوسطه بين أربعة من ملوك الدنيا الكبار، وهم ملك الصين وملك الهند وملك العراق والملك أوزبك. وكلهم يهابونه، ويعظمونه ويكرمونه..
حضرت صلاة العصر يوما، ولم يحضر السلطان. فجاء أحد فتيانه بسجادة ووضعها قبالة المحراب حيث جرت عادته أن يصلي، وقال للإمام حسام الدين الياغي إن مولانا يريد أن تنتظره بالصلاة قليلا ريثما يتوضأ. فقام الإمام المذكور وقال: نماز.. أي الصلاة لله أو لطرمشيرين. ثم أمر المؤذن بإقامة الصلاة. وقد جاء السلطان، وقد صلي منها ركعتين، فصلى الركعتين الأخريين حيث انتهى به القيام، وذلك في الموضع الذي تكون فيه أنعلة الناس عند باب المسجد، وقضى ما فاته، وقام إلى الإمام ليصافحه وهو يضحك، وجلس قبالة المحراب، والشيخ الإمام إلى جانبه، وأنا إلى جانب الإمام. فقال لي: إذا مشيت إلى بلادك فحدث أن فقيرا من فقراء الأعاجم يفعل هكذا مع سلطان الترك. وكان هذا الشيخ يعظ الناس في كل جمعة، ويأمر السلطان بالمعروف وينهاه عن المنكر وعن الظلم ويغلظ عليه القول والسلطان ينصت لكلامه ويبكي. وكان لا يقبل من عطاء السلطان شيئا، ولم يأكل قط من طعامه، ولا لبس من ثيابه. وكان هذا الشيخ من عباد الله الصالحين. وكنت كثيرا ما أرى عليه قباء قطن مبطن بالقطن محشوا به، وقد بلي وتمزق وعلى رأسه قلنسوة لبد يساوي مثلها قيراطا، ولا عمامة عليه. فقلت له في بعض الأيام يا سيدي ما هذا القباء الذي أنت لابسه، إنه ليس بجيد. فقال لي: يا ولدي ليس هذا القباء لي وإنما هو لإبنتي، فرغبت منه أن يأخذ بعض ثيابي، فقال لي عاهدت الله منذ خمسين سنة أن لا أقبل من أحد شيئا ولو كنت أقبل من أحد لقبلت منك..
ولما عزمت على السفر بعد مقامي عند هذا السلطان أربعة وخمسين يوما، أعطاني السلطان سبعمائة دينار دراهم، وفروة سمور تساوي مائة دينار طلبتها منه لأجل البرد. ولما ذكرتها له أخذ أكمامي وجعل يقبلها بيده تواضعا منه وفضلا وحسن خلق، وأعطاني فرسين وجملين. ولما أردت وداعه أدركته في أثناء طريقه إلى متصيده، وكان اليوم شديد البرد جدا. فو الله ما قدرت على أن أنطق بكلمة لشدة البرد، ففهم ذلك وضحك، وأعطاني يده وانصرفت..
وبعد سنتين من وصولي إلى أرض الهند بلغنا الخبر بأن الملأ من قومه وأمرائه اجتمعوا بأقصى بلاده المجاورة للصين، وهنالك معظم عساكره وبايعوا ابن عم له اسمه “بوزن أغلي” وكل من كان من أبناء الملوك فهم يسمونه أغلي.. وكان مسلما إلا أنه فاسد الدين سيء السيرة. وسبب بيعتهم له وخلعهم لطرمشيرين أن طرمشيرين خالف أحكام جدهم تنكيز اللعين الذي خرب بلاد الإسلام.. وكان تنكيز ألف كتابا في أحكامه يسمى عندهم اليساق.. وعندهم أنه من خالف أحكام هذا الكتاب فخلعه واجب. ومن جملة أحكامه أنهم يجتمعون يوما في السنة يسمونه الطوى ومعناه يوم الضيافة ويأتي أولاد تنكيز والأمراء من أطراف البلاد، ويحضر الخواتين وكبار الأجناد، وإن كان سلطانهم قد غير شيئا من تلك الأحكام يقوم إليه كبراؤهم فيقولون له: غيرت كذا وغيرت كذا وفعلت كذا وقد وجب خلعك. ويأخذون بيده ويقيمونه عن سرير الملك، ويقعدون غيره من أبناء تنكيز، وإن كان أحد الأمراء الكبار أذنب ذنبا في بلاده حكموا عليه بما يستحقه. وكان السلطان طرمشيرين قد أبطل حكم هذا اليوم ومحا رسمه، فأنكروه عليه أشد الإنكار، وأنكروا عليه أيضا كونه أقام أربع سنين فيما يلي خراسان من بلاده، ولم يصل إلى الجهة التي توالي الصين. والعادة أن الملك يقصد تلك الجهة في كل سنة فيختبر أحوالها وحال الجند بها لأن أصل ملكهم منها. ودار الملك هي مدينة المالق. فلما بايعوا بوزن أتى في عسكر عظيم، وخاف طرمشيرين على نفسه من أمرائه ولم يأمنهم فركب في خمسة عشر فارسا، يريد بلاد غزنة وهي من عمالته وواليها كبير أمرائه وصاحب سره برنطيه؛ وهذا الأمير محب في الإسلام والمسلمين قد عمر في عمالته نحو أربعين زاوية فيها الطعام للوارد والصادر. وتحت يده العساكر العظيمة، ولم أر قط فيمن رأيته من الآدميين بجميع بلاد الدنيا أعظم خلقة منه. فلما عبر نهر جيحون وقصد طريق بلخ رآه بعض الأتراك من أصحاب ينقي ابن أخيه كبك، وكان السلطان طرمشيرين المذكور قتل أخاه كبك المذكور، وبقي ابنه ينقي ببلخ. فلما أعلمه التركي بخبره قال: ما فر إلا لأمر حدث عليه. فركب في أصحابه وقبض عليه وسجنه. ووصل بوزن إلى سمرقند وبخارى فبايعه الناس، وجاءه ينقي بطرمشيرين، فيذكر أنه لما وصل إلى نسف بخارج سمرقند قتل هنالك ودفن بها، وخدم تربته الشيخ شمس الدين كردن بريدا. وقيل إنه لم يقتل، كما سنذكره.. ولما ملك بوزن هرب ابن السلطان طرمشيرين وهو “بشاي أغل أغلي” وأخته وزوجها فيروز إلى ملك الهند فعظمهم وأنزلهم منزلة علية بسبب ما كان بينه وبين طرمشيرين من الود والمكاتبة والمهاداة، وكان يخاطبه بالأخ ثم بعد ذلك أتى رجل من أرض السند وادعى أنه هو طرمشيرين، واختلف الناس فيه. فسمع بذلك “عماد الملك سرتيز” غلام ملك الهند ووالي بلاد السند ويسمى “ملك عرض”… فبعث إليه بعض الأتراك العارفين به فعادوا إليه وأخبروه أنه هو طرمشيرين حقا. فأمر له بالسراجة، وهي أفراج. فضرب خارج المدينة، ورتب له ما يرتب لمثله، وخرج لاستقباله وترجل له وسلم عليه، وأتى في خدمته إلى السراجة فدخلها راكبا كعادة الملوك ولم يشك أحد أنه هو. وبعث إلى ملك الهند يخبره، فبعث إليه الأمراء يستقبلونه بالضيافات. وكان في خدمة ملك الهند حكيم ممن خدم طرمشيرين فيما تقدم، وهو كبير الحكماء بالهند. فقال للملك: أنا أتوجه إليه وأعرف حقيقة أمره فإني كنت عالجت له دملا تحت ركبته وبقي أثره وبه أعرفه. فأتى إليه ذلك الحكيم واستقبله مع الأمراء ودخل عليه ولازمه لسابقته عنده وأخذ يغمز رجليه وكشف عن الأثر فشتمه وقال له تريد أن تنظر إلى الدمل الذي عالجته؟ ها هو ذا وأراه أثره. فتحقق أنه هو، وعاد إلى ملك الهند فأعلمه بذلك. ثم إن الوزير خواجه جهان أحمد بن إياس وكبير الأمراء قطلوخان معلم السلطان أيام صغره دخلا على ملك الهند وقالا له يا “خوند عالم” هذا السلطان طرمشيرين قد وصل وصح أنه هو وها هنا من قومه نحو أربعين ألفا وولده وصهره، أرأيت إن اجتمعوا عليه ما يكون من العمل؟ فوقع هذا الكلام بموقع منه عظيم، وأمر أن يؤتى بطرمشيرين معجلا فلما دخل عليه أمر بالخدمة كسائر الواردين ولم يعظم، وقال له السلطان “بامادر كاني”، وهي شتمة قبيحة، كيف تكذب وتقول إنك طرمشيرين وطرمشيرين قد قتل؟ وهذا خادم تربته عندنا، والله لولا المعرة لقتلتك، ولكن أعطوه خمسة آلاف دينار، واذهبوا به إلى دار “بشاي أغلي” وأخته ولدي طرمشيرين، وقولوا لهم إن هذا الكاذب يزعم أنه والدكم. فدخل عليهم فعرفوه وبات عندهم والحراس يحرسونه وأخرج بالغد، وخافوا أن يهلكوا بسببه فأنكروه. ونفي عن بلاد الهند والسند، فسلك طريق كبج ومكران، وأهل البلاد يكرمونه ويضيفونه ويهادونه، ووصل إلى شيراز فأكرمه سلطانها أبو إسحاق وأجرى له كفايته. ولما دخلت عند وصولي من الهند إلى مدينة شيراز ذكر لي أنه باق بها، وأردت لقاءه ولم أفعل لأنه كان في دار لا يدخل إليه أحد إلا بإذن من السلطان أبي إسحق، فخفت مما يتوقع بسبب ذلك، ثم ندمت على عدم لقائه.
الطمع والغدر (2)
رجع الحديث إلى بوزن: وذلك أنه لما ملك، ضيق على المسلمين، وظلم الرعية، وأباح للنصارى واليهود عمارة كنائسهم، فضج االمسلمون من ذلك وتربصوا به الدوائر، واتصل خبره بخليل ابن السلطان اليسور المهزوم على خراسان، فقصد ملك هراة، وهو السلطان حسن ابن السلطان غياث الدين الغوري، فأعلمه بما كان في نفسه، وسأل منه الإعانة بالعساكر والمال على أن يشاطره الملك إذا استقام. فبعث معه الملك حسين عسكرا عظيما.. وجاء الأمراء من كل ناحية واجتمعوا على خليل والتقى مع بوزن. فمالت العساكر إلى خليل، وأسلموا بوزن وأتوا به أسيرا. فقتله خنقا وبأوتار القسي. وتلك عادة لهم أنهم لا يقتلون من كان من أبناء الملوك إلا خنقا. واستقام الملك لخليل وعرض عساكره بسمرقند، فكانوا ثمانين ألفا عليهم وعلى خيلهم الدروع. فصرف العسكر الذي جاء به من هراة، وقصد بلاد المالق، فقدم التتر على أنفسهم واحدا منهم، ولقوه على مسيرة ثلاث من المالق، وبمقربة من أطراز.. وحمي القتال، وصبر الفريقان. فحمل الأمير خداوند زاده وزيره في عشرين ألفا من المسلمين حملة لم يثبت لها التتر، فانهزموا واشتد فيهم القتل. وأقام خليل بالمالق ثلاثا وخرج إلى استئصال من بقي من التتر، فأذعنوا له بالطاعة. وجاز إلى تخوم الخطا والصين، وفتح مدينة قراقرم ومدينة بش بالغ. وبعث إليه سلطان الخطا بالعساكر، ثم وقع بينهما الصلح. وعظم أمر خليل وهابته الملوك. وأظهر العدل، ورتب العساكر بالمالق وترك بها وزيره خداوند زاده. وانصرف إلى سمرقند وبخارى. ثم إن الترك أرادوا الفتنة فسعوا إلى خليل بوزيره المذكور وزعموا أنه يريد الثورة ويقول إنه أحق بالملك لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم وكرمه وشجاعته. فبعث واليا إلى المالق عوضا عنه وأمره أن يقدم عليه نفر يسير من أصحابه فلما فدم عليه قتله عند وصوله من غير تثبت فكان ذلك سبب خراب ملكه. وكان خليل لما عظم أمره بغى على صاحب هراة الذي أورثه الملك وجهزه بالعساكر والمال، فكتب إليه أن يخطب في بلاده باسمه ويضرب الدنانير والدراهم على سكته، فغاظ ذلك الملك حسينا وأنف منه وأجابه بأقبح جواب. فتجهز خليل لقتاله فلم توافقه عساكر الإسلام ورأوه باغيا عليه. وبلغ خبره إلى الملك حسين فجهز العساكر مع ابن عمه ملك رونا، والتقى الجمعان فأنهزم خليل وأتى به إلى الملك حسين أسيرا فمن عليه بالبقاء وجعله في دار وأعطاه جارية وأجرى عليه النفقة. وعلى هذا الحال تركته عنده، في أواخر سنة سبع وأربعين عند خروجي من الهند..
كرم نفس امرأة (6)
وسرنا بعد انصرافنا من ترمذ وإجازة الوادي يوما ونصف يوم في صحراء ورمال لا عمارة بها إلى مدينة “بلخ” وهي خاوية على عروشها غير عامرة. ومن رآها ظنها عامرة لإتقان بنائها. وكانت ضخمة فسيحة ومساجدها ومدارسها باقية الرسوم حتى الآن.. ذكر لي بعض أهل التاريخ أن مسجد بلخ بنته امرأة كان زوجها أميرا ببلخ لبني العباس يسمى داود بن علي فاتفق أن الخليفة غضب مرة على أهل بلخ لحادث أحدثوه، فبعث إليهم من يغرمهم مغرما فادحا، فلما بلغ إلى بلخ أتى نساؤها وصبيانها إلى تلك المرأة التي بنت المسجد وهي زوج أميرهم، وشكوا حالهم وما لحقهم من هذا المغرم، فبعثت إلى الأمير الذي قدم برسم تغريمهم بثوب لها مرصع بالجوهر قيمته أكثر مما أمر بتغريمه، فقالت له اذهب بهذا الثوب إلى الخليفة فقد أعطيته صدقة عن أهل بلخ لضعف حالهم. فذهب به إلى الخليفة وألقى الثوب بين يديه وقص عليه القصة، فخجل الخليفة وقال أتكون المرأة أكرم منا؟ وأمره برفع المغرم عن أهل بلخ، وبالعودة إليها ليرد للمرأة ثوبها، وأسقط عن أهل بلخ خراج سنة. فعاد الأمير إلى بلخ وأتى منزل المرأة وقص عليها مقالة الخليفة ورد عليها الثوب. فقالت له أوقع بصر الخليفة على هذا الثوب؟ قال نعم. قالت لا ألبس ثوبا وقع عليه بصر غير ذي محرم مني، وأمرت ببيعه فبني منه المسجد والزاوية ورباط في مقابلته..
سلطان العبيد الرافضة (t)
(وصلنا) إلى مدينة “هراة”، وهي أكبر المدن العامرة بخراسان. ومدن خراسان العظيمة أربع اثنتان عامرتان وهما هراة ونيسابور، واثنتان خربتان وهما بلخ ومرو.. (وسلطانها) هو السلطان المعظم حسين ابن السلطان غياث الدين الغوري صاحب الشجاعة المأثورة والتأييد، ظهر له من إنجاد الله تعالى وتأييده في موطنين اثنين ما يقضي منه العجب، أحدهما عند ملاقاة جيشه للسلطان خليل الذي بغى عليه وكان منتهى أمره حصوله أسيرا في يديه، والموطن الثاني عند ملاقاته بنفسه لمسعود سلطان الرافضة.. كان بخراسان رجلان: أحدهما يسمى بمسعود، والآخر يسمى بمحمد. وكان لهما خمسة من الأصحاب وهم من الفتاك، ويعرفون بالعراق بالشطار.. فأتفق سبعتهم على الفساد وقطع الطرق وسلب الأموال، وشاع خبرهم، وسكنوا جبلا منيعا بمقربة من مدينة بيهق.. فكانوا يكمنون بالنهار ويخرجون بالليل والعشي فيضربون على القرى وبقطعون الطرق ويأخذون الأموال، وانثال عليهم أشباههم من أهل الشر والفساد فكثر عددهم واشتدت شوكتهم وهابهم الناس، وضربوا على مدينة بيهق فملكوها ثم ملكوا سواها من المدن واكتسبوا الأموال وجندوا الجنود وركبوا الخيل، وتسمى مسعود بالسلطان وصار العبيد يفرون عن مواليهم إليه فكل عبد فر منهم يعطيه الفرس والمال، وإن ظهرت له شجاعة أمره على جماعة، فعظم جيشه واستفحل أمره وتمذهب جميعهم بمذهب الرفض، وطمحوا إلى استئصال أهل السنة بخراسان وأن يجعلوها كلمة واحدة رافضية. وكان بمشهد طوس شيخ من الرافضة يسمى بحسن وهو عندهم من الصلحاء فوافقهم على ذلك وسموه بالخليفة وأمرهم بالعدل فأظهروه، حتى كانت الدراهم والدنانير تسقط في معسكرهم فلا يلتقطها أحد حتى يأتي ربها فيأخذها. وغلبوا على نيسابور، وبعث إليهم السلطان طغيتمور بالعساكر فهزموه، ثم بعث إليهم نائبه أرغون شاه فهزموه وأسروه ومنوا عليه، ثم غزاهم طغيتمور بنفسه في خمسين ألفا من التتر فهزموه وملكوا البلاد وتغلبوا على سرخس والزاوه وطوس وهي من أعظم بلاد خراسان. وجعلوا خليفتهم بمشهد علي بن موسى الرضا، وتغلبوا على مدينة الجام ونزلوا بخارجها وهم قاصدون مدينة هراة، وبينها وبينهم مسيرة ست. فلما بلغ ذلك الملك حسينا جمع الأمراء والعساكر وأهل المدينة واستشارهم هل يقيمون حتى يأتي القوم أو يمضوا إليهم فيناجزوهم. فوقع إجماعهم على الخروج إليهم، وهم قبيلة واحدة يسمون الغورية، ويقال إنهم ينسبون على غور الشام وإن أصلهم منه. فتجهزوا أجمعون، واجتمعوا من أطراف البلاد، وهم ساكنون بالقرى وبصحراء مرغيس وهي مسيرة أربع لا يزال عشبها أخضر.. وعضدهم أهل مدينة سمنان، ونفروا جميعا إلى الرافضة، وهم مائة وعشرون ألفا ما بين رجالة وفرسان يقودهم الملك حسين. واجتمعت الرافضة في مائة وخمسين ألفا من الفرسان، وكانت الملاقاة بصحراء بوشنج. وصبر الفريقان معا، ثم كانت الدائرة على الرافضة، وفر سلطانهم مسعود، وثبت خليفتهم حسن في عشرين ألفا حتى قتل وقتل أكثرهم، وأسر منهم نحو أربعة آلاف. وذكر لي بعض من حضر هذه الوقعة أن ابتداء القتال كان في وقت الضحى وكانت الهزيمة عند الزوال. ونزل الملك حسين بعد الظهر فصلى، وأتي بالطعام فكان هو وكبراء أصحابه يأكلون وسائرهم يضربون أعناق الأسرى. وعاد إلى حضرته بعد هذا الفتح العظيم، وقد نصر الله السنة على يديه وأطفأ نار الفتنة. وكانت هذه الوقعة بعد خروجي من الهند عام ثمانية وأربعين.
إقامة الحد على الملك (4،2)
ونشأ بهراة رجل من الزهاد والصلحاء الفضلاء واسمه نظام الدين مولانا، وكان أهل هراة يحبونه ويرجعون إلى قوله. وكان يعظهم ويذكرهم، وتوافقوا معه على تغيير المنكر، وتعاقد معهم على ذلك خطيب المدينة المعروف بملك ورنا. وهو ابن عم الملك حسين ومتزوج بزوجة والده وهي من أحسن الناس صورة وسيرة. والملك يخافه على نفسه، وسنذكر خبره. وكانوا متى علموا بمنكر ولو كان عند الملك غيروه.. ذُكر لي أنهم تعرفوا يوما أن بدار الملك حسين منكرا فاجتمعوا لتغييره، وتحصن منهم بداخل داره. فاجتمعوا على الباب في ستة آلاف رجل فخاف منهم فاستحضر الفقيه وكبار البلد، وكان قد شرب الخمر، فأقاموا عليه الحد بداخل قصره وانصرفوا عنه..
كانت الأتراك المجاورون لمدينة هراة الساكنون بالصحراء، وملكهم غيتمور الذي مر ذكره وهم نحو خمسين ألفا يخافهم الملك حسين ويهدي لهم الهدايا في كل سنة ويداريهم، وذلك قبل هزيمته للرافضة وأما بعد هزيمته للرافضة تغلب عليهم. ومن عادة هؤلاء الأتراك التردد إلى مدينة هراة وربما شربوا بها الخمر، وأتاها بعضهم وهو سكران. فكان نظام الدين يحد من وجد منهم سكران. وهؤلاء الأتراك أهل نجدة وبأس ولا يزالون يضربون على بلاد الهند فيسبون ويقتلون، وربما سبوا بعض المسلمات اللاتي يكن بأرض الهند ما بين الكفار فإذا خرجوا بهن إلى خراسان يطلق نظام الدين المسلمات من أيدي الترك. وعلامة النسوة المسلمات بأرض الهند ترك ثقب الأذن والكافرات آذانهن مثقوبات. فاتفق مرة أن أميرا من أمراء الترك يسمى “تمور ألطي” سبى امرأة وكلف بها شديدا فذكرت أنها مسلمة، فانتزعها الفقيه من يده، فبلغ ذلك من التركي مبلغا عظيما، وركب في آلاف من أصحابه وأغار على خيل هراة وهي في مرعاها بصحراء مرغيس واحتملوها فلم يتركوا لأهل هراة ما يركبون ولا ما يحلبون، وصعدوا بها إلى جبل هنالك لا يقدر عليهم فيه، ولم يجد السلطان ولا جنده خيلا يتبعونهم بها، فبعث إليهم رسولا يطلب منهم رد ما أخذوه من الماشية والخيل ويذكرهم العهد الذي بينهم، فأجابوا بأنهم لا يردون ذلك حتى يمكنوا من الفقيه نظام الدين، فقال السلطان لا سبيل إلى هذا، وكان الشيخ أبو أحمد الجستي حفيد الشيخ مودود الجستي له بخراسان شأن عظيم وقوله معتبر لديهم فركب في جماعة خيل من أصحابه ومماليكه فقال أنا أحمل الفقيه نظام الدين معي إلى الترك ليرضوا بذلك ثم أرده، فكأن الناس مالوا إلى قوله. ورأى الفقيه نظام الدين اتفاقهم على ذلك فركب مع الشيخ أبي أحمد ووصل الى الترك، فقام إليه الأمير تمور ألطي وقال له أنت أخذت امرأتي مني وضربه بدبوسه فكسر دماغه فخر ميتا، فسقط في أيدي الشيخ أبي أحمد وانصرف من هنالك إلى بلده، ورد الترك ما كانوا أخذوه من الخيل والماشية. وبعد مدة قدم ذلك التركي الذي قتل الفقيه على مدينة هراة فلقيه جماعة من أصحاب الفقيه فتقدموا إليه كأنهم مسلمون عليه وتحت ثيابهم السيوف فقتلوه وفر أصحابه. ولما كان بعد هذا بعث الملك حسين ابن عمه ملك ورنا الذي كان رفيق الفقيه نظام الدين في تغيير المنكر رسولا إلى ملك سجستان فلما حصل بها بعث إليه أن يقيم هنالك ولا يعود إليه، فقصد بلاد الهند ولقيته وانا خارج منها بمدينة سيوستان من السند وهو أحد الفضلاء وفي طبعه حب الرياسة والصيد والبراز والخيل والمماليك والأصحاب واللباس الملوكي الفاخر، ومن كان على هذا الترتيب فإنه لا يصلح حاله بأرض الهند، فكان من أمره أن ملك الهند ولاه بلدا صغيرا وقتله به بعض أهل هراة المقيمين بالهند بسبب جارية، وقيل إن ملك الهند دس عليه من قتله بسعي الملك حسين في ذلك..
الرافضي وقبر هارون الرشيد (t)
ثم سافرنا.. إلى مدينة طوس، وهي أكبر بلاد خراسان، وأعظمها بلد الإمام الشهير بأبي حامد الغزالي رضي الله عنه وبها قبره.. ورحلنا منها إلى مدينة مشهد الرضا، وهو علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق.. وهي أيضا مدينة كبيرة ضخمة كثيرة الفواكه والمياه.. وإزاء هذا القبر قبر هارون الرشيد أمير المؤمنين رضي الله عنه.. وإذا دخل الرافضي للزيارة ضرب قبر الرشيد برجله وسلم على الرضا (حقد الرافضة على أهل السنة، فعجبا لمن يعتبرهم إخوة)..
خزعبلات التصوف وأعضاؤهم الحساسة (s)
ثم سافرنا منها إلى مدينة زاوة، وهي مدينة الشيخ الصالح قطب الدين حيدر، وإليه تنسب طائفة الحيدرية من الفقراء، وهم الذين يجعلون حلق الحديد في أيديهم وأعناقهم وآذانهم، ويجعلون أيضا في ذكورهم حتى لا يتأتى لهم النكاح (هذا ليس من الدين في شيء)..
ثانيا: الهند والسند
بداية دخول الهند (5،4)
(ثم) بتنا بمنزل ششنغار، وهي آخر العمارة مما يلي بلاد الترك ومن هنا دخلنا البرية الكبرى وهي مسيرة خمس عشرة، لا تدخل إلا في فصل واحد وهو بعد نزول المطر بأرض السند والهند وذلك في أوائل شهر يوليه، وتهب في هذه البرية ريح السموم القاتلة التي تعفن الجسوم حتى أن الرجل إذا مات تتفسخ أعضاؤه. وقد ذكرنا أن هذه الريح تهب أيضا في البرية بين هرمز وشيراز.. (ووصلنا) إلى بنج آب وهو ماء السند، ومعنى ذلك المياه الخمسة. وهذا الوادي من أعظم أودية الدنيا، وهو يفيض في أوان الحر، فيزرع أهل تلك البلاد على فيضه، كما يفعل أهل الديار المصرية في فيض النيل. وهذا الوادي هو أول عمالة السلطان المعظم محمد شاه ملك الهند والسند.. وحضرة السلطان مدينة دهلي على مسيرة خمسين يوما (إذا تأملت في لغة الهنود اليوم وجدتها مليئة بالكلمات اللغة العربية، فهذه ليست مصادفة) ..
(و) من عادة ملك الهند.. إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة، ومعظم خواصه وحجابه ووزرائه وقضاته وأصهاره غرباء. ونفذ أمره بأن يسمى الغرباء في بلده الأعزة فصار لهم ذلك اسما وعلما. ولا بد لكل قادم على هذا الملك من هدية يهديها إليه ويقدمها وسيلة بين يديه فيكافئه السلطان عليها بأضعاف مضاعفة.. ولما تعود الناس ذلك منه صار التجار الذين ببلاد السند والهند يعطون لكل قادم على السلطان الآلاف من الدنانير دينا ويجهزونه بما يريد أن يهديه إليه أو يتصرف فيه لنفسه من الدواب للركوب والجمال والأمتعة ويخدمونهم بأموالهم وأنفسهم ويقفون بين يديه كالحشم فإذا وصل إلى السلطان أعطاه العطاء الجزيل فقضى ديونهم ووفاهم حقوقهم فنفقت تجارتهم وكثرت أرباحهم وصار لهم ذلك عادة مستمرة. ولما وصلت إلى بلاد السند، سلكت ذلك المنهج واشتريت من التجار الخيل والجمال والمماليك وغير ذلك، ولقد اشتريت من تاجر عراقي من أهل تكريت يعرف بمحمد الدوري بمدينة غزنة نحو ثلاثين فرسا وجملا عليه حمل من النشاب فإنه مما يهدى إلى السلطان، وذهب التاجر المذكور إلى خراسان ثم عاد إلى الهند وهنالك تقاضى مني مائة واستفاد بسببي فائدة عظيمة وعاد من كبار التجار، ولقيته بمدينة حلب بعد سنين كثيرة وقد سلبني الكفار ما كان بيدي فلم ألق منه خيرا..
وحيد القرن (5)
ولما أجزنا نهر السند.. دخلنا غيضة قصب لسلوك الطريق لأنه في وسطها، فخرج علينا الكركدن، وصورته أنه حيوان أسود اللون عظيم الجرم، ورأسه كبير متفاوت الضخامة، ولذلك يضرب به المثل فيقال: الكركدن رأس بلا بدن، وهو دون الفيل ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف، وله قرن واحد بين عينيه طوله نحو ثلاثة أذرع وعرضه نحو الشبر. ولما خرج علينا عارضه بعض الفرسان في طريقه فضرب الفرس الذي كان تحته بقرنه فأنفذ فخذه وصرعه.. ورأيته مرة أخرى ونحن مع ملك الهند، دخلنا غيضة قصب وركب السلطان على الفيل وركبنا معه الفيلة ودخلت الرجالة والفرسان فأثاروه وقتلوه واستاقوا رأسه إلى المحلة..
عزة نفس أم ظلم (2)
(ثم) وصلنا إلى مدينة “جناني”.. وسكانها طائفة يقال لهم السامرة، استوطنوها قديما واستقر بها أسلافهم حين فتحها على أيام الحجاج بن يوسف.. لا يأكلون مع أحد، ولا ينظر إليهم أحد حين يأكلون، ولا يصاهرون أحدا من غيرهم ولا يصاهر إليهم أحد.. (و) كان يسكن بهذه المدينة الأمير ونار السامري (أمير السامرة).. والأمير قيصر الرومي، وهما في خدمة السلطان ومعهما نحو ألف وثمانمائة فارس. وكان يسكن بها كافر من الهنود.. وهو من الحذاق بالحساب والكتابة. فوفد على ملك الهند مع بعض الأمراء فاستحسنه السلطان وسماه عظيم السند وولاه بتلك البلاد وأقطعه سيوستان وأعمالها، وأعطاه المراتب، وهي الأطبال والعلامات كما يعطى كبار الأمراء. فلما وصل إلى تلك البلاد عظم على ونار وقيصر وغيرهم تقديم الكافر عليهم فأجمعوا على قتله. فلما كان بعد أيام من قدومه أشاروا إليه بالخروج إلى أحواز المدينة ليتطلع على أمورها فخرج معهم فلما جن الليل أقاموا ضجة بالمحلة وزعموا أن السبع ضرب عليها وقصدوا ضرب الكافر فقتلوه وعادوا إلى المدينة فأخذوا ما كان بها من مال السلطان.. وقدموا على أنفسهم ونار المذكور وسموه ملك فيروز، وقسم الأموال على العسكر ثم خاف على نفسه لبعده عن قبيلته فخرج فيمن معه من أقاربه وقصد قبيلته، وقدم الباقون من العسكر على أنفسهم قيصر الرومي، واتصل خبرهم بعماد الملك سرتيز مملوك السلطان وهو يومئذ أمير أمراء السند وسكناه بملتان فجمع العساكر.. وخرج إليه قيصر فوقع اللقاء وانهزم قيصر ومن معه أشنع هزيمة وتحصنوا بالمدينة فحاصرهم ونصب المجانيق عليهم، واشتد عليهم الحصار فطلبوا الأمان بعد أربعين يوما من نزوله عليهم فأعطاهم الأمان فلما نزلوا إليه غدرهم وأخذ أموالهم وأمر بقتلهم فكان كل يوم يضرب أعناق بعضهم ويوسط البعض ويسلخ آخرين منهم ويملأ جلودهم تبنا ويعلقها على السور. فكانت تلك الجلود مصلوبة ترعب من ينظر إليها. وجمع رؤوسهم في وسط المدينة فكانت مثل التل هنالك. ونزلت بتلك المدينة إثر هذه الوقعة بمدرسة فيها كبيرة وكنت أنام على سطحها فإذا استيقظت من الليل أرى تلك الجلود المصلوبة فتشمئز النفس منها، ولم تطب نفسي بالسكنى بالمدرسة فانتقلت عنها (تأمل في عزة المسلمين في ذلك الزمان، لا يرضون بسيادة الكفار عليهم حتى أوقع ذلك بعضهم في ظلم الكفار، أما اليوم فالذل هو الغالب عليهم شعوبا وحكاما، والكفار هم الأعزة المتبوعين، فسبحان مغير الأحوال)..
مُسِخوا حجارة بسبب الفساد (2)
وركبت يوما مع علاء الملك فانتهينا إلى بسيط من الأرض على مسافة سبعة أميال منها يعرف بتارنا، فرأيت هنالك ما لا يحصره العد من الحجارة على مثل صور الآدميين والبهائم، وقد تغير كثير منها ودثرت أشكاله، فيبقى منه صورة رأس أو رجل أو سواهما. ومن الحجارة أيضا على صورة الحبوب من البر والحمص والفول والعدس، وهنالك آثار سور وجدران دور، ثم رأينا رسم دار فيها بيت من حجارة منحوتة وفي وسطه دكانة حجارة منحوتة كأنها حجر واحد عليها صورة آدمي، إلا أن رأسه طويل وفمه في جانب من وجهه، ويداه خلف ظهره كالمكتوف. وهنالك مياه شديدة النتن، وكتابة على بعض الجدران بالهندي. وأخبرني علاء الملك أن أهل التاريخ يزعمون أن هذا الموضع كانت فيه مدينة عظيمة أكثر أهلها الفساد فمسخوا حجارة، وأن ملكهم هو الذي على الدكانة في الدار التي ذكرناها، وهي الآن تسمى دار الملك، وأن الكتابة التي في بعض الحيطان بالهندي هي تاريخ هلاك أهل تلك المدينة وكان ذلك منذ ألف سنة أو نحوها. وأقمت بهذه المدينة مع علاء الملك خمسة أيام (قد يكون في هذه القصة دليل على المسخ)..
الفارس (1)
ثم سافرنا من مدينة “ملتان”.. إلى أن وصلنا إلى بلاد الهند وكان أول بلد دخلناه مدينة “أبوهَر”.. وهي أول تلك البلاد الهندية، صغيرة حسنة كثيرة العمارة، ذات أنهار وأشجار. وليس هنالك من أشجار بلادنا شيء، ما عدا النبق، لكنه عندهم عظيم الجرم، تكون الحبة منه بمقدار حبة العفص، شديد الحلاوة. ولهم أشجار كثيرة، ليس يوجد منها شيء ببلادنا ولا بسواها.. وأهل بلاد الهند أكثرهم كفار. فمنهم رعية تحت ذمة المسلمين، يسكنون القرى، ويكون عليهم حاكم من المسلمين يقدمه العامل أو الخديم الذي تكون القرية في إقطاعه، ومنهم عصاة محاربون يمتنعون بالجبال ويقطعون الطريق. ولما أردنا السفر من مدينة أبوهر خرج الناس منها أول النهار، وأقمت بها إلى نصف النهار في لمة من أصحابي، ثم خرجنا، ونحن اثنان وعشرون فارسا. منهم عرب ومنهم أعاجم، فخرج علينا في تلك الصحراء ثمانون رجلا من الكفار وفارسان. وكان أصحابي ذوي نجدة وعتي، فقاتلناهم أشد القتال فقتلنا أحد الفارسين منهم وغنمنا فرسه، (وقتلنا) من رجالهم نحو اثني عشر رجلا وأصابتني نشابة، وأصابت فرسي نشابة ثانية ومن الله بالسلامة منها لأن نشابهم لا قوة لها، وجرح لأحد أصحابنا فرس عوضناه له بفرس الكافر، وذبحنا فرسه المجروح فأكله الترك من أصحابنا. وأوصلنا تلك الرؤوس إلى حصن أبي بكهر فعلقناها على سوره..
قطعة من جهنم (3،4)
ولما انصرفت عن هذا الشيخ، رأيت الناس يهرعون من عسكرنا، ومعهم بعض أصحابنا. فسألته ما الخبر؟ فأخبروني أن كافرا من الهنود مات، وأججت النار لحرقه، وامرأته تحرق نفسها معه. ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت الميت حتى احترقت معه. وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة، والناس يتبعونها من مسلم وكافر، والأطبال والأبواق بين يديها، ومعها البراهمة، وهم كبراء الهنود. وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها فيؤذن لهم فيحرقونها. ثم اتفق بعد مدة أني كنت بمدينة أكثر سكانها الكفار تعرف بأبجري، وأميرها مسلم من سامرة السند، وعلى مقربة منها الكفار العصاة، فقطعوا الطريق يوما، وخرج الأمير المسلم لقتالهم وخرجت معه رعية من المسلمين والكفار، ووقع بينهم قتال شديد مات فيه من رعية الكفار سبعة نفر – وكان لثلاثة منهم ثلاث زوجات، فاتفقن على إحراق أنفسهن. وإحراق المرأة بعد زوجها عندهم أمر مندوب إليه غير واجب، لكن من أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفا بذلك، ونسبوا إلى الوفاء، ومن لم تحرق نفسها، لبست خشن الثياب وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها. ولكنها لا تكره على إحراق نفسها -. ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللائي ذكرناهن على إحراق أنفسهن، أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب كأنهن يودعن الدنيا. ويأتي إليهن النساء من كل جهة. وفي صبيحة اليوم الرابع أتيت كل واحدة منهن بفرس فركبته وهي متزينة متعطرة وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها، والبراهمة يحفون بها، وأقاربها معها، وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار. وكل إنسان من الكفار يقول لها أبلغي السلام إلى أبي أو أخي أو أمي أو صاحبي، وهي تقول نعم وتضحك إليهم. وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الاحتراق. فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال، وانتهينا إلى موضع مظلم كثير المياه والأشجار متكاثف الظلال، وبين أشجاره أربع قباب في كل قبة صنم من الحجارة. وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال وتزاحمت الأشجار فلا تتخللها الشمس. فكأن ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم أعاذنا الله منها. ولما وصلن إلى تلك القباب نزلن إلى الصهريج وانغمسن فيه وجردن ما عليهن من ثياب وحلي فتصدقن به. وأتيت كل واحدة منهن بثوب قطن خشن غير مخيط فربط بعضه على وسطها وبعضه على رأسها وكتفيها. والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج، في موضع منخفض، وصب عليها “روغن كنجت كنجد” وهو زيت الجلجلان فزاد في اشتعالها. وهنالك نحو خمسة عشر رجلا بأيديهم حزم من الحطب الرقيق ومعهم نحو عشرة بأيديهم خشب كبار، وأهل الأطبال والأبواق وقوف ينتظرون مجيء المرأة، وقد حجبت النار بملحفة، يمسكها الرجال بأيديهم لئلا يدهشها النظر إليها. فرأيت إحداهن لما وصلت إلى تلك الملحفة، نزعتها من أيدي الرجال بعنف وقالت لهم “مارا ميترساني ازاطش آنش من ميدانم أواطاش است رهكاني مارا”؛ وهي تضحك، ومعنى هذا الكلام “أبالنار تخوفونني؟ أنا أعلم أنها نار محرقة”. ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار ورمت بنفسها فيها. وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق، ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها، وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك، وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج. ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أصحابي تداركوني بالماء فغسلوا وجهي وانصرفت. وكذلك يفعل أهل الهند أيضا في الغرق. يغرق كثير منهم أنفسهم في نهر الكنك، وهو الذي إليه يحجون. وفيه يرمى برماد هؤلاء المحرقين. وهم يقولون إنه من الجنة. وإذا أتى أحدهم ليغرق نفسه يقول لمن حضره “لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا أو لقلة مال إنما قصدي التقرب إلى كساي”، وكُساي.. اسم الله عز وجل بلسانهم، ثم يغرق نفسه. فإذا مات أخرجوه وأحرقوه ورموا برماده في البحر المذكور..
دلهي والإسلام (2،5)
(ثم) وصلنا إلى حاضرة “دهلي” قاعدة بلاد الهند.. وهي المدينة العظيمة الشأن الضخمة الجامعة بين الحسن والحصانة، وعليها السور الذي لا يعلم له في بلاد الدنيا نظير، وهي أعظم مدن الهند بل مدن الإسلام كلها بالمشرق.. ومدينة دهلي كبيرة الساحة كثيرة العمارة، وهي الآن أربع مدن متجاورات متصلات، إحداها المسماة بهذا الاسم دهلي، وهي القديمة من بناء الكفار. وكان افتتاحها سنة أربع وثمانين وخمسمائة، والثانية تسمى سِيري، وتسمى أيضا دار الخلافة، وهي التي أعطاها السلطان لغياث الدين حفيد الخليفة المستنصر العباسي لما قدم عليه، وبها كان سكنى السلطان علاء الدين وابنه قطب الدين، وسنذكرهما، والثالثة تسمى “تغلق أباد” باسم بانيها السلطان تغلق والد سلطان الهند الذي قدمنا عليه. وكان سبب بنائه لها أنه وقف يوما بين يدي السلطان قطب الدين، فقال له: يا خوند عالم، كان ينبغي أن تبني هنا مدينة. فقال له السلطان متهكما إذا كنت سلطانا فأبنها. فكان من قدر الله أن كان سلطانا فبناها وسماها باسمه. والرابعة تسمى جهان بناه، وهي مختصة بسكنى السلطان محمد شاه ملك الهند الآن الذي قدمنا عليه، وهو الذي بناها.. والسور المحيط بمدينة دهلي لا يوجد له نظير. عرض حائطه أحد عشر ذراعا. وفيه بيوت يسكنها السمار وحفاظ الأبواب. وفيها مخازن للطعام (وغيره)..
حلق الرؤوس توبة (7)
ذكر بعض علمائها وصلحاؤها: منهم الشيخ الصالح العالم علاء الدين النيلي.. كان من أصحاب الشيخ الصالح نظام الدين البزواني. وهو يعظ الناس في كل يوم جمعة، فيتوب كثير منهم بين يديه ويحلقون رؤوسهم ويتواجدون ويغشى على بعضهم. شاهدته في بعض الأيام وهو يعظ. فقرأ القارئ بين يديه: “يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد” ثم كررها الفقيه علاء الدين فصاح أحد الفقراء من ناحية المسجد صيحة عظيمة، فأعاد الشيخ الآية فصاح الفقير ثانية ووقع ميتا. وكنت فيمن صلى عليه وحضر جنازته..
فتح دهلي (2)
حدثني الفقيه العالم العلامة قاضي القضاة بالهند والسند كمال الدين محمد بن البرهان الغزنوي الملقب بصدر الجهان، أن مدينة دهلي افتتحت من أيدي الكفار في سنة أربع وثمانين وخمسمائة. وقد قرأت أنا ذلك مكتوبا على محراب الجامع الأعظم بها. وأخبرني أيضا أنها افتتحت على يد الأمير قطب الدين أيبك.. وكان يلقب سياه سالار، ومعناه مقدم الجيوش. وهو أحد مماليك السلطان المعظم شهاب الدين محمد بن سنام الغوري ملك غزنة وخراسان المتغلب على ملك إبراهيم بن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان شهاب الدين المذكور بعث الأمير قطب الدين بعسكر عظيم ففتح الله عليه مدينة لاهور وسكنها وعظم شأنه، وسعى به إلى السلطان، وألقى إليه جلساؤه أنه يريد الانفراد بملك الهند وأنه قد عصى وخالف. وبلغ هذا الخبر إلى قطب الدين فبادر بنفسه وقدم على غزنة ليلا ودخل على السلطان ولا علم عند الذين وشوا به إليه. فلما كان بالغد قعد السلطان على سريره وأقعد أيبك تحت السرير بحيث لا يظهر، وجاء الندماء والخواص الذين سعوا به فلما استقر بهم الجلوس سألهم السلطان عن شأن أيبك فذكروا له أن عصى وخالف وقالوا قد صح عندنا أنه ادعى الملك لنفسه. فضرب السلطان سريره برجله وصفق بيديه وقال: يا أيبك، قال: لبيك، وخرج عليهم، فسقط في أيديهم وفزعوا إلى تقبيل الأرض. فقال لهم السلطان: قد غفرت لكم هذه الزلة وإياكم والعودة إلى الكلام في أيبك، وأمره أن يعود إلى بلاد الهند فعاد إليها وفتح مدينة دهلي وسواها واستقر بها الإسلام إلى هذا العهد. وأقام قطب الدين بها إلى أن توفي..
إنصاف المظلوم (2،4)
ذكر السلطان شمس الدين للمش، وهو أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلا به وكان قبل تملكه مملوكا للأمير قطب الدين أيبك وصاحب عسكره نائبا عنه، فلما مات قطب الدين استبد بالملك وأخذ الناس بالبيعة فأتاه الفقهاء يقدمهم قاضي القضاة إذ ذاك وجيه الدين الكاساني فدخلوا عليه وقعد بين يديه وقعد القاضي إلى جانبه على العادة وفهم السلطان عنهم ما أرادوا أن يكلموه به فرفع طرف البساط الذي هو قاعد عليه وأخرج لهم عقدا يتضمن عتقه، فقرأه القاضي والفقهاء وبايعوه جميعا، واستقل بالملك وكانت مدته عشرين سنة وكان عادلا صالحا فاضلا، ومن مآثره أنه اشتد في رد المظالم وإنصاف المظلومين وأمر أن يلبس كل مظلوم ثوبا مصبوغا وأهل الهند جميعا يلبسون البياض فكان متى قعد للناس أو ركب فرأى أحدا عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه..
تناحر على الدنيا (2)
ولما توفي السلطان شمس الدين خلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم ركن الدين الوالي بعده، ومعز الدين وناصر الدين، وبنتا تسمى رضية وهي شقيقة معز الدين منهم.. ولما بويع ركن الدين بعد موت أبيه افتتح أمره بالتعدي على أخيه معز الدين فقتله وكانت رضية شقيقته فأنكرت ذلك عليه فأراد قتلها، فلما كان في بعض أيام الجُمع خرج ركن الدين إلى الصلاة فصعدت رضية على سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم وهو يسمى دولة خانة ولبست عليها ثياب المظلومين وتعرضت للناس وكلمتهم من أعلى السطح وقالت لهم: إن أخي قتل أخاه وهو يريد قتلي معه، وذكرتهم أيام أبيها وفعله الخير وإحسانه إليهم، فثاروا عند ذلك إلى السلطان ركن الدين وهو في مسجد فقبضوا عليه وأتوا به إليها، فقالت لهم: القاتل يقتل، فقتلوه قصاصا بأخيه، وكان آخرهما ناصر الدين صغيرا فاتفق الناس على تولية رضية..
العبد والملكة (6،2)
واستقلت (رضية) بالملك أربع سنين وكانت تركب بالقوس والتركش والقربان كما يركب الرجال ولا تستر وجهها، ثم إنها اتهمت بعبد لها من الحبشة فاتفق الناس على خلعها وتزويجها، فخلعت وزوجت من بعض أقاربها وولي الملك أخوها ناصر الدين.. أخوها الأصغر، واستقل بالملك مدة..
فرت من أخيها إلى مزارع (2)
ثم إن رضية وزوجها خالفا عليه وركبا في مماليكهما ومن تبعهما من أهل الفساد وتهيأ لقتاله، وخرج ناصر الدين معه مملوكه النائب عنه “غياث الدين بلبن” متولي الملك بعده، فوقع اللقاء وانهزم عسكر رضية وفرت بنفسها فأدركها الجوع وأجهدها الإعياء فقصدت حراثا رأته يحرث الأرض فطلبت منه ما تأكله فأعطاها كسرة خبز فأكلتها، وغلب عليها النوم وكانت في زي الرجال فلما نامت نظر إليها الحراث وهي نائمة فرأى تحت ثيابها قباء مرصعا فعلم أنها امرأة فقتلها وسلبها وطرد فرسها ودفنها في فدانه، وأخذ بعض ثيابها فذهب إلى السوق يبيعها فأنكر أهل السوق شأنه وأتوا به الشحنة، وهو الحاكم، فضربه فأقر بقتلها ودلهم على مدفنها فاستخرجوها وغسلوها وكفنوها ودفنت هنالك وبني عليها قبة، وقبرها الآن يزار ويتبرك به وهو على شاطئ النهر الكبير المعروف بنهر الجون.
من الحقارة إلى المُلك (2،6)
واستقل ناصر الدين بالملك بعدها واستقام له الأمر عشرين سنة، وكان ملكا صالحا ينسخ نسخا من الكتاب العزيز ويبيعها فيقتات بثمنها، وقد وقفني القاضي كمال الدين على مصحف بخطه متقن محكم الكتابة، ثم إن نائبه غياث الدين بَلبَن قتله.. واستقل بالملك بعده عشرين سنة وقد كان قبلها نائبا له عشرين سنة أخرى وكان من خيار السلاطين، عادلا حليما فاضلا، ومن مكارمه أنه بنى دارا وسماها دار الأمن فمن دخلها من أهل الديون قضي دينه، ومن دخلها خائفا أمن ومن دخلها وقد قتل أحدا أرضى عنه أولياء المقتول ومن دخلها من ذوي الجنايات أرضى أيضا من يطلبه، وبتلك الدار دفن لما مات وقد زرت قبره. (و) يذكر أن أحد الفقراء ببخارى رأى بها بلبن هذا وكان قصيرا حقيرا دميما فقال له يا تركك، وهي لفظة تعبر عن الاحتقار. فقال له: لبيك يا خوند، فأعجبه كلامه، فقال له: إشتر لي من هذا الرمان، وأشار إلى رمان يباع في بالسوق، فقال: نعم وأخرج فليسات لم يكن عنده سواها واشترى له من ذلك الرمان. فلما أخذها الفقير قال له وهبناك مُلك الهند. فقبل بلبن يد نفسه وقال قبلت ورضيت واستقر ذلك في ضميره، واتفق أن بعث السلطان شمس الدين للمش تاجرا يشتري له المماليك بسمرقند وبخارى وترمذ فاشترى مائة مملوك كان من جملتهم بلبن، فلما دخل بالمماليك على السلطان أعجبه جميعهم إلا بلبن لِما ذكرناه من دمامته، فقال لا أقبل هذا فقال له بلبن يا خوند عالم لمن اشتريت هؤلاء المماليك؟ فضحك منه وقال اشتريتهم لنفسي، فقال اشترني أنا لله عز وجل، فقال نعم وقبله وجعله في جملة المماليك، فاحتُقر شأنه وجُعل في السقائين، وكان أهل المعرفة بعلم النجوم يقولون للسلطان شمس الدين إن أحد مماليكك يأخذ الملك من يد ابنك ويستولي عليه ولا يزالون يلقون ذلك وهو لا يلتفت إلى أقوالهم لصلاحه وعدله إلى أن ذُكر ذلك للخاتون الكبرى أم أولاده فذكرت له ذلك وأثر في نفسه وبعث إلى المنجمين فقال أتعرفون المملوك الذي يأخذ ملك ابني إذا رأيتموه؟ فقالوا له نعم عندنا علامة نعرفه بها فأمر السلطان بعرض مماليكه، وجلس لذلك فعرضوا بين يديه طبقة طبقة، والمنجمون ينظرون إليهم ويقولون لم نره بعد، وحان وقت الزوال فقال السقاءون بعضهم لبعض إنا قد جعنا فلنجمع شيئا من الدراهم ونبعث أحدنا إلى السوق ليشتري لنا ما نأكله، فجمعوا الدراهم وبعثوا بها بلبن إذ لم يكن فيهم أحقر منه فلم يجد بالسوق ما أرادوه فتوجه إلى سوق أخرى وأبطأ، وجاءت نوبة السقائين في العرض وهو لم يأت بعد فأخذوا زقه وماعونه وجعلوه على كاهل صبي وعرضوه على أنه بلبن فلما نودي اسمه جاز الصبي بين أيديهم وانقضى العرض ولم ير المنجمون الصورة التي يطلبونها. وجاء بلبن بعد تمام العرض لما أراد الله من إنفاذ قضائه، ثم إنه ظهرت نجابته فجُعل أمير السقائين ثم صار من جملة الأجناد ثم من الأمراء ثم تزوج السلطان ناصر الدين بنته قبل أن يلي الملك ولما ولي الملك جعله نائبا عنه مدة عشرين سنة، ثم قتله بلبن واستولى على ملكه عشرين سنة أخرى كما تقدم ذكر ذلك، وكان للسلطان بلبن ولدان أحدهما الخان الشهيد ولي عهده وكان واليا لأبيه ببلاد السند ساكنا بمدينة ملتان وقتل في حرب له مع التتر وترك ولدين “كي قباد” و”كي خسرو”، وولد السلطان بلبن الثاني يسمى ناصر الدين وكان واليا لأبيه ببلاد اللكنوتي وبنجالة، فلما استشهد الخان الشهيد جعل السلطان بلبن العهد إلى ولده “كي خسرو” وعدل به عن ابن نفسه ناصر الدين، وكان لناصر الدين كذلك ولد ساكن بحضرة دهلي مع جده يسمى معز الدين وهو الذي تولى الملك بعد جده في خبر عجيب نذكره وأبوه إذ ذاك حي كما ذكرناه..
لقاء السعدين (2)
ذكر السلطان معز الدين بن ناصر ابن السلطان غياث الدين بلبن: ولما توفي السلطان غياث الدين ليلا وابنه ناصر الدين غائب ببلاده اللكنوتي، وجعل العهد لابن ابنه الشهيد كي خسرو حسبما قصصناه، كان ملك الأمراء نائب السلطان غياث الدين عدوا لكي خسرو فأراد عليه حيلة تمت، وهي أنه كتب بيعة دلس فيها على خطوط الأمراء الكبار بأنهم بايعوا السلطان معز الدين حفيد السلطان بلبن، ودخل على كي خسرو كالمتنصح له فقال له: إن الأمراء قد بايعوا ابن عمك وأخاف عليك منهم، فقال كي خسروا: فما الحيلة؟ قال: انج بنفسك هاربا إلى بلاد السند، فقال: وكيف الخروج والأبواب مسدودة؟ قال له: إن المفاتيح بيدي وأنا أفتح لك فشكره على ذلك وقبل يده، وقال له: اركب الآن فركب في خاصته ومماليكه وفتح له الباب وأخرجه وسد في أثره، واستأذن على معز الدين فبايعه فقال: كيف لي بذلك وولاية العهد لابن عمي؟ فأعلمه بما أدار عليه من الحيلة وبإخراجه، فشكره على ذلك ومضى به إلى دار الملك وبعث إلى الأمراء والخواص فبايعوا ليلا فلما أصبح بايعه سائر الناس واستقام له الملك وكان أبوه حيا ببلاد بنجالة واللكنوتي فاتصل به الخبر فقال: أنا وارث الملك وكيف يلي ابني الملك ويستقل به وأنا بقيد الحياة؟ فتجهز في جيوشه قاصدا حضرة دهلي وتجهز ولده في جيوشه كذلك قاصدا لمدافعته عنها، (فألتقيا) بمدينة “كرا” وهي على ساحل نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه فنزل ناصر الدين على شاطئه مما يلي كرا ونزل ولده السلطان معز الدين مما يلي الجهة الأخرى والنهر بينهما وعزما على القتال، ثم أن الله تعالى أراد حقن دماء المسلمين فألقى في قلب ناصر الدرين الرحمة لإبنه وقال: إذا ملك ولدي فذلك شرف وأنا أحق أن أرغب في ذلك، وألقى في قلب السلطان معز الدين الضراعة لأبيه، فركب كل واحد منهما منفردا عن جيوشه والتقيا في وسط النهر فقبل السلطان رجل أبيه واعتذر له، فقال له أبوه: قد وهبتك ملكي ووليتك وبايعه وأراد الرجوع إلى بلاده فقال له ابنه: لا بد لك من الوصول إلى بلادي فمضى معه إلى دهلي ودخل القصر وأقعده أبوه على سرير الملك ووقف بين يديه، وسمي ذلك اللقاء الذي كان بينهما بالنهر لقاء السعدين لما كان فيه من حقن الدماء وتواهب الملك والتجافي عن المنازعة وأكثرت الشعراء في ذلك، وعاد ناصر الدين إلى بلاده فمات بها بعد سنين..
أحضان الغدر (2)
وحكى لي بعض أهل الهند أن معز الدين كان يكثر النكاح والشرب فاعتلته علة أعجز الأطباء دواؤها ويبس أحد شقيه فخالف عليه نائبه جلال الدين فيروزشاه وخرج إلى ظاهر المدينة فوقف على تل هنالك بجانب قبة تعرف بقبة الجيشاني فبعث معز الدين الأمراء لقتاله، فكان كل من يبعثه منهم يبايع جلال الدين ويدخل في جملته ثم دخل المدينة وحصره في القصر ثلاثة أيام، وحدثني من شاهد ذلك أن السلطان معز الدين أصابه الجوع في تلك الأيام فلم يجد ما يأكله فبعث إليه أحد الشرفاء من جيرانه ما أقام أوده، ودخل عليه القصر فقتل وولي بعده جلال الدين وكان حليما فاضلا، وحلمه أداه إلى القتل كما سنذكره.. فكان للسلطان جلال الدين ولد اسمه ركن الدين وابن أخ اسمه علاء الدين زوجه بابنته وولاه مدينة كرا ومانكبور ونواحيها وهي من أخصب بلاد الهند.. وكانت زوجة علاء الدين تؤذيه فلا زال يشكوها إلى عمه السلطان جلال الدين حتى وقعت الوحشة بينهما بسببها، وكان علاء الدين شهما شجاعا مظفرا منصورا وحب الملك ثابت في نفسه إلا أنه لم يكن له مال إلا ما يستفيده بسيفه من غنائم الكفار. فاتفق أنه ذهب مرة إلى الغزو ببلاد الدويقير وتسمى بلاد الكتكة أيضا وسنذكرها وهي كرسي بلاد المالوه والمرهتة وكان سلطانها أكبر سلاطين الكفار، فعثرت بعلاء الدين بتلك الغزوة دابة له عند حجر فسمع له طنينا، فأمر بالحفر هنالك فوجد تحته كنزا عظيما ففرقه في أصحابه ووصل إلى الدويقير فأذعن له سلطانها بالطاعة ومكنه من المدينة من غير حرب وأهدى له هدايا عظيمة فرجع إلى المدينة كرا ولم يبعث إلى عمه شيئا من الغنائم فأغرى الناس عمه به فبعث إليه فامتنع من الوصول إليه، فقال السلطان جلال الدين أنا أذهب إليه وآتي به فإنه محل ولدي فتجهز في عساكره وطوى المراحل حتى حل بساحل مدينة كرا حيث نزل السلطان معز الدين لما خرج إلى لقاء أبيه ناصر الدين، وركب النهر برسم الوصول إلى ابن أخيه وركب ابن أخيه أيضا في مركب ثان عازما على الفتك به، وقال لأصحابه: إذا أنا عانقته فاقتلوه فلما التقيا وسط النهر عانقه ابن أخيه وقتله أصحابه كما وعدهم واحتوى على ملكه وعساكره.
خوف من الغدر (2)
ودخل علاء الدين دار الملك واستقام له الأمر عشرين سنة وكان من خيار السلاطين وأهل الهند يثنون عليه كثيرا.. وكان لا يركب لجمعة ولا لعيد ولا سواهما وسبب ذلك إنه كان له ابن أخ يسمى سليمان شاه وكان يحبه ويعظمه فركب يوما إلى الصيد وهو معه وأضمر في نفسه أن يفعل ما فعل هو بعمه جلال الدين من الفتك، فلما نزل للغداء رماه بنشابة فصرعه وغطاه بعض عبيده بترس وأتى ابن أخيه ليجهز عليه فقال له العبيد إنه قد مات فصدقهم، وركب فدخل القصر على الحرم، وأفاق السلطان علاء الدين من غشيته وركب، واجتمعت العساكر عليه وفر ابن أخيه فأُدرِك وأتي به إليه فقتله، وكان بعد ذلك لا يركب.
الأمير المحروم (2)
وكان له من الأولاد خضر خان وشادي خان وأبو بكر خان ومبارك خان (وهو قطب الدين الذي ولي الملك) وشهاب الدين. وكان قطب الدين مهتضما عنده ناقص الحظ قليل الحظوة وأعطى جميع إخوته المراتب وهي الأعلام والأطبال ولم يعطه شيئا، وقال له يوما لا بد أن أعطيك مثل ما أعطيت إخوتك فقال له: الله هو الذي يعطيني فهال أباه هذا الكلام وفزع منه. ثم إن السلطان اشتد عليه المرض وكانت زوجته أم ولده خضر خان وتسمى “ماه حق”.. فعاهدت أخاها على تمليك ولدها خضر خان وعلم بذلك “ملك نائب” أكبر أمراء السلطان وكان يسمى الألفي لأن السلطان إشتراه بألف تنكة.. فوشى إلى السلطان بما اتفقوا عليه فقال لخواصه إذا دخل علي سنجر فإني معطيه ثوبا فإذا لبسه فأمسكوا بأكمامه واضربوا به الأرض واذبحوه، فلما دخل عليه فعلوا ذلك وقتلوه وكان خضر خان غائبا بموضع يقال له “سندبت” على مسيرة يوم من دهلي توجه لزيارة شهداء مدفونين به لنذر كان عليه أن يمشي تلك المسافة راجلا ويدعو لوالده بالراحة. فلما بلغه أن أباه قتل خاله حزن عليه حزنا شديدا ومزق جيبه، وتلك عادة لأهل الهند يفعلونها إذا مات لهم من يعز عليهم، فبلغ والده ما فعله فكره ذلك فلما دخل عليه عنفه ولامه وأمر به فقيدت يداه ورجلاه وسلمه لملك نائب المذكور وأمره أن يذهب إلى حصن كاليور.. وهو حصن منقطع بين كفار الهنود منيع على مسيرة عشر من دهلي، وقد سكنته أنا مدة، فلما أوصله إلى هذا الحصن سلمه للكتوال وهو أمير الحصن وللمفردين وهم الزماميون، وقال لهم: لا تقولوا هذا ابن السلطان فتكرموه إنما هو أعدى عدو له فأحفظوه كما يحفظ العدو. ثم إن المرض اشتد بالسلطان فقال للملك نائب: ابعث من يأتي بابني خضر خان لأوليه العهد فقال له نعم وماطله بذلك، فمتى سأل عنه قال هو ذا يصل إلى أن توفي السلطان رحمه الله.. ولما توفي السلطان علاء الدين اقعد ملك نائب ابنه الأصغر شهاب الدين على سرير الملك وبايعه الناس وتغلب ملك نائب عليه وسمل أعين أبي بكر خان وشادي خان وبعث بهما إلى كاليور وأمر بسمل عيني أخيهما خضر خان المسجون هنالك، وسجنوا وسجن قطب الدين لكنه لم تسمل عيناه. وكان للسلطان علاء الدين مملوكان من خواصه يسمى أحدهما ببشير والآخر بمبشر فبعثت إليهما الخاتون الكبرى زوجة علاء الدين وهي بنت السلطان معز الدين فذكرتهما بنعمة مولاهما وقالت إن هذا الفتى “ملك نائب” قد فعل في أولادي ما تعلمانه وإنه يريد أن يقتل قطب الدين، فقالا لها سترين ما نفعل، وكانت عادتهما أن يبيتا عند نائب ملك ويدخلا عليه بالسلاح فدخلا عليه تلك الليلة وهو في بيت من الخشب مكسو بالملف يسمونه الخرمقة ينام في أيام المطر فوق سطح القصر، فاتفق أنه أخذ السيف من يد أحدهما فقلبه ورده إليه فضربه به المملوك وثنى عليه صاحبه واحتزا رأسه وأتيا به إلى مجلس قطب الدين فرمياه بين يديه وأخرجاه فدخل على أخيه شهاب الدين وأقام بين يديه أياما كأنه نائب له ثم عزم خلعه فخلعه..
قطيعة رحم (2)
وخلع قطب الدين أخاه شهاب الدين وقطع إصبعه، وبعث به إلى كاليور فحبس مع إخوته واستقام الملك لقطب الدين. ثم إنه بعد ذلك خرج من حضرة دهلي إلى “دولة أباد” وهي على مسيرة أربعين يوما منها والطريق بينهما تكنفه الأشجار من الصفصاف وسواه فكأن الماشي به في بستان.. فكأنه يمشي في سوق مسيرة الأربعين يوما.. ولما خرج السلطان قطب الدين في هذه الحركة اتفق بعض الأمراء على الخلاف عليه وتولية ولد أخيه خضر خان المسجون وسنه نحو عشرة أعوام وكان مع السلطان، فبلغ السلطان ذلك فأخذ ابن أخيه المذكور وأمسك برجليه وضرب برأسه إلى الحجارة حتى نثر دماغه، وبعث أحد الأمراء ويسمى “ملك شاه” إلى كاليور حيث أبو هذا الولد وأعمامه وأمره بقتلهم جميعا، فحدثني القاضي زين الدين مبارك قاضي هذا الحصن قال: قدم عاينا ملك شاه ضحوة يوم وكنت عند خضر خان بمحبسه فلما سمع بقدومه خاف وتغير لونه، ودخل عليه الأمير فقال له: فيم جئت؟ قال: في حاجة خوند عالم. فقال له: نفسي سالمة، فقال: نعم وخرج عنه واستحضر الكتوال وهو صاحب الحصن والمفردين وهم الزماميون وكانوا ثلاثمائة رجل وبعث عني وعن العدول واستظهر بأمر السلطان فقرؤوه وأتوا إلى شهاب الدين المخلوع فضربوا عنقه وهو متثبت غير جزع ثم ضربوا عنق أبي بكر خان وشادي خان، ولما أتوا ليضربوا عنق خضر خان فزع وذهل وكانت أمه معه فسدوا الباب دونها وقتلوه وسحبوهم جميعا في حفرة بدون تكفين ولا غسل. واخرجوا بعد سنين فدفنوا بمقابر آبائهم. وعاشت أم خضر خان مدة، ورأيتها بمكة سنة ثمان وعشرين. وحصن كاليور هذا في رأس شاهق كأنه منحوت من الصخر لا يحاذيه جبل.. ولما قتل قطب الدين إخوته واستقل بالملك ولم يبق من ينازعه ولا من يخالف عليه بعث الله تعالى عليه من خاصته الحظي لديه أكبر أمرائه وأعظمهم منزله عنده ناصر الدين خسرو خان ففتك به وقتله واستقل بملكه إلا أن مدته لم تطل بالملك فبعث الله تعالى عليه من قتله بعد خلعه السلطان تغلق..
حب ثمنه الروح (2)
وكان خسروخان من أكبر أمراء قطب الدين وهو شجاع حسن الصورة وكان فتح بلاد جنديري وبلاد المعبر وهي من أخصب بلاد الهند وبينهما وبين دهلي مسيرة ستة أشهر. وكان قطب الدين يحبه حبا شديدا ويؤثره فجر ذلك حتفه على يديه، وكان لقطب الدين معلم يسمى قاضي خان صدر الجهان وهو أكبر أمرائه وكليت كليد دار وهو صاحب مفاتيح القصر، وعادته أن يبيت كل ليلة على باب السلطان ومعه أهل النوبة وهم ألف رجل يبيتون مناوبة بين أربع ليال ويكونون صفين فيما بين أبواب القصر وسلاح كل واحد منهم بين يديه فلا يدخل أحد إلا فيما بين سماطيهم وإذا تم الليل أتى أهل نوبة النهار، ولأهل النوبة أمراء وكتاب يتطوفون عليهم ويكتبون من غاب منهم أو حضر، وكان معلم السلطان قاضي خان يكره أفعال خسرو خان ويسوءه ما يراه من إيثاره لكفار الهنود وميله إليهم وأصله منهم. ولا يزال يلقي ذلك إلى السلطان فلا يسمع منه ويقول له دعه وما يريد لما أراد الله من قتله على يده، فلما كان في بعض الأيام قال خسرو خان للسلطان إن جماعة من الهنود يريدون أن يسلموا، ومن عادتهم في تلك البلاد أن الهندي إذا أراد الإسلام أدخل إلى السلطان فيكسوه كسوة حسنة ويعطيه قلادة أو أساور من ذهب على قدره، فقال له السلطان ائتني بهم، فقال إنهم يستحيون أن يدخلوا إليك نهارا لأجل أقربائهم وأهل ملتهم، فقال له ائتني بهم ليلا، فجمع خسرو خان جماعة من شجعان الهنود وكبرائهم فيهم أخوه خان خانان وذلك أوان الحر والسلطان ينام فوق سطح القصر ولا يكون عنده في ذلك الوقت إلا بعض الفتيان. فلما دخلوا الأبواب الأربعة وهم شاكو السلاح ووصلوا إلى الباب الخامس وعليه قاضي خان أنكر شأنهم وأحس بالشر فمنعهم من الدخول وقال لا بد أن أسمع من خوند عالم بنفسي الإذن في دخولهم وحينئذ يدخلون، فلما منعهم من الدخول هجموا عليه فقتلوه وعلت الضجة بالباب فقال السلطان: ما هذا؟ فقال خسرو خان: هم الهنود الذين أتوا ليسلموا فمنعهم قاضي خان من الدخول، وزاد الضجيج فخاف السلطان وقام يريد الدخول إلى القصر وكان بابه مسدودا والفتيان عنده فقرع الباب واحتضنه خسرو خان من خلفه وكان السلطان أقوى منه فصرعه، ودخل الهنود فقال لهم خسرو خان هو ذا فوقي فاقتلوه فقتلوه وقطعوا رأسه ورموا به من سطح القصر إلى صحنه.. ولما ملك خسرو خان أثر الهنود وأظهر أمورا منكرة منها النهي عن ذبح البقر على قاعدة كفار الهنود فإنهم لا يجيزون ذبحها وجزاء من ذبحها عندهم أن يخاط في جلدها ويحرق، وهم يعظمون البقر ويشربون أبوالها للبركة وللاستشفاء إذا مرضوا ويلطخون بيوتهم وحيطانهم بأرواثها، وكان ذلك مما بغض خسرو خان إلى المسلمين وأمالهم عنه إلى تغلق فلم تطل مدة ولايته ولا امتدت أيام ملكه كما سنذكره..
راعي الخيل (2)
ذكر السلطان غياث الدين تٌغلق شاه: حدثني الشيخ.. ركن الدين ابن الشيخ.. شمس الدين.. أن السلطان تغلق كان من الأتراك المعروفين بالقرونة.. وهم قاطنون بالجبال التي بين بلاد السند والترك وكان ضعيف الحال فقدم بلاد السند في خدمة بعض التجار وكان كُلوانيا له، والكلواني.. هو راعي الخيل، وذلك على أيام السلطان علاء الدين وأمير السند إذ ذاك أخوه أُولوخان فخدمه تغلق وتعلق بجانبه فرتبه في البِياة.. وهم الرجالة، ثم ظهرت نجابته فأثبت في الفرسان ثم كان من الأمراء الصغار وجعله أولوخان أمير خيله ثم كان بعد ذلك من الأمراء الكبار وسمي بالملك الغازي، ورأيت مكتوبا على مقصورة الجامع بملتان وهو الذي أمر بعملها “إني قاتلت التتر تسعا وعشرين مرة فهزمتهم فحينئذ سميت بالملك الغازي”، ولما ولي قطب الدين ولاه مدينة دِبال بور وعمالتها.. وجعل ولده الذي هو الآن سلطان الهند أمير خيله، وكان يسمى جَونَه.. ولما ملك تسمى بمحمد شاه، ثم لما قتل قطب الدين وولي خسرو خان أبقاه الله على إمارة الخيل. فلما أراد تغلق الخلاف كان له ثلاثمائة من أصحابه الذين يعتمد عليهم في القتال، وكتب إلى كشلوخان وهو يومئذ بملتان وبينهما وبين “دبال بور” ثلاثة أيام يطلب منه القيام بنصرته ويذكره نعمة قطب الدين ويحرضه على طلب ثأره، وكان ولد كشلو خان بدهلي فكتب إلى تغلق أنه لو كان ولدي عندي لأعنتك على ما تريد، فكتب تغلق إلى ولده محمد شاه يعلمه بما عزم عليه ويأمره أن يفر إليه ويستصحب معه ولد كشلو خان، فأدار ولده الحيلة على خسرو خان وتمت له كما أراد، فقال له إن الخيل قد سمنت وتبدنت وهي تحتاج البراق وهو التضمير فأذن له في تضميرها، فكان يركب كل يوم في أصحابه فيسير بها الساعة والساعتين والثلاث واستمر إلى أربع ساعات إلى أن غاب يوما إلى وقت الزوال وذلك وقت طعامهم فأمر السلطان بالركوب في طلبه فلم يوجد له خبر ولحق بأبيه واستصحب معه ولد كشلو خان، وحينئذ أظهر تغلق الخلاف وجمع العساكر وخرج معه كشلو خان في أصحابه وبعث السلطان أخاه “خان خانان” لقتالهما فهزماه شر هزيمة وفر عسكره إليهما ورجع خان خانان إلى أخيه وقتل أصحابه وأخذت خزائنه وأمواله، وقصد تغلق حضرة دهلي وخرج إليه خسروخان في عساكره ونزل بخارج دهلي بموضع يعرف بآسياباد ومعنى ذلك رحى الريح، وأمر بالخزائن ففتحت وأعطى الأموال بالبدر لا بوزن ولا يعد، ووقع اللقاء بينه وبين تغلق وقاتلت الهنود أشد قتال وانهزمت عساكر تغلق ونهبت محلته وانفرد في أصحابه الأقدمين الثلاثمائة فقال لهم إلى أين الفرار حيثما أدركنا قتلنا، واشتغلت عساكر خسرو خان بالنهب وتفرقوا عنه ولم يبق معه إلا قليل فقصد تغلق وأصحابه موقفه، والسلطان هنالك يعرف بالشطر جتر الذي يرفع فوق رأسه وهو الذي يسمى بديار مصر القبة.. فلما قصده تغلق وأصحابه حمي القتال بينهم وبين الهنود وانهزم أصحاب السلطان ولم يبق معه أحد وهرب فنزل عن فرسه ورمى بثيابه وسلاحه وبقي في قميص واحد وأرسل شعره بين كتفيه كما يفعل فقراء الهند ودخل بستانا هنالك، واجتمع الناس على تغلق وقصد المدينة فأتاه الكتوال بالمفاتيح ودخل القصر ونزل بناحية منه وقال لكشلو خان أنت تكون السلطان فقال كشلو خان بل أنت تكون السلطان وتنازعا فقال له كشلو خان فإن أبيت أن تكون سلطانا فيتولى ولدك فكره هذا وقبل حينئذ وقعد على سرير الملك وبايعه الخاص والعام، ولما كان بعد ثلاث اشتد الجوع بخسرو خان وهو مختف بالبستان فخرج وطاف به فوجد القيم فسأله طعاما فلم يكن عنده فأعطاه خاتمه وقال اذهب فأرهنه في طعام فلما ذهب بالخاتم إلى السوق أنكر الناس أمره ورفعوه إلى الشحنة وهو الحاكم فأدخله على السلطان تغلق فأعلمه بمن دفع إليه الخاتم فبعث ولده محمدا ليأتي به فقبض عليه وأتاه به راكبا على تَتُو وهو البرذون فلما مثل بين يديه قال له إني جائع فأتني بطعام فأمر له بالشربة ثم الطعام ثم بالقفاع ثم بالتنبول، فلما أكل قام قائما وقال يا تغلق افعل معي فعل الملوك ولا تفضحني فقال له لك ذلك وأمر به فضربت رقبته وذلك في الموضع الذي قتل هو به قطب الدين، ورمي برأسه وجسده من أعلى السطح كما فعل هو برأس قطب الدين، وبعد ذلك أمر بغسله وتكفينه ودفن في مقبرته واستقام الملك لتغلق أربعة أعوام وكان عادلا فاضلا..
حيلة لم تتم (2)
ولما استقر تغلق بدار الملك بعث ولده ليفتح بلاد التِلِنُك.. وهي على مسيرة ثلاثة أشهر من مدينة دهلي. وبعث معه عسكرا عظيما.. فلما بلغ إلى أرض التلنك أراد المخالفة، وكان له نديم من الفقهاء الشعراء يعرف بعبيد فأمره أن يلقي إلى الناس أن السلطان تغلق توفي وظنه أن الناس يبايعونه مسرعين إذا سمعوا ذلك، فلما ألقى ذلك إلى الناس أنكره الأمراء وضرب كل واحد منهم طبله وخالف فلم يبق معه أحد وأرادوا قتله فمنعهم منه ملك تمور (أحد الأمراء) وقام دونه ففر إلى أبيه في عشرة من الفرسان سماهم “ياران موافق” ومعناه الأصحاب الموافقون فأعطاه أبوه الأموال والعساكر وأمره بالعود إلى تلنك فعاد إليها وعلم أبوه بما كان أراد فقتل الفقيه عبيدا وأمر بملك كافور المهردار (أحد الأمراء الذين كانوا مع ولده) فدق له عمود في الأرض محدود الطرف وركز في عنقه حتى خرج من جنبه طرفه ورأسه إلى أسفل. وترك على تلك الحال، وفر من بقي من الأمراء إلى السلطان شمس الدين ابن السلطان ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن واستقروا عنده..
أبوة وبنوة (2)
وأقام الأمراء الهاربون عند السلطان شمس الدين، ثم إن شمس الدين توفي وعهد لولده شهاب الدين فجلس مجلس أبيه ثم غلب عليه أخوه الأصغر غياث الدين بهادور.. واستولى على الملك وقتل أخاه قطلوخان وسائر إخوته، وفر شهاب الدين وناصر الدين منهم إلى تغلق فتجهز معهما لقتال أخيهما وخلف ولده محمدا نائبا عنه في ملكه وجد السير إلى بلاد اللكنوتي فانتصر عليها وأسر سلطانها غياث الدين بهادور وقدم به أسيرا إلى حاضرة ملكه. وكان بمدينة دهلي الوالي نظام الدين البذواني، ولا يزال محمد شاه ابن السلطان يتردد إليه ويعظم خدامه ويسأله الدعاء، وكان يأخذ الشيخ حال تغلب عليه فقال ابن السلطان لخدامه إذا كان الشيخ في حاله التي تغلب عليه فأعلموني بذلك فلما أخذته الحال أعلموه فدخل عليه فلما رآه الشيخ قال وهبنا لك الملك ثم توفي الشيخ في أيام غيبة السلطان فحمل ابنه محمد نعشه على كاهله فبلغ ذلك أباه فأنكره وتوعده، وكان قد رأى منه أمورا ونقم عليه استكثاره من شراء المماليك وإجزاله العطايا واستجلاله قلوب الناس فزاد حنقه عليه. وبلغه أن المنجمين زعموا أنه لا يدخل مدينة دهلي بعد سفره ذلك فتوعده. ولما عاد من سفره وقرب من الحاضرة أمر ولده أن يبني له قصرا وهم يسمونه الكُشٌك.. على واد هنالك يسمى أفغان بور فبناه في ثلاثة أيام وجعل أكثر بنائه بالخشب مرتفعا على الأرض قائما على سواري خشب وأحكمه بهندسة تولى النظر فيها الملك زاده المعروف بعد ذلك بخواجه جهان واسمه أحمد بن إياس (كبير وزراء السلطان محمد بعد ذلك).. وكانت الحكمة التي اخترعوها فيه أنه متى وطئت الفيلة جهة منه وقع ذلك القصر وسقط.
ونزل السلطان بالقصر وأطعم الناس وتفرقوا، واستأذنه ولده في أن يعرض الفيلة بين يديه وهي مزينة فأذن له، وحدثني الشيخ ركن الدين أنه كان يومئذ مع السلطان ومعهما ولد السلطان المؤثر لديه محمود، فجاء محمد ابن السلطان فقال للشيخ يا خوند هذا وقت العصر انزل فصل، قال لي الشيخ: فنزلت، وأتي بالأفيال من جهة واحدة حسبما دبروه فلما وطئتها سقط الكشك على السلطان وولده محمود، قال الشيخ: فسمعت الضجة فعدت ولم أصل فوجدت الكشك قد سقط، فأمر ابنه أن يؤتى بالفؤوس والمساحي للحفر عنه وأشار بالإبطاء فلم يؤت بهما إلا وقد غربت الشمس، فحفروا ووجدوا السلطان قد حنى ظهره على ولده ليقيه الموت، فزعم بعضهم أنه خرج ميتا وزعم بعضهم أنه أخرج حيا فأجهز عليه، وحمل ليلا إلى مقبرته التي بناها خارج البلدة المسماة باسمه.. وبسبب ما ذكرناه من هندسة الوزير خواجه جهان في بناء الكشك الذي سقط على تغلق كانت حظوته عند ولده محمد شاه وإيثاره فلم يكن أحد يدانيه في المنزلة لديه ولا يبلغ مرتبته عنده من الوزراء ولا غيرهم..
فقير يُغنَى وحي يُقتل (2،4)
ذكر السلطان أبي المجاهد محمد شاه ابن السلطان: ولما مات السلطان تغلق استولى ابنه محمد على الملك من غير منازع له ولا مخالف عليه.. وأما أخبار هذا الملك فمعظمها مما شاهدته أيام كوني ببلاده. (و) هذا الملك أحب الناس في إسداد العطايا وإراقة الدماء. فلا يخلو بابه عن فقير يغنى أو حي يقتل. وقد شهرت في الناس حكاياته في الكرم والشجاعة وحكاياته في الفتك والبطش بذوي الجنايات، وهو أشد الناس مع ذلك تواضعا وأكثرهم إظهارا للعدل والحق وشعائر الدين عنده محفوظة وله اشتداد في أمر الصلاة والعقوبة على تركها.
ابن الخليفة في الهند (6،2)
وكان الأمير غياث الدين محمد بن عبد القاهر بن يوسف بن عبد العزيز ابن الخليفة المستنصر بالله العباسي البغدادي قد وفد على السلطان علاء الدين طرمشيرين ملك ما وراء النهر فأكرمه وأعطاه الزاوية التي على قبر قثم بن العباس رضي الله عنهما واستوطن بها أعواما. ثم لما سمع بمحبة السلطان في بني العباس وقيامه بدعوتهم أحب القدوم عليه وبعث له برسولين أحدهما صاحبه القديم محمد ابن أبي الشرفي الحرباوي والثاني محمد الهمداني الصوفي فقدما على السلطان، وكان ناصر الدين الترمذي الذي تقدم ذكره قد لقي غياث الدين ببغداد وشهد لديه البغداديون بصحة نسبه فشهد هو عند السلطان بذلك فلما وصل رسولاه إلى السلطان أعطاهما خمسة آلاف دينار وبعث معهما ثلاثين ألف دينار إلى غياث الدين ليتزود بها إليه، وكتب له خطابا بخط يده يعظمه فيه ويسأل منه القدوم عليه فلما وصل الكتاب رحل إليه فلما وصل إلى بلاد السند وكتب المخبرون بقدومه بعث السلطان من يستقبله على العادة ثم لما وصل إلى سرستي بعث أيضا لاستقباله صدر الجهان قاضي القضاة كمال الدين الغرنوي وجماعة من الفقهاء ثم بعث الأمراء لاستقباله فلما نزل بمسعود آباد خارج الحضرة خرج السلطان بنفسه لاستقباله فلما التقيا ترجل غياث الدين فترجل له السلطان وخدم فخدم له السلطان. وكان قد استصحب هدية في جملتها ثياب فأخذ السلطان أحد الأثواب وجعله على كتفه وخدم كما يفعل الناس معه، ثم قدمت الخيل فأخذ السلطان أحدها بيده وقدمه له وحلف أن يركب وأمسك بركابه حتى ركب ثم ركب السلطان وسايره والشجر يظلهما معا وأخذ التنبول بيده وأعطاه أياه وهذا أعظم ما أكرمه به فإنه لا يفعله مع أحد، وقال له لولا أني بايعت الخليفة أبا العباس لبايعتك فقال له غياث الدين وأنا أيضا على تلك البيعة.. وأعطاه جميع مدينة “سيري” إقطاعا وجميع ما احتوت عليه من الدور وما يتصل لها من بساتين المخزن وأرضه..
البخيل (6)
حكاية عن بخل ابن الخليفة: وكانت بيني وبينه مودة وكنت كثير التردد إلى منزله وعنده تركت ولدا لي سميته أحمد لما سافرت ولا أدري ما فعل الله بهما، فقلت له يوما لِم تأكل وحدك ولا تجمع أصحابك على الطعام؟ فقال لي لا أستطيع أن أنظر إليهم على كثرتهم وهم يأكلون طعامي، فكان يأكل وحده ويعطي صاحبه محمد ابن أبي الشرفي من الطعام لمن أحب ويتصرف في باقيه وكنت أتردد إليه فأرى دهليز قصره الذي يسكن به مظلما لا سراج به ورأيته مرارا يجمع الأعواد الصغار من الحطب بداخل بستانه وقد ملأ منها مخازن فكلمته في ذلك فقال لي يُحتاج إليها. وكان يخدم أصحابه ومماليكه وفتيانه في خدمة البستان وبنائه ويقول لا أرضى أن يأكلوا طعامي وهم لا يخدمون. وكان عليّ مرة دين فطلبت به فقال لي في بعض الأيام والله لقد هممت أن أؤدي عنك دينك فلم تسمح نفسي بذلك ولا ساعدتني عليه.
حدثني مرة قال: خرجت عن بغداد وأنا رابع أربعة أحدهم محمد بن أبي الشرفي صاحبه ونحن على أقدامنا ولا زاد عندنا فنزلنا على عين ماء ببعض القرى فوجد أحدنا في العين درهما فقلنا وما نصنع بدرهم؟ فاتفقنا على أن نشتري به خبزا، فبعثنا أحدنا لشرائه فأبى الخباز بتلك القرية أن يبيع الخبز وحده وإنما يبيع خبزا بقيراط وتبنا بقيراط فاشترى منه الخبز والتبن فطرحنا التبن إذ لا دابة لنا تأكله وقسمنا الخبز لقمة لقمة وقد انتهى حالي اليوم إلى ما تراه، فقلت له ينبغي لك أن تحمد الله على ما أولاك وتؤثر الفقراء والمساكين بالتصدق، فقال لا أستطيع ذلك، ولم أره قط يجود بشيء ولا يفعل معروفا، ونعوذ بالله من الشح.
كنت يوما ببغداد بعد عودتي من بلاد الهند وأنا قاعد على باب المدرسة المستنصرية التي بناها جده أمير المؤمنين المستنصر رضي الله عنه فرأيت شابا ضعيف الحال يشتد خلف رجل خارج عن المدرسة فقال لي بعض الطلبة هذا الشاب الذي تراه هو ابن الأمير محمد حفيد الخليفة المستنصر الذي ببلاد الهند، فدعوته فقلت له إني قد قدمت من بلاد الهند وإني أعرفك بخبر أبيك فقال قد جاءني خبره في هذه الأيام ومضى يشتد خلف الرجل، فسألت عن الرجل فقيل لي هو الناظر في الحبس وهذا الشاب هو إمام ببعض المساجد وله على ذلك أجرة درهم واحد في اليوم وهو يطلب أجرته من الرجل، فطال عجبي منه والله لو بعث إليه جوهرة من الجواهر التي في الخلع الواصلة إليه من السلطان لأغناه بها ونعوذ بالله من مثل هذه الحال.
أدب البادية (6،2)
ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير “غدا” (عربي)، عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله والمعروف بشَوٌنوِيس.. وعينني لملازمة الأمير غدا والكون معه في تلك الأيام.. وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوما.. وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر.. وأتى باب الصرف ويسمونه باب الحرم وعليه جماعة الزوجة فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية وصرعوا كل من عارضهم فغلبوا عليهم ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله.. ولما كان بعد عشرين يوما من زفافه اتفق أنه وصل إلى دار السلطان فأراد الدخول فمنعه أمير البرد.. وهم الخواص من البوابين فلم يسمع منه وأراد التقحم فأمسك البواب بدبوقته وهي الضفيرة ورده فضربه الأمير بعصا كانت هنالك حتى أدماه وكان هذا المضروب من كبار الأمراء يعرف أبوه بقاضي غزنة وهو من ذرية السلطان محمود بن سبكتكين والسلطان يخاطبه بالأدب ويخاطب ابنه هذا بالأخ فدخل على السلطان والدم على ثيابه فأخبره بما صنع الأمير غدا ففكر السلطان هنيهة ثم قال له: القاضي يفصل بينكما وتلك جريمة لا يغفرها السلطان لأحد من ناسه ولا بد من الموت عليها، وإنما احتمله لغربته وكان القاضي كمال الدين بالمشور فأمر السلطان “الملك تتر” (أمير) أن يقف معهما عند القاضي وكان تتر حاجا مجاورا يحسن العربية فحضر معهما وقال للأمير أنت ضربته أو قل لا، لقصد أن يعلمه الحجة، وكان سيف الدين (غدا) جاهلا مغترا فقال نعم أنا ضربته، وأتى والد المضروب فرام الإصلاح بينهما فلم يقبل سيف الدين، فأمر القاضي بسجنه تلك الليلة فوالله ما بعثت له زوجته فراشا ينام عليه ولا سألت عنه خوفا من السلطان وخاف أصحابه فودعوا أموالهم.. وكان للسلطان صهر يسمى بمغيث بن ملك الملوك وكانت أخت السلطان تشكوه لأخيها إلى أن ماتت، فذكر جواريها أنها ماتت بسبب قهره لها، وكان في نسبه مغمز، فكتب السلطان بخطه يُجلي اللقيط يعنيه، ثم كتب ويجلى “موش خوار” معناه آكل الفئران يعني بذلك الأمير غدا لأن عرب البادية يأكلون اليربوع وهو شبه الفأر، وأمر بإخراجهما فجاءه النقباء ليخرجوه فأراد دخول داره ووداع أهله فترادف النقباء في طلبه فخرج باكيا، وتوجهت حين ذلك إلى دار السلطان فبت بها فسألني عن مبيتي بعض الأمراء فقلت له جئت لأتكلم في الأمير سيف الدين حتى يرد ولا ينفى. فقال لا يكون ذلك، فقلت له والله لأبيتن في دار السلطان ولو بلغ مبيتي مائة ليلة حتى يرد فبلغ ذلك السلطان فأمر برده وأمره أن يكون في خدمة الأمير “ملك قبولة” اللاهوري فأقام أربعة أعوام في خدمته يركب لركوبه ويسافر لسفره حتى تأدب وتهذب ثم أعاده السلطان إلى ما كان عليه أولا وأقطعه البلاد وقدمه على العساكر ورفع قدره.
فرض تعلم العلم الشرعي وإقامة الصلاة (4)
ذكر اشتداده في إقامة الصلاة: وكان السلطان شديدا في إقامة الصلاة، آمرا بملازمتها في الجماعات، يعاقب على تركها أشد العقاب، ولقد قتل في يوم واحد تسعة نفر على تركها كان أحدهم مغنيا، وكان يبعث الرجال الموكلين بذلك إلى الأسواق فمن وجد بها عند إقامة الصلاة عوقب، حتى انتهى إلى عقاب الستائريين الذين يمسكون دواب الخدام على باب المشور إذا ضيعوا الصلاة، وأمر أن يطلب الناس بعلم فرائض الوضوء والصلاة وشروط الاسلام فكانوا يسألون عن ذلك فمن لم يحسنه عوقب وصار الناس يتدارسون ذلك بالمشور والاسواق ويكتبونها (هذا بعكس حكامنا اليوم! يفرضون التعليم الغربي ولا يهتمون بالصلاة).
تواضع وإراقة دماء (2)
وكان على ما قدمنا من تواضعه وإنصافه ورفقه بالمساكين وكرمه الخارق للعادة كثير التجاسر على إراقة الدماء لا يخلو بابه عن مقتول إلا في النادر، وكنت كثيرا ما أرى الناس يقتلون على بابه ويطرحون هنالك. ولقد جئت يوما فنفر بي الفرس ونظرت إلى قطعة بيضاء في الأرض فقلت: ما هذه؟ فقال بعض أصحابي هي صدر رجل قطع ثلاث قطع. وكان يعاقب على الصغيرة والكبيرة ولا يحترم أحدا من أهل العلم والصلاح والشرف وفي كل يوم يرد على المشور من المسلسلين والمغلولين والمقيدون مئون فمن كان للقتل قتل أو للعذاب عذب أو للضرب ضرب. وعادته أن يؤتى كل يوم بجميع من في سجنه من الناس إلى المشور ما عدا يوم الجمعة فإنهم لا يخرجون فيه وهو يوم راحتهم يتنظفون فيه ويستريحون أعاذنا الله من البلاء.
ذكر قتله لأخيه: وكان له أخ اسمه مسعود خان وأمه بنت السلطان علاء الدين، وكان من أجمل صورة رأيتها في الدنيا فاتهمه بالقيام عليه وسأله عن ذلك فأقر خوفا من العذاب فإن من أنكر ما يدعيه عليه السلطان من مثل ذلك يعذب فيرى الناس أن القتل أهون عليهم من العذاب، فأمر به فضربت عنقه في وسط السوق وبقي مطروحا هنالك ثلاثة أيام على عادتهم. وكانت أم هذا المقتول قد رجمت في ذلك الموضع قبل ذلك بسنتين لاعترافها بالزنا رجمها القاضي كمال الدين.
اتهام السلطان بالظلم (2)
ذكر تعذيبه للشيخ شهاب الدين وقتله: وكان الشيخ شهاب الدين ابن شيخ الجام الخراساني الذي تنسب مدينة الجام بخراسان إلى جده حسبما قصصنا ذلك من كبار المشايخ الصلحاء الفضلاء وكان يواصل أربعة عشر يوما. وكان السلطانان قطب الدين وتغلق يعظمانه ويزورانه ويتبركان به فلما ولي السلطان محمد أراد أن يخدم الشيخ في بعض خدمته فإن عادته أن يخدم الفقهاء والمشايخ والصلحاء محتجا أن الصدر الأول رضي الله عنهم لم يكونوا يستعملون إلا أهل العلم والصلحاء فامتنع الشيخ شهاب الدين من الخدمة، وشافهه السلطان بذلك في مجلسه العام فأظهر الإباية والامتناع فغضب السلطان من ذلك وأمر الشيخ الفقيه المعظم ضياء الدين السمناني أن ينتف لحيته فأبى ضياء الدين من ذلك وقال لا أفعل هذا، فأمر السلطان بنتف لحية كل واحد منهما فنتف ونفي ضياء الدين إلى بلاد التلنك ثم ولاه بعد مدة قضاء ورنكل فمات بها، ونفي شهاب الدين إلى دولة آباد فأقام بها سبعة اعوام ثم بعث عنه فأكرمه وعظمه وجعله على ديوان المستخرج وهو ديوان بقايا العمال يستخرجها منهم بالضرب والتنكيل ثم زاد في تعظيمه وأمر الأمراء أن يأتوا للسلام عليه ويمتثلوا أقواله ولم يكن أحد في دار السلطان فوقه ولما انتقل السلطان إلى السكنى على نهر الكنك وبنى هنالك القصر المعروف بسرك دوار معناه شبه الجنة وأمر الناس بالبناء هنالك طلب منه الشيخ شهاب الدين أن يأذن له في الإقامة بالحضرة فأذن له إلى أرض موات على مسافة ستة أميال من دهلي فحفر بها كهفا كبيرا صنع في جوفه البيوت والمخازن والفرن والحمام وجلب الماء من نهر جون وعمر تلك الأرض وجمع مالا كثيرا من مستغلها لأنها كانت السنون قاحطة وأقام هنالك عامين ونصف عام مدة مغيب السلطان وكان عبيده يخدمون تلك الأرض نهارا ويدخلون الغار ليلا ويسدونه على أنفسهم وأنعامهم خوف سراق الكفار لأنهم في جبل منيع هنالك، ولما عاد السلطان إلى حضرته استقبله الشيخ ولقيه على سبعة أميال منها فعظمه السلطان وعانقه عند لقائه وعاد إلى غاره ثم بعث عنه بعد أيام فأمتنع من إتيانه فبعث إليه مخلص الملك النذرباري وكان من كبراء الملوك فتلطف له في القول وحذره بطش السلطان فقال له لا أخدم ظالما أبدا فعاد مخلص الملك إلى السلطان فأخبره بذلك فأمر أن يأتي به فأتى به فقال له أنت القائل إني ظالم فقال نعم أنت ظالم ومن ظلمك كذا و كذا وعدد أمورا منها تخريبه لمدينة دهلي وإخراجه أهلها. فأخذ السلطان سيفه ودفعه لصدر الجهان وقال يثبت هذا أني ظالم واقطع عنقي بهذا السيف فقال له شهاب الدين ومن يريد أن يشهد بذلك فيقتل ولكن أنت تعرف ظلم نفسك، وأمر بتسليمه للملك نكبية رأس الدويدارية فقيده بأربع قيود وغل يديه وأقام كذلك أربعة عشر يوما مواصلا لا يأكل ولا يشرب وفي كل يوم منها يؤتى به إلى المشور ويجمع الفقهاء والمشايخ ويقولون له إرجع عن قولك فيقول لا أرجع عنه وأريد أن أكون في زمرة الشهداء. فلما كان اليوم الرابع عشر بعث إليه السلطان بطعام مع مخلص الملك فأبى أن يأكل وقال رفع رزقي من الأرض ارجع بطعامك إليه، فلما أخبر بذلك السلطان أمر عند ذلك أن يطعم الشيخ خمسة أستار من العذرة وهي رطلان ونصف من أرطال المغرب، فأخذ ذلك الموكلون بمثل هذه الأمور وهم طائفة من كفار الهنود فمدوه على ظهره وفتحوا فمه بالكلبتين وحلوا العذرة بالماء وسقوه ذلك. وفي اليوم بعده أتى به إلى دار القاضي صدر الجهان وجمع الفقهاء والمشايخ ووجوه الأعزة فوعظوه وطلبوا منه أن يرجع عن قوله فأبى ذلك فضربت عنقه رحمه الله تعالى.
كلمة ثمنها روح (2)
ذكر قتله للفقيه المدرسي عفيف الدين الكاساني وفقيهين معه: وكان السلطان في سني القحط قد أمر بحفر آبار خارج دار الملك وأن يزرع هنالك زرع وأعطى الناس البذر وما يلزم على الزراعة من النفقة وكلفهم زرع ذلك للمخزن فبلغ ذلك الفقيه عفيف الدين فقال هذا الزرع لا يحصل المراد منه، فوشي به إلى السلطان فسجنه وقال له لأي شيء تدخل نفسك في أمور الملك؟ ثم إنه سرحه بعد مدة فذهب إلى داره ولقيه في طريقه إليها صاحبان له من الفقهاء فقالا له الحمد لله على خلاصك فقال الفقيه الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، وتفرقوا فلم يصلوا إلى دورهم حتى بلغ ذلك السلطان فأمر بهم فأحضر ثلاثتهم بين يديه فقال اذهبوا بهذا يعني عفيف الدين فاضربوا عنقه حمائل، وهو أن يقطع الرأس من الذراع وبعض الصدر، واضربوا أعناق الآخرين فقالوا له أما هو فيستحق العقاب بقوله وأما نحن فبأي جريمة تقتلنا؟ فقال طالما أنكما سمعتما كلامه فلم تنكراه فكأنكما وافقتما عليه، فقتلوا جميعا رحمهم الله تعالى.
وكلمة أخرى (2)
ذكر قتله أيضا لفقيهين من أهل السند كانا في خدمته: وأمر السلطان هذين الفقيهين السنديين أن يمضيا مع أمير عينه إلى بعض البلاد وقال لهما إنما سلمت أحوال البلاد والرعية لكما ويكون هذا الأمير معكما يتصرف مما تأمرانه به، فقالا له إنما نكون كالشاهدين عليه ونبين له وجه الحق ليتبعه. فقال لهما إنما قصدكما أن تأكلا أموالي وتضيعاها وتنسبا ذلك إلى هذا التركي الذي لا معرفة له. فقالا له حاشا لله يا خوند عالم ما قصدنا هذا، فقال لهما لم تقصدا غير هذا اذهبوا بهما إلى الشيخ زاده النهاوندي وهو الموكل بالعذاب فذهب بهما إليه، فقال لهما السلطان يريد قتلكما فأقرا بما قولكما إياه ولا تعذبا أنفسكما، فقالا والله ما قصدنا إلا ما ذكرنا فقال لزبانيته ذوقوهما بعض شيء يعني من العذاب، فبطحا على أقفائهما وجعل على صدر كل واحد منهما صفيحة حديد محماة ثم قلعت بعد هنيهة فذهب بلحم صدورهما ثم أخذ البول والرماد فجعل على تلك الجراحات، فأقرا على أنفسهما أنهما لم يقصدا إلا ما قاله السلطان وأنهما مجرمان مستحقان للقتل فلا حق لهما ولا دعوى في دمائها دنيا ولا أخرى وكتبا خطهما بذلك واعترفا به عند القاضي فسجل على العقد وكتب فيه أن اعترافهما كان عن غير إكراه ولا إجبار، ولو قالا أكرهنا لعذبا أشد العذاب، ورأيا أن تعجيل ضرب العنق خير لهما من الموت بالعذاب الأليم فقتلا رحمهما الله تعالى.
وأخرى (2)
وكان الشيخ الصالح شمس الدين ابن تاج العارفين ساكنا بمدينة كول منقطعا للعبادة كبير القدر.. واتفق بعد ذلك أن أميرا من الأمراء خالف على السلطان ببعض الجهات وبايعه الناس فنقل للسلطان أنه وقع ذكر هذا الأمير بمجلس الشيخ شمس الدين فأثنى عليه وقال إنه يصلح للملك فبعث السلطان بعض الأمراء إلى الشيخ فقيده وقيد أولاده وقيد قاضي كول ومحتسبها لأنه ذكر أنهما كانا حاضرين للمجلس الذي وقع فيه ثناء الشيخ على الأمير المخالف، وأمر بهم فسجنوا جميعا بعد أن سمل عيني القاضي وعيني المحتسب ومات الشيخ بالسجن، وكان القاضي والمحتسب يخرجان مع بعض السجانين فيسألان الناس ثم يردان إلى السجن، وكان قد بلغ السلطان أن أولاد الشيخ كانوا يخالطون كفار الهنود وعصاتهم ويصبحونهم فلما مات أبوهم أخرجهم من السجن وقال لهم لا تعودوا إلى ما كنتم تفعلون، فقالوا له وما فعلنا؟ فاغتاظ من ذلك وأمر بقتلهم جميعا فقتلوا..
قتل الشيخ المتصوف (2)
ذكر قتله للشيخ الحيدري: وكان.. ساكنا بمدينة كنباية من ساحل الهند وهو عظيم القدر شهير الذكر بعيد الصيت ينذر له التجار بالبحر النذور الكثيرة وإذا قدموا بدؤوا بالسلام عليه، وكان يكاشف بأحوالهم وربما نذر أحدهم النذر وندم عليه فإذا أتى الشيخ للسلام عليه أعلمه بما نذر له وأمر بالوفاء به، واتفق له ذلك مرات واشتهر به، فلما خالف القاضي جلال الأفغاني وقبيلته بتلك الجهات بلغ السلطان أن الشيخ الحيدري دعا للقاضي جلال الدين وأعطاه شاشيته من رأسه وذكر أيضا أنه بايعه، فلما خرج السلطان إليهم بنفسه وانهزم القاضي جلال.. فأحضر الشيخ علي الحيدري بين يديه، وثبت أنه أعطى للقائم شاشيته ودعا له، فحكموا بقتله، فلما ضربه السياف لم يفعل شيئا، وعجب الناس لذلك وظنوا أنه يعفو عنه بسبب ذلك، فأمر سيافا آخر بضرب عنقه فضربها رحمه الله تعالى.
تخريب مدينة دهلي (2)
ومن أعظم ما كان ينقم على السلطان إجلاؤه لأهل دهلي عنها، وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق فيها شتمه وسبه ويختمون عليها ويكتبون عليها “وحق رأس خوند عالم ما يقرأها غيره” ويرمونها بالمشور ليلا فإذا فضها وجد شتمه وسبه، فعزم على تخريب دهلي واشترى من أهلها جميعا دورهم ومنازلهم ودفع لهم ثمنها وأمرهم بالانتقال عنها إلى دولة آباد فأبوا ذلك فنادى مناديه أن لا يبقى فيها أحد بعد ثلاث فانتقل معظمهم، واختفى بعضهم في الدور فأمر بالبحث عمن بقي بها فوجد عبيده بأزقتها رجلين أحدهما مقعد والآخر أعمى فأتوا بهما فأمر بالمقعد فرمي به في المنجنيق وأمر أن يجر الأعمى من دهلي إلى دولة آباد مسيرة أربعين يوما فتمزق في الطريق ووصل منه رجله، ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعا وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها فحدثني من أثق به قال صعد السلطان ليلة إلى سطح قصره فنظر إلى دهلي وليس بها نار ولا دخان ولا سراج فقال الآن طاب قلبي وتهدن خاطري ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دهلي ليعمروها فخربت بلادهم ولم تعمر دهلي لاتساعها وضخامتها وهي من أعظم مدن الدنيا وكذلك وجدناها لما دخلنا إليها خالية ليس بها إلا قليل عمارة.
الفيلة القاتلة (2)
وكان السلطان قد أمر على بلاد المعبر وبينها وبين دهلي مسيرة ستة أشهر الشريف جلال الدين أحسن شاه فخالف وادعى الملك لنفسه. وخرج السلطان لما سمع بثورته يريد قتاله فنزل بموضع يقال له “كشك زر” معناه قصر الذهب، وأقام به ثمانية أيام لقضاء حوائج الناس. وفي تلك الأيام أتي بابن أخت الوزير خواجه جهان وأربعة من الأمراء أو ثلاثة وهم مقيدون مغلولون.. وكنت بين يدي السلطان حين وصولهم. فرأيت أحدهم وكان طوالا ألحى وهو يرعد ويتلو سورة يس، فأمر بهم فطرحوا للفيلة المعلمة لقتل الناس، وأمر بابن أخت الوزير فرد إلى خاله ليقتله فقتله وسنذكر ذلك. وتلك الفيلة التي تقتل تكسى أنيابها بحدائد مسنونة شبه سكك الحرث لها أطراف كالسكاكين. ويركب الفيال على الفيل فإذا رمى الرجل بين يديه لف عليه خرطومه ورمى به إلى الهواء ثم يتلقفه بنيابه ويطرحه بعد ذلك بين يديه ويجعل يده على صدره ويفعل به ما يأمره الفيال على حسب ما أمره السلطان. فإن أمره بتقطيعه قطعه الفيل قطعا بتلك الحدائد، وإن أمر بتركه تركه مطروحا فسلخ. وكذلك فعل بهؤلاء. وخرجت من دار السلطان بعد المغرب فرأيت الكلاب تأكل لحومهم وقد ملئت جلودهم بالتبن والعياذ بالله.
رضا الملوك وغضبهم (2)
لما تحرك السلطان إلى بلاد المعبر وأبوه هو القائم ببلاد المعبر الشريف أحسن شاه فلما أرجف بموت السلطان طمع إبراهيم في السلطنة وكان شجاعا كريما حسن الصورة وكُنت متزوجا بأخته “حور نسب” وكانت صالحة تتهجد بالليل لها أوراد من ذكر الله عز وجل وولدت مني بنتا ولا أدري ما فعل الله فيهما، وكانت تقرأ لكنها لا تكتب. فلما هم إبراهيم بالثورة اجتاز به أمير من أمراء السند معه الأموال يحملها إلى دهلي، فقال له إبراهيم إن الطريق مخوف وفيه القطع فأقم عندي حتى يصلح الطريق وأوصلك إلى المأمن، وكان قصده أن يتحقق موت السلطان فيستولي على تلك الأموال فلما تحقق حياته سرح ذلك الأمير.. فوشى به بعض غلمانه وأعلم السلطان بما كان هم به، فأراد السلطان أن يعجل بقتله ثم تأنى لمحبته فيه، فاتفق أن أتى يوما إلى السلطان بغزال مذبوح.. فقال ليس يجيد الذكاة اطرحوه، فرآه إبراهيم فقال إن ذكاته جيدة وأنا آكله، فأخبر السلطان بقوله فأنكر ذلك وجعله ذريعة إلى أخذه، فأمر به فقيد وغلل ثم قرره على ما رمي به من أنه أراد أخذ الأموال التي مر بها ضياء الملك، وعلم إبراهيم أنه إنما يريد قتله بسبب أبيه وأنه لا تنفعه معذرة وخاف أن يعذب فرأى الموت خيرا له فأقر بذلك، فأمر به فوسط وترك هنالك. وعادتهم أنه متى قتل السلطان أحدا أقام مطروحا بموضع قتله ثلاثا فإذا كان بعد الثلاث أخذه طائفة من الكبار موكلون بذلك فحملوه إلى خندق خارج المدينة يطرحونه به وهم يسكنون حول الخندق لئلا يأتي أهل المقتول فيعرفونه وربما أعطى بعضهم لهؤلاء الكفار مالا فتجافوا له عن قتيله حتى يدفنه، وكذلك فعل بالشريف إبراهيم رحمه الله تعالى.
صراع على المُلك (2)
ولما استولى القحط على البلاد، انتقل السلطان بعساكره إلى نهر الكنك الذي تحج إليه الهنود، على مسيرة عشرة من دهلي.. ووصلت أنا في تلك الأيام لمحلة السلطان.. فأمر السلطان أن تحمل الفيلة ومعظم الخيل والبغال إلى الجهة الشرقية المخصبة لترعى هنالك وأوصى عين الملك (غلامه) بحفظها، وكان لعين الملك أربعة إخوة وهم شهر الله ونصر الله وفضل الله ولا أذكر اسم الآخر فاتفقوا مع أخيهم عين الملك أن يأخذوا فيلة السلطان ودوابه ويبايعوا عين الملك ويقوموا على السلطان، وهرب إليهم عين الملك بالليل وكاد الأمر يتم لهم. ومن عادة ملك الهند أنه يجعل مع كل أمير كبير أو صغير مملوكا له يكون عينا عليه ويعرفه بجميع حاله ويجعل أيضا جواري في الدور يكن عيونا له على أمرائه ونسوة يسميهن الكناسات يدخلن الدور بلا استئذان ويخبرهن الجواري بما عندهن فتخبر الكناسات بذلك المخبرين فيخبر بذلك السلطان. ويذكرون أن بعض الأمراء كان في فراشه مع زوجته فأراد مماستها فحلفته برأس السلطان أن لا يفعل فلم يسمع منها فبعث إليه السلطان صباحا وأخبره بذلك وكان سبب هلاكه. وكان للسلطان مملوك يعرف بابن ملك شاه هو عين على “عين الملك” المذكور فأخبر السلطان بفراره وجوازه النهر فسقط في يده وظن أنها القاضية عليه لأن الخيل والفيلة والزرع كل ذلك عند عين الملك وعساكر السلطان مفترقة.. وأدار في ذلك حيلة حسنة فكان إذا قدم على محلته مثلا مائة فارس بعث الآلاف من عنده للقائهم ليلا ودخلوا معهم إلى المحلة كأن جميعهم مدد له ، وتحرك السلطان مع ساحل النهر ليجعل مدينة قنوج وراء ظهره ويتحصن بها لمنعتها وحصانتها وبينها وبين الموضع الذي كان فيه ثلاثة أيام. فرحل أول مرحلة وقد عبأ جيشه للحرب وجعلهم صفا واحدا عند نزولهم كل واحد منهم بين يديه سلاحه وفرسه إلى جانبه ومعه خباء صغير يأكل به ويتوضأ ويعود إلى مجلسه والمحلة الكبرى على بعد منهم. ولم يدخل السلطان في تلك الأيام الثلاثة خباء ولا استظل بظل، وكنت في يوم منها بخبائي فصاح بي فتى من فتياني اسمه سنبل واستعجلني وكان معي الجواري فخرجت إليه فقال إن السلطان أمر الساعة أن يقتل كل من معه امرأته أو جاريته فشفع عنده الأمراء فأمر أن لا تبقى الساعة بالمحلة امرأة وأن يحملن إلى حصن هنالك على ثلاثة أميال يقال له كنبيل فلم تبق امرأة بالمحلة ولا مع السلطان، وبتنا تلك الليلة على تعبئة فلما كان في اليوم الثاني رتب السلطان عسكره أفواجا وجعل مع كل فوج الفيلة المدرعة عليها الأبراج فوقها المقاتلة وتدرع العسكر وتهيؤوا للحرب وباتوا تلك الليلة على أهبة ولما كان اليوم الثالث بلغ الخبر بأن عين الملك الثائر جاز النهر فخاف السلطان من ذلك وتوقع أنه لم يفعله إلا بعد مراسلة الأمراء الباقين مع السلطان فأمر في الحين بقسم الخيل العتاق على خواصه وبعث لي حظا منها وكان لي صاحب يسمى أمير أميران الكرماني من الشجعان فأعطيته فرسا منها أشهب اللون فلما حركه جمح به فلم يستطع إمساكه ورماه عن ظهره فمات رحمه الله تعالى. وجد السلطان ذلك اليوم في مسيره فوصل بعد العصر إلى مدينة قنوج وكان يخاف أن يسبقه القائم إليها وبات ليلته تلك يرتب الناس بنفسه، ووقف علينا ونحن في المقدمة مع ابن عمه ملك فيروز ومعنا الأمير غدا ابن مهنا والسيد ناصر الدين مطهر وأمراء خراسان فأضافنا إلى خواصه وقال أنتم أعزة علي ينبغي أن تفارقوني. وكان في عاقبة ذلك الخير فإن القائم ضرب في آخر الليل على المقدمة وفيها الوزير خواجه جهان فقامت ضجة في الناس كبيرة فحينئذ أمر السلطان أن لا يبرح أحد من مكانه ولا يقاتل الناس إلا بالسيوف فاستل العسكر سيوفهم ونهضوا إلى أصحابهم وحمي القتال وأمر السلطان أن يكون شعار جيشه دهلي وغزنة فإذا لقي أحدهم فرسا قال له دهلي فإن أجابه بغزنة علم أنه من أصحابه وإلا قاتله، وكان القائم إنما قصد أن يضرب على موضع السلطان فأخطأ به الدليل فقصد موضع الوزير فضرب عنق الدليل، وكان في عسكر الوزير الأعاجم والترك والخراسانيون وهم أعداء الهنود فصدقوا القتال. وكان جيش القائم نحو الخمسين ألفا فانهزموا عند طلوع الفجر..
وكان الملك إبراهيم المعروف بالبَنٌجٌي.. التتري قد أقطعه السلطان بلاد سنديلة وهي قرية من بلاد عين الملك فاتفق معه على الخلاف وجعله نائبه. وكان داود بن قطب الملك وابن ملك التجار على فيلة السلطان وخيله فوافقاه أيضا وجعل داود حاجبه. وكان داود هذا لما ضربوا على محلة الوزير يجهر بسب السلطان ويشتمه أقبح شتم والسلطان يسمع ذلك ويعرف كلامه فلما وقعت الهزيمة قال عين الملك لنائبه إبراهيم التتري ماذا ترى يا ملك إبراهيم؟ قد فر أكثر العسكر وذوو النجدة منهم فهل لك أن ننجو بأنفسنا؟ فقال إبراهيم لأصحابه بلسانهم إذا أراد عين الملك أن يفر فإني سأقبض على دبوقته فإذا فعلت ذلك فاضربوا أنتم فرسه ليسقط إلى الأرض فنقبض عليه ونأتي به إلى السلطان ليكون ذلك كفارة لذنبي في الخلاف معه وسببا لخلاصي. فلما أراد عين الملك الفرار قال له إبراهيم إلى أين يا سلطان علاء الدين؟ وكان يسمى بذلك وأمسك بدبوقته وضرب أصحابه فرسه فسقط على الأرض ورمى إبراهيم بنفسه عليه فقبضه وجاء أصحاب الوزير ليأخذوه فمنعهم وقال لا أتركه حتى أوصله للوزير أو أموت دون ذلك فتركوه فأوصله إلى الوزير، وكنت أنظر عند الصبح إلى الفيلة والأعلام يؤتى بها إلى السلطان ثم جاءني بعض العراقيين فقال قد قبض على عين الملك وأتى به الوزير فلم أصدقه فلم يمر إلا يسير وجاءني الملك تمور الشربدار فأخذ بيدي وقال أبشر فقد قبض على عين الملك وهو عند الوزير فتحرك السلطان عند ذلك ونحن معه إلى محلة عين الملك على نهر الكنك فنهبت العساكر ما فيها واقتحم كثير من عسكر عين الملك النهر فغرقوا، وأخذوا داود بن قطب الملك وابن ملك التجار وخلق كثير معهم ونهبت الأموال والخيل والأمتعة، ونزل السلطان على المجاز وجاء الوزير بعين الملك وقد أركب على ثور وهو عريان مستور العورة بخرقة مربوطة بحبل وباقية في عنقه فوقف على باب السراجة ودخل الوزير إلى السلطان فأعطاه الشربة عناية به. وجاء أبناء الملوك إلى عين الملك فجعلوا يسبونه ويبصقون في وجهه ويصفعون أصحابه. وبعث إليه السلطان “الملك الكبير” فقال له ما هذا الذي فعلت؟ فلم يجد جوابا فأمر به السلطان أن يكسى ثوبا من ثياب الزمالة وقيد بأربعة كبول وغلت يداه إلى عنقه وسلم للوزير ليحفظه وجاز إخوته النهر هاربين ووصلوا مدينة عوض فأخذوا أهلهم وأولادهم وما قدروا عليه من المال وقالوا لزوجة أخيهم عين الملك اخلصي بنفسك وبنوك معنا فقالت أفلا أكون كنساء الكفار اللاتي يحرقن أنفسهن مع أزواجهن؟ فأنا أيضا أموت لموت زوجي وأعيش لعيشه فتركوها وبلغ ذلك السلطان فكان سبب خيرها وأدركته لها رقة، وأدرك الفتى “سهيل” نصر الله من أولئك الإخوة فقتله وأتي السلطان برأسه وأتي بأم عين الملك وأخته وامرأته فسُلمن إلى الوزير وجعلن في خباء بقرب خباء عين الملك فكان يدخل إليهن ويجلس معهن ويعود إلى محبسه، ولما كان بعد العصر من يوم الهزيمة أمر السلطان بسراح لفيف من الناس الذي مع عين الملك من الزمالة والسوقة والعبيد ومن لا يعبأ به وأتي بملك إبراهيم البنجي الذي ذكرناه فقال ملك العسكر “الملك نوا” يا خوند عالم أقتل هذا فإنه من المخالفين فقال الوزير إنه قد فدى نفسه بالقائم فعفا عنه السلطان وسرحه إلى بلاده.
ولما كان بعد المغرب جلس السلطان ببرج الخشب وأتى باثنين وستين رجلا من كبار أصحاب القائم وأتى بالفيلة فطرحوا بين أيديها فجعلت تقطعهم بالحدائد الموضوعة على أنيابها وترمي ببعضهم إلى الهواء وتتلقفه والأبواق والأنفار والطبول تضرب عند ذلك وعين الملك واقف يعاين مقتلهم ويطرح منهم عليه ثم أعيد إلى محبسه.
ولما ظفر السلطان بعين الملك كما ذكرنا عاد إلى حضرته بعد مغيب عامين ونصف وعفا عن عين الملك وعفا أيضا عن نصرة خان القائم ببلاد التلنك وجعلهما معا على عمل واحد وهو النظر على بساتين السلطان وكساهما وأركبهما وعين لهما نفقة من الدقيق واللحم في كل يوم..
أم السطان (4،6)
وأم السلطان تدعى المخدومة جهان، وهي من أفضل النساء كثيرة الصدقات عمرت زوايا كثيرة وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر. وهي مكفوفة البصر وسبب ذلك انه لما ملك ابنها جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي وهي على سرير الذهب المرصع بالجوهر فخدمن بين يديها جميعا فذهب بصرها للحين وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع. وولدها أشد الناس برا بها ومن بره أنها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة فلما قدمت خرج لاستقبالها وترجل عن فرسه وقبل رجلها وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين..
أول المعرفة بالسلطان (1)
واستقبلني أمير حاجب وهو ابن عم السلطان فيروز وخدمت ثانية لخدمته، ثم قال لي ملك الندماء بسم الله مولانا بدر الدين وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكل من كان من أهل الطلب إنما يقال له مولانا، فقربت من السلطان حتى أخذ بيدي وصافحني، وأمسك يدي وجعل يخطابني بأحسن خطاب ويقول لي بالفارسي حلت البركة قدومك مبارك اجمع خاطرك اعمل معك من المراحم وأعطيك من الأنعام ما يسمع به أهل بلادك فيأتون إليك، ثم سألني عن بلادي فقلت له بلاد المغرب فقال لي بلاد عبد المؤمن؟ فقلت له نعم، وكان كلما قال لي كلاما جيدا قبلت يده حتى قبلتها سبع مرات. وخلع علي وانصرفت.. ثم بعد ذلك أمر لنا بالمرتبات فعين لي اثني عشر ألف دينار في السنة وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل إحداهما قرية جوزة والثانية قرية “ملك بور”.. وكنت حسبما ذكرته قد استدنت من التجار مالا أنفقته في طريقي وما صنعت به الهدية للسلطان وما أنفقته في إقامتي فلما أرادوا السفر إلى بلادهم ألحوا علي في طلب ديونهم فمدحت السلطان في قصيدة طويلة أولها:
إليك أمير المؤمنين الـمـبـجـلا أتينا … نجد السير نحوك في الـفـلا
فجئت محـلا مـن عـلائك زائرا … ومغناك كهف لـلـزيارة أهـلا
فلو أن فوق الشمس للمجـد رتـبة … لكنت لأعلاها إمامـا مـؤهـلا
فأنت الإمام الماجد الأوحـد الـذي … سجاياه حتما أن يقـول ويفـعـلا
ولي حاجة من فيض جودك أرتجي … قضاها وقصدي عند مجدك سهلا
أأذكرها أم قد كفانـي حـياؤكـم … فإن حياكم ذكره كـان أجـمـلا
فعجل لمن وافى مـحـلـك زائرا … قضا دينه إن الغـريم تـعـجـلا
فقدمتها بين يديه وهو قاعد على كرسي فجعلها على ركبته وأمسك طرفها بيده وطرفها الثاني بيدي، وكنت إذا أكملت بيتا منها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنوي بين معناه لخوند عالم فيبينه، ويعجب السلطان وهم يحبون الشعر العربي، فلما بلغت إلى قولي فعجل لمن وافى (البيت) قال مرحمة، ومعناه ترحمت عليك، فأخذ الحجاب حينئذ بيدي ليذهبوا بي إلى موقفهم وأخدم على العادة فقال السلطان اتركوه حتى يكملها فأكملتها وخدمت وهنأني الناس بذلك..
دماثة خلق (1)
وكان السلطان في تلك الأيام سألني عن الملك الناصر هل يركب الجمل فقلت نعم يركب المهاري في أيام الحج فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيام ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد. وأخبرته أن عندي جملا منها فلما عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر فصور لي صورة الكور الذي تركب المهاري به من القير وأريتها بعض النجارين فعمل الكور وأتقنه وكسوته بالملف وصنعت له ركبا وجعلت على الجمل عباءة حسنة وجعلت له خطام حرير وكان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء فصنع منها ما يشبه التمر وغيره، وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان.. فأدخل الجمل داخل السراجة وأعجب به السلطان وقال لراجلي اركبه فركبه ومشاه بين يديه وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة وعاد الرجل إلي فأعلمني فسرني ذلك..
عقاب وإنقباض (1،2)
ذكر ما هم به السلطان من عقابي وما تداركني من لطف الله تعالى: وكان سبب ذلك أني ذهبت يوما لزيارة الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ الجام بالغار الذي احتفره خارج دهلي وكان قصدي رؤية ذلك الغار، فلما أخذه السلطان سأل أولاده عمن كان يزوره فذكروا أناسا أنا من جملتهم، فأمر السلطان أربعة من عبيده بملازمتي بالمشور، وعادته أنه متى فعل ذلك مع أحد قلما يتخلص فكان أول يوم من ملازمتهم لي يوم الجمعة فألهمني الله تعالى إلى تلاوة قوله: “حسبنا الله ونعم الوكيل” فقرأتها ثلاثا وثلاثين ألف مرة، وبت بالمشور وواصلت إلى خمسة أيام في كل يوم منها أختم القرآن وأفطر على الماء خاصة ثم أفطرت بعد خمس وواصلت أربعا وتخلصت بعد قتل الشيخ والحمد لله تعالى. ولما كان بعد مدة انقبضت عن الخدمة ولازمت الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الخاشع الورع فريد الدهر ووحيد العصر كمال الدين عبد الله الغاري وكان من الأولياء وله كرامات كثيرة.. وانقطعت إلى خدمة هذا الشيخ ووهبت ما عندي للفقراء والمساكين وكان الشيخ يواصل عشرة أيام وربما واصل عشرين فكنت أحب أن أواصل فكان ينهاني ويأمرني بالرفق على نفسي في العبادة.. وظهر لي من نفسي تكاسل بسبب شيء بقي معي فخرجت عن جميع ما عندي من قليل وكثير وأعطيت ثياب ظهري لفقير ولبست ثيابه ولزمت هذا الشيخ خمسة أشهر والسلطان إذ ذاك غائب ببلاد السند، ولما بلغه خبر خروجي عن الدنيا استدعاني وهو يومئذ بسوستان فدخلت عليه في زي الفقراء فكلمني أحسن كلام وألطفه وأراد مني الرجوع إلى الخدمة فأبيت وطلبت منه الإذن في السفر إلى الحجاز فأذن لي فيه، وانصرفت عنه ونزلت بزاوية تعرف بالنسبة إلى الملك بشير وذلك في أواخر جمادى الثانية سنة اثنتين وأربعين فاعتكفت بها شهر رجب وعشرة من شعبان وانتهيت إلى مواصلة خمسة أيام وأفطرت بعدها على قليل أرز دون إدام، وكنت أقرأ القرآن كل يوم وأتهجد بما شاء الله وكنت إذا أكلت الطعام آذاني فإذا طرحته وجدت الراحة، وأقمت كذلك أربعين يوما ثم.. بعث إلي السلطان خيلا مسرجة وجواري وغلمانا وثيابا ونفقة فلبست ثيابه وقصدته وكانت لي جبة قطن زرقاء مبطنة لبستها أيام اعتكافي فلما جردتها ولبست ثياب السلطان أنكرت نفسي وكنت متى نظرت إلى تلك الجبة أجد نورا في باطني ولم تزل عندي إلى أن سلبني الكفار في البحر.
عزة نفس (7)
ولما وصلت إلى السلطان زاد في إكرامي على ما كنت أعهده وقال لي إنما بعثت إليك لتتوجه عني رسولا إلى ملك الصين فإني أعلم حبك في الأسفار والجولان فجهزني بما أحتاج له. وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان (هدية).. وطلب من السلطان أن يأذن له في بناء بيت الأصنام بناحية جبل قراجيل المتقدم ذكره، ويعرف الموضع الذي هو به بسَمٌهَل.. وإليه يحج أهل الصين. وتغلب عليه جيش الإسلام بالهند فخربوه وسلبوه. ولما وصلت هذه الهدية إلى السلطان كتب إليه بأن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه والسلام على من اتبع الهدى. وكافأه على هديته بخير منها.. وعين السلطان للسفر معي بهذه الهدية الأمير ظهير الدين الزنجاني وهو من فضلاء أهل العلم والفتى كافور الشريدار وإليه سلمت الهدية، وبعث معنا الأمير محمد الهروي في ألف فارس ليوصلنا إلى الموضع الذي نركب منه البحر وتوجه صحبتنا أرسال ملك الصين وهم خمسة عشر رجلا يسمى كبيرهم “ترسي” وخدامهم نحو مائة رجل. وانفصلنا في جمع كبير ومحلة عظيمة..
نجدة (1،7)
ولما بلغنا إلى مدينة “كول” بلغنا أن بعض كفار الهنود حاصروا بلدة الجلالي وأحاطوا بها وهي على مسافة سبعة أميال من كول قصدناها والكفار يقاتلون أهلها وقد أشرفوا على التلف ولم يعلم الكفار بنا حتى صدقنا الحملة عليهم وهم في نحو ألف فارس وثلاثة آلاف راجل فقتلناهم عن آخرهم واحتوينا على خيلهم وأسلحتهم واستشهد من أصحابنا ثلاثة وعشرون فارسا وخمسة وخمسون راجلا واستشهد الفتى كافور الساقي الذي كانت الهدية مسلمة بيده فكتبنا إلى السلطان بخبره وأقمنا في انتظار الجواب، وكان الكفار في أثناء ذلك ينزلون من جبل هنالك منيع فيغيرون على نواحي بلدة الجلالي وكان أصحابنا يركبون كل يوم مع أمير تلك الناحية ليعينوه على مدافعتهم.
الخائِفَيْنِ (s،1)
ذكر محنتي بالأسر وخلاصي منه وخلاصي من شدة بعده على يد ولي من أولياء الله تعالى: وفي بعض تلك الأيام ركبت في جماعة من أصحابي ودخلنا بستانا نقيل فيه وذلك في فصل القيظ فسمعنا الصياح فركبنا ولحقنا كفارا أغاروا على قرية من قرى الجلالي فاتبعناهم فتفرقوا وتفرق أصحابنا في طلبهم وانفردت في خمسة من أصحابنا فخرج علينا جملة من الفرسان والرجال من غيضة هنالك ففررنا منهم لكثرتهم واتبعني نحو عشرة منهم ثم انقطعوا عني إلا ثلاثة منهم ولا طريق بين يدي وتلك الأرض كثيرة الحجارة فنشبت يد فرسي بين الحجارة فنزلت عنه واقتلعت يده وعدت إلى ركوبه، والعادة بالهند أن يكون مع الإنسان سيفان أحدهما معلق بالسراج ويسمى الركابي والآخر في التركش فسقط سيفي الركابي من غمده وكانت حليته ذهبا فنزلت فأخذته وتقلدته وركبت وهم في أثري ثم وصلت إلى خندق عظيم فنزلت ودخلت في جوفه فكان آخر عهدي بهم ثم خرجت إلى واد في وسطه أشجار ملتفة في وسطها طريق فمشيت عليها ولا أعرف منتهاها، فبينا أنا في ذلك خرج علي نحو أربعين رجلا من الكفار بأيديهم القسي فأحدقوا بي وخفت أن يرموني رمية رجل واحد إن فررت منهم وكنت غير متدرع فألقيت بنفسي إلى الأرض واستأسرت وهم لا يقتلون من فعل ذلك، فأخذوني وسلبوني جميع ما علي غير جبة وقميص وسروال ودخلوا بي إلى تلك الغابة فانتهوا بي إلى موضع جلوسهم منها على حوض ماء بين تلك الأشجار وأتوني بخبز ماش وهو الجلبان فأكلت منه وشربت من الماء. وكان معهم مسلمان كلماني بالفارسية وسألاني عن شأني فأخبرتهما ببعضه وكتمتهما أني من جهة السلطان فقالا لي لا بد أن يقتلك هؤلاء أو غيرهم ولكن هذا مقدمهم وأشاروا إلى رجل منهم فكلمته بترجمة المسلمين وتلطفت له فوكل بي ثلاثة منهم أحدهم شيخ ومعه ابنه والآخر أسود خبيث. وكلمني أولئك الثلاثة ففهمت منهم أنهم أمروا بقتلي، واحتملوني عشي النهار إلى كهف وسلط الله على الأسود منهم حمى مرعدة فوضع رجليه علي ونام الشيخ وابنه فلما أصبح الصباح تكلموا فيما بينهم وأشاروا إلي بالنزول معهم إلى الحوض وفهمت أنهم يريدون قتلي فكلمت الشيخ وتلطفت إليه فرق لي، وقطعت كمي قميصي وأعطيته إياهما لكي لا يأخذه أصحابه في إن فررت. ولما كان عند الظهر سمعنا كلاما عند الحوض فظنوا أنهم أصحابهم فأشاروا إلي بالنزول معهم فنزلنا ووجدنا قوما آخرين فأشاروا عليهم أن يذهبوا في صحبتهم فأبوا وجلس ثلاثتهم أمامي وأنا مواجه لهم ووضعوا حبل قنب كان معهم بالأرض وأنا أنظر إليهم وأقول في نفسي بهذا الحبل يربطوني عند القتل، وأقمت كذلك ساعة ثم جاء ثلاثة من أصحابهم الذين أخذوني فتكلموا معهم وفهمت أنهم قالوا لهم: لأي شيء ما قتلتموه؟ فأشار الشيخ إلى الأسود كأنه اعتذر بمرضه وكان أحد هؤلاء الثلاثة شابا حسن الوجه فقال لي: أتريد أن أسرحك؟ فقلت: نعم، فقال: اذهب. فأخذت الجبة التي كانت علي فأعطيته إياها. وأعطاني منيرة بالية عنده وأراني الطريق فذهبت وخفت أن يبدو لهم فيدركونني فدخلت غيضة قصب وأخفيت نفسي فيها إلى أن غابت الشمس ثم خرجت وسلكت الطريق التي أرانيها الشاب فأفضت بي إلى ماء فشربت منه وسرت إلى ثلث الليل فوصلت إلى جبل فنمت تحته فلما أصبحت سلكت الطريق فوصلت ضحى إلى جبل من الصخر عال فيه شجر أم غيلان والسدر فكنت أجني النبق فآكله حتى أثر الشوك في ذراعي آثارا هي باقية حتى الآن. ثم نزلت من ذلك الجبل إلى أرض مزروعة قطنا وبها أشجار الخروع وهنالك باين، والباين عندهم بئر متسعة جدا مطوية بالحجارة لها درج ينزل عليها إلى ورد الماء وبعضها يكون في وسطه وجوانبه القباب من الحجر والسقائف والمجالس ويتفاخر ملوك البلاد وأمراؤها بعمارتها في الطرقات التي لا ماء بها.. ولما وصلت إلى الباين شربت منه ووجدت عليه شيئا من عساليج الخردل قد سقطت لمن غسلها فأكلت منها وادخرت باقيها ونمت تحت شجرة خروع فبينما أنا كذلك إذ ورد الباين نحو أربعين فارسا مدرعين فدخل بعضهم إلى المزرعة ثم ذهبوا وطمس الله أبصارهم دوني ثم جاء بعدهم نحو خمسين في السلاح ونزلوا إلى الباين وأتى أحدهم شجرة إزاء الشجرة التي كنت تحتها فلم يشعر بي ودخلت إذ ذاك في مزرعة القطن وأقمت بها بقية نهاري وأقاموا على الباين يغسلون ثيابهم ويلعبون فلما كان الليل هدأت أصواتهم فعلمت أنهم قد مروا أو ناموا فخرجت حينئذ واتبعت أثر الخيل والليل مقمر وسرت حتى انتهيت إلى باين آخر عليه قبة فنزلت إليه وشربت من مائه وأكلت من عساليج الخردل التي كانت عندي ودخلت القبة فوجدتها مملوءة بالعشب مما يجمعه الطير فنمت عليها، وكنت أحس حركة حيوان في ذلك العشب أظنه حية فلا أبالي بها لما بي من الجهد فلما أصبحت سلكت طريقا واسعة تفضي إلى قرية خربة وسلكت سواها فكانت كمثلها وأقمت كذلك أياما وفي بعضها وصلت إلى أشجار ملتفة بينها حوض ماء وداخلها شبه بيت وعلى جوانب الحوض نبات الأرض كالنجيل وغيره فأردت أن أقعد هنالك حتى يبعث الله من يوصلني إلى العمارة ثم إني وجدت يسير قوة فنهضت على طريق وجدت بها أثر البقر ووجدت ثورا عليه بردعة ومنجل فإذا تلك الطريق تفضي إلى قرى الكفار فاتبعت طريقا أخرى فأفضت بي إلى قرية خربة ورأيت بها أسودين عريانين فخفتهما وأقمت تحت أشجار هنالك فلما كان الليل دخلت القرية ووجدت دارا في بيت من بيوتها شبه خابية كبيرة يصنعونها لاختزان الزرع وفي أسفلها نقب يسع الرجل فدخلتها ووجدت داخلها مفروشا بالتبن وفيه حجر جعلت رأسي عليه ونمت وكان فوقها طائر يرفرف بجناحيه أكثر الليل وأظنه كان يخاف فاجتمعنا خائفين. وأقمت على تلك الحال سبعة أيام من يوم أسرت وهو يوم السبت، وفي السابع منها وصلت إلى قرية للكفار عامرة وفيها حوض ماء ومنابت خضر فسألتهم الطعام فأبوا أن يعطوني فوجدت حول بئر بها أوراق فجل فأكلتها وجئت القرية فوجدت جماعة كفار لهم طليعة فدعاني طليعتهم فلم أجبه وقعدت إلى الأرض فأتى أحدهم بسيف مسلول ورفعه ليضربني به فلم ألتفت إليه لعظيم ما بي من الجهد ففتشني فلم يجد عندي شيئا فأخذ القميص الذي كنت أعطيت كميه للشيخ الموكل بي..
ولما كان في اليوم الثامن اشتد بي العطش وعدمت الماء ووصلت إلى قرية خراب فلم أجد بها حوضا وعادتهم بتلك القرى أن يصنعوا أحواضا يجتمع بها ماء المطر فيشربون منه جميع السنة فاتبعت طريقا فأفضت بي إلى بئر غير مطوية عليها حبل مصنوع من نبات الأرض وليس فيه آنية يستقى بها فربطت خرقة كانت على رأسي في الحبل وامتصصت ما تعلق بها من الماء فلم يروني فربطت خفي واستقيت به فلم يروني فاستقيت به ثانيا فانقطع الحبل ووقع الخف في البئر فربطت الخف الآخر وشربت حتى رويت ثم قطعته فربطت أعلاه على رجلي بحبل البئر وبخرق وجدتها هنالك فبينا أنا أربطها وأفكر في حالي إذ لاح لي شخص فنظرت إليه فإذا رجل أسود اللون بيده إبريق وعكاز وعلى كاهله جراب فقال لي: سلام عليكم. فقلت له: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال لي بالفارسية (ما) معناه: من أنت؟ فقلت له: أنا تائه. فقال لي: وأنا كذلك. ثم ربط إبريقه بحبل كان معه واستقى ماء، فأردت أن أشرب فقال لي: إصبر. ثم فتح جرابه فأخرج منه غرفة حمص أسود مقلي مع قليل أرز. فأكلت منه وشربت وتوضأ وصلى ركعتين وتوضأت أنا وصليت وسألني عن اسمي فقلت له: محمد، وسألته عن اسمه فقال لي: “القلب الفارح” فتفاءلت بذلك وسررت به ثم قال لي: بسم الله ترافقني؟ فقلت: نعم فمشيت معه قليلا ثم وجدت فتورا في أعضائي ولم أستطع النهوض فقعدت فقال لي: ما شأنك. فقلت له: كنت قادرا على المشي قبل أن ألقاك فلما لقيتك عجزت، فقال: سبحان الله اركب فوق عنقي فقلت له: إنك ضعيف ولا تستطيع ذلك. فقال: يقويني الله لا بد لك، فركبت على عنقه وقال لي أكثر من قراءة: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأكثرت من ذلك. وغلبتني عيني فلم أفق إلا لسقوطي على الأرض، فاستيقظت ولم أر للرجل أثرا، وإذا أنا في قرية عامرة فدخلتها فوجدتها لرعية الهنود وحاكمها من المسلمين فأعلموه بي فجاء إلي فقلت له: ما اسم هذه القرية؟ فقال لي: تاج بوره وبينها وبين مدينة كول حيث أصحابنا فرسخان. وحملني ذلك الحاكم إلى بيته فأطعمني طعاما سخنا واغتسلت. وقال لي: عندي ثوب وعمامة أودعهما عندي رجل عربي مصري من أهل المحلة التي بكول. فقلت له: هاتهما ألبسهما إلى أن أصل إلى المحلة. فأتى بهما فوجدتهما من ثيابي التي كنت قد وهبتها لذلك العربي لما قدمنا كول فطال تعجبي من ذلك وفكرت بالرجل الذي حملني على عنقه فتذكرت ما أخبرني به ولي الله تعالى أبو عبد الله المرشدي حسبما ذكرناه في السفر الأول إذ قال لي: ستدخل أرض الهند وتلقى بها أخي ويخلصك من شدة تقع فيها. وتذكرت قوله لما سألته عن اسمه فقال: القلب الفارح وتفسيره بالفارسية “دلشاد” فعلمت أنه هو الذي أخبرني بلقائه وأنه من الأولياء ولم يحصل لي من صحبته إلا المقدار الذي ذكر، وأتيت تلك الليلة إلى أصحابي بكول معلما لهم بسلامتي فجاءوا إلي بفرس وثياب واستبشروا بي ووجدت جواب السلطان قد وصلهم وبعث بفتى يسمى بسنبل الجامدار عوضا من كافور المستشهد وأمرنا أن نتمادى على سفرنا، ووجدتهم أيضا قد كتبوا للسلطان بما كان من أمري وتشاءموا بهذه السفرة لما جرى فيها علي وعلى كافور وهم يريدون أن يرجعوا فلما رأيت تأكيد السلطان في السفر أكدت عليهم وقوي عزمي فقالوا: ألا ترى ما اتفق في بداية هذه السفرة؟ والسلطان يعذرك فلنرجع إليه أو تقيم حتى يصل جوابه فقلت لهم: لا يمكن المقام وحيثما كنا أدركنا الجواب (عندما أفكر في كلامه عن ابن تيمية، وهي فرية واضحة، أتساءل هل هو صادق في ما كتب في رحلته، لكن المهم هو أنها ممتعة ومليئة بالعبر)..
الفرس المشؤوم (6،2)
وكان أمير علابور بدر الحبشي من عبيد السلطان وهو من الأبطال الذين تضرب بهم الأمثال وكان لا يزال يغير على الكفار منفردا بنفسه فيقتل ويسبي حتى شاع خبره واشتهر أمره وهابه الكفار. وكان طويلا ضخما يأكل الشاة عن آخرها في أكلة. وأخبرت أنه كان يشرب نحو رطل ونصف من السمن بعد غذائه على عادة الحبشة ببلادهم، وكان له ابن يدانيه في الشجاعة، فاتفق أنه أغار مرة في جماعة من عبيده على قرية للكفار فوقع به الفرس في مطمورة واجتمع عليه أهل القرية فضربه أحدهم بقتارة (وهي) حديدة شبه سكة الحرث، يدخل الرجل يده فيها فتكسو ذراعه ويفضل منها مقدار ذراعين، وضربتها لا تبقي، فقتله بتلك الضربة ومات فيها. وقاتل عبيده أشد القتال فتغلبوا على القرية وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأخرجوا الفرس من المطمورة سالما فأتوا به ولده فكان من الاتفاق الغريب أنه ركب الفرس وتوجه إلى دهلي فخرج عليه الكفار فقاتلهم حتى قُتل وعاد الفرس إلى أصحابه فدفعوه إلى أهله فركبه صهر له فقتله الكفار عليه أيضا.
كفتارة ساحرة (3)
ورحلنا من مدينة كاليور إلى مدينة بَرُوَن مدينة صغيرة للمسلمين بين بلاد الكفار أميرها محمد بن بيرم التركي الأصل. والسباع بها كثيرة وذكر لي بعض أهلها أن السبع كان يدخل إليها ليلا وأبوابها مغلقة فيفترس الناس حتى قتل من أهلها كثيرا وكانوا يعجبون في شأن دخوله. وأخبرني محمد التوفيري من أهلها وكان جارا لي بها أنه دخل داره ليلا وافترس صبيا من فوق السرير. وأخبرني غيره أنه كان مع جماعة في دار عرس فخرج أحدهم لحاجة فافترسه أسد فخرج أصحابه في طلبه فوجدوه مطرحا بالسوق وقد شرب دمه ولم يأكل لحمه وذكروا أنه كذلك فعله بالناس. ومن العجب أن بعض الناس أخبرني أن الذي يفعل ذلك ليس بسبع وإنما هو آدمي من السحرة المعروفين بالجوكية يتصور في صورة سبع ولما أخبرت بذلك أنكرته وأخبرني به جماعة.
ولنذكر بعضا من أخبار هؤلاء السحرة وهؤلاء الطائفة تظهر منهم العجائب، منها أن أحدهم يقيم الأشهر لا يأكل ولا يشرب وكثير منهم تحفر لهم تحت الأرض وتبنى عليه فلا يترك له إلا موضع يدخل منه الهواء ويقيم بها الشهور. وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة. ورأيت بمدينة منجرور رجلا من المسلمين ممن يتعلم منهم قد رفعت له طبلة وأقام بأعلاها لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يوما وتركته كذلك فلا أدري كم أقام بعدي، والناس يذكرون أنهم يركبون حبوبا يأكلون الحبة منها لأيام معلومة وأشهر فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام ولا شراب ويخبرون بأمور معيبة والسلطان يعظمهم ويجالسهم. ومنهم من يقتصر في أكله على البقل ومنهم من لا يأكل اللحم وهم الأكثرون. والظاهر من حالهم أنهم عودوا أنفسهم الرياضة ولا حاجة لهم في الدنيا وزينتها. ومنهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتا من نظرته وتقول العامة إنه إذا قتل بالنظر وشق عن صدر الميت وجد دون قلب ويقولون أكل قلبه. وأكثر ما يكون هذا في النساء، والمرأة التي تفعل ذلك تسمى كفتار. (و) لما وقعت المجاعة العظمى ببلاد الهند بسبب القحط والسلطان ببلاد التلنك نفذ أمره أن يعطى لأهل دهلي ما يقوتهم بحساب رطل ونصف للواحد في اليوم فجمعهم الوزير ووزع المساكين منهم على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم فكان عندي منهم خمسمائة نفس فعمرت لهم سقائف في واد وأسكنتهم بها وكنت أعطيتهم نفقتهم خمسة أيام فلما كان في بعض الأيام أتوني بامرأة منهم وقالوا إنها كفتارة وقد أكلت قلب صبي كان إلى جانبها وأتوا بالصبي ميتا فأمرتهم أن يذهبوا بها إلى نائب السلطان فأمر باختبارها وذلك بأن ملئوا أربع جرات بالماء وربطوها بيديها ورجليها وطرحوها في نهر الجون فلم تغرق فعلم أنها كفتار ولو لم تطف على الماء لم تكن بكفتار فأمر بإحراقها بالنار وأتى أهل البلد رجالا ونساء فأخذوا رمادها وزعموا أنه من تبخر به أمن في تلك السنة من سحر كفتار.
(و) بعث إلي السلطان يوما وأنا عنده بالحضرة فدخلت عليه وهو في خلوة وعنده بعض خواصه ورجلان من هؤلاء الجوكية وهم يلتحفون بالملاحف ويغطون رؤوسهم لأنهم ينتفونها بالرماد كما ينتف الناس آباطهم، فأمرني بالجلوس فجلست فقال لهما إن هذا العزيز من بلاد بعيدة فأرياه ما لم يره فقالا نعم، فتربع أحدهما ثم ارتفع عن الأرض حتى صار في الهواء فوقنا متربعا فعجبت منه وأدركني الوهم فوقعت على الأرض فأمر السلطان أن أسقى دواء عنده فأفقت وقعدت وهو على حاله متربع فأخذ صاحبه نعلا له من شكارة كانت معه فضرب بها الأرض كالمغتاظ فصعدت إلى أن علت فوق عنق المتربع وجعلت تضرب في عنقه وهو ينزل قليلا قليلا حتى جلس معنا فقال السلطان إن المتربع هو تلميذ صاحب النعل ثم قال لولا أني أخاف على عقلك لأمرتهم أن يأتوا بأعظم مما رأيت فانصرفت عنه وأصابني الخفقان ومرضت حتى أمر لي بشربة أذهبت ذلك عني (في هذه القصة دليل على وجود الخوارق الشيطانية، فيجب الحذر، فليست كل الخوارق كرامات، لابد من ردها إلى الشرع وإلا كانت شيطانية، مثال ذلك الكثير من خوارق المتصوفة التي أكثرها من العبث كإخراج تفاحة من العدم، هذا تعامل مع الشياطين)..
قبر العاشقين (2،6)
ثم سافرنا إلى مدينة “ظِهار”.. وبهذه المدينة أراد ابن أخت الوزير “خواجه جهان” أن يفتك بخاله ويستولي على أمواله ويسير إلى القائم ببلاد المعبر، فنمى خبره إلى خاله فقبض عليه وعلى جماعة الأمراء وبعثهم إلى السلطان فقتل الأمراء، ورد ابن أخته إليه فقتله الوزير. ولما رد ابن أخت الوزير إليه أمر به أن يقتل كما قتل أصحابه، وكانت له جارية يحبها فاستحضرها وأطعمها التنبول وأطعمته وعانقها مودعا ثم طرح للفيلة وسلخ جلده وملئ تبنا، فلما كان من الليل خرجت الجارية من الدار فرمت بنفسها في بئر هنالك تقرب من الموضع الذي قتل فيه فوُجدت ميتة من الغد فأخرجت ودفن لحمه معها في قبر واحد وسمي قبور “كور عاشقان” وتفسير ذلك بلسانهم قبر العاشقين..
سجن الفئران (2)
ثم سافرنا إلى مدينة “دولة آباد”، وهي المدينة الضخمة العظيمة الشأن الموازية لحضرة دهلي في رفعة قدرها واتساع خطتها.. وبهذه المدينة سكنى الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان وهو أميرها والنائب عن السلطان بها.. وفيها سجن أهل الجرائم العظيمة في جيوب بها وبها فيران ضخام أعظم من القطوط والقطوط تهرب منها ولا تطيق مدافعتها لأنها تغلبها ولا تصاد إلا بحبل تدار عليها وقد رأيتها هناك فعجبت منها.. (و) خبرني الملك خطاب الأفغاني أنه سجن مرة في جب بهذه القلعة يسمى جب الفيران. قال: فكانت تجتمع علي ليلا لتأكلني فأقاتلها وألقى من ذلك جهدا ثم إني رأيت في النوم قائلا يقول لي إقرأ سورة الإخلاص مائة ألف مرة ويفرج الله عنك. قال: فقرأتها فلما أتممتها أُخرجت، وكان سبب خروجي أن “ملك مل” كان مسجونا في جب يجاورني فمرض وأكلت الفيران أصابعه وعينيه فمات فبلغ ذلك السلطان فقال أخرجوا خطابا لئلا يتفق له مثل ذلك..
نساء فائقات الجمال (6)
وأهل بلاد “دولة آباد” هم قبيل المرهتة الذين خص الله نساءهم بالحسن وخصوصا في الأنوف والحواجب ولهن من طيب الخلوة والمعرفة أكثر بحركات الجماع ما ليس لغيرهن.. وبمدينة دولة آباد سوق للمغنين والمغنيات تسمى سوق “طرب آباد” من أجمل الأسواق وأكبرها فيه الدكاكين الكثيرة كل دكان له باب يفضي إلى دار صاحبه وللدار باب سوى ذلك.. وفي وسط السوق قبة عظيمة مفروشة مزخرفة يجلس فيها أمير المطربين بعد صلاة العصر من كل يوم خميس وبين يديه خدامه ومماليكه وتأتي المغنيات طائفة بعد أخرى فيغنين بين يديه ويرقصن إلى وقت المغرب ثم ينصرف. وفي تلك السوق المساجد للصلاة ويصلي الأئمة فيها التراويح في شهر رمضان.. وشرفاء المرهتة هم البراهمة وهم الكتريون أيضا وأكلهم الأرز والخضر ودهن السمسم ولا يرون بتعذيب الحيوان ولا ذبحه ويغتسلون للأكل كغسل الجنابة ولا ينكحون في أقاربهم إلا فيمن كان بينهم سبعة أجداد ولا يشربون الخمر وهي عندهم أعظم المعائب وكذلك هي ببلاد الهند عند المسلمين ومن شربها من مسلم جلد ثمانين جلدة وسجن في مطمورة ثلاثة أشهر لا تفتح عليه إلا حين طعامه..
نجاة من العقاب (2)
ثم سافرنا إلى مدينة “كَنٌبَاية”، وهي على خور من البحر وهو شبه الوادي تدخله المراكب وبه المد والجزر. وعاينت المراكب به مرساة في الوحل حين الجزر فإذا كان المد عامت في الماء.. ومنها دار التاجر “شمس الدين كلاه وز” ومعناه خياط الشواشي. ولما وقع ما قدمناه من مخالفة القاضي جلال الأفغاني أراد شمس الدين المذكور والناخوذة “الياس” وكان من كفار أهل هذه المدينة وملك الحكماء الذي تقدم ذكره، على أن يمتنعوا منه بهذه المدينة وشرعوا في حفر خندق عليها إذ لا سور لها فتغلب عليهم ودخلها واختفى الثلاثة المذكورون في دار واحدة وخافوا أن يتطلع عليهم فاتفقوا على ان يقتلوا أنفسهم فضرب كل واحد منهم صاحبه بقتارة – وقد ذكرنا صفتها – فمات اثنان منهم ولم يمت ملك الحكماء.. وكان أمير كنباية حين وصلنا إليها “مقبل التلنكي” وهو كبير المنزلة عند السلطان وكان في صحبته الشيخ زاده الأصبهاني نائبا عنه في جميع أموره، وهذا الشيخ له أموال عظيمة وعنده معرفة بأمور السلطنة ولا يزال يبعث الأموال إلى بلاده ويتحيل في الفرار. وبلغ خبره إلى السلطان وذكر عنه أنه يروم الهروب فكتب إلى مقبل أن يبعثه فبعثه على البريد وأحضر بين يدي السلطان ووكل به، والعادة عنده أنه متى وكل بأحد فقلما ينجو فاتفق هذا الشيخ مع الموكل به على مال يعطيه إياه وهربا جميعا. وذكر لي أحد الثقات أنه رآه في ركن مسجد بمدينة “قلهات” وأنه وصل بعد ذلك إلى بلاده فحصل على أمواله وأمن مما كان يخافه.
بين أعورين (6)
وأضافنا “الملك مقبل” يوما بداره فكان من النادر أن جلس قاضي المدينة وهو أعور العين اليمني وفي مقابلته شريف بغدادي شديد الشبه به في صورته وعوره إلا أنه أعور اليسرى. فجعل الشريف ينظر إلى القاضي ويضحك فزجره القاضي فقال له لا تزجرني فإني أحسن منك، قال كيف ذلك؟ قال لأنك أعور اليمنى وأنا أعور اليسرى فضحك الأمير والحاضرون. وخجل القاضي ولم يستطع أن يرد عليه، والشرفاء ببلاد الهند معظمون أشد التعظيم..
الرجل الغامض (6)
(ثم) أرسينا على جزيرة صغيرة قريبة من البر فيها كنيسة وبستان وحوض ماء ووجدنا بها أحد الجوكية مستندا إلى حائط بدخانة وهي بيت الأصنام وهو فيما بين صنمين منها وعليه أثر المجاهدة فكلمناه فلم يتكلم ونظرنا هل معه طعام فلم نر معه طعاما وفي حين نظرنا صاح صيحة عظيمة فسقطت عند صياحه جوزة من جوز النارجيل بين يديه ودفعها لنا فعجبنا من ذلك ودفعنا له دنانير ودراهم فلم يقبلها وأتيناه بزاد فرده، وكانت بين يديه عباءة من صوف الجمال مطروحة فقلبتها بيدي فدفعها لي وكانت بيدي سبحة زيلع فقلبها في يدي فأعطيته إياها ففركها بيده وشمها وقبلها وأشار إلى السماء ثم إلى سمت القبلة فلم يفهم أصحابي إشارته ففهمت أنا عنه أنه أشار أنه مسلم يخفي إسلامه من أهل تلك الجزيرة ويتعيش من تلك الجوز. ولما ودعناه قبلت يده فأنكر أصحابي ذلك ففهم إنكارهم فأخذ يدي وقبلها وتبسم وأشار لنا بالانصراف فانصرفنا وكنت آخر أصحابي خروجا فجذب ثوبي فرددت رأسي إليه فأعطاني عشرة دنانير فلما خرجنا عنه قال لي أصحابي لم جذبك؟ فقلت لهم أعطاني هذه الدنانير، وأعطيت لظهير الدين ثلاثة منها ولسنبل ثلاثة وقلت لهما الرجل مسلم ألا ترون كيف أشار إلى السماء يشير إلى أنه يعرف الله تعالى وأشار إلى القبلة يشير إلى معرفة الرسول عليه السلام وأخذه السبحة يصدق ذلك فرجعا لما قلت لهما ذلك إليه فلم يجداه..
جمال وعفاف (6)
وسافرنا تلك الساعة وبالغد وصلنا إلى مدينة “هنور”.. وفي يوم وصولنا إليها جاءني أحد الجوكية من الهنود في خلوة وأعطاني ستة دنانير وقال لي البرهمي بعثها إليك يعني الجوكي الذي أعطيته السبحة وأعطاني الدنانير فأخذتها منه وأعطيته دينارا منها فلم يقبله وانصرف.. ونساء هذه المدينة وجميع هذه البلاد الساحلية لا يلبسن المخيط وإنما يلبسن ثيابا غير مخيطة تحتزم إحداهن بأحد طرفي الثوب وتجعل باقيه على رأسها وصدرها ولهن جمال وعفاف وتجعل إحداهن خرص ذهب في أنفها ومن خصائصهن أنهن جميعا يحفظن القرآن الكريم. ورأيت بالمدينة ثلاثة عشر مكتبا لتعليم البنات وثلاثة وعشرين لتعليم الأولاد ولم أر ذلك في سواها. ومعاش أهلها من التجارة في البحر ولا زرع لهم. وأهل بلاد المليبار يعطون للسلطان جمال الدين في كل عام شيئا معلوما خوفا منه لقوته في البحر وعسكره نحو ستة آلاف بين فرسان ورجالة.
(وسلطانها) هو السلطان جمال الدين محمد بن حسن من خيار السلاطين وكبارهم وهو تحت حكم سلطان كافر يسمى هريب.. والسلطان جمال الدين مواظب للصلاة في الجماعة وعادته أن يأتي إلى المسجد قبل الصبح فيتلو في المصحف حتى يطلع الفجر فيصلي أول وقت ثم يركب إلى خارج المدينة ويأتي عند الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ثم يدخل فيه ثم يدخل إلى قصره وهو يصوم الأيام البيض، وكان أيام إقامتي عنده يدعوني للإفطار معه.. وكانت إقامتنا عنده في هذه المرة ثلاثة أيام وزودنا وسافرنا عنه
بلاد المُلَيٌبَار (5،7)
وبعد ثلاثة أيام وصلنا إلى بلاد المُلَيٌبَار وهي بلاد الفلفل وطولها مسيرة شهرين على ساحل البحر من سندابور إلى كولم، والطريق في جميعها بين ظلال الأشجار. وفي كل نصف ميل بيت من الخشب فيه دكاكين يقعد عليها كل وارد وصادر من مسلم وكافر. وعند كل بيت منها بئر يشرب منها ورجل كافر موكل بها. فمن كان كافرا سقاه في الأواني، ومن كان مسلما سقاه في يديه. ولا يزال يصب له حتى يشير له أن يكف. ومن عادة الكفار ببلاد المليبار أن لا يدخل المسلم دورهم ولا يطعم في أوانيهم فإن طعم فيها كسروها وأعطوها للمسلمين، وإذا دخل المسلم موضعا منها لا يكون في دار للمسلمين طبخوا له الطعام وصبوه على أوراق الموز وصبوا عليه الإدام وما فضل عنه تأكله الكلاب والطير، وفي جميع المنازل بهذا الطريق ديار للمسلمين ينزل عندهم المسلمون فيبيعون منهم جميع ما يحتاجون إليه ويطبخون لهم الطعام ولولاهم لما سافر فيه مسلم. وهذا الطريق الذي ذكرنا أنه مسيرة شهرين ليس فيه موضع شبر فما فوقه دون عمارة ولكل إنسان بستانه على حدة وداره في وسطه وعلى الجميع حائط خشب والطريق يمر في البساتين فإذا انتهى إلى حائط بستان كان هنالك درج خشب يصعد عليها ودرج آخر ينزل عليها إلى البستان الآخر. ولا يسافر أحد في تلك البلاد بدابة ولا تكون الخيل إلا عند السلطان وأكثر ركوب أهلها في “دولة” على رقاب العبيد أو المستأجرين، ومن لم يستطع أن يركب في دولة مشى على قدميه كائنا من كان. ومن كان له رحل أو متاع من تجارة وسواها اكترى رجالا يحملونه على ظهورهم.. ولم أر طريقا آمن من هذا الطريق. وهم يقتلون السارق على الجوزة الواحدة فإذا سقط شيء من الثمار لم يلتقطه أحد حتى يأخذه صاحبه. وأخبرت أن بعض الهنود مروا على الطريق فالتقط أحدهم جوزة وبلغ خبره إلى الحاكم فأمر بعود فركز في الأرض وبرى طرفه الأعلى وأدخل في لوح خشب حتى برز منه ومد الرجل على اللوح وركز في العود وهو على بطنه حتى خرج من ظهره وترك عبرة للناظرين. ومن هذه العيدان على هذه الصورة بتلك الطرق كثير ليراها الناس فيتعظوا. ولقد كنا نلقى الكفار بالليل في هذه الطريق فإذا رأونا تنحوا عن الطريق حتى نجوز. والمسلمون أعز الناس بها غير أنهم كما ذكرنا لا يؤاكلونهم ولا يدخلونهم دورهم. وفي بلاد المليبار اثنا عشر سلطانا من الكفار منهم القوي الذي يبلغ عسكره خمسين ألفا ومنهم الضعيف الذي عسكره ثلاثة آلاف ولا فتنة بينهم البتة ولا يطمع القوي منهم في انتزاع ما بيد الضعيف وبين بلاد أحدهم وصاحبه باب خشب منقوش فيه اسم الذي هو مبدأ عمالته ويسمونه باب أمان فلان. وإذا فر مسلم أو كافر بسبب جناية من بلاد أحدهم ووصل إلى باب أمان الآخر أمن على نفسه ولم يستطع الذي هرب عنه أخذه وإن كان القوي صاحب العدد والجيوش، وسلاطين تلك البلاد يورثون ابن الأخت ملكهم دون أولادهم ولم أر من يفعل ذلك إلا مسوفة أهل اللثلم وسنذكرهم فيما بعد. وإذا أراد السلطان من أهل بلاد المليبار منع الناس من البيع أو الشراء أمر بعض غلمانه فعلق على الحوانيت بعض أغصان الأشجار بأوراقها فلا يبيع أحد ولا يشتري ما دامت عليها تلك الأغصان. وشجرات الفلفل شبيهة بدوالي العنب وهم يغرسونها إزاء النارجيل فتصعد فيها كصعود الدوالي.. وإذا كان أوان الخريف قطفوه وفرشوه على الحصر في الشمس كما يصنع بالعنب عند تزبيبه ولا يزالون يقلبونه حتى يستحكم يبسه ثم يبيعونه من التجار..
الكفار (7،3)
ثم سافرنا إلى مدينة “بدفتن”، وهي مدينة كبيرة على خور كبير وبخارجها مسجد بمقربة من البحر يأوي إليه غرباء المسلمين لأنه لا مسلم بهذه المدينة. ومرساها من أحسن المراسي، وماؤها عذب والفوفل بها كثير ومنها يحمل للهند والصين. وأكثر أهلها براهمة وهم مُعظمون عند الكفار مبغضون في المسلمين ولذلك ليس بينهم مسلم. (و) أخبرت أن سبب تركهم هذا المسجد غير مهدوم أن أحد البراهمة خرب سقفه ليصنع منه سقفا لبيته فاشتعلت النار في بيته فأحرق هو وأولاده ومتاعه، فاحترموا هذا المسجد ولم يتعرضوا له بسوء بعدها وخدموه وجعلوا بخارجه الماء يشرب منه الصادر والوارد وجعلوا على بابه شبكة لئلا يدخله الطير..
ثالثا: الصين
الطريق إلى الصين وسطوة البحر (2)
ولما حان وقت السفر إلى الصين جهز لنا السلطان السامري جنكا من الجنوك الثلاثة عشر التي بمرسى “قالقوط”. وكان وكيل الجنك يسمى بسليمان الصفدي الشامي وبيني وبينه معرفة. فقلت له: أريد مصرية لا يشاركني فيها أحد لأجل الجواري ومن عادتي أن لا أسافر إلا بهن. فقال: إن تجار الصين قد اكتروا المصاري ذاهبين وراجعين ولصهري مصرية أعطيكها لكنها لا سنداس فيها وعسى أن تمكن معاوضتها. فأمرت أصحابي فأوسقوا ما عندي من المتاع وصعد العبيد والجواري إلى الجنك وذلك في يوم الخميس وأقمت لأصلي الجمعة وألحق بهم. وصعد الملك سنبل وظهير الدين مع الهدية. ثم إن فتى لي يسمى بهلال أتاني غدوة الجمعة فقال: إن المصرية التي أخدناها بالجنك ضيقة لا تصلح، فذكرت ذلك للناخوذة فقال: ليس في ذلك حيلة فإن أحببت أن تكون في الككم ففيه المصاري على اختيارك فقلت: نعم. وأمرت أصحابي فنقلوا الجواري والمتاع إلى الككم واستقروا به قبل صلاة الجمعة. وعادة هذا البحر أن يشتد هيجانه كل يوم بعد العصر فلا يستطيع أحد ركوبه. وكانت الجنوك قد سافرت ولم يبق منها إلا الذي فيه الهدية.. فبتنا ليلة السبت على الساحل لا نستطيع الصعود إلى الككم ولا يستطيع من فيه النزول إلينا. ولم يكن بقي معي إلا بساط أفترشه. وأصبح الجنك والككم يوم السبت على بعد من المرسى. ورمى البحر بالجنك الذي كان أهله يريدون فندرينا فتكسر ومات بعض أهله وسلم بعضهم، وكانت فيه جارية لبعض التجار عزيزة عليه فرغب في إعطاء عشرة دنانير ذهبا لمن يخرجها وكانت قد التزمت خشبة في مؤخر الجنك فانتدب لذلك بعض البحرية الهرمزيين فأخرجها وأبى أن يأخذ الدنانير وقال: إنما فعلت ذلك لله تعالى. ولما كان الليل رمى البحر بالجنك الذي كانت فيه الهدية فمات جميع من فيه ونظرنا عند الصباح إلى مصارعهم ورأيت ظهير الدين قد انشق رأسه وتناثر دماغه والملك سنبل قد ضرب مسمار في أحد صدغيه ونفذ من الآخر وصلينا عليهما ودفناهما..
حبة عنب (4)
ولما رأى أهل الككم ما حدث عن الجنك رفعوا قلعهم وذهبوا ومعهم جميع متاعي وغلماني وجواري وبقيت منفردا على الساحل ليس معي إلا فتى كنت أعتقته فلما رأى ما حل بي ذهب عني ولم يبق عندي إلا العشرة الدنانير التي أعطانيها الجوكي والبساط الذي كنت أفترشه. وأخبرني الناس أن ذلك الككم لا بد له أن يدخل مرسى “كولم” فعزمت على السفر إليها وبينهما مسيرة عشر في البر أو في النهر أيضا لمن أراد ذلك. فسافرت في النهر واكتريت رجلا من المسلمين يحمل لي البساط وعادتهم إذا سافروا في ذلك النهر أن ينزلوا بالعشي فيبيتوا بالقري التي على حافتيه ثم يعودوا إلى المركب بالغدو فكنا نفعل ذلك ولم يكن بالمركب مسلم إلا الذي اكتريته وكان يشرب الخمر عند الكفار إذا نزلنا ويعربد إلي فيزيد خاطري.. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى مدينة كَولَم.. وتجارها يعرفون بالصُوليين لهم أموال عريضة يشتري أحدهم المركب بما فيه ويوسقه من داره بالسلع. وبها من التجار المسلمين جماعة كبيرهم علاء الدين الآوجي من أهل آوة من بلاد العراق وهو رافضي ومعه أصحاب له على مذهبه وهو يظهرون ذلك. وقاضيها فاضل من أهل قزوين.. (وسلطانها) كافر يعرف بالتَيرَوَرِي وهو معظم للمسلمين وله أحكام شديدة على السراق والدعار. ومما شاهدت بكولم أن بعض الرماة العراقيين قتل آخر منهم وفر إلى دار الآوجي وكان له مال كثير وأراد المسلمون دفن المقتول فمنعهم نواب السلطان من ذلك وقالوا: لا يدفن حتى تدفعوا لنا قاتله فيقتل به وتركوه في تابوته على باب الآوجي حتى أنتن وتغير فمكنهم الآوجي من القاتل ورغب منهم أن يعطيهم أمواله ويتركوه حيا فأبوا ذلك وقتلوه وحينئذ دفن المقتول. (و) أخبرت أن السلطان كولم ركب يوما إلى خارجها وكان طريقه فيما بين البساتين ومعه صهره زوج بنته وهو من أبناء الملوك فأخذ حبة واحدة من العنبة سقطت من بعض البساتين وكان السلطان ينظر إليه فأمر به عند ذلك فوسط وقسم نصفين وصلب نصفه عن يمين الطريق ونصفه الآخر عن يساره وقسمت حبة العنبة نصفين فوضع على كل نصف منه نصف منها وترك هنالك عبرة للناظرين. ومما اتفق نحو ذلك بقالقوط أن ابن أخي النائب عن سلطانها غصب سيفا لبعض تجار المسلمين فشكا بذلك إلى ابن عمه فوعده بالنظر في أمره وقعد على باب داره فإذا بابن أخيه متقلد ذلك السيف فدعاه فقال: هذا سيف المسلم؟ قال: نعم، قال: اشتريته منه؟ قال: لا، فقال لأعوانه: أمسكوه ثم أمر به فضربت عنقه بذلك السيف..
وقت ثمين (1)
وأردت أن أعود من “كولم” إلى السلطان لأعلمه بما اتفق على الهدية ثم خفت أن يتعقب فعلي ويقول لم فارقت الهدية؟ فعزمت على العودة إلى السلطان جمال الدين الهنوري وأقيم عنده حتى أتعرف خبر الككم.. فسافرت بالبحر من “قالقوط” وذلك آخر فصل السفر فيه فكنا نسير نصف النهار الأول ثم نرسو إلى الغد ولقينا في طريقنا أربعة أجفان غزوية فخفنا منها ثم لم يتعرضوا لنا بشر . ووصلنا إلى مدينة “هنور” فنزلت إلى السلطان وسلمت عليه فأنزلني بدار ولم يكن لي خديم وطلب مني أن أصلي معه الصلوات فكان أكثر جلوسي في مسجده وكنت أختم القرآن كل يوم ثم كنت أختم مرتين في اليوم أبتدئ القراءة بعد صلاة الصبح فأختم عند الزوال وأجدد الوضوء وأبتدء القراءة فأبتدئ الختمة الثانية عند الغروب ولم أزل كذلك مدة ثلاثة أشهر واعتكفت فيها أربعين يوما. وكان السلطان جمال الدين قد جهز اثنين وخمسين مركبا وسفرته برسم غزو سندابور وكان وقع بين سلطانها وولده خلاف فكتب ولده إلى السلطان جمال الدين أن يتوجه لفتح سندابور ويسلم الولد المذكور ويزوجه السلطان أخته. فلما تجهزت المراكب ظهر لي أن أتوجه فيها إلى الجهاد. ففتحت المصحف أنظر فيه فكان في أول الصفح يذكر فيه اسم الله كثيرا “ولينصرن الله من ينصره” فاستبشرت بذلك. وأتى السلطان إلى صلاة العصر فقلت له: إني أريد السفر، فقال: فأنت إذا تكون أميرهم فأخبرته بما خرج لي في أول الصفح فأعجبه ذلك وعزم على السفر بنفسه ولم يكن ظهر له ذلك من قبل فركب مركبا منها وأنا معه وذلك في يوم السبت فوصلنا عشي الاثنين إلى سندابور ودخلنا خورها فوجدنا أهلها مستعدين للحرب وقد نصبوا المجانيق فبتنا عليها تلك الليلة فلما أصبح ضربت الطبول والأنفار والأبواق وزحفت المراكب ورموا عليها بالمجانيق فلقد رأيت حجرا أصاب بعض الواقفين بمقربة من السلطان ورمى أهل المراكب أنفسهم في الماء وبأيديهم الترسة والسيوف ونزل السلطان إلى العكيري وهو شبه الشلير ورميت بنفسي في الماء في جملة الناس. وكان عندنا طريدتان مفتوحتا المواخر فيها الخيل وهي بحيث يركب الفارس فرسه في جوفها ويتدرع ويخرج. ففعلوا ذلك وأذن الله في فتحها وأنزل النصر على المسلمين فدخلنا بالسيف ودخل معظم الكفار في قصر سلطانها فرمينا النار فيه فخرجوا وقبضنا عليهم ثم إن السلطان أمنهم ورد لهم نساءهم وأولادهم وكانوا نحو عشرة آلاف وأسكنهم بربض المدينة وسكن السلطان القصر وأعطى الديار بمقربة منه لأهل دولته وأعطاني جارية منهن تسمى “بلكي” فسميتها مباركة وأراد زوجها فداءها فأبيت، وكساني فرجية مصرية وجدت في خزائن الكافر..
نساء مطيعات (6)
وعزمت على السفر إلى “ذيبة المَهَل” وكنت أسمع بأخبارها.. وذيبة على لفظ مؤنث الذيب، وهذه الجزائر إحدى عجائب الدنيا وهي نحو ألفي جزيرة ويكون منها مائة فما دونها مجتمعات مستديرة كالحلقة لها مدخل كالباب لا تدخل المراكب إلا منه وإذا وصل المركب إلى إحداها فلا بد له من دليل من أهلها يسير به إلى سائر الجزائر وهي من التقارب بحيث تظهر رؤوس النخل التي بإحداها عند الخروج من الأخرى فإن أخطأ المركب سمتها لم يمكنه دخولها وحملته الريح إلى المعبر أو سيلان. وهذه الجزائر أهلها كلهم مسلمون ذوو ديانة وصلاح وهي منقسمة إلى أقاليم على كل إقليم وال يسمونه الكردوبي.. وللسمك الذي يغتذون به قوة عجيبة في الباءة لا نظير لها ولأهل هذه الجزائر عجب في ذلك، ولقد كان لي بها أربع نسوة وجوار سواهن فكنت أطوف على جميعهن كل يوم وأبيت عند من تكون ليلتها، وأقمت بها سنة ونصف أخرى على ذلك.. وأهل هذه الجزائر أهل صلاح وديانة وإيمان صحيح ونية صادقة أكلهم حلال دعاؤهم مجاب.. وأبدانهم ضعيفة ولا عهد لهم بالقتال والمحاربة وسلاحهم الدعاء. ولقد أمرت مرة بقطع يد سارق بها فغشي على جماعة منهم كانوا بالمجلس. ولا تطرقهم لصوص الهند ولا تذرعهم لأنهم جربوا أن من أخذ لهم شيئا أصابته مصيبة عاجلة. وإذا أتت أجفان العدو إلى ناحيتهم أخذوا من وجدوا من غيرهم ولم يتعرضوا لأحد منهم بسوء وإن أخذ أحد الكفار ولو ليمونة عاقبه أمير الكفار وضربه الضرب المبرح خوفا من عاقبة ذلك ولولا هذا لكانوا أهون الناس على قاصدهم بالقتال لضعف بنيتهم. وفي كل جزيرة من جزائرهم المساجد الحسنة وأكثر عمارتهم بالخشب وهم أهل نظافة وتنزه عن الأقذار وأكثرهم يغتسلون مرتين في اليوم تنظفا لشدة الحر بها وكثرة العرق.. ومن عوائدهم إذا قدم عليهم مركب أن تخرج إليه الكنادر وهي القوارب الصغار واحدها كُندُرة وفيها أهل الجزيرة معهم التنبول أو الكرنبة وهو جوز النارجيل الأخضر فيعطي الإنسان منهم ذلك لمن شاء من أهل المركب ويكون نزيله ويحمل أمتعته إلى داره كأنه بعض أقربائه. ومن أراد التزوج من القادمين عليهم تزوج فإذا حان سفره طلق المرأة لأنهن لا يخرجن عن بلادهن. ومن لم يتزوج فالمرأة التي ينزل بدارها تطبخ له وتخدمه وتزوده إذا سافر وترضى منه في مقابلة ذلك بأيسر شيء من الإحسان.. وصرف أهل الجزائر الودع وهو حيوان يلتقطونه في البحر ويضعونه في حفر هنالك فيذهب لحمه ويبقى عظمه أبيض.. وهو أيضا صرف أهل بلاد بنجالة ويبيعونه من أهل اليمن فيجعلونه عوض الرمل في مراكبهم. وهذا الودع أيضا هو صرف السودان في بلادهم رأيته يباع بمالي وجوجو بحساب ألف وخمسين للدينار الذهبي. ونساؤها لا يغطين رؤوسهن ولا سلطانتهم تغطي رأسها ويمشطن شعورهن ويجمعنها إلى جهة واحدة ولا يلبسن أكثرهن إلا فوطة واحدة تسترها من السرة إلى أسفل وسائر أجسادهن مكشوفة وكذلك يمشين في الأسواق وغيرها. ولقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس فلم أستطع ذلك فكنت لا تدخل إلي منهن امرأة في خصومة إلا مسترة الجسد وما عدا ذلك لم تكن عليه قدرة.. ومن عجيب أفعالهن أنهن يؤجرن أنفسهن للخدمة بالديار على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونها وعلى مستأجرهن نفقتهن ولا يرين ذلك عيبا ويفعله أكثر بناتهم فتجد في دار الإنسان الغني منهن العشرة والعشرين وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته وإذا أرادت الخروج من دار إلى دار أعطاها أهل الدار التي تخرج إليها العدد الذي هي مرتهنة فيه فتدفعه لأهل الدار التي خرجت منها ويبقى عليها للآخرين، وأكثر شغل هؤلاء المسأجرات غزل القنبر. والتزوج بهذه الجزائر سهل لنزارة الصداق وحسن معاشرة النساء وأكثر الناس لا يسمي صداقا، إنما تقع الشهادة ويعطى صداق مثلها. وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء فإذا أرادوا السفر طلقوهن وذلك نوع من نكاح المتعة وهن لا يخرجن عن بلادهن أبدا ولم أر في الدنيا أحسن معاشرة منهن، ولا تكل المرأة عندهم خدمة زوجها لسواها بل هي تأتيه بالطعام وترفعه بين يديه وتغسل يده وتأتيه بالماء للوضوء وتغم رجليه عند النوم. ومن عوائدهن أن لا تأكل المرأة مع زوجها ولا يعلم الرجل ما تأكله المرأة، ولقد تزوجت بها نسوة فأكل معي بعضهن بعد محاولة، وبعضهن لم تأكل معي ولا استطعت أن أراها تأكل ولا نفعتني حيلة في ذلك..
الجارية والعفريت (3)
حدثني الثقات من أهلها كالفقيه عيسى اليمني.. أن أهل هذه الجزائر كانوا كفارا وكان يظهر لهم في كل شهر عفريت من الجن يأتي ناحية البحر كأنه مركب مملوء بالقناديل. وكانت عادتهم إذا رأوه أخذوا جارية بكرا فزينوها وأدخلوها إلى بدخانة وهي بيت الأصنام وكان مبنيا على ضفة البحر وله طاق ينظر إليه ويتركونها هنالك ليلة ثم يأتون عند الصباح فيجدونها مفتضة ميتة. ولا يزالون في كل شهر يقترعون بينهم فمن أصابته القرعة أعطى بنته. ثم إنهم قدم عليهم مغربي يسمى بأبي البركات البربري وكان حافظا للقرآن العظيم فنزل بدار عجوز منهم بجزيرة المهل فدخل عليها يوما وقد جمعت أهلها وهن يبكين كأنهن في مأتم فاستفهمهن عن شأنهن فلم يفهمنه فأتى ترجمان فأخبره أن العجوز كانت القرعة عليها وليس لها إلا بنت واحدة يقتلها العفريت فقال لها أبو البركات: أنا أتوجه عوضا من بنتك بالليل وكان سناطا لا لحية له فاحتملوه تلك الليلة وأدخلوه إلى بدخانة وهو متوضئ وأقام يتلو القرآن ثم ظهر له العفريت من الطاق فداوم التلاوة فلما كان منه بحيث يسمع القراءة غاص في البحر وأصبح المغربي وهو يتلو على حاله فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها فوجدوا المغربي يتلو، فمضوا به إلى ملكهم وكان يسمى شَنُورازة وأعلموه بخبره فعجب وعرض المغربي عليه الإسلام ورغبه فيه فقال له أقم عندنا إلى الشهر الآخر فإن فعلت كفعلك ونجوت من العفريت أسلمت فأقام عندهم وشرح الله صدر الملك للإسلام فأسلم قبل تمام الشهر وأسلم أهله وأولاده وأهل دولته، ثم حمل المغربي لما دخل الشهر إلى بدخانة ولم يأت العفريت فجعل يتلو حتى الصباح وجاء السلطان والناس معه فوجدوه على حاله من التلاوة فكسروا الأصنام وهدموا بدخانة وأسلم أهل الجزيرة وبعثوا إلى سائر الجزائر فأسلم أهلها، وأقام المغربي عندهم معظما وتمذهبوا بمذهبه مذهب الإمام مالك رضي الله عنه وهم إلى هذا العهد يعظمون المغاربة بسببه وبنى مسجدا هو معروف باسمه.. وبسبب هذا العفريت خرب من هذه الجزائر كثير قبل الإسلام ولما دخلناها لم يكن لي علم بشأنه فبينا أنا ذات ليلة في بعض شأني إذ سمعت الناس يجهرون بالتهليل والتكبير ورأيت الأولاد وعلى رؤوسهم المصاحف والنساء يضربن في الطسوت وأواني النحاس فعجبت من فعلهم وقلت ما شأنكم؟ فقالوا: ألا تنظر إلى البحر؟ فنظرت فإذا مثل المركب الكبير وكأنه مملوء سرجا ومشاعل. فقالوا: ذلك العفريت وعادته أن يظهر مرة في الشهر فاذا فعلنا ما رأيت انصرف عنا ولم يضرنا..
ومن عجائبها أن سلطانتها امرأة وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر ابن السلطان صلاح الدين صالح البنجالي.. وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدة معوجة شبه السكين ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم..
صوفية يأكلون النار (1،s)
وفي اليوم العاشر وصلنا إلى جزيرة “المهل” حيث السلطانة وزوجها وأرسينا بمرساها وعادتهم أن لا ينزل أحد من المرسى إلا بإذنهم فأذنوا لنا بالنزول وأردت التوجه إلى بعض المساجد فمنعني الخدام الذين بالساحل وقالوا: لا بد من الدخول إلى الوزير وكنت أوصيت الناخوذة أن يقول إذا سئل عني: لا أعرفه خوفا من إمساكهم إياي (للقضاء لأنهم بلا قاضي) ولم أعلم أن بعض أهل الفضول قد كتب إليهم معرفا بخبري وأني كنت قاضيا بدهلي.. وفي التاسع من شهر رمضان مات صهر الوزير زوج بنته وكانت قبله عند السلطان شهاب الدين ولم يدخل بها أحد منهما لصغرها فردها أبوها لداره وأعطاني دارها وهي من أجمل الدور واستأذنته في ضيافة الفقراء القادمين من زيارة القدم فأذن لي في ذلك.. واستأذنته في حضور بعض الوزراء بتلك الضيافة فقال لي: وأنا أحضر أيضا، فشكرته وانصرفت إلى داري فإذا به قد جاء ومعه الوزراء وأرباب الدولة فجلس في قبة خشب مرتفعة، وكان كل من يأتي من الأمراء والوزراء يسلم على الوزير ويرمي بثوب غير مخيط (وهي عادتهم عند السلام) حتى اجتمع مائة ثوب أو نحوها فأخذها الفقراء، وقدم الطعام فأكلوا ثم قرأ القراء بالأصوات الحسان ثم أخذوا في السماع والرقص، وأعدت النار فكان الفقراء يدخلونها ويطؤونها بالأقدام ومنهم من يأكلها كما تؤكل الحلواء إلى أن خمدت. ولما تمت الليلة انصرف الوزير ومضيت معه فمررنا ببستان للمخزن فقال لي الوزير: هذا البستان لك وسأعمر لك فيه دارا لسكناك فشكرت فعله ودعوت له، ثم بعث لي من الغد بجارية وقال لي خديمه يقول لك الوزير إن أعجبتك هذه فهي لك وإلا بعثت لك جارية مرهتية، وكانت الجواري المرهتيات تعجبني فقلت له إنما أريد المرهتية فبعثها لي وكان اسمها “قل استان” ومعناه زهر البستان وكانت تعرف اللسان الفارسي فأعجبتني. وأهل تلك الجزائر لهم لسان لم أكن أعرفه ثم بعث إلي في غد ذلك بجارية معبرية تسمى عنبري..
إشتراط (1)
ذكر تغيره وما أردته من الخروج ومقامي بعد ذلك: وكان الوزير سليمان مانايك قد بعث إلي أن أتزوج بنته فبعثت إلى الوزير جمال الدين مستأذنا في ذلك فعاد إلي الرسول وقال: لم يعجبه ذلك وهو يحب أن يزوجك بنته إذا انقضت عدتها فأبيت أنا ذلك وخفت من شؤمها لأنه مات تحتها زوجان قبل الدخول وأصابتني أثناء ذلك حمى مرضت بها ولا بد لكل من يدخل تلك الجزيرة أن يحم، فقوي عزمي على الرحلة عنها فبعت بعض الحلي بالودع واكتريت مركبا أسافر فيه لبنجالة. فلما ذهبت لوداع الوزير خرج إلي القاضي فقال الوزير يقول لك إن شئت السفر فأعطنا ما أعطيناك وسافر، فقلت له إن بعض الحلي اشتريت به الودع فشأنكم وإياه فعاد إلي فقال يقول إنما أعطيناك الذهب ولم نعطك الودع، فقلت له أنا أبيعه وآتيكم بالذهب فبعثت إلى التجار ليشتروه مني فأمرهم الوزير أن لا يفعلوا وقصده بذلك كله أن لا أسافر عنه. ثم بعث إلي أحد خواصه وقال الوزير يقول لك أقم عندنا ولك كل ما أحببت فقلت في نفسي أنا تحت حكمهم وإن لم أقم مختارا أقمت مضطرا فالإقامة باختياري أولى وقلت لرسوله نعم أنا أقيم معه فعاد إليه ففرح بذلك واستدعاني فلما دخلت إليه قام إلي وعانقني وقال نحن نريد قربك وأنت تريد البعد عنا، فاعتذرت له فقبل عذري، وقلت له إن أردتم مقامي فأنا اشترط عليكم شروطا فقال نقبلها فاشترط فقلت له أنا لا أستطيع المشي على قدمي ومن عادتهم أن لا يركب أحد هناك إلا الوزير ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته يتبعني الناس رجالا وصبيانا يعجبون مني حتى شكوت له فضربت الدُنٌقرَة (الطست من النحاس تضرب بحديدة) وبرح في الناس أن لا يتبعني أحد.. فقال لي الوزير إن أردت أن تركب الدولة وإلا فعندنا حصان ورمكة فاختر أيهما شئت فاخترت الرمكة فأتوني بها في تلك الساعة وأتوني بكسوة..
زوجة مسرورة (1)
ذكر تزوجي وولايتي القضاء: وفي الثاني من شوال اتفقت مع الوزير سليمان مانايك على تزوج بنته فبعثت إلى الوزير جمال الدين أن يكون عقد النكاح بين يديه بالقصر فأجاب إلى ذلك وأحضر التنبول على العادة والصندل وحضر الناس وأبطأ الوزير سليمان فاستدعي فلم يأت ثم استدعي ثانية فاعتذر بمرض البنت، فقال لي الوزير سرا إن بنته امتنعت وهي مالكة أمر نفسها والناس قد اجتمعوا فهل لك أن تتزوج بربيبة السلطان زوجة أبيها وهي التي ولده متزوج بنتها؟ فقلت له: نعم. فاستدعى القاضي والشهود ووقعت الشهادة ودفع الوزير الصداق.. فكانت من خيار النساء وبلغ حسن معاشرتها أنها كانت إذا تزوجت عليها تطيبني وتبخر أثوابي وهي ضاحكة لا يظهر عليها تغير. ولما تزوجتها أكرهني الوزير على القضاء.. فلما وليت اجتهدت جهدي في إقامة رسوم الشرع. وليست هنالك خصومات كما هي ببلادنا. فأول ما غيرت من عوائد السوء مكث المطلقات في ديار المطلقين وكانت إحداهن لا تزال في دار المطلق حتى تتزوج غيره فحسمت علة ذلك. وأتي إلي بنحو خمسة وعشرين رجلا ممن فعل ذلك فضربتهم وشهرتهم بالأسواق وأخرجت النساء عنهم ثم اشتددت في إقامة الصلوات وأمرت الرجال بالمبادرة إلى الأئمة والأسواق إثر صلاة الجمعة فمن وجدوه لم يصل ضربته وشهرته وألزمت الأئمة والمؤذنين أصحاب المرتبات المواظبة على ما هم بسبيله وكتبت إلى جميع الجزائر بنحو ذلك وجهدت أن أكسو النساء فلم أقدر على ذلك..
صداقة ووحشة (1)
ذكر قدوم الوزير عبد الله بن محمد الخضرمي الذي نفاه السلطان شهاب الدين إلى السويد وما وقع بيني وبينه: كنت قد تزوجت ربيبته بنت زوجته وأحببتها حبا شديدا. ولما بعث الوزير عنه ورده إلى جزيرة المهل بعثت له التحف وتلقيته ومضيت معه إلى القصر فسلم على الوزير وأنزله في دار جيدة فكنت أزوره بها. واتفق أن اعتكفت في رمضان فزارني جميع الناس إلا هو، وزارني الوزير جمال الدين فدخل هو معه بحكم الموافقة فوقعت بيننا الوحشة. فلما خرجت من الاعتكاف شكا إلي أخوال زوجتي ربيبته أولاد الوزير جمال الدين السنجري فإن أباهم أوصى عليهم الوزير عبد الله وأن مالهم باق بيده وقد خرجوا عن حجره بحكم الشرع وطلبوا إحضاره بمجلس الحكم وكانت عادتي إذا بعثت عن خصم من الخصوم أبعث له قطعة كاغد مكتوبة فعندما يقف عليها يبادر إلى مجلس الحكم الشرعي وإلا عاقبته، فبعثت إليه على العادة فأغضبه ذلك وحقدها لي وأضمر عداوتي ووكل من يتكلم عنه وبلغني عنه كلام قبيح. وكانت عادة الناس من صغير وكبير أن يخدموا له كما يخدمون للوزير جمال الدين وخدمتهم أن يوصلوا السبابة إلى الأرض ثم يقبلونها ويضعونها على رؤوسهم فأمرت المنادي فنادى بدار السلطان على رؤوس الأشهاد أنه من خدم للوزير عبد الله كما يخدم للوزير الكبير لزمه العقاب الشديد وأخذت عليه أن لا يترك الناس لذلك فزادت عداوته. وتزوجت أيضا زوجة أخرى بنت وزير معظم عندهم كان جده السلطان داود حفيد السلطان أحمد شنورازة ثم تزوجت زوجة كانت تحت السلطان شهاب الدين، وعمرت ثلاث ديار بالبستان الذي أعطانيه الوزير وكانت الرابعة هي ربيبة الوزير عبد الله تسكن في دارها وهي أحبهن إلي، فلما صاهرت من ذكرته هابني الوزير وأهل الجزيرة وتخوفوا مني لأجل ضعفهم وسعوا بيني وبين الوزير بالنمائم وتولى الوزير عبد الله كبر ذلك حتى تمكنت الوحشة. واتفق في بعض الأيام أن عبدا من عبيد السلطان شكته زوجته إلى الوزير وأعلمته أنه عند سرية من سراري السلطان يزني بها فبعث الوزير الشهود ودخلوا دار السرية فوجدوا الغلام نائما معها في فراش واحد وحبسوهما فلما أصبحت وعلمت بالخبر توجهت إلى المشور وجلست في موضع جلوسي لم أتكلم في شي من أمرها فخرج إلي بعض الخواص فقال: يقول لك الوزير: ألك حاجة؟ فقلت: لا، وكان قصده أن أتكلم في شأن السرية والغلام إذ كانت عادتي أن لا تقطع قضية إلا حكمت فيها فلما وقع التغير والوحشة قصرت في ذلك فانصرفت إلى داري بعد ذلك وجلست بموضع الأحكام فإذا ببعض الوزراء فقال الوزير: يقول لك إنه وقع البارحة كيت وكيت لقضية السرية والغلام فاحكم فيهما بالشرع فقلت له: هذه القضية لا ينبغي الحكم أن يكون فيها إلا بدار السلطان، فعدت إليها واجتمع الناس وأحضرت السرية والغلام فأمرت بضربهما في الخلوة وأطلقت سراح المرأة وحبست الغلام وانصرفت إلى داري فبعث الوزير إلى جماعة من كبراء ناسه في شأن تسريح الغلام فقلت لهم: أتشفعون في غلام زنجي يهتك حرمة مولاه؟ وأنتم بالأمس خلعتم السلطان شهاب الدين وقتلتموه بسبب دخوله لدار غلام له؟ وأمرت بالغلام عند ذلك فضرب بقضبان الخيزران وهي أشد وقعا من السياط وشهرته بالجزيرة وفي عنقه حبل فذهبوا إلى الوزير فأعلموه فقام وقعد واستشاط غضبا وجمع الوزراء ووجوه العسكر وبعث عني فجئته وكانت عادتي أن أخدم له فلم أخدم وقلت: سلام عليكم ثم قلت للحاضرين: اشهدوا علي أني قد عزلت نفسي عن القضاء لعجزي عنه فكلمني الوزير فصعدت وقعدت بموضع أقابله فيه وجاوبته أغلظ جواب. وأذن مؤذن المغرب فدخل إلى داره وهو يقول: ويقولون إني سلطان وها أنذا طلبته لأغضب عليه فغضب علي. وإنما كان اعتزازي عليهم بسبب سلطان الهند لأنهم تحققوا مكانتي عنده وإن كانوا على بعد منه فخوفه في قلوبهم متمكن. فلما دخلنا إلى داره بعث إلي القاضي المعزول وكان جريء اللسان فقال لي: إن مولانا يقول لك كيف هتكت حرمته على رؤوس الأشهاد ولم تخدم له؟ فقلت له: إنما كنت أخدم له حين كان قلبي له طيبا فلما وقع التغير تركت ذلك وتحية المسلمين إنما هي السلام وقد سلمت. فبعثه إلي ثانية فقال: إنما غرضك الرحيل عنا فأعط صداقات النساء وديون الناس وانصرف إذا شئت، فخدمت له على هذا القول وذهبت إلى داري فخلصت مما علي من الدين وقد أعطاني في تلك الأيام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها وكان يعطيني كل ما أطلبه ويحبني ويكرمني ولكنه غير خاطره وتخوف مني. فلما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على الرحيل ندم على ما قاله وتلكأ في الإذن لي في الرحيل فحلفت بالأيمان المغلظة أن لا بد من رحيلي ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر وطلقت إحدى الزوجات وكانت إحداهن حاملا فجعلت لها أجلا تسعة أشهر إن عدت فيها وإلا فأمرها بيدها. وحملت معي زوجتي التي كانت امرأة السلطان شهاب الدين لأسلمها لأبيها بجزيرة ملوك وزوجتي الأولى التي بنتها أخت السلطانة وتوافقت مع الوزير عمر دهرد والوزير حسن قائد البحر على أن أمضي إلى بلاد المعبر وكان ملكها سلفي فأبى مدها بالعساكر لترجع الجزائر إلى حكمه وأنوب أنا عنه فيها وجعلت بيني وبينهم علامة: رفع أعلام بيض في المراكب فإذا رأوها ثاروا في البحر ولم أكن حدثت نفسي بهذا قط حتى وقع ما وقع من التغير. وكان الوزير خائفا مني يقول للناس: لا بد لهذا أن يأخذ الوزارة إما في حياتي وإما بعد مماتي ويكثر السؤال عن حالي ويقول: سمعت أن ملك الهند بعث إليه الأموال ليثور بها علي، وكان يخاف من سفري لئلا آتي بالجيوش من بلاد المعبر فبعث إلي أن أقيم حتى يجهز لي مركبا فأبيت، وشكت أخت السلطانة إليها بسفر أمها معي فأرادت منعها فلم تقدر على ذلك فلما رأت عزمها على السفر قالت لها: إن جميع ما عندك من الحلي هو من مال البندر فإن كان لك شهود بأن جلال الدين وهبه لك وإلا فرديه وكان حليا له خطر فردته إليهم، وأتاني الوزراء والوجوه وأنا بالمسجد وطلبوا مني الرجوع فقلت لهم: لولا أني حلفت لعدت فقالوا: تذهب إلى بعض علماء الجزائر ليبر قسمك وتعود فقلت لهم: نعم، إرضاء لهم، فلما كانت الليلة التي سافرت فيها أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك الليلة يحرس الجزيرة بنفسه خوفا أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة وأحبت الرجوع فطلقتها وتركتها هنالك وكتبت للوزير بذلك لأنها أم زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل. وبعثت عن جارية كنت أحبها وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم..
حياة رغدة (5)
ووصلنا إلى جزيرة من تلك الجزائر ليس بها إلا دار واحدة فيها رجل حائك له زوجة وأولاد ونخيلات نارجيل وقارب صغير يصطاد فيه السمك ويسير إلى حيث أراد من الجزائر. وفي جزيرته أيضا شجيرات موز ولم نر فيها من طيور البر غير غرابين خرجا إلينا لما وصلنا الجزيرة وطافا بمركبنا فغبطت والله ذلك الرجل وودت أن لو كانت تلك الجزيرة لي فانقطعت فيها إلى أن يأتيني اليقين..
الأمان (1ـ7)
وسافرنا ولم يكن معنا رئيس عارف ومسافة ما بين الجزائر والمعبر ثلاثة أيام فسرنا نحو تسعة أيام وفي التاسع منها خرجنا إلى جزيرة سيلان ورأينا جبل سرنديب فيها ذاهبا في السماء كأنه عمود دخان ولما وصلناها قال البحرية: إن هذا المرسى ليس في بلاد السلطان الذي يدخل التجار إلى بلاده آمنين إنما هذا مرسى في بلاد السلطان “إيري شكروتي” وهو من العتاة المفسدين وله مراكب تقطع البحر فخفنا أن ننزل بمرساه ثم اشتدت الريح فخفنا الغرق فقلت للناخوذة: نزلني على الساحل وأنا آخذ لك الأمان من هذا السلطان ففعل ذلك وأنزلني بالساحل، فأتانا الكفار فقالوا: من أنتم؟ فأخبرتهم أني سلف سلطان المعبر وصاحبه جئت لزيارته وأن الذي في هذا المركب هدية له فذهبوا إلى سلطانهم فأعلموه بذلك فاستدعاني فذهبت له إلى مدينة “بَطالة”.. واسم (سلطان سيلان) إيري شكروتي وهو سلطان قوي في البحر رأيت مرة وأنا بالمعبر مائة مركب من مراكبه بين صغار وكبار.. ولما دخلت على هذا السلطان الكافر قام الي وأجلسني إلى جانبه وكلمني بأحسن كلام وقال: ينزل أصحابك على الأمان ويكونون في ضيافتي إلى أن يسافروا فإن سلطان المعبر بيني وبينه الصحبة ثم أمر بإنزالي فأقمت عدة ثلاثة أيام في إكرام عظيم متزايد في كل يوم وكان يفهم اللسان الفارسي ويعجبه ما أحدثه به عن الملوك والبلاد. ودخلت عليه يوماً وعنده جواهر كثيرة أتى بها من مغاص الجوهر الذي ببلاده وأصحابه يميزون النفيس منها من غيره فقال لي: هل رأيت مغاص الجوهر في البلاد التي جئت منها؟ فقلت له: نعم رأيته بجزيرة قيس وجزيرة كش التي لابن السواملي. فقال: سمعت بها ثم أخذت منه حبات فقال: أيكون في تلك الجزيرة مثل هذه؟ فقلت له: رأيت ما هو دونها فأعجبه ذلك وقال: هي لك، وقال لي: لا تستحي واطلب مني ما شئت فقلت له: ليس مرادي منذ وصلت هذه الجزيرة إلا زيارة القدم الكريمة قدم آدم عليه السلام، وهم يسمونه “بابا” ويسمون حواء “ماما”. قال: هذا هين نبعث معك من يوصلك، فقلت: ذلك أريد. ثم قلت له: وهذا المركب الذي جئت به يسافر آمنا إلى المعبر وإذا عدت أنا بعثتني في مراكبك فقال نعم، فلما ذكرت ذلك لصاحب المركب قال لي: لا أسافر حتى تعود ولو أقمت سنة بسببك فأخبرت السلطان بذلك فقال: يقيم في ضيافتي حتى تعود. فأعطاني دولة يحملها عبيده على أعناقهم وبعث معي أربعة من الجوكية الذين عادتهم السفر كل عام إلى زيارة القدم وثلاثة من البراهمة وعشرة من سائر أصحابه وخمسة عشر رجلاً يحملون الزاد وأما الماء فهو بتلك الطريق كثير.. ثم وصلنا بعد ذلك إلى مدينة “كُنكار”، وهي حضرة السلطان الكبير بتلك البلاد.. وبخارج هذه المدينة مسجد الشيخ عثمان الشيرازي المعروف بشاوُش وسلطان هذه المدينة وأهلها يزورونه ويعظمونه وهو كان الدليل إلى القدم فلما قطعت يده ورجله صار الأدلاء أولاده وغلمانه، وسبب قطعه أنه ذبح بقرة وحكم كفار الهنود أنه من ذبح بقرة ذبح كمثلها أو جعل في جلدها وحرق، وكان الشيخ عثمان معظماً فقطعوا يده ورجله وأعطوه مجبى بعض الأسواق.
الفيل الأبيض (3)
ذكر سلطان كنكار: وهو يعرف بالكُنَار وعنده الفيل الأبيض، ولم أر في الدنيا فيلاً أبيض سواه، يركبه في الأعياد ويجعل على جبهته أحجار الياقوت العظيمة. واتفق له أن قام عليه أهل دولته وسملوا عينيه وولوا ولده وهو هنالك أعمى.. وفي جزيرة سيلان يوجد الياقوت في جميع مواضعها.. وجميع النساء بجزيرة سيلان لهن القلائد من الياقوت الملون ويجعلنه في أيديهن وأرجلهن عوضاً من الأسورة والخلاخيل.. ثم رحلنا.. ونزلنا بالخور المعروف بخور بَوزنه وبوزنه هي القرود.
القرود (3)
والقرود بتلك الجبال كثيرة جداً وهي سود الألوان لها أذناب طوال ولذكورها لحى كما هي للآدميين. وأخبرني الشيخ عثمان وولده وسواهما أن هذه القرود لها مقدم تتبعه كأنه سلطان يشد على رأسه عصابة من أوراق الأشجار، يتوكأ على عصا ويكون عن يمينه ويساره أربعة من القرود ولها عصي بأيديها وأنه إذا جلس القرد المقدم تقف القرود الأربعة على رأسه: وتأتي أنثاه وأولاده فتقعد بين يديه كل يوم وتأتي القرود فتقعد على بعد منه ثم يكلمها أحد القرود الأربعة فتنصرف القرود كلها ثم يأتي كل فرد منها بموزة أو ليمونة أو شبه ذلك فيأكل القرد المقدم وأولاده والقرود الأربعة. وأخبرني بعض الجوكية أنه رأى القرود الأربعة بين يدي مقدمها وهي تضرب بعض القرود بالعصي ثم نتفت وبره بعد ضربه. وذكر لي الثقات أنه إذا ظفر قرد من هذه القرود بصبية لا تستطيع الدفاع عن نفسها جامعها. وأخبرني بعض أهل هذه الجزيرة أنه كان بداره قرد منها فدخلت بنت له بعض البيوت فدخل عليها فصاحت به فغلبها، قال: ودخلنا عليها وهو بين رجليها فقتلناه..
الخُف (4،7)
ذكر سلطان بلاد المعبر: هو غياث الدين الدامغاني.. تزوج بنت السلطان الشريف جلال الدين التي كنت متزوجاً أختها بدهلي.. ولما وصلنا إلى قرب من منزله بعث بعض الحجاب لتلقينا وكان قاعداً في برج خشب، وعادتهم بالهند أن لا يدخل أحد على السلطان دون خف ولم يكن عندي خف فأعطاني بعض الكفار خفاً وكان هنالك من المسلمين جماعة فعجبت من كون الكافر كان أتم مروءة منهم..
وحشية (2،7)
وكانت الأرض التي نسلكها غيضة واحدة من الأشجار والقصب بحيث لا يسلكها أحد فأمر السلطان أن يكون مع كل واحد ممن في الجيش من كبير وصغير قدوم لقطع ذلك، فإذا نزلت المحلة ركب إلى الغابة والناس معه فقطعوا تلك الأشجار من غدوة النهار إلى الزوال ثم يؤتى بالطعام فيأكل جميع الناس طائفة بعد أخرى ثم يعودون إلى قطع الأشجار إلى العشي وكل من وجدوه من الكفار في الغيضة أسروه، وصنعوا خشبة محددة الطرفين فجعلوها على كتفيه يحملها ومعه امرأته وأولاده ويؤتى بهم إلى المحلة، وعادتهم أن يصنعوا على المحلة سوراً من خشب يكون له أربعة أبواب ويسمونه الكَتٌكَر.. فإذا كان عند الصباح قسم الكفار المأسورون بالأمس أربعة أقسام وأتي إلى كل باب من أبواب الكتكر بقسم منهم فركزت بالخشب التي كانوا يحملونها بالأمس عنده ثم ركزوا فيها حتى تنفذهم ثم تذبح نساؤهم ويربطن بشعورهن إلى تلك الأخشاب ويذبح الأولاد الصغار في حجورهن ويتركون هنالك. وتنزل المحلة ويشتغلون بقطع غيضة أخرى ويصنعون بمن أسروه كذلك. وذلك أمر شنيع ما علمته لأحد من الملوك وبسببه عجل الله حينه. ولقد رأيته يوماً والقاضي عن يمينه وأنا عن شماله وهو يأكل معنا وقد أتي بكافر معه امرأته وولد سنه سبع فأشار إلى السيافين بيده أن يقطعوا رأسه ثم قال لهم: “وزن أو بسر أو” معناه: وابنه وزوجته، فقطعت رقابهم. وصرفت بصري عنهم فلما قمت وجدت رؤوسهم مطروحة بالأرض، وحضرت عنده يوماً وقد أتي برجل من الكفار فتكلم بما لم أفهمه فإذا بجماعة من الزبانية قد استلوا سكاكينهم فبادرت القيام فقال لي: إلى أين؟ فقلت: أصلي العصر، ففهم عني وضحك، وأمر بقطع يديه ورجليه فلما عدت وجدته متشحطا في دمائه.
هزيمة الكفار (2،7)
ذكر هزيمته للكفار وهي من أعظم فتوحات الإسلام: وكان فيما يجاور بلاده سلطان كافر يسمى بَلاَل دِيو وهو من كبار سلاطين الكفار يزيد عسكره على مائة ألف ومعه نحو عشرين ألفاً من المسلمين أهل الدعارة وذوي الجنايات والعبيد الفارين فطمع في الاستيلاء على بلاد المعبر وكان عسكر المسلمين بها ستة آلاف منهم النصف من الجياد والنصف الثاني لا خير فيهم ولا غناء عندهم، فلقوه بظاهر مدينة كبان فهزمهم ورجعوا إلى حضرة مترة ونزل الكافر على كبان وهي من أكبر مدنهم وأحصنها وحاصرها عشرة أشهر ولم يبق لهم من الطعام إلا قوت أربعة عشر يوماً فبعث لهم الكافر أن يخرجوا على الأمان ويتركوا له البلد فقالوا له: لا بد من مطالعة سلطاننا بذلك. فوعدهم إلى تمام أربعة عشر يوماً. فكتبوا إلى السلطان غياث الدين بأمرهم فقرأ كتابهم على الناس يوم الجمعة فبكوا وقالوا: نبيع أنفسنا من الله فإن الكافر إن أخذ تلك المدينة انتقل إلى حصارنا فالموت تحت السيوف أولى بنا، فتعاهدوا على الموت وخرجوا من الغد ونزعوا العمائم عن رؤوسهم وجعلوها في أعناق الخيل وهي علامة من يريد الموت وجعلوا ذوي النجدة والأبطال منهم في المقدمة وكانوا ثلاثمائة وجعلوا على الميمنة سيف الدين بهادور وكان فقيهاً ورعاً شجاعاً وعلى الميسرة الملك محمد السلحدار. وركب السلطان في القلب ومعه ثلاث آلاف وجعل الثلاثة الآلاف الباقين ساقة لهم وعليهم أسد الدين كيخسرو الفارسي وقصدوا محلة الكافر عند القايلة وأهلها على غرة وخيلهم في المرعى فأغاروا عليها وظن الكفار أنهم سراق فخرجوا إليهم على غير تعبية وقاتلوهم فوصل السلطان غياث الدين فانهزم الكفار شر هزيمة، وأراد سلطانهم أن يركب وكان ابن ثمانين سنة فأدركه ناصر الدين ابن أخي السلطان الذي ولي الملك بعده فأراد قتله ولم يعرفه فقال له أحد غلمانه: هو السلطان فأسره وحمله إلى عمه فأكرمه في الظاهر حتى جبى منه الأموال والفيلة والخيل وكان يعده السراح فلما استصفى ما عنده ذبحه وسلخه وملأ جلده بالتبن فعلق على سور مترة ورأيته بها معلقاً..
الوباء (2)
ثم رحلت إلى حضرته وهي مدينة مُتٌرَه، مدينة كبيرة متسعة الشوارع.. ولما قدمتها وجدت بها وباء يموت منه الناس موتاً ذريعاً فمن مرض مات من ثاني يوم مرضه أو ثالثه وإن أبطأ موته فإلى الرابع. فكنت إذا خرجت لا أرى إلا مريضاً أو ميتاً. واشتريت بها جارية على أنها صحيحة فماتت في يوم آخر. ولقد جاءت إلي في بعض الأيام امرأة كان زوجها من وزراء السلطان أحسن شاه ومعها ابن لها سنه ثمانية أعوام نبيل كيس فطن فشكت ضعف حالها فأعطيتهما نفقة وهما صحيحان سويان فلما كان من الغد جاءت تطلب لولدها كفناً وإذا به قد توفي من حينه. وكنت أرى بمشور السلطان حين مات المئتين من الخدم اللاتي أتي بهن لدق الأرز المعمول منه الطعام لغير السلطان وهن مريضات قد طرحن أنفسهن في الشمس. ولما دخل السلطلن مترة وجد أمه وامرأته وولده مرضى فأقام بالمدينة ثلاثة أيام ثم خرج إلى نهر على فرسخ منها كانت عليه كنيسة للكفار وخرجت إليه في يوم خميس فأمر بإنزالي إلى جانب القاضي فلما ضربت لي الأخبية رأيت الناس يسرحون ويموج بعضهم في بعض فمن قائل: إن السلطان مات، ومن قائل: إن ولده هو الميت. ثم تحققنا ذلك فكان الولد هو الميت ولم يكن له سواه فكان موته مما زاد في مرضه وفي الخميس بعده توفيت أم السلطان.. وفي الخميس الثالث توفي السلطان غياث الدين وشعرت بذلك فباردت الدخول إلى المدينة خوف الفتنة ولقيت ناصر الدين ابن أخيه الوالي بعده خارجاً إلى المحلة قد وجه عنه إذ ليس للسلطان ولد فطلب إلي الرجوع معه فأبيت وأثر ذلك في قلبه. وكان ناصر الدين هذا خديماً بدهلي قبل أن يملك عمه فلما ملك عمه هرب في زي الفقراء إليه فكان من القدر ملكه بعده. ولما بويع مدحته الشعراء فأجزل لهم العطاء.. ثم إن السلطان ناصر الدين قتل ابن عمته المتزوج بنت السلطان غياث الدين وتزوجها بعده. وبلغه أن الملك مسعوداً زاره في محبسه قبل موته فقتله أيضاً وقتل الملك بهادور وكان من الشجعان الكرماء الفضلاء وأمر لي بجميع ما كان عينه عمه من المراكب برسم الجزائر. ثم أصابتني الحمى القاتلة هنالك فظننت أنها القاضية وألهمني الله إلى التمر الهندي وهو هنالك كثير فأخذت نحو رطل منه وجعلته في الماء ثم شربته فأسهلني ثلاثة أيام وعافاني الله من مرضي فكرهت تلك المدينة وطلبت الإذن في السفر..
المسلوب (1)
ولما وصلنا إلى الجزيرة الصغرى بين هنور وفاكنور خرج علينا الكفار في يوم اثني عشر مركباً حربياً وقاتلونا قتالاً شديداً وتغلبوا علينا فأخذوا جميع ما عندي مما كنت أدخره للشدائد وأخذوا الجواهر واليواقيت التي أعطانيها ملك سيلان وأخذوا ثيابي والزرادات التي كانت عندي مما أعطانيه الصالحون والأولياء ولم يتركوا لي ساتراً خلا السراويل، وأخذوا ما كان لجميع الناس وأنزلونا بالساحل فرجعت إلى قالقوط فدخلت بعض المساجد. فبعث إلي أحد الفقهاء بثوب وبعث القاضي بعمامة وبعث بعض التجار بثوب آخر. وتعرفت هنالك بتزوج الوزير عبد الله بالسلطانة خديجة بعد موت الوزير جمال الدين وبأن زوجتي التي تركتها حاملاً ولدت ولداً ذكراً فخطر لي السفر إلى الجزائر، وتذكرت العداوة التي بيني وبين الوزير عبد الله ففتحت المصحف، فخرج لي “تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا ” فاستخرت الله وسافرت.
إستقبال فاتر (6)
فوصلت بعد عشرة أيام إلى جزائر ذيبة المهل.. ومر بعض أهل الجزيرة إلى الوزير عبد الله فأعلموه بقدومي فسأل عن حالي وعمن قدم معي وأخبر أني جئت برسم حمل ولدي وكان سنه نحو عامين وأتته أمه تشكو من ذلك فقال لها: أنا لا أمنعه من حمل ولده.. وصادرني في دخول الجزيرة وأنزلني بدار تقابل برج قصره ليتطلع على حالي. وبعث إلي بكسوة كاملة وبالتنبول وماء الورد على عادتهم. وجئت بثوبي حرير للرمي عند السلام فأخذوهما ولم يخرج الوزير إلي ذلك اليوم. وأتي إلي بولدي فظهر لي أن إقامته معهم خير له فرددته إليهم وأقمت خمسة أيام وظهر لي أن تعجيل السفر أولى فطلبت الإذن في ذلك فاستدعاني الوزير ودخلت عليه وأتوني بالثوبين اللذين أخذوهما مني فرميتهما عند السلام على العادة وأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي وأكلت معه الطعام وغسلت يدي معه في الطست وذلك شيء لا يفعله مع أحد. وأتوا بالتنبول وانصرفت وبعث إلي بأثواب وبساتي من الودع وأحسن في أفعاله وأجمل.
تمتع (6)
وسافرت فأقمنا على ظهر البحر ثلاثاً وأربعين ليلة ثم وصلنا إلى بلاد بَنٌجالَة وهي بلاد متسعة كثيرة الأرز ولم أر في الدنيا أرخص أسعاراً منها لكنها مظلمة وأهل خراسان يسمونها “دوزخست” معناه جهنم ملأى بالنعم.. ورأيت الدجاج السمان تباع بحساب ثمانٍ بدرهم واحد.. ورأيت الكبش السمين يباع بدرهمين.. ورأيت ثوب القطن الرقيق الجيد الذي ذرعه ثلاثون ذراعاً يباع بدينارين ورأيت الجارية المليحة للفراش تباع بدينار من الذهب الواحد وهو ديناران ونصف دينار من الذهب المغربي واشتريت بنحو هذه القيمة جارية تسمى عاشورة وكان لها جمال بارع واشترى بعض أصحابي غلاماً صغير السن حسناً اسمه لؤلؤ بدينارين من الذهب..
كفران نعمة (2)
ذكر سلطان بنجالة: وهو السلطان فخر الدين الملقب بفخره.. سلطان فاضل محب في الغرباء وخصوصاً الفقراء والمتصوفة، وكانت مملكة هذه البلاد للسلطان ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن.. فلما رأى فخر الدين أن الملك قد خرج عن أولاد السلطان ناصر الدين وهو مولى لهم خالف بسكاوان وبلاد بنجالة واستقل بالملك.. وانتهى حب الفقراء بالسلطان فخر الدين إلى أن جعل أحدهم نائباً عنه في الملك بسدكاوان وكان يسمى “شَيدا”، وخرج إلى قتال عدو له فخالف عليه شيدا وأراد الاستبداد بالملك وقتل ولد السلطان فخر الدين ولم يكن له ولد غيره، فعلم بذلك فكر عائداً إلى حضرته ففر شيدا ومن اتبعه إلى مدينة سنرهكاوان وهي منيعة، فبعث السلطان بالعساكر إلى حصاره فخاف أهلها على أنفسهم فقبضوا على شيدا وبعثوا إلى عسكر السلطان فكتبوا إليه بأمره فأمرهم أن يبعثوا له رأسه فبعثوه، وقتل بسببه جماعة كبيرة من الفقراء..
البهائم (7،3)
(و) وصلنا بعد خمسة عشر يوماً إلى بلاد البَرَهٌنَكار، وهذه الطائفة من الهمج لا يرجعون إلى دين الهنود ولا إلى غيره، وسكناهم في بيوت قصب مسقفة بحشيش الأرض على شاطئ البحر.. ورجالهم على مثل صورنا إلا أن أفواهم كأفواه الكلاب وأما نساؤهم فلسن كذلك ولهن جمال بارع. ورجالهم عرايا لا يستترون إلا أن الواحد يجعل ذكره وأنثييه في جعبة من القصب منقوشة معلقة في بطنه وتستتر نساؤهم بأوراق الشجر. ومعهم جماعة من المسلمين من أهل بنجالة والجاوة ساكنون في حارة على حدة أخبرونا أنهم يتناكحون كالبهائم لا يستترون بذلك، ويكون للرجل منهم ثلاثون امرأة فما دون ذلك أو فوقه وأنهم لا يزنون وإذا زنا الرجل منهم فحد الرجل أن يصلب حتى يموت أو يؤتى بصاحبه أو عبده فيصلب عوضاً منه ويسرح هو، وحد المرأة أن يأمر السلطان جميع خدامه فينكحونها واحد بعد واحد بحضرته حتى تموت ويرمون بها في البحر ولأجل ذلك لا يتركون أحداً من أهل المراكب ينزل إليهم إلا إن كان من المقيمين عندهم وإنما يبايعون الناس ويشارونهم على الساحل ويسوقون إليهم الماء على الفيلة لأنه بعيد من الساحل ولا يتركونهم لاستقائه خوفاً على نسائهم لأنهن يطمحن إلى الرجال الحسان.. ولهم كلام غريب لا يفقهه إلا من ساكنهم وأكثر التردد إليهم. ولما وصلنا إلى ساحلهم أتوا إلينا في قوارب صغار كل قارب من خشبة واحدة منحوتة وجاءوا بالموز والأرز والتنبول والفوفل والسمك. وأتى إلينا سلطانهم راكباً على فيل عليه شبه بردعة من الجلود.. ولهذا السلطان على كل مركب ينزل ببلاده جارية ومملوك وثياب لكسوة الفيل وحلي ذهب تجعله زوجته في محزمها وأصابع رجليها، ومن لم يعط هذه الوظيفة صنعوا له سحراً يهيج به البحر فيهلك أو يقارب الهلاك. واتفق في ليلة من ليالي إقامتنا بمرساهم أن غلاماً لصاحب المركب ممن تردد إلى هؤلاء الطائفة نزل من المركب ليلاً وتواعد مع امرأة أحد كبرائهم إلى موضع شبه الغار على الساحل وعلم بذلك زوجها فجاء في جمع من أصحابه إلى الغار فوجدهما به فحُملا إلى سلطانهم فأمر بالغلام فقطعت أنثياه وصلب وأمر بالمرأة فجامعها الناس حتى ماتت. ثم جاء السلطان إلى الساحل فاعتذر عما جرى وقال: إنا لا نجد بداً من إمضاء أحكامنا ووهب لصاحب المركب غلاماً عوض الغلام المطلوب.
الرغبة في السلطان (6)
ثم سافرنا عن هؤلاء وبعد خمسة وعشرين يوماً وصلنا إلى جزيرة الجاوة.. (سلطانها) هو السلطان الملك الظاهر من فضلاء الملوك وكرمائهم.. وكان له ابن أخ متزوج ببنته فولاه بعض البلاد. وكان الفتى بتعشق بنتاً لبعض الأمراء ويريد تزوجها والعادة هنالك أنه إذا كانت لرجل من الناس أمير أو سوقي أو سواه بنت قد بلغت مبلغ النكاح فلابد أن يستأمر للسلطان في شأنها ويبعث السلطان من النساء من تنظر إليها فإن أعجبته صفتها تزوجها وإلا تركها يزوجها أولياؤها ممن شاءوا، والناس هنالك يرغبون في تزوج السلطان بناتهم لما يحوزون به من الجاه والشرف. ولما استأمر والد البنت التي تعشقها ابن أخي السلطان بعث السلطان من نظر إليها وتزوجها، واشتد شغف الفتى بها ولم يجد سبيلاً إليها. ثم إن السلطان خرج إلى الغزو وبينه وبين الكفار مسيرة شهر فخالفه ابن أخيه إلى سمطرة ودخلها إذ لم يكون عليها سور حينئذ وادعى الملك وبايعه بعض الناس وامتنع آخرون، وعلم عمه بذلك فقفل راجعاً عائداً إليها فأخذ ابن أخيه ما قدر عليه من الأموال والذخائر وأخذ الجارية التي تعشقها وقصد بلاد الكفار بمل جاوه. ولهذا بنى عمه السور على “سمطرة”..
حب من نوع آخر (3،7)
ثم وصلنا إلى “مُل جاوه” وهي بلاد الكفار وطولها مسيرة شهرين.. (وسلطانها) كافر، رأيته خارج قصره جالساً على قبة ليس بينه وبين الأرض بساط ومعه أرباب دولته.. فعرف شأني فاستدعاني فجئت وقلت: السلام على من اتبع الهدى، فلم يفقهوا إلا لفظ السلام، فرحب بي وأمر أن يفرش لي ثوب اقعد عليه فقلت للترجمان: كيف أجلس على الثوب والسلطان قاعد على الأرض؟ فقال: هكذا عادته يقعد على الأرض تواضعاً وأنت ضيف وجئت من سلطان كبير فيجب إكرامك، فجلست وسألني عن السلطان فأوجز في سؤاله وقال لي: تقيم عندنا في الضيافة ثلاثة أيام وحينئذ يكون انصرافك. ورأيت في مجلس هذا السلطان رجلاً بيده سكين شبه سكين المسفر قد وضعه على رقبة نفسه وتكلم بكلام كثير لم أفهمه ثم أمسك السكين بيديه معاً وقطع عنق نفسه فوقع رأسه لحدة السكين وشدة إمساكه بالأرض فعجبت من شأنه وقال لي السلطان: أيفعل أحد هذا عندكم؟ فقلت له: ما رأيت هذا قط. فضحك وقال: هؤلاء عبيدنا يقتلون أنفسهم في محبتنا. وأمر به فرفع وأحرق وخرج لإحراقه النواب وأرباب الدولة والعساكر والرعايا وأجرى الرزق الواسع على أولاده وأهله وإخوانه وعظموا لأجل فعله. وأخبرني من كان حاضراً في ذلك المجلس أن الكلام الذي تكلم به كان تقريراً لمحبته في السلطان وأنه يقتل نفسه في حبه كما قتل أبوه نفسه في حب أبيه وجده قتل نفسه في حب جده، ثم انصرفت عن المجلس وبعث إلي بضيافة ثلاثة أيام.
الملكة (2،6)
وسافرنا في البحر فوصلنا بعد أربعة وثلاثين يوماً إلى البحر الكاهل وهو الراكد وفيه حمرة زعموا أنها من تربة أرض تجاوره. ولا ريح فيه ولا موج ولا حركة مع اتساعه. ولأجل هذا البحر تتبع كل جنك من جنوك الصين ثلاثة مراكب كما ذكرناه تجذف به فتجره ويكون في الجنك مع ذلك نحو عشرين مجذافاً كباراً كالصواري.. وأقمنا على ظهر هذا البحر سبعة وثلاثين يوماً.. ثم وصلنا إلى بلاد “طَوالسِي” وملكها هو المسمى بطوالسي. وهي بلاد عريضة وملكها يضاهي ملك الصين وله الجنوك الكثيرة يقاتل بها أهل الصين حتى يصالحوه على شيء. وأهل هذه البلاد عبدة أوثان حسان الصور أشبه الناس بالترك في صورهم والغالب على ألوانهم الحمرة ولهم شجاعة ونجدة ونساؤهم يركبن الخيل ويحسن الرماية ويقاتلن كالرجال سواء. وأرسينا من مراسيهم بمدينة “كَيلُوكرِيٌ”، وهي من أحسن مدنهم وأكبرها وكان يسكن بها ابن ملكهم فلما أرسينا بالمرسى جاءت عساكرهم، ونزل الناخوذة إليهم ومعه هدية لابن الملك فسألهم عنه فأخبروه أن أباه ولاه بلداً غيرهم وولى بنته بتلك المدينة واسمها أُرٌدُجا، ولما كان في اليوم الثاني.. استدعت هذه الملكة الناخوذة صاحب المركب.. لضيافة صنعتها لهم على عادتها.. فلما حضروا عندها قالت لهم: هل بقي أحد منكم لم يحضر؟ فقال لها الناخوذة: لم يبق إلا رجل واحد بَخٌشِي (وهو القاضي في لسانهم) وهو لا يأكل طعامكم. فقالت: ادعوه. فجاء جنادرتها وأصحاب الناخوذة فقالوا: أجب الملكة. فأتيتها وهي بمجلسها الأعظم وبين يديها نسوة بأيديهن الأزمة يعرضن ذلك عليها وحولها النساء القواعد وهن وزيراتها وقد جلسن تحت السرير على كراسي الصندل وبين يديها الرجال.. فلما سلمت على الملكة قالت لي بالتركية ما معناه: كيف حالك، كيف أنت؟ وأجلستني على قرب منها وكانت تحسن الكتاب العربي فقالت لبعض خدامها: دواة وبتك كاتور، معناه: الدواة والكاغد، فأتي بذلك فكتبت فيه بسم الله الرحمن الرحيم. فقالت: ما هذا؟ فقلت لها: تنضري نام (اسم الله) فقالت: خشن خوش، ومعناه جيد. ثم سألتني من أي البلاد قدمت فقلت لها من بلاد الهند. فقالت: بلاد الفلفل. فقلت: نعم. فسألتني عن تلك البلاد وأخبارها فأجبتها. فقالت: لا بد أن أغزوها وآخذها لنفسي فإني يعجبني كثرة مالها وعساكرها. فقلت لها: افعلي. وأمرت لي بأثواب وحمل فيلين من الأرز.. وأخبرني الناخوذة أن هذه الملكة في عسكرها نسوة وخدم وجوارٍ يقاتلن كالرجال وأنها تخرج في العساكر من رجال ونساء فتغير على عدوها وتشاهد القتال وتبارز الأبطال. وأخبرني أنها وقع بينها وبين بعض أعدائها قتال شديد وقتل كثير من عسكرها وكادوا ينهزمون فدفعت بنفسها وخرقت الجيوش حتى وصلت إلى الملك الذي كانت تقاتله فطعنته طعنة كان فيها حتفه فمات، وانهزمت عساكره وجاءت برأسه على رمح فافتكه أهله منها بمال كثير فلما عادت إلى أبيها ملكها تلك المدينة التي كانت بيد أخيها وأخبرني أن أبناء الملوك يخطبونها فتقول: لا أتزوج إلا من يبارزني فيغلبني فيتحامون مبارزتها خوف المعرة إن غلبتهم.
إقليم الصين (5)
ثم سافرنا عن بلاد طوالسي فوصلنا بعد سبعة عشر يوماً والريح مساعدة لنا ونحن نسير بها أشد السير وأحسنه إلى بلاد الصين، وإقليم الصين متسع، كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة لا يضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض.. وكل ما ببلادنا من الفواكه فإن بها ما هو مثله وأحسن منه. والقمح بها كثير جداً ولم أر قمحاً أطيب منه وكذلك العدس والحمص.. وأهل الصين كفار يعبدون الأصنام ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود. وملك الصين تتري من ذرية تنكيز خان. وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناهم ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها وهم معظمون محترمون. وكفار الصين يأكلون لحوم الخنازير والكلاب ويبيعونها في أسواقهم، وهم أهل رفاهية وسعة عيش إلا أنهم لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس وترى التاجر الكبير منهم الذي لا تحصى أمواله كثرة وعليه جبة قطن خشنة (لقد أشرق الشرق كله بالإسلام.. أما تواضع الصينيين فنراه اليوم في أفرادهم الذين عندنا ترى الواحد بقميص عادي ونعل رخيص، وقد يكون من الأغنياء خصوصا بعد انتشار الإشتراكية التي زادتهم فقرا وتفاقرا، ولا طريق أفضل من طريق الإسلام).
وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعاً كما ذكرناه، وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد كل قطعة منها بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان.. وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا فأخذ عوضها جدداً ودفع تلك.. وأهل الصين أعظم الأمم إحكاماً للصناعات وأشدهم إتقاناً فيها وذلك مشهور من حالهم قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا من سواهم فإن لهم فيه اقتداراً عظيماً.. ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فمررت على سوق النقاشين ووصلت إلى قصره مع أصحابي ونحن على زي العراقيين فلما عدت من القصر عشياً مررت بالسوق المذكورة فرأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في كاغد قد ألصقوه بالحائط فجعل الواحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطئ شيئاً من شبهه، وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك وأنهم أتوا إلى قصره ونحن به فجعلوا ينظرون إلينا ويصورون صورنا ونحن لم نشعر بذلك وتلك عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعث صورته إلى البلاد وبحث عنه فحيثما وجد شبه تلك الصورة أخذ.
بيع الأولاد وتحريم الفساد على الوافدين (4،6)
وإذا قدم التاجر المسلم على بلد من بلاد الصين خير في النزول عند تاجر من المسلمين المتوطنين معين أو في الفندق فإن أحب النزول عند التاجر حصر ماله وضمنه التاجر المستوطن وأنفق عليه منه بالمعروف فإذا أراد السفر بحث عن ماله فإن وجد شيئاً منه قد ضاع أغرمه التاجر المستوطن الذي ضمنه، وإن أراد النزول بالفندق سلم ماله لصاحب الفندق وضمنه وهو يشتري له ما أحب ويحاسبه فإن أراد التسري اشترى له جارية وأسكنه بدار يكون بابها في الفندق وأنفق عليهما والجواري رخيصات الأثمان إلا أن أهل الصين أجمعين يبيعون أولادهم وبناتهم وليس ذلك عيباً عندهم غير أنهم لا يجبرون على السفر مع مشتريهم ولا يمنعون أيضاً منه إن اختاروه، وكذلك إن أراد التزوج تزوج، وأما إنفاق ماله في الفساد فشيء لا سبيل له إليه. ويقولون: لا نريد أن يسمع في بلاد المسلمين أنهم يخسرون أموالهم في بلادنا فإنها أرض ضلال.
صين الصين (5)
وركبت في النهر.. وسافرنا في هذا النهر سبعة وعشرين يوماً وفي كل يوم نرسو عند الزوال بقرية نشتري بها ما نحتاج إليه ونصلي الظهر ثم ننزل بالعشي إلى أخرى وهكذا إلى أن وصلنا مدينة “صين كَلان”، وهي مدينة “صين الصين”.. وفي وسط هذه المدينة كنيسة عظيمة لها تسعة أبواب.. وذكر لي أن الشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسب لهم نفقتهم وكسوتهم بهذه الكنيسة وكذلك الأيتام والأرامل ممن لا مال لهم. وعمر هذه الكنيسة بعض ملوكهم وجعل هذه المدينة وما إليها من القرى والبساتين وقفاً عليها. وصور ذلك الملك مصورة بالكنيسة المذكورة وهم يعبدونها. وفي بعض جهات هذه المدينة بلدة المسلمين لهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق، ولهم قاض وشيخ. ولا بد في كل بلد من بلاد الصين من شيخ الإسلام تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه وقاض يقضي بينهم.. وليس وراء هذه المدينة مدينة لا للكفار ولا للمسلمين، وبينها وبين سد يأجوج ومأجوج ستون يوماً فيما ذكر لي يسكنها كفار رحالة يأكلون بني آدم إذا ظفروا بهم ولذلك لا تسلك بلادهم ولا يسافر إليها ولم أر بتلك البلاد من رأى السد ولا من رأى من رآه.
الولي (7،3)
ولما كنت بصين كلان سمعت أن بها شيخاً كبيراً قد أناف على مائتي سنة وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ولا يباشر النساء مع قوته التامة وأنه ساكن في غار بخارجها يتعبد فيه فتوجهت إلى الغار فرأيته على بابه وهو نحيف شديد الحمرة عليه أثر عبادة ولا لحية له فسلمت عليه فأمسك يدي وشمها وقال للترجمان: هذا من طرف الدنيا كما نحن من طرفها الآخر ثم قال: لقد رأيت عجباً أتذكر يوم قدومك الجزيرة التي فيها الكنيسة والرجل الذي كان جالساً بين الأصنام وأعطاك عشرة دنانير من الذهب؟ فقلت نعم فقال: أنا هو، فقبلت يده، وفكر ساعة ثم دخل الغار فلم يخرج إلينا كأنه ظهر منه الندم على ما تكلم به فتهجمنا ودخلنا الغار عليه فلم نجده ووجدنا بعض أصحابه ومعه جملة بوالشت من الكاغد فقال: هذه ضيافتكم فانصرفوا. فقلنا له: ننتظر الرجل. فقال: لو أقمتم عشر سنين لم تروه فإن عادته إذا طلع أحد على سر من أسراره لا يراه بعده. ولا تحسب أنه غاب عنك بل هو حاضر معك، فعجبت من ذلك وانصرفت فأعلمت القاضي وشيخ الإسلام وأوحد الدين السنجاري بقضيته فقالوا: كذلك عادته مع من يأتي إليه من الغرباء ولا يعلم أحد ما ينتحله من الأديان والذي ظننتموه أحد أصحابه هو هو.. وأخبرني أوحد الدين السنجاري قال: دخلت عليه الغار فأخذ بيدي فخيل إلي أني في قصر عظيم وأنه قاعد فيه على سرير وفوق رأسه تاج وعلى جانبيه الوصائف الحسان والفواكه تتساقط في أنهار هنالك وتخيلت أني أخذت تفاحة لآكلها فإذا أنا بالغار وبين يديه وهو يضحك مني، وأصابني مرض شديد لازمني شهوراً فلم أعد إليه. وأهل تلك البلاد يعتقدون أنه مسلم لكن لم يره أحد يصلي أما الصيام فهو صائم أبداً. وقال لي القاضي: ذكرت له الصلاة في بعض الأيام فقال لي: أتدري أنت ما أصنع، إن صلاتي غير صلاتك..
رأي في الصين (5،1)
(و) بلاد الصين على ما فيها من الحسن لم تكن تعجبني بل كان خاطري شديد التغير بسبب غلبة الكفر عليها فمتى خرجت من منزلي رأيت المنكرات الكثيرة فأقلقني ذلك حتى كنت ألازم المنزل فلا أخرج إلا لضرورة. وكنت إذا رأيت المسلمين بها فكأني لقيت أهلي وأقاربي.
شعوذة (3)
وانصرفت فركبت النهر على العادة نتغدى بقرية ونتعشى بأخرى إلى أن وصلنا بعد سبعة عشر يوماً إلى مدينة “الخنساء” واسمها على نحو اسم الخنساء الشاعرة ولا أدري أعربي هو أم وافق العربي. وهذه المدينة أكبر مدينة رأيتها على وجه الأرض طولها مسيرة ثلاثة أيام يرحل المسافر فيها وينزل..
(وفي ليلة) حضر أحد المشعوذة وهي من عبيد القان فقال له الأمير: أرنا من عجائبك. فأخذ كرة خشب لها ثقب فيها سيور طوال فرمى بها إلى الهواء فارتفعت حتى غابت عن الأبصار ونحن في وسط المشور أيام الحر الشديد فلما لم يبق من السير في يده إلا يسير أمر متعلماً له فتعلق به وصعد في الهواء إلى أن غاب عن أبصارنا فدعاه فلم يجبه ثلاثاً فأخذ سكيناً بيده كالمغتاظ وتعلق بالسير إلى أن غاب أيضاً ثم رمى بيد الصبي إلى الأرض ثم رمى برجله ثم بيده الأخرى ثم برجله الأخرى ثم بجسده ثم برأسه ثم هبط وهو ينفخ وثيابه ملطخة بالدم فقبل الأرض بين يدي الأمير وكلمه بالصيني وأمر له الأمير بشيء ثم إنه أخذ أعضاء الصبي فألصق بعضها ببعض وركله برجله فقام سوياً فعجبت منه وأصابني خفقان القلب كمثل ما كان أصابني عند ملك الهند حين رأيت مثل ذلك فسقوني دواء أذهب عني ما وجدت وكان القاضي أفخر الدين إلى جانبي فقال لي: والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو وإنما ذلك شعوذة..
دفن الأحياء مع الملوك (4،2)
(و) وصلنا إلى مدينة “خانٌ بالِقِ”، وتسمى أيضاً “خانِقو”، وهي حضرة القان، والقان هو سلطانهم الأعظم الذي مملكته بلاد الصين والخطا، ولما وصلنا إليها أرسينا على عشرة أميال منها على العادة عندهم وكتب إلى أمراء البحر بخبرنا فأذنوا لنا في دخول مرساها فدخلناه ثم نزلنا إلى المدينة وهي من أعظم مدن الدنيا وليست على ترتيب بلاد الصين في كون البساتين داخلها إنما هي كسائر البلاد والبساتين بخارجها ومدينة السلطان في وسطها كالقصبة حسبما نذكره. ونزلت عند الشيخ برهان الدين الصاغرجي وهو الذي بعث إليه ملك الهند بأربعين ألف دينار واستدعاه فأخذ الدنانير وقضى بها دينه وأبى أن يسير إليه وقدم على بلاد الصين فقدمه القان على جميع المسلمين الذي ببلاده وخاطبه بصدر الجهان. والقان عندهم سمة لكل من يلي ملك الأقطار.. وليس للكفار على وجه الأرض مملكة أعظم من مملكته وقصره في وسط المدينة المختصة بسكناه وأكثر عمارته بالخشب المنقوش وله ترتيب عجيب..
ولما وصلنا حضرة خان بالق وجدنا القان غائباً عنها إذ ذاك، وخرج للقاء ابن عمه فيروز القائم عليه بناحية قراقوم وبش بالغ من بلاد الخطا وبينها وبين الحضرة مسيرة ثلاثة أشهر عامرة. وأخبرني صدر الجهان برهان الدين الصاغرجي أن القان لما جمع الجيوش وحشد الحشود اجتمع عليه من الفرسان مائة فوج كل فوج منها من عشرة آلاف فارس وأميرهم يسمى أمير طومان وكان من خواص السلطان وأهل دخلته خمسين ألفاً زائداً إلى ذلك وكانت الرجالة خمسمائة ألف. ولما خرج خالف عليه أكثر الأمراء واتفقوا على خلعه لأنه كان قد غير أحكام اليساق وهي الأحكام التي وضعها تنكيز خان جدهم الذي خرب بلاد الإسلام. فمضوا إلى ابن عمه القائم وكتبوا إلى القان أن يخلع نفسه وتكون مدينة الخنساء إقطاعاً له فأبى ذلك وقاتلهم فانهزم وقتل. وبعد أيام من وصولنا إلى حضرته ورد الخبر بذلك فزينت المدينة وضربت الطبول والأبواق والأنفار واستعمل اللعب والطرب مدة شهر ثم جيء بالقان المقتول وبنحو مائة من المقتولين بني عمه وأقاربه وخواصه فحفر للقان ناووس عظيم وهو بيت تحت الأرض وفرش بأحسن الفرش وجعل به القان بسلاحه وجعل معه ما كان في داره من أواني الذهب والفضة وجعل معه أربع من الجواري وستة من خواص المماليك معهم أواني الشراب، وبني باب البيت وجعل فوقه التراب حتى صار كالتل العظيم.. وهذه الأفعال لا أذكر أن أمة تفعلها سواهم في هذا العصر فأما الكفار من الهنود وأهل الصين فيحرقون موتاهم وسواهم من الأمم يدفنون الميت ولا يجعلون معه أحداً. لكن أخبرني الثقات ببلاد السودان أن الكفار منهم إذا مات ملكهم صنعوا له ناووساً وأدخلوا معه بعض خواصه وخدامه وثلاثين من أبناء كبارهم وبناتهم بعد أن يكسروا أيديهم وأرجلهم ويجعلون معهم أواني الشراب. وأخبرني بعض كبار مسوفة ممن يسكن بلاد كوبر مع السودان واختصه سلطانهم أنه كان له ولد فلما مات سلطانهم أرادوا أن يدخلوا ولده مع من أدخلوه من أولادهم، قال: فقلت لهم: كيف تفعلون ذلك وليس على دينكم ولا من ولدكم؟ وفديته منهم بمال عريض..
طائر الرخ (5،3)
ولما وقع الخلاف وتسعرت الفتن أشار علي الشيخ برهان الدين وسواه أن أعود إلى الصين قبل تمكن الفتن.. فلما وصلتها وجدت الجنوك على السفر إلى الهند وفي جملتها جنك للملك الظاهر صاحب الجاوة وأهله مسلمون وعرفني وكيله وسر بقدومي وصادفنا الريح الطيبة عشرة أيام فلما قاربنا بلاد طوالسي تغيرت الريح وأظلم الجو وكثر المطر وأقمنا عشرة أيام لا نرى الشمس ثم دخلنا بحراً لا نعرفه وخاف أهل الجنك فأرادوا الرجوع إلى الصين فلم يتمكن ذلك، وأقمنا اثنين وأربعين يوماً لا نعرف في أي البحار نحن. ولما كان في اليوم الثالث والأربعين ظهر لنا بعد طلوع الفجر جبل في البحر بيننا وبينه نحو عشرين ميلاً والريح تحملنا إلى صوبه فعجب البحرية وقالوا: لسنا بقرب من البر ولا يعهد في البحر جبل وإن اضطرتنا الريح إليه هلكنا، فلجاً الناس إلى التضرع والإخلاص وجددوا التوبة وابتهلنا إلى الله بالدعاء وتوسلنا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ونذر التجار الصدقات الكثيرة وكتبتها لهم في زمام بخطي، وسكنت الريح بعض سكون ثم رأينا ذلك الجبل عند طلوع الشمس قد ارتفع في الهواء وظهر الضوء فيما بينه وبين البحر فعجبنا من ذلك، ورأيت البحرية يبكون ويودعون بعضهم بعضاً فقلت: ما شأنكم؟ فقالوا: إن الذي تخيلناه جبلاً هو الرخ وإن رآنا أهلكنا. وبيننا وبينه إذ ذاك أقل من عشرة أميال. ثم إن الله تعالى من علينا بريح طيبة صرفتنا عن صوبه فلم نره ولا عرفنا حقيقة صورته.
وبعد شهرين من ذلك اليوم وصلنا الجاوة ونزلنا إلى سمطرة فوجدنا سلطانها الملك الظاهر قد قدم من غزوة له وجاء بسبي كثير فبعث لي جاريتين وغلامين..
رابعا: العودة وبلاد الصحراء
العودة إلى الديار، والبحث عن الولد (1،2)
(ثم وبعد أسفار عديدة وصل الرحالة) إلى مدينة بغداد.. (ثم) تدمر مدينة نبي الله سليمان عليه السلام التي بنتها له الجن.. ثم سافرنا منها إلى مدينة دمشق الشام وكانت مدة مغيبي عنها عشرين سنة كاملة وكنت تركت بها زوجة لي حاملاً وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت لي ولداً ذكراَ فبعثت حينئذ إلى جده للأم وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين ديناراً ذهباً هندياً. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة لم يكن لي همٌ إلا السؤال عن ولدي. فدخلت الجامع فوفق لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم فسلمت عليه فلم يعرفني فعرفته بنفسي وسألته عن الولد فقال مات منذ اثنتي عشرة سنة، وأخبرني أن فقيهاً من أهل طنجة يقيم بالمدرسة الظاهرية فسرت إليه لأسأله عن ولدي وأهلي فوجدته شيخاً كبيراً فسلمت عليه وانتسبت له فأخبرني أن ولدي توفي منذ خمس عشرة سنة وأن الوالدة بقيد الحياة. وأقمت بدمشق الشام بقية العام والغلاء شديد والخبز قد انتهى إلى قيمة سبع أواقى.. وأمير دمشق ملك الأمراء أرغون شاه. ومات في تلك الأيام بعض كبراء دمشق وأوصى بمال للمساكين. فكان المتولي لإنفاذ الوصية يشتري الخبز ويفرقه عليهم كل يوم بعد العصر، فاجتمعوا في بعض الليالي وتزاحموا واختطفوا الخبز الذي يفرق عليهم ومدوا أيديهم إلى خبز الخبازين. وبلغ ذلك الأمير أرغون شاه فأخرج زبانيته فكانوا حيث ما لقوا أحداً من المساكين قالوا له: تعال تأخذ الخبز فاجتمع منهم عدد كثير فحبسهم تلك الليلة وركب من الغد وأحضرهم تحت القلعة وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وكان أكثرهم براء عن ذلك.. وذكر لي أنه لم يعش بعد ذلك إلا قليلاً وقُتل.
عودة الوباء (2)
وفي أوائل شهر ربيع الأول عام تسعة وأربعين بلغني الخبر في حلب أن الوباء وقع بغزة وأنه انتهى عدد الموتى فيها إلى زائد على الألف في يوم واحد.. ثم سافرت إلى عجلون ثم إلى بيت المقدس ووجدت الوباء قد ارتفع عنهم ولقيت خطيبه عز الدين.. وهو من الفضلاء الكرماء ومرتبه على الخطابة ألف درهم في الشهر. وصنع الخطيب عز الدين يوماً دعوة ودعاني فيمن دعا إليها فسألته عن سببها فأخبرني أنه نذر أيام الوباء أنه إن ارتفع ذلك ومر عليه يوم لا يصلى فيه على ميت صنع الدعوة. ثم قال لي: ولما كان بالأمس لم أصل على ميت فصنعت الدعوة التي نذرت. ووجدت من كنت أعهده من جميع الأشياخ بالقدس قد انتقلوا إلى جوار الله تعالى رحمهم الله فلم يبق منهم إلا القليل..
الأجل المحتوم (2)
ثم سافرنا في البر فوصلت إلى دمياط.. ثم إلى أبي صِير ونزلنا في زاوية لبعض المصريين بها.. وبينما نحن بتلك الزاوية إذ دخل علينا أحد الفقراء فسلم وعرضنا عليه الطعام فأبى وقال: إنما قصدت زيارتكم، ولم يزل ليلته تلك ساجداً وراكعاً. ثم صلينا الصبح واشتغلنا بالذكر والفقير بركن الزاوية فجاء الشيخ بالطعام ودعاه فلم يجبه فمضى إليه فوجده ميتاً فصلينا عليه ودفناه رحمة الله عليه.
ثم سافرت إلى.. الإسكندرية فوجدت الوباء قد خف بها بعد أن بلغ عدد الموتى إلى ألف وثمانين في اليوم. ثم سافرت إلى القاهرة وبلغني أن عدد الموتى أيام الوباء انتهى فيها إلى واحد وعشرين ألفاً في اليوم ووجدت جميع من كان بها من المشايخ الذين أعرفهم قد ماتوا رحمهم الله تعالى. وكان ملك ديار مصر في هذا العهد الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون. وبعد ذلك خُلع عن الملك وولي أخوه الملك الصالح..
على مذهب الشافعي (1)
(ثم) سافرت منها إلى مكة شرفها الله تعالى وكرمها.. فصمت شهر رمضان بمكة وكنت أعتمر كل يوم على مذهب الشافعي.. وحججت ذلك العام..
الرجوع إلى المغرب (1)
(ثم) القاهرة وهنالك تعرفنا أن مولانا أمير المؤمنين.. “أبا عنان” أيده الله تعالى قد ضم الله به نشر الدولة المرينية وشفى ببركته بعد إشفائها البلاد المغربية وأفاض الإحسان على الخاص والعام وغمر جميع الناس بسابغ الإنعام فتشوقت النفوس إلى المثول ببابه وأملت لثم ركابه فعند ذلك قصدت القدوم على حضرته العلية مع ما شاقني من تذكار الأوان والحنين إلى الأهل والخلان والمحبة إلى بلادي التي لها الفضل عندي على البلدان:
بلاد بها نيطت علي تمـائمي … وأول أرض مس جلدي ترابها
الخوف من الأسر (1،7)
(ثم) وصلت بعد مشقات إلى مدينة تونس.. ثم سافرت من تونس في البحر مع القطلانيين فوصلنا إلى جزيرة سردانية من جزر الروم ولها مرسى عجيب عليه خشب كبار دائرة به وله مدخل كأنه باب لا يفتح إلا بإذن منهم، وفيها حصون دخلنا أحدها وبه أسواق كثيرة، ونذرت لله تعالى إن خلصنا الله منها صوم شهرين متتابعين لأننا تعرفنا أن أهلها عازمون على إتباعنا إذا خرجنا عنها ليأسرونا..
أرخص البلاد أسعاراً وأكثرها خيرات (5)
(ثم) وصلت إلى مدينة “تازي” وبها تعرفت خبر موت والدتي بالوباء رحمها الله تعالى. ثم سافرت عن تازي فوصلت يوم الجمعة في أواخر شهر شعبان المكرم من عام خمسين وسبعمائة إلى حضرة فاس فمثلت بين يدي مولانا الأعظم الإمام الأكرم أمير المؤمنين.. أبي عنان.. فأنستني هيبته هيبة سلطان العراق وحسنه حسن ملك الهند وحسن أخلاقه حسن خلق ملك اليمن وشجاعته شجاعة ملك الترك وحلمه حلم ملك الروم وديانته ديانة ملك تركستان وعلمه علم ملك الجاوة. وكان بين يديه وزيره الفاضل ذو المكارم الشهيرة.. أبو زيان ابن ودرار فسألني عن الديار المصرية إذ كان قد وصل إليها فأجبته عما سأل، وغمرني من إحسان مولانا أيده الله تعالى بما أعجزني شكره والله ولي مكافأته. وألقيت عصا التسيار ببلاده الشريفة بعد أن تحققت بفضل الإنصاف أنها أحسن البلدان لأن الفواكه بها متيسرة، والمياه والأقوات غير متعذرة. وقل إقليم يجمع ذلك.. ودراهم المغرب صغيرة وفوائدها كثيرة، وإذا تأملت أسعاره مع أسعار ديار مصر والشام ظهر لك الحق في ذلك.. وأما السمن فلا يوجد بمصر في أكثر الأوقات والذي يستعمله أهل مصر من أنواع الإدام لا يلتفت إليه بالمغرب، ولأن أكثر ذلك العدس والحمص يطبخونه في قدور راسيات ويجعلون عليه السيرج والبسلا وهو صنف من الجلبان يطبخونه ويجعلون عليه الزيت والقرع يطبخونه ويخلطونه باللبن والبقلة الحمقاء يطبخونها كذلك وأعين أغصان اللوز يطبخونها ويجعلون عليها اللبن والقلقاس يطبخونه وهذا كله متيسر بالمغرب لكن أغنى الله عنه بكثرة اللحم والسمن والزبد والعسل وسوى ذلك. وأما الخضر فهي أقل الأشياء ببلاد مصر، وأما الفواكه فأكثرها مجلوبة من الشام، وأما العنب فإذا كان رخيصاً بيع عندهم ثلاثة أرطال من أرطالهم بدرهم نقرة ورطلهم اثنا عشرة أوقية، وأما في بلاد الشام فالفواكه بها كثيرة إلا أنها ببلاد المغرب أرخص منها ثمناً فإن العنب يباع بها بحساب رطل من أرطالهم بدرهم نقرة ورطلهم ثلاثة أرطال مغربية.. وأما اللحم فيباع فيها الرطل منه من أرطالهم بدرهمين ونصف درهم نقرة. فإذا تأملت ذلك كله تبين لك أن بلاد المغرب أرخص البلاد أسعاراً وأكثرها خيرات وأعظمها مرافق وفوائد..
ملك المغرب أيامها (6)
ولقد زاد الله بلاد المغرب شرفاً إلى شرفها وفضلاً إلى فضلها بإمامة مولانا أمير المؤمنين.. أما عدله فأشهر من أن يسطر في كتاب.. قال ابن جزي: من أعجب ما شاهدته من حلم مولانا أيده الله أني منذ قدومي على بابه الكريم في آخر عام ثلاثة وخمسين إلى هذا العهد وهو أوائل عام سبعة وخمسين لم أشاهد أحداً أمر بقتله إلا من قتله الشرع في حد من حدود الله تعالى قصاص أو حرابة هذا على اتساع المملكة وانفساح البلاد واختلاف الطوائف.
ولم يسمع بمثل ذلك في ما تقدم من الأعصار ولا فيما تباعد من الأقطار. وأما شجاعته.. قال ابن جزي: لم يزل الملوك الأقدمون تتفاخر بقتل الآساد وهزائم الأعادي، ومولانا أيده الله كان قتل الأسد أهون عليه من قتل الشاة على الأسد فإنه لما خرج الأسد على الجيش بوادي النجارين من المعمورة بحوز سلا وتحامته الأبطال وفرت أمامه الفرسان والرجال برز إليه مولانا أيده الله غير محتفل به ولا متهيب منه فطعنه بالرمح ما بين عينيه طعنة خر بها صريعاً لليدين وللفم..
الأندلس (5)
ولما حصلت لي مشاهدة هذا المقام الكريم وعمني فضل إحسانه العميم قصدت زيارة قبر الوالدة فوصلت إلى بلدة طنجة وزرتها، وتوجهت إلى مدينة سبتة فأقمت بها أشهراً وأصابني بها المرض ثلاثة أشهر ثم عافاني الله فأردت أن يكون لي حظ من الجهاد والرباط فركبت البحر من سبتة في شطي لأهل أصيلا فوصلت إلى بلاد الأندلس حرسها الله تعالى حيث الأجر موفور للساكن والثواب مذخور للمقيم والظاعن وكان ذلك إثر موت طاغية الروم ألفونس وحصاره الجبل عشرة أشهر وظنه أنه يستولي على ما بقي من بلاد الأندلس للمسلمين فأخذه الله من حيث لم يحتسب ومات بالوباء الذي كان أشد الناس خوفاً منه. وأول بلد شاهدته من البلاد الأندلسية جبل الفتح فلقيت به خطيبه الفاضل أبا زكريا يحيى بن السراج الرندي وقاضيه عيسى البربري وعنده نزلت وتطوفت معه على الجبل فرأيت عجائب ما بني به مولانا أبو الحسن رضي الله عنه وأعد فيه من العدد.. قال ابن جزي: “جبل الفتح هو معقل الإسلام المعترض شجىً في حلوق عبدة الأصنام، حسنة مولانا أبي الحسن رضي الله عنه”.. ولما كان في الأشهر الأخيرة من عام ستة وخمسين وقع بجبل الفتح ما ظهر فيه أثر يقين مولانا أيده الله وثمرة توكله في أموره على الله وبان مصداق ما اطرد له من السعادة الكافية وذلك أن عامل الجبل الخائن الذي ختم له بالشقاء عيسى بن الحسن بن أبي منديل نزع يده المغلولة عن الطاعة وفارق عصمة الجماعة وأظهر النفاق وجمح في الغدر والشقاق وتعاطي ما ليس من رجاله وعمي عن مبدأ حاله السيئ ومآله.. فلم تكن إلا أيام يسيرة وراجع أهل الجبل بصائرهم وثاروا على الثائر وخالفوا الشقي المخالف وقاموا بالواجب من الطاعة وقبضوا عليه وعلى ولده المساعد له في النفاق وأتي بهما مصفدين إلى الحضرة العلية فنفذ فيهما حكم الله في المحاربين وأراح الله من شرهما. ولما خمدت نار الفتنة أظهر مولانا أيده الله من العناية ببلاد الأندلس ما لم يكن في حساب أهلها..
البستان (1)
قال ابن جزي: ولنعد إلى كلام الشيخ أبي عبد الله قال: ثم خرجت من جبل الفتح إلى مدينة رندة وهي من أمنع معاقل المسلمين وأجملها وضعاً وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو الربيع سليمان بن داود العسكري وقاضيها ابن عمي الفقيه أبو القاسم محمد بن يحيى بن بطوطة.. ثم سافرت.. إلى مدينة مربلة والطريق فيما بينهما صعب شديد الوعورة، ومربلة بليدة حسنة خصبة ووجدت بها جماعة من الفرسان متوجهين إلى مالقة فأردت التوجه في صحبتهم ثم إن الله تعالى عصمني بفضله فتوجهوا قبلي فأسروا في الطريق كما سنذكره. وخرجت في أثرهم فلما جاوزت حوز مربلة ودخلت في حوز سهيل مررت بفرس ميت في بعض الخنادق ثم مررت بقفة حوات مطروحة بالأرض فرابني ذلك وكان أمامي برج الناظور فقلت في نفسي: لو ظهر ها هنا عدو لأنذر به صاحب البرج، ثم تقدمت إلى دار هنالك فوجدت فرساً مقتولاً فبينما أنا هنالك إذ سمعت الصياح من خلفي وكنت قد تقدمت أصحابي فعدت إليهم فوجدت معهم قائد حصن سهيل فأعلمني أن أربعة أجفان للعدو ظهرت هنالك ونزل بعض عمارتها إلى البر ولم يكن الناظور بالبرج فمر بهم الفرسان الخارجون من مربلة وكانوا اثني عشر فقتل النصارى أحدهم وفر واحد وأسر العشرة وقتل معهم رجل حوات وهو الذي وجدت قفته مطروحة بالأرض. وأشار علي ذلك القائد بالمبيت معه في موضعه ليوصلني منه إلى مالقة فبت عنده بحصن الرابطة المنسوب إلى سهيل والأجفان المذكورة مرساة عليه. وركب معي بالغد فوصلنا إلى مدينة مالقة إحدى قواعد الأندلس وبلادها الحسان جامعة بين مرافق البر والبحر كثيرة الخيرات والفواكه رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير ورمانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب.. ثم سافرت.. إلى مدينة غرناطة قاعدة بلاد الأندلس وعروس مدنها وخارجها لا نظير له في بلاد الدنيا وهو مسيرة أربعين ميلاً يخترقه نهر شنيل المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة والبساتين والجنان والرياض والقصور والكروم محدقة بها من كل جهة. ومن عجيب مواضعها “عين الدمع” وهو جبل فيه الرياض والبساتين لا مثل لها بسواها.. وكان ملك غرناطة في عهد دخولي إليها السلطان أبا الحجاج يوسف بن السلطان أبي الوليد إسماعيل.. ولم ألقه بسبب مرض كان به. وبعثت إليّ والدته الحرة الصالحة الفاضلة بدنانير ذهب ارتفقت بها.. ولقيت بغرناطة جملة من فضلائها.. ومنهم قاضي الجماعة نادرة العصر وطرفة الدهر أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم السلمي البلعبي قدم عليها من المرية في تلك الأيام فوقع الاجتماع به في بستان الفقيه أبي القاسم محمد ابن الفقيه الكاتب الجليل أبي عبد الله بن عاصم وأقمنا هنالك يومين وليلة.
قال ابن جزي: كنت معهم في ذلك البستان ومتعنا الشيخ أبو عبد الله بأخبار رحلته، وقيدت عنه أسماء الأعلام الذين لقيهم فيها، واستفدنا منه الفوائد العجيبة، وكان معنا جملة من وجوه أهل غرناطة منهم الشاعر المجيد الغريب الشأن أبو جعفر أحمد بن رضوان بن عبد العظيم الجذامي..
مراكش وبلاد السودان (5،1)
ثم سافرت إلى “جبل الفتح” وركبت البحر في الجفن الذي جزت فيه أولاً وهو لأهل “أصيلا” فوصلت إلى “سبتة”.. (ثم) إلى أصيلا وأقمت بها شهوراً. ثم سافرت منها إلى مدينة “سلا” فوصلت إلى مدينة “مراكش” وهي من أجمل المدن فسيحة الأرجاء متسعة الأقطار كثيرة الخيرات بها المساجد الضخمة كمسجدها الأعظم المعروف بمسجد الكتبيين وبها الصومعة الهائلة العجيبة صعدتها وظهر لي جميع البلد منها وقد استولى عليه الخراب فما شبهته إلا ببغداد إلا أن أسواق بغداد أحسن.. (ثم) وصلنا إلى مدينة سلا ثم إلى مدينة “مكناسة” العجيبة الخضرة النضرة ذات البساتين والجنات المحيطة بها بحائر الزيتون من جميع نواحيها. ثم وصلنا إلى حضرة “فاس” حرسها الله تعالى فوادعت بها مولانا أيده الله وتوجهت برسم السفر إلى بلاد السودان فوصلت إلى مدينة “سجلماسة” وهي من أحسن المدن وبها التمر الكثير الطيب وتشبهها مدينة البصرة في كثرة التمر لكن تمر سجلماسة أطيب.. ثم سافرت في غرة شهر الله المحرم سنة ثلاث وخمسين في رفقة مقدمها أبو محمد يندكان المسوفي رحمه الله تعالى وفيها جماعة من تجار سجلماسة وغيرهم فوصلنا بعد خمسة وعشرين يوماً إلى “تَغازَى” وهي قرية لا خير فيها ومن عجائبها أن بناء بيوتها ومسجدها من حجارة الملح وسقفها من جلود الجمال ولا شجر بها إنما هي رمل في معدن الملح يحفر عليه في الأرض فيوجد منه ألواح ضخام متراكبة كأنها قد نحتت ووضعت تحت الأرض يحمل الجمل منها لوحين ولا يسكنها إلا عبيد مسوفة وهم الذين يحفرون على الملح ويتعيشون بما يجلب إليهم من تمر درعة وسجلماسة ومن لحوم الجمال ومن أنلي المجلوب من بلاد السودان، ويصل السودان من بلادهم فيحملون منها الملح ويباع الحمل منه بأيوالاتن بعشرة مثاقيل إلى ثمانية وبمدينة مالي بثلاثين مثقالاً إلى عشرين وربما انتهى إلى أربعين مثقالاً. وبالملح يتصارف السودان كما يتصارف بالذهب والفضة. يقطعونه قطعاً ويتبايعون به.
الصحراء (5)
وقرية تغازى على حقارتها يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التبن وأقمنا بها عشرة أيام في جهد لأن ماءها زعاق وهي أكثر المواضع ذباباً ومنها يرفع الماء لدخول الصحراء التي بعدها وهي مسيرة عشرة لا ماء فيها إلا في النادر ووجدنا نحن بها ماء كثيراً في غدران أبقاها المطر ولقد وجدنا في بعض الأيام غديراً بين تلين من حجارة ماؤه عذب فتروينا منه وغسلنا ثيابنا. والكمأة بتلك الصحراء كثيرة ويكثر القمل بها حتى يجعل الناس في أعناقهم خيوطاً فيها الزئبق فيقتلها. وكنا في تلك الأيام نتقدم أمام القافلة فإذا وجدنا مكاناً يصلح للرعي رعينا الدواب به ولم نزل كذلك حتى ضاع في الصحراء رجل يعرف بابن زيري فلم أتقدم بعد ذلك ولا تأخرت. وكان ابن زيري وقعت بينه وبين ابن خاله ويعرف بابن عدي منازعة ومشاتمة فتأخر عن الرفقة فضل. فلما نزل الناس لم يظهر له خبر فأشرت على ابن خاله بأن يكتري من مسوفة من يقص أثره لعله يجده فأبى وانتدب في اليوم الثاني رجل من مسوفة دون أجرة لطلبه فوجد أثره وهو يسلك الجادة طوراً ويخرج عنها تارة ولم يقع له على خبر. ولقد لقينا قافلة في طريقنا فأخبرونا أن بعض رجال انقطعوا عنهم فوجدنا أحدهم ميتاً تحت شجيرة من أشجار الرمل وعليه ثيابه وفي يده سوط. وكان الماء على نحو ميل منه.
ثم وصلنا إلى “تَاسرهٌلا” وهي احساء ماء تنزل القوافل عليها ويقيمون ثلاثة أيام فيستريحون ويصلحون أسقيتهم ويملأونها بالماء ويخيطون عليها التلاليس خوف الريح ومن هنالك يُبعث التكشيف. (و) التكشيف اسم لكل رجل من مسوفة يكتريه أهل القافلة فيتقدم إلى أيوالاتن يكتب الناس إلى أصحابهم بها ليكتروا لهم الدور ويخرجون للقائهم بالماء مسيرة أربع ومن لم يكن له صاحب بأيوالاتن كتب إلى من شهر بالفضل من التجار بها فيشاركه في ذلك. وربما هلك التكشيف في هذه الصحراء فلا يعلم أهل أيوالاتن بالقافلة فيهلك أهلها أو الكثير منهم. وتلك الصحراء كثيرة الشياطين فإن كان التكشيف منفرداً لعبت به واستهوته حتى يضل عن قصده فيهلك إذ لا طريق يظهر بها ولا أثر إنما هي رمال تسفيها الريح فترى جبالاً من الرمل في مكان ثم تراها قد انتقلت إلى سواه والدليل هنالك من كثر تردده وكان له قلب ذكي. ورأيت من العجائب أن الدليل الذي كان لنا هو أعور العين الواحدة مريض الثانية وهو أعرف الناس بالطريق. واكترينا التكشيف في هذه السفرة بمائة مثقال من الذهب وهو من مسوفة. وفي ليلة اليوم السابع رأينا نيران الذين خرجوا للقائنا فاستبشرنا بذلك.
إشراقة وحيات (5)
وهذه الصحراء منيرة مشرقة ينشرح الصدر فيها وتطيب النفس وهي آمنة من السراق والبقر الوحشية بها كثيراً يأتي القطيع منها حتى يقرب من الناس فيصطادونه بالكلاب والنشاب لكن لحمها يولد أكله العطش فيتحاماه كثير من الناس لذلك. ومن العجائب أن هذه البقرة إذا قتلت وجد في كروشها الماء ولقد رأيت أهل مسوفة يعصرون الكرش منها، ويشربون الماء الذي فيه. والحيات أيضاً بهذه الصحراء كثيرة وكان في القافلة تاجر تلمساني يعرف بالحاج زيان ومن عادته أن يقبض على الحيات ويعبث بها وكنت أنهاه عن ذلك فلا ينتهي فلما كان ذات يوم أدخل يده في حجر ضب ليخرجه فوجد مكانه حية فأخذها بيده وأراد الركوب فلسعته في سبابته اليمنى وأصابه وجع شديد فكويت يده وزاد ألمه عشي النهار فنحر جملاً وأدخل يده في كرشه وتركها كذلك ليلة ثم تناثر لحم إصبعه فقطعها من الأصل وأخبرنا أهل مسوفة ان تلك الحية كانت قد شربت الماء قبل لسعه ولو لم تكن شربت لقتلته.
إيوالاتن (5،6)
ولما وصل إلينا الذين استقبلونا بالماء شربت خيلنا ودخلنا صحراء شديدة الحر ليست كالتي عهدنا وكنا نرحل بعد صلاة العصر ونسري الليل كله وننزل عند الصباح. وتأتي الرجال من مسوفة وبردامة وغيرهم بأحمال الماء للبيع ثم وصلنا إلى مدينة “إيوالاتن” في غرة شهر ربيع الأول بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة وهي أول عمالة السودان ونائب السلطان بها فَرٌبَا ومعناه النائب. ولما وصلناها جعل التجار أمتعتهم في رحبة وتكفل السودان بحفظها وتوجهوا إلى الفربا وهو جالس على بساط في سقيف، أعوانه بين يديه بأيديهم الرماح والقسي وكبراء مسوفة من ورائه ووقف التجار بين يديه وهو يكلمهم بترجمان على قربهم منه احتقاراً لهم فعند ذلك ندمت على قدومي بلادهم لسوء أدبهم واحتقارهم للأبيض، وقصدت دار ابن بداء وهو رجل فاضل من أهل سلا كنت كتبت له أن يكتري لي داراً ففعل ذلك. ثم إن مشرف أيوالاتن ويسمى مَنٌشَاجُو استدعى من جاء في القافلة إلى ضيافته فأبيت حضور ذلك فعزم الأصحاب علي أشد العزم فتوجهت فيمن توجه ثم أتي بالضيافة وهي جريش أنلي مخلوطاً بيسير عسل ولبن قد وضعوه في نصف قرعة صيروه شبه الجفنة فشرب الحاضرون وانصرفوا فقلت لهم: ألهذا دعانا الأسود؟ قالوا: نعم، وهي الضيافة الكبيرة عندهم فأيقنت حينئذ أن لا خير يرتجى منهم وأردت أن أسافر مع حجاج أيوالاتن ثم ظهر لي أن أتوجه لمشاهدة حضرة ملكهم وكانت إقامتي بأيوالاتن نحو خمسين يوماً وأكرمني أهلها وأضافوني، منهم قاضيها محمد بن عبد الله بن ينومر وأخوه الفقيه المدرس يحيى، وبلدة أيوالاتن شديدة الحر وفيها يسير نخيلات يزرعون في ظلالها البطيخ وماؤهم من أحساء بها ولحم الضأن كثير بها وثياب أهلها حسان مصرية وأكثر السكان بها من مسوفة ولنسائها الجمال الفائق وهن أعظم شأناً من الرجال.
مخالطة (6)
وشأن هؤلاء القوم عجيب وأمرهم غريب فأما رجالهم فلا غيرة لديهم ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود وأما هؤلاء فهم مسلمون محافظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. ومن أراد التزوج منهن تزوج لكنهن لا يسافرن مع الزوج ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات. ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها فلا ينكر ذلك. دخلت يوماً على القاضي بأيوالاتن بعد إذنه في الدخول فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع فضحكت مني ولم يدركها خجل، وقال لي القاضي: لِم ترجع؟ إنها صاحبتي، فعجبت من شأنهما فإنه من الفقهاء الحجاج وأخبرت أنه استأذن السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته لا أدري أهي هذه أم لا، فلم يأذن له.
(و) دخلت يوماً على أبي محمد يندكان المسوفي الذي قدمنا في صحبته فوجدته قاعداً على بساط وفي وسط داره سرير مظلل عليه امرأة معها رجل قاعد وهما يتحدثان فقلت له: من هذه المرأة؟ فقال: هي زوجتي، فقلت: ومن الرجل الذي معها؟ فقال: هو صاحبها، فقلت له: أترضى بهذا؟ وأنت قد سكنت بلادنا وعرفت أمور الشرع، فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وأحسن طريقة لا تهمة فيها ولسن كنساء بلادكم. فعجبت من رعونته وانصرفت عنه فلم أعد إليه بعدها، واستدعاني في مرات فلم أجبه.
مالي (1،5)
ولما عزمت على السفر إلى مالي وبينها وبين أيوالاتن مسيرة أربعة وعشرين يوماً للمجد اكتريت دليلاً من مسوفة إذ لا حاجة إلى السفر في رفقة إلا من تلك الطريق وخرجت في ثلاثة من أصحابي وتلك الطريق كثيرة الأشجار وأشجارها عادية ضخمة تستظل القافلة بظل الشجرة منها وبعضها لا أغصان لها ولا ورق لكن ظل جسدها بحيث يستظل به الإنسان، وبعض تلك الأشجار قد استأسن داخلها واستنقع فيه ماء المطر فكأنها بئر ويشرب الناس من الماء الذي فيها ويكون في بعضها النحل والعسل فيشتره الناس منها، ولقد مررت بشجرة منها فوجدت في داخلها رجلاً حائكاً قد نصب بها مرمته وهو ينسج فعجبت منه..
والمسافر بهذه البلاد لا يحمل زاداً ولا إداماً ولا ديناراً ولا درهماً. إنما يحمل قطع الملح وحلي الزجاج الذي يسميه الناس النظم وبعض السلع العطرية.. فإذا وصل قرية جاءت نساء السودان بأنلي واللبن والدجاج ودقيق النبق والأرز والفوني وهو كحب الخردل يصنع من الكسكسو والعصيدة ودقيق اللوبيا فيشتري منهن ما أحب من ذلك إلا أن الأرز يضر أكله بالبيضان والفوني خير منه. وبعد مسيرة عشرة أيام من أيوالاتن وصلنا إلى قرية زاغرِي وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان ويسمون وَنٌجَراته ويسكن معهم جماعة من البيضان يذهبون مذهب الإباضية من الخوارج ويسمون صَغنغُو، والسنيون المالكيون من البيض يسمون عندهم تُورِي..
التمساح (5)
ثم (وصلنا) إلى “يُوِفي”، وهي من أكبر بلاد السودان وسلطانها من أعظم سلاطينهم ولا يدخلها الأبيض من الناس لأنهم يقتلونه قبل الوصول إليها.. ثم إلى “دُنلٌقُلَة”، وسلطانها يدعي بابن كنز الدين أسلم على أيام الملك الناصر ثم ينحدر إلى جنادل وهي آخر عمالة السودان وأول عمالة أسوان من صعيد مصر، ورأيت التمساح بهذا الموضع من النيل بالقرب من الساحل كأنه قارب صغير. ولقد نزلت يوماً إلى النيل لقضاء حاجة فإذا بأحد السودان قد جاء ووقف فيما بيني وبين النهر فعجبت من سوء أدبه وقلة حيائه وذكرت ذلك لبعض الناس فقال: إنما يفعل ذلك خوفاً عليك من التمساح فحال بينك وبينه..
العصيدة (1)
(ثم) وصلت إلى مدينة مالي حضرة ملك السودان فنزلت عند مقبرتها ووصلت إلى محلة البيضان وقصدت محمد بن الفقيه فوجدته قد اكترى لي داراً إزاء داره فتوجهت إليها.. وكان ابن الفقيه متزوجاً ببنت عم السلطان فكانت تتفقدنا بالطعام وغيره. وأكلنا بعد عشرة أيام من وصولنا عصيدة تصنع من شيء شبه القلقاس يسمى القافي وهي عندهم مفضلة على سائر الطعام فأصبحنا جميعاً مرضى وكنا ستة فمات أحدنا وذهبت أنا لصلاة الصبح فغشي علي فيها، وطلبت من بعض المصريين دواء مسهلاً فأتى بشيء يسمى بَيٌدَر وهو عروق نبات وخلطه بالأنيسون والسكر ولته بالماء فشربته وتقيأت ما أكلته مع صفراء كثيرة وعافاني الله من الهلاك ولكني مرضت شهرين.
سلطان مالي وكرم الضيافة (6،1)
وهو السلطان مَنٌسَى سليمان ومنسى معناه السلطان وسليمان اسمه وهو ملك بخيل لا يرجى منه كبير عطاء، واتفق أني أقمت هذه المدة ولم أره بسبب مرضي، ثم إنه صنع له طعاماً برسم عزاء مولانا أبي الحسن رضي الله عنه واستدعى الأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب وحضرت معهم فأتوا بالربعات وختم القرآن ودعوا لمولانا أبي الحسن رحمه الله ودعوا لمنسى سليمان ولما فرغ من ذلك تقدمت فسلمت على منسى سليمان وأعلمه القاضي والخطيب وابن الفقيه بحالي فأجابهم بلسانهم فقالوا لي: يقول لك السلطان اشكر الله، فقلت: الحمد لله والشكر على كل حال.
ذكر ضيافتهم التافهة وتعظيمهم لها: ولما انصرفت بعث إلي الضيافة فوجهت إلى دار القاضي وبعث القاضي بها مع رجاله إلى دار ابن الفقيه فخرج ابن الفقيه من داره مسرعاً حافي القدمين فدخل علي وقال: قم قد جاءك قماش السلطان وهديته فقمت وظننت أنها الخلع والأموال فإذا هي ثلاثة أقراص من الخبز وقطعة لحم بقري مقلو بالغرتي وقرعة فيها لبن رائب فعندما رأيتها ضحكت وطال تعجبي من ضعف عقولهم وتعظيمهم لهذا الشيء الحقير.
وأقمت بعد بعث هذه الضيافة شهرين لم يصل إلي فيهما شيء من قبل السلطان ودخل شهر رمضان وكنت خلال ذلك أتردد إلى المشور وأسلم عليه وأقعد مع القاضي والخطيب فتكلمت مع دوغا الترجمان فقال: تكلم عنده وأنا أعبر عنك بما يجب فجلس في أوائل رمضان وقمت بين يديه وقلت له إني سافرت بلاد الدنيا ولقيت ملوكها ولي ببلادك أربعة أشهر ولم تضفني ولا أعطيتني شيئاً فماذا أقول عنك عند السلاطين؟ فقال: إني لم أرك ولا علمت بك، فقام القاضي وابن الفقيه فردا عليه وقالا: إنه قد سلم عليك وبعثت إليه الطعام فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها ونفقة تجري علي ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالاً ليلة سبع وعشرين من رمضان يسمونه الزكاة وأعطاني معهم ثلاثة وثلاثين مثقالاً وثلثاً وأحسن إلي عند سفري بمائة مثقال ذهباً.
التتريب (4،6)
وله قبة مرتفعة بابها بداخل داره.. فإذا جلس أخرج من شباك إحدى الطاقات شرابة حرير قد ربط فيها منديل مصري مرقوم فإذا رأى الناس المنديل ضربت الأطبال والأبواق ثم يخرج من باب القصر نحو ثلاثمائة من العبيد في أيدي بعضهم القسي وفي أيدي بعضهم الرماح الصغار والدرق فيقف أصحاب الرماح منهم ميمنة وميسرة ويجلس أصحاب القسي كذلك ثم يؤتى بفرسين مسرجين ملجمين ومعهما كبشان يذكرون أنهما ينفعان من العين.. فمن أراد أن يكلم السلطان كلم دوغا ويكلم دوغا لذلك الواقف ويكلم الواقف السلطان..
ويجلس أيضاً في بعض الأيام بالمشور وهنالك مصطبة تحت شجرة لها ثلاث درجات يسمونها البَنٌبِي.. ويخرج بين يديه المغنون بأيديهم قنابر الذهب والفضة وخلفه نحو ثلاثمائة من العبيد أصحاب السلاح ويمشي مشياً رويداً ويكثر التأني وربما وقف فإذا وصل إلى البنبي وقف ينظر في الناس ثم يصعد برفق كما يصعد الخطيب المنبر وعند جلوسه تضرب الطبول والأبواق والأنفار ويخرج ثلاثة من العبيد مسرعين فيدعون النائب والفرارية فيدخلون ويجلسون ويؤتى بالفرسين والكبشين معهما ويقف دوغا على الباب وسائر الناس في الشارع تحت الأشجار.
والسودان أعظم الناس تواضعاً لملكهم وأشدهم تذللاً له ويحلفون باسمه فيقولون: منسى سليمان كي، فإذا دعا بأحدهم عند جلوسه بالقبة التي ذكرناها نزع المدعو ثيابه ولبس ثياباً خلقة ونزع عمامته وجعل شاشية وسخة ودخل رافعاً ثيابه وسراويله إلى نصف ساقه وتقدم بذلة ومسكنة وضرب الأرض بمرفقيه ضرباً شديداً ووقف كالراكع يسمع كلامه. وإذا كلم أحدهم السلطان فرد عليه جوابه كشف ثيابه عن ظهره ورمى بالتراب على رأسه وظهره كما يفعل المغتسل بالماء، وكنت أعجب منهم كيف لا تعمى أعينهم، وإذا تكلم السلطان في مجلسه بكلام وضع الحاضرون عمائمهم عن رؤوسهم وأنصتوا للكلام وربما قام أحدهم بين يديه فيذكر أفعاله في خدمته ويقول: فعلت كذا يوم كذا وقتلت كذا يوم كذا فيصدقه من علم ذلك وتصديقهم أن ينزع أحدهم وتر قوسهم ثم يرسلها كما يفعل إذا رمى، فإذا قال له السلطان: صدقت أو شكره نزع ثيابه وترب وتربع وذلك عندهم من الأدب. قال ابن جزي: وأخبرني الصاحب العلامة الفقيه أبو القاسم بن رضوان أعزه الله أنه لما قدم الحاج موسى الونجراتي رسولاً من منسى سليمان إلى مولانا أبي الحسن رضي الله عنه كان إذا دخل المجلس الكريم حمل بعض ناسه معه قفة تراب فيترب كلما قال له مولاناً كلاماً حسناً كما يفعل ببلاده..
أضحوكة الشعر (4)
ذكر الأضحوكة في إنشاد الشعراء للسلطان: وإذا كان يوم عيد وأتم دوغا لعبه جاء الشعراء ويسمون “الجُلا” وأحدهم جالي وقد دخل كل واحد منهم في جوف صورة مصنوعة من الريش تشبه الشقشاق وجعل لها رأس من الخشب له منقار أحمر كأنه رأس الشقشاق، ويقفون بين يدي السلطان بتلك الهيئة المضحكة فينشدون أشعارهم، وذكر لي أن شعرهم نوع من الوعظ يقولون فيه للسلطان: “إن هذا البنبي الذي عليه جلس فوقه من الملوك فلان وكان من حسن أفعاله كذا، وفلان كان من أفعاله كذا فافعل أنت من الخير ما يذكر بعدك”، ثم يصعد كبير الشعراء على درج البنبي ويضع رأسه في حجر السلطان ثم يصعد إلى أعلى البنبي فيضع رأسه على كتف السلطان الأيمن ثم على كتفه الأيسر وهو يتكلم بلسانهم ثم ينزل. وأخبرت أن هذا الفعل لم يزل قديماً عندهم قبل الإسلام فاستمروا عليه.
الجرادة (4،3)
وحضرت مجلس السلطان في بعض الأيام فأتى أحد فقهائهم وكان قدم من بلاد بعيدة وقام بين يدي السلطان وتكلم كلاماً كثيراً فقام القاضي فصدقه ثم صدقهما السلطان فوضع كل واحد منهم عمامته عن رأسه وترب بين يديه وكان إلى جانبي رجل من البيضان فقال: أتعرف ما قالوه؟ فقلت: لا أعرف، فقال: إن الفقيه قد أخبر أن الجراد وقع ببلادهم فخرج أحد صلحائهم إلى موضع الجراد فهاله أمره فقال: هذا جراد كثير فأجابته جرادة منها وقالت إن البلاد التي يكثر فيها الظلم يبعثنا الله لفساد زرعها فصدقه القاضي والسلطان وقال عند ذلك للأمراء: إني برئ من الظلم ومن ظلم منكم عاقبته ومن علم بظالم ولم يعلمني له فذنوب ذلك الظالم في عنقه والله حسيبه وسائله. ولما قال هذا الكلام وضع الفرارية عمائمهم عن رؤوسهم وتبرؤوا من الظلم.
وحضرت الجمعة يوماً فقام أحد التجار من طلبة مسوفة ويسمى بأبي حفص فقال: يا أهل المسجد أشهدكم أن منسى سليمان في دعوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك خرج إليه جماعة رجال من مقصورة السلطان فقالوا له: من ظلمك؟ من أخذ لك شيئا؟ فقال: منشاجو أيوالاتن – يعني مشرفها- أخذ مني ما قيمته ستمائة مثقال وأراد أن يعطيني في مقابلته مائة مثقال خاصة فبعث السلطان إليه عنه للحين فحضر بعد أيام وصرفها للقاضي فثبت للتاجر حقه فأخذه وبعد ذلك عزل المشرف عن عمله.
بنات عم السلطان (4،6)
واتفق في يوم إقامتي بمالي أن السلطان غضب على زوجته الكبرى بنت عمه المدعوة بقاسا ومعنى قاسا عندهم الملكة وهي شريكته في الملك على عادة السودان ويذكر اسمها مع اسمه على المنبر وسجنها عند بعض الفرارية وولى في مكانها زوجته الأخرى بنجو ولم تكن من بنات الملوك فأكثر الناس الكلام في ذلك وأنكروا فعله ودخل بنات عمه على بنجو يهنئنها بالمملكة فجعلن الرماد على أذرعهن ولم يتربن رؤوسهن، ثم إن السلطان سرح قاسا من ثقافها فدخل عليها بنات عمه يهنئنها بالسراح وتربن على العادة فشكت بنجو إلى السلطان بذلك فغضب على بنات عمه فخفن منه واستجرن بالجامع فعفا عنهن واستدعاهن، وعادتهن إذا دخلن على السلطان أن يتجردن عن ثيابهن ويدخلن عرايا ففعلن ذلك ورضي عنهن وصرن يأتين باب السلطان غدواً وعشياً مدة سبعة أيام وكذلك يفعل كل من عفا عنه السلطان..
عادات مستحسنة وأخرى مستقبحة (4،6)
ذكر ما استحسنته من أفعال السودان: فمن أفعالهم الحسنة قلة الظلم فهم أبعد الناس عنه وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاصب. ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان ولو كان القناطير المقنطرة إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان حتى يأخذه مستحقه. ومنها مواظبتهم للصلوات والتزامهم لها في الجماعات وضربهم أولادهم عليها وإذا كان يوم الجمعة ولم يبكر الإنسان إلى المسجد لم يجد أين يصلي لكثرة الزحام ومن عادتهم أن يبعث كل إنسان غلامه بسجادته فيبسطها له بموضع يستحقه بها حتى يذهب إلى المسجد وسجاداتهم من سعف شجر يشبه النخل ولا ثمر له. ومنها لباسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة ولو لم يكن لأحدهم إلا قميص خلق غسله ونظفه وشهد به الجمعة. ومنها عنايتهم بحفظ القرآن العظيم وهم يجعلون لأولادهم القيود إذا ظهر في حقهم التقصير في حفظه فلا تفك عنهم حتى يحفظوه، ولقد دخلت على القاضي يوم العيد وأولاده مقيدون فقلت له: ألا تسرحهم؟ فقال: لا أفعل حتى يحفظوا القرآن، ومررت يوماً بشاب منهم حسن الصورة عليه ثياب فاخرة وفي رجله قيد ثقيل فقلت لمن كان معي ما فعل هذا أقتل؟ ففهم عني الشاب وضحك وقيل لي: إنما قيد حتى يحفظ القرآن.
ومن مساوئ أفعالهم كون الخدم والجواري والبنات الصغار يظهرن للناس عرايا باديات العورات ولقد كنت أرى في رمضان كثيراً منهن على تلك الصورة فإن عادة الفرارية أن يفطروا بدار السلطان ويأتي كل واحد منهم بطعامه تحمله العشرون فما فوقهن من جواريه وهن عرايا. ومنها دخول النساء على السلطان عرايا غير مستترات وتعري بناته، ولقد رأيت في ليلة سبع وعشرين من رمضان نحو مائة جارية خرجن بالطعام من قصره عرايا ومعهن بنتان له ناهدان ليس عليهما ستر. ومنها جعلهم التراب والرماد على رؤوسهم تأدبا. ومنها ما ذكرته من الأضحوكة في إنشاد الشعراء. ومنها أن كثيراً منهم يأكلون الجيف والكلاب والحمير.
خيل البحر (5)
وكان دخولي إليها (مالي) في الرابع عشر لجمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وخروجي عنها في الثاني والعشرين لمحرم سنة أربع وخمسين ورافقني تاجر يعرف بأبي بكر ابن يعقوب وقصدنا طريق ميمة وكان لي جمل أركبه لأن الخيل غالية الأثمان يساوي أحدها مائة مثقال، فوصلنا إلى خليج كبير يخرج من النيل لا يجاز إلا في المراكب وذلك الموضع كثير البعوض فلا يمر أحد به إلا بالليل ووصلنا الخليج ثلث الليل والليل مقمر، ولما وصلنا الخليج رأيت على ضفته ست عشرة دابة ضخمة الخلقة فعجبت منها وظننتها فيلة لكثرتها هنالك ثم إني رأيتها دخلت في النهر فقلت لأبي بكر ابن يعقوب: ما هذه الدواب؟ فقال: هي خيل البحر خرجت ترعى في البر وهي أغلظ من الخيل ولها أعراف وأذناب ورؤوسها كرؤوس الخيل وأرجلها كأرجل الفيلة.. ولهم حيلة في صيدها حسنة وذلك أن لهم رماحاً مثقوبة قد جعل في ثقبها شرائط وثيقة فيضربون الفرس منها فإن صادفت الضربة رجله أو عنقه أنفذته وجذبوه بالحبل حتى يصل إلى الساحل فيقتلونه ويأكلون لحمه ومن عظامها بالساحل كثير.
أكل الأبيض (3،7)
وكان نزولنا عند هذا الخليج بقرية كبيرة عليها حاكم من السودان حاج فاضل يسمى فَربامغا وهو ممن حج مع السلطان “منسى موسى” (جد ملك مالي) لما حج. أخبرني فربامغا أن منسى موسى لما وصل إلى هذا الخليج كان معه قاض من البيضان يكنى بأبي العباس ويعرف بالدكالي فأحسن إليه بأربعة آلاف مثقال لنفقته، فلما وصلوا إلى “ميمة” شكا إلى السلطان بأن الأربعة آلاف مثقال سرقت له من داره فاستحضر السلطان أمير ميمة وتوعده بالقتل إن لم يحضر من سرقها وطلب الأمير السارق فلم يجد أحداً، ولا سارق يكون بتلك البلاد. فدخل دار القاضي واشتد على خدامه وهددهم فقالت له إحدى جواريه: ما ضاع له شيء وإنما دفنها بيده في ذلك الموضع وأشارت له إلى الموضع فأخرجها الأمير وأتى بها السلطان وعرفه الخبر فغضب على القاضي ونفاه إلى بلاد الكفار الذين يأكلون بني آدم، فأقام عندهم أربع سنين ثم رده إلى بلده، وإنما لم يأكله الكفار لبياضه لأنهم يقولون إن أكل الأبيض مضر لأنه لم ينضج والسواد هو النضج بزعمهم.
قدمت على السلطان “منسى سليمان” جماعة من هؤلاء السودان الذين يأكلون بني آدم معهم أمير لهم. وعادتهم أن يجعلوا في آذانهم أقراطاً كباراً وتكون فتحة القرط منها نصف شبر ويلتحفون في ملاحف الحرير وفي بلادهم يكون معدن الذهب فأكرمهم السلطان وأعطاهم في الضيافة خادمة فذبحوها وأكلوها ولطخوا وجوههم وأيديهم بدمها وأتوا السلطان شاكرين. وأخبرت أن عادتهم متى ما وفدوا عليه أن يفعلوا ذلك وذكر لي عنهم أنهم يقولون إن أطيب ما في لحوم الآدميات الكف والثدي.
الجمل المأكول (1،4)
ثم رحلنا من هذه القرية التي عند الخليج فوصلنا إلى بلدة قُرِي منسا ومات لي بها الجمل الذي كنت أركبه فأخبرني راعيه بذلك فخرجت لأنظر إليه فوجدت السودان قد أكلوه كعادتهم في أكل الجيف..
تمبكتو (5)
ثم سافرنا منها إلى مدينة تُنٌبُكٌتُو، وبينها وبين النيل أربعة أميال وأكثر سكانها مسوفة أهل اللثام وحاكمها يسمى “فربا موسى”.. ومن تنبكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة وكنا ننزل كل ليلة بالقرى فنشتري ما نحتاج إليه من الطعام والسمن بالملح وبالعطريات وبحلي الزجاج.
البربر (6)
ثم وصلنا إلى بلاد “برٌدَامَة”، وهي قبيلة من البربر، ولا تسير القوافل إلا في خفارتهم والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأناً من الرجل وهم رحالة لا يقيمون وبيوتهم غريبة الشكل ويقيمون أعواداً من الخشب ويضعون عليها الحصر وفوق ذلك أعواد مشتبكة وفوقها الجلود أو ثياب القطن ونساؤهم أتم النساء جمالاً وأبدعهن صوراً مع البياض الناصع والسمن ولم أر في البلاد من يبلغ مبلغهن في السمن وطعامهن حليب البقر وجريش الذرة يشربنه مخلوطاً بالماء غير مطبوخ عند المساء والصباح. ومن أراد التزوج منهن سكن بهن في أقرب البلاد إليهن ولا يتجاوز بهن “كوكو” ولا “أيوالاتن”. وأصابني المرض في هذه البلاد لإشتداد الحر وغلبة الصفراء.
العقارب (5،1)
واجتهدنا في السير إلى أن وصلنا إلى مدينة “تَكدا” ونزلت بها في جوار شيخ المغاربة سعيد بن علي الجزولي.. وديار تكدا مبنية بالحجارة الحمر وماؤها يجري على معادن النحاس فيتغير لونه وطعمه بذلك ولا زرع بها إلا يسير من القمح يأكله التجار والغرباء.. وهي كثيرة العقارب وعقاربها تقتل من كان صبياً لم يبلغ وأما الرجال فقلما تقتلهم، ولقد لدغت يوماً وأنا بها ولداً للشيخ سعيد بن علي عند الصبح فمات لحينه وحضرت جنازته، ولا شغل لأهل تكدا غير التجارة يسافرون كل عام إلى مصر ويجلبون من كل ما بها من حسان الثياب وسواها. ولأهلها رفاهية وسعة بال ويتفاخرون بكثرة العبيد والخدم وكذلك أهل مالي وأيوالاتن ولا يبيعون المعلمات منهن إلا نادراً وبالثمن الكثير.
أردت لما دخلت تكدا شراء خادم معلمة فلم أجدها ثم بعث إلي القاضي أبو إبراهيم بخادم لبعض أصحابه فاشتريتها بخمسة وعشرين مثقالاً ثم إن صاحبها ندم ورغب في الإقالة فقلت له: إن دللتني على سواها أقلتك. فدلني على خادم لعلي أغيول وهو المغربي التادلي الذي أبى أن يرفع شيئاً من أسبابي حين وقعت ناقتي وأبى أن يسقي غلامي الماء حين عطش فاشتريتها منه وكانت خيراً من الأولى وأقلت صاحبي الأول ثم ندم هذا المغربي على بيع الخادم ورغب في الإقالة وألح في ذلك فأبيت إلا أن أجازيه بسوء فعله فكاد أن يجن أو يهلك أسفاً ثم أقلته بعد..
سُراق يحترمون رمضان (4،5)
وقصدت السفر إلى “توات” ورفعت زاد سبعين ليلة إذ لا يوجد الطعام فيما بين تكدا وتوات وإنما يوجد اللحم واللبن والسمن يشترى بالأثواب، وخرجت من تكدا يوم الخميس الحادي عشر لشعبان سنة أربع وخمسين في رفقة كبيرة.. ووصلنا إلى بلاد “هكار” وهم طائفة من البربر ملثمون لا خير عندهم ولقينا أحد كبرائهم فحبس القافلة حتى غرموا له أثواباً وسواها، وكان وصولنا إلى بلادهم في شهر رمضان وهم لا يغيرون فيه ولا يعترضون القوافل وإذا وجد سراقها المتاع بالطريق في رمضان لم يعرضوا له وكذلك جميع من بهذه الطريق من البرابر.
التمر والجراد (4)
ثم وصلنا إلى “بُودا” وهي من أكبر قرى توات وأرضها رمال وسباخ وثمرها كثير ليس بطيب لكن أهلها يفضلونه على ثمر سجلماسة ولا زرع بها ولا سمن ولا زيت وإنما يجلب لها ذلك من بلاد المغرب وأكل أهلها التمر والجراد وهو كثير عندهم يختزنونه كما يختزن التمر ويقتاتون به ويخرجون إلى صيده قبل طلوع الشمس فإنه لا يطير إذ ذاك لأجل البرد.
سجلماسة ونهاية الرحلة (5،1)
وأقمنا ببودا أياماً ثم سافرنا في قافلة ووصلنا في أوسط ذي القعدة إلى مدينة سجلماسة وخرجت منها في ثاني ذي الحجة وذلك أوان البرد الشديد ونزل بالطريق ثلج كثير ولقد رأيت الطرق الصعبة والثلج الكثير ببخارى وسمرقند وخراسان وبلاد الأتراك فلم أر أصعب من طريق أم جنيبة. ووصلنا ليلة عيد الأضحى إلى دار الطمع فأقمت هنالك يوم عيد الأضحى ثم خرجت فوصلت إلى حضرة فاس حضرة مولانا أمير المؤمنين أيده الله فقبلت يده الكريمة وتيمنت بمشاهدة وجهه المبارك وأقمت في كنف إحسانه بعد طول الرحلة. والله تعالى يشكر ما أولانيه من جزيل إحسانه وسابغ امتنانه ويديم أيامه ويمتع المسلمين بطول بقائه.
وههنا انتهت الرحلة المسماة “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”. وكان الفراغ من تقييدها في ثالث ذي الحجة عام ستة وخمسين وسبعمائة. والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال ابن جزي في نهاية تدوينه للرحلة
انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد بن بطوطة أكرمه الله. ولا يخفى على ذي عقل أن هذا الشيخ هو رحال العصر. ومن قال: رحال هذه الملة لم يبعد ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة. واتخذ حضرة فاس مقراً ومستوطناً بعد طول جولانه لما تحقق أن مولانا أيده الله أعظم ملوكها شأناً وأعمهم فضائل وأكرمهم إحساناً وأشدهم بالواردين عليه عناية وأتمهم بمن ينتمي إلى طلب العلم حماية. فيجب على مثلي أن يحمد الله تعالى لأن وفقه في أول حاله وترحاله لاستيطان هذه الحضرة التي اختارها هذا الشيخ بعد رحلة خمسة وعشرين عاماً. إنها لنعمة لا يقدر قدرها ولا يوفى شكرها والله تعالى يرزقنا الإعانة على خدمة مولانا أمير المؤمنين ويبقي علينا ظل حرمته ورحمته ويجزيه عنا معشر الغرباء المنقطعين إليه أفضل جزاء المحسنين. اللهم وكما فضلته على الملوك بفضيلتي العلم والدين وخصصته بالحلم والعقل الرصين فمد لملكه أسباب التأييد والتمكين وعرفه عوارف النصر العزيز والفتح المبين وأجعل الملك في عقبه إلى يوم الدين وأره قرة العين في نفسه وبنيه وملكه ورعايته يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا ومولانا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من تأليفها في شهر صفر عام سبعة وخمسين وسبعمائة.
تحميل الملخص على شكل PDF