ملخص كتاب تاريخ الجبرتى أبرز قصص الكتاب، مختارة وملخصة ومرتبة لتوفير المعلومة في أبهى حلة.. قصص واقعية من التجربة نستخرج منها العبر والفوائد.
مقدمة
عاش المؤلف في عهد الدولة العثمانية وألف هذا الكتاب في سنة 1220 تقريبا، وذكر أبرز ما وقع في مصر في زمنه، وكان ميالا للتصوف والأشعرية (أي لأهل البدع).
ومن المحققين للكتاب شخص مسيحي، أستغرب من تحقيقه له، إذ كيف يحقق كتب المسلمين وتراثهم من ليس منهم بل من خصومهم، ويطبعها لهم؟!
تم تأليف هذا الكتاب في أواخر القرن 12، وهي الفترة التي عاصر المؤلف.
أقوال وحِكم
كتب المؤلف:
“من استغنى بعقله ضل، ومن اكتفى برأيه زل، ومن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب، ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول. ومن نظر في العواقب سلم من النوائب”.
كل محنة إلى زوال، وكل نعمة إلى انتقال.
رأيت الدهر مختلفا يدور *** فلا حزن يدوم ولا سرور
وشيدت الملوك به قصورا *** فما بقي الملوك ولا القصور
من كبرت همته كثرت قيمته.
لا تثق في الدولة فإنها ظل زائل، ولا تعتمد على النعمة فإنها ضيف راحل، فإن الدنيا لا تصفو لشارب ولا تفي لصاحب.
إذا كان الطباع طباع سوء *** فليس بنافع أدب الأديب
ومن يبتدع غير خيم نفسه *** يدعه ويغلب على النفس خيمها
الذي يجمع الفضائل والرذائل، هو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم، وقد تكتسب الأخلاق من معاشرة الأخلاء، إما بالصلاح أو بالفساد، فرب طبع كريم أفسدته معاشرة الأشرار، وطبع لئيم أصلحته مصاحبة الأخيار، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل”.
وقال عمرو بن العاص: “المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن وضعها اتضعت”.
والنفس إن أصلحتها صلحت، وإن أفسدتها فسدت، قال الشاعر:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى *** فإن هي أطعمت تاقت وإلا تسلت
وقالوا: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه. وكفاك تأديبا ما كرهه الناس من غيرك، قال الشاعر:
كفا أدبا لنفسك ما تراه *** لغيرك شائنا بين الأنام
وقالوا: من نظر في عيوب الناس فانكرها، ثم رضيها لنفسه، فذلك هو الأحمق بعينه. قال الشاعر:
لا تلم المرء على فعله *** وانت منسوب إلى مثله
من ذم شيئا وأتى مثله *** فإنما دل على جهله
الخلافة بعد الرسول ثلاثون سنة
اعلم أن أول خليفة على الأرض هو آدم عليه السلام، ثم تبعته الرسل كل إلى قومه إلى أن جاء خاتمهم الرسول الأكرم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله إلى الثقلين.
ثم قام بالأمر بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واستمرت الخلافة إلى موت علي بن أبي طالب، ولم تصف له بمغالبة معاوية رضوان الله عليهم أجمعين، وبموت علي تمت مدة الخلافة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “الخلافة بعدي ثلاثون سنة”، ثم تكون ملكا عضوضا، وبخلافة معاوية كان ابتداء دولة الأمويين، وانقرضت بظهور أبي مسلم الخراساني (مؤسس الدولة وأحد كبار القادة كان فصيحا بالعربية والفارسية، مقداما داهية حازما، راوية للشعر)، وإظهار دولة بني العباس.
فكان أولهم السفاح (بينه وبين العباس بن عبد المطلب 3 آباء، بويع بالكوفة وصفا له الملك بعد مقتل مروان بن محمد، أخر الخلفاء الأمويين)، وظهرت دولتهم الظهور التام، وبلغت القوة الزائدة والضخامة العظيمة، ثم أخذت في الإنحطاط بتغلب الأتراك والديلم، ولم تزل كذلك وليس للخلفاء من الخلافة إلا الإسم حتى ظهرت فتنة التتار التي أبادت العالم، فقتل الخليفة العباسي العتصم وهو آخر الخلفاء العباسيين على يد هولاكوخان الذي ملك بغداد.
وفي عهد عمر بن الخطاب افتتحت الديار المصرية والبلاد الشامية على يد عمرو بن العاص، ولم تزل في النيابة إلى ان ضعفت الخلافة العباسية بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة 247، وتغلب على النواحي كل متملك لها.
ذكر ملوك مصر بعد الخلافة العباسية، شؤم شاور
انفرد احمد بن طولون بمملكة مصر والشام، وكذلك أولاده من بعده. ثم دولة الأخشيد وبعده كافور أبو المسك ممدوح المتنبي، ولما مات قدم جوهر القائد من قِبل المعز الفاطمي من المغرب، فملكها من غير ممانع، وأسس القاهرة، وذلك في سنة 361، وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله، ومعه رمم آبائه وأجداده محمولة في توابيت، وسكن بالقصرين، وادعى الخلافة لنفسه دون العباسيين.
وأول ظهور أمرهم في سنة 270، فظهر عبد الله بن عبيد الملقب بالمهدي، وهو جد بني عبيد، الخلفاء المصريين العبيديين الروافض باليمن، وأقام على ذلك إلى سنة 278، فحج تلك السنة، واجتمع بقبيلة من كنانة، فاعجبهم حاله، فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة، فصحبهم إلى المغرب.
فنما شأنه وشان اولاده من بعده إلى أن حضر المعز إلى مصر، فملكوا نيفا ومائتين من السنين إلى أن ضعف أمرهم في أيام العاضد، وسوء سياسة وزيره شاور، فتملكت الإفرنج بلاد السواحل الشامية، وظهر بالشام نور الدين محمود بن زنكي، فاجتهد في قتال الإفرنج، واستخلاص م استولوا عليه من بلاد المسلمين، وجهز أسد الدين شيركوه بعساكر لأخذ مصر، فحاصرها نحو شهرين، فاستنجد العاضد بالإفرنج، فحضروا من دمياط، فرحل أسد الدين إلى الصعيد، فجبى خراجه، ورجع إلى الشام.
وقصد الإفرنج الديار المصرية في جيش عظيم، وملكوا بلبيس، وكانت إذ ذاك مدينة حصينة، ووقعت حروب بين الفريقين وكانت الغلبة على المصريين، وأحاطوا بالإقليم برا وبحرا، وضربوا على أهله الضرائب، ثم إن الوزير شاور أشار بحرق الفسطاط، فأمر الناس بالجلاء عنها، وأرسل عبيده بالشعل والنفوط، فأوقدوا فيها النار فاحترقت عن آخرها، واستمرت النار فيها 54 يوما.
وأرسل الخليفة العاضد يستنجد بنور الدين، وبعث إليه بشعور نسائه، فأرسل إليه جندا كثيفا، وعليهم أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين يوسف، فارتحل الإفرنج عن البلاد، وقبض أسد الدين على شاور الذي أشار بحرق المدينة وصلبه.
ذكر الملوك الأيوبية: صلاح الدين وإظهار السنة
وخلع العاضد على أسد الدين الوزارة، فلم يلبث أن مات بعد خمسة وستين يوما، فولى العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين، وقلده المور ولقبه الملك الناصر، فبذل لله همته، وأعمل حيلته، وأخذ في إظهار السنة وإخفاء البدعة، فثقل أمره على الخليفة العاضد، فأبطن له فتنة أثارها في جنده ليتوصل بها إلى هزيمة الأكراد وإخراجهم من بلاده، فتفاقم الأمر وانشقت العصا، ووقعت حروب بين الفريقين أبلى فيها صلاح الدين وأخوه شمس الدين بلاء حسنا، وانتصرا.
فملك الناصر القصر وضيق على الخليفة وحبس أقاربه وقتل أعيان دولته، واحتوى على ما في القصور من الذخائر والأموال والنفائس، بحيث استمر البيع فيه 10 سنين غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه، وخطب للمستضيء العباسي بمصر، وسير البشارة بذلك إلى بغداد، ومات العاضد قهرا.
واظهر الناصر يوسف الشريعة المحمدية وطهر الإقليم من البدع والتشيع والعقائد الفاسدة، وأظهر هقائد أهل السنة والجماعة وهي عقائد الأشاعرة والماتريدية، وبعص إليه أبو حامد الغزالي بكتاب ألفه له في العقائد، فحمل الناس على العمل بما فيه (لقد كذب ابن بطوطة في كتابه على ابن تيمية، فهل يمكن أن يكون ما أورد هذا المؤرخ مثل ذلك؟!).
ولما توفي نور الدين الشهيد انضم إليه ملك الشام، وواصل الجهاد، وأخذ في استخلاص ما تغلب عليه الكفار من السواحل وبيت المقدس بعدما أقام بيد الإفرنج نيفا وإحدى وتسعين سنة، وأزال ما أحدثه الإفرنج من الآثار والكنائس ولم يهدم القمامة إقتداء بعمر رضي الله عنه (وهي كنيسة القيامة التي بالقدس، ويحج إليها المسيحيون من كل أرجاء المعمورة)، واتسع ملكه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة 589 ولم يترك إلا أربعين درهما.
وهو الذي أنشأ قلعة الجبل وسور القاهرة العظيم، ثم استمر الأمر في أولاده وأولاد أخيه الملك العادل، وحضر الإفرنج أيضا إلى مصر في أيام الملك الكامل بن العادل، وملكوا دمياط وهدموها، فحاربهم شهورا حتى أجلاهم. وحضورا أيضا في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وملكوا دمياط، فحاربهم 14 شهرا وهو مريض، وانحصر جهة الشرق، وأنشا مدينة المنصورة، ومات بها 647، والحرب قائمة، وأخفت زوجته شجرة الدر موته، ودبرت الأمور حتى حضر ابنه توران شاه من حصن كيفا، وانهزمت الإفرنج وأسر ملكهم ريدا، وكانوا طائفة الفرنسيس.
المماليك (الأتراك)
والملك الصالح هذا هو أول من اشترى المماليك، واتخذ منهم جندا كثيفا، وبنى لهم قلعة الروضة، وأسكنهم بها، وسماهم البحرية، ومقدمهم الفارس أقطاي.
ولما تملك توران شاه استوحش من مماليك أبيه واستوحشوا منه، فتعصبوا عليه وقتلوه بفارسكور، وقلدوا في السلطنة شجرة الدر ثلاثة أشهر، ثم خُلعت، وهي آخر الدولة الأيوبية، ومدة ولايتهم 81 سنة.
ثم تولى سلطنة مصر عز الدين أيبك التركماني الصالحي سنة 648، وهو أول الدولة التركية بمصر، ولما قتل ولوا ابنه المظفر علي، فلما وقعت حادثة التتار العظيمة، خلع المظفر لصغره وتولى الملك المظفر قطز، وخرج بالعساكر المصرية لمحاربة التتار، فظهر عليهم وهزمهم، ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، بعد أن ملكوا معظم المعمور من الأرض.
وفي سنة 654 ملكوا سائر بلاد الروم بالسيف وفي البحر، فلما فرغوا من ذلك جميعه نزل هولاكوخان وهو بن طلون بن جنكيز خان على بغداد، وذلك سنة 656، فسفكوا الدماء، وجرى في بغداد ما لم يسمع بمثله في الآفاق، ثم إن هولاكو أمر بعد القتلى، فلبغوا مليون و800 ألف وزيادة، ثم تقدم التتار إلى بلاد الجزيرة ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على حلب في سنة 658 واستولوا عليها وأحرقوا المساجد وجرت الدماء في الأزقة وفعلوا ما لم يفعل مثله.
ثم وصلوا إلى دمشق فخرج سلطانها هاربا، وتسلموها بالأمان ثم غدروا بهم، ثم وصلوا إلى بيت المقدس فخرج إليهم سلطان مصر بجيش الترك، فالتقاهم عند عين جالوت، فكسرهم وشردهم، وولوا الأدبار، وطمع الناس فيهم يتخطفونهم، ووصلت البشائر بالنصر فطار الناس فرحا.
ودخل المظفر إلى دمشق مؤيدا منصورا، وأحبه الخلق محبة عظيمة، وساق بيبرس خلف التتار إلى بلاد حلب وطردهم، وكان السلطان وعده بحلب، ثم رجع عن ذلك فتأثر بيبرس وأضمر له الغدر، وكذلك السلطان، وأسر ذلك إلى بعض خواصه، فاطلع بيبرس، فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبه، فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفر، فقتلوه في الطريق.
بيبرس
وتسلطن بيبرس ودخل مصر سلطانا، وتلقب بالملك الظاهر، وذلك سنة 658، وهو أحد المماليك البحرية، وعندما استقر بالقلعة أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات، وجهز الحج بعد انقطاعه 12 سنة بسبب فتنة التتار.
واستمر ملك بيبرس 17 سنة حتى مات بدمشق، وكان من أعظم الملوك شهامة وصرامة وانقيادا للشرع، وله مآثر كثيرة منها رد الخلافة لبني العباس وذلك بتنصيب خليفة منهم بعد إثبات نسبه، ثم إن الخليفة عزم على الذهاب إلى العراق فشيعه بيبرس إلى دمشق، وسافر الخليفة ومعه صاحب الموصل حتى تجاوزا هيت فخرج عليهم التتار، وعُدم الخليفة ولم يعلم له خبر.
وبعد أيام حضر شخص آخر من بني العباس وكان أيضا مختفيا، واستمرت الخلافة بمصر، وأقام الحاكم فيها نيفا وأربعين سنة، وهذه من مناقب الملك الظاهر.
ولما مات الظاهر تولى بعده ابنه الملك السعيد ثم أخوه الملك العادل وكان صغيرا، والأمر لقلاوون فخلعه، واستبد بالملك، ولقب بالملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي النجمي جد الملوك القلاوونية، وهو صاحب الخيرات، وله فتوحات بسواحل البحر الرومي ومصافات مع التتار وغير ذلك، تولى سنة 678 ومات سنة 689، وكانت مدته 11 سنة.
وتولى بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وكان بطلا شجاعا ذا همة علية ورياسة مرضية، خانه وزراؤه وغدروه وقتلوه بترانة جهة البحيرة سنة 693، وتولى بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي النجمي، أقيم في السلطنة وعمره 9 سنين، فأقام سنة وخُلع بمملوك أبيه زين الدين كتبغا الملك العادل.
فثار حسام الدين لاجين المنصوري نائب السلطنة على العادل، وتسلطن عوضه، ثم ثار عليه طغى وكبرى، فقتلاه وقُتلا أيضا، واستدعي الناصر من الكرك، وأعيد إلى السلطنة مرة ثانية، فأقام 10 سنين محجورا علي، والقائم بتدبير الدولة الأميران بيبرس الجاشنكير وسلار، نائب السلطنة، فدبر لنفسه في سنة 708، وأظهر انه يريد الحج بعياله، فوافقه الأميران على ذلك، وشرعا في تجهيزه.
فخرج معه جماعة من الأمراء، وعاد بيبرس وسلار ن غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة، فرحل من ليلته، وتوجه إلى الكرك ونزل بقلعتها، وصرح بانه قد ثنى عزمه عن الحج، واختار الإقامة بالقلعة، وترك السلطنة ليتريح، وكتب إلى الأمراء بذلك، وسأل أن ينعموا عليه بالكرك والشوبك، وأعاد من معه من الأمراء وسلمهم الهجن وعدتها 500 هجين، والمال والجمال وأمر نائب الكرك بالمسير عنه.
وتسلطن بيبرس الجاشنكير وتلقب الملك المظفر، وكتب للناصر تقليدا بنيابة الكرك، فخطب باسم المظفر على منبر الكرك، فلم يتركه المظفر، وأخذ يناكده ويطلب منه من معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده، والخيول التي أخذها من القلعة والمال الذي أخذه من الكرك، وهدده، فحنق لذلك، وكتب إلى نواب الشام يشكو ما هو فيه، فحثوه على القيام لأخذ ملكه، ووعدوه بالنصرة.
وسار إلى دمشق واتت النواب إليه، وقدم إلى مصر وفر بيبرس، وطلع الناصر إلى القلعة يوم عيد الفطر سنة 709، فأقام في الملك 32 سنة، ومات سنة 741 وعمره 57 سنة ومدة سلطنته 43 سنة.
وكان ملكا عظيما جليلا كفؤا للسلطنة، ذا دهاء، محبا للعدل والعمارة، وطابت مدته وشاع ذكره، وطار صيته في الآفاق، وهابته الأسود، وخطب له في بلاد بعيدة. واسقط جميع المكوس، وأبطل الرشوة وعاقب عليها، فلا يتقلد المناصب إلا مستحقها بعد التروي والإمتحان واتفاق الرأي، ولا يُقضى إلا بالحق، فكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة، وكثرت العمائر في أيامه حتى يقال إن مصر والقاهرة زادا في أيامه اكثر من النصف، وكذلك القرى (تحول أكثرها إلى مدن)، وهزم التتار مرتين.
ومن أحسن مراثيه هذان البيتان:
قلت لبدر الأفق لما بدا *** ووجهه منكسف باسر
مالك لا تسفر عن بهجة *** فقال مات الملك الناصر
ثم تولى من أولاده وأولاد أولاده 12 سلطانا، ومنهم السلطان حسن وله علو همة بين الملوك، ومنهم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر، وهو الذي أمر الأشراف بوضع العمامة الخضراء في عمائمهم، وفي ذلك يقول بعضهم:
جعلوا لأبناء النبي علامة *** إن العلامة شأن لهم لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم *** يغني الشريف عن الطراز الأخضر
وفي أيام الشرف قدم الفرنجة إلى الإسكندرية وهبوا أموالها وأسروا نسائها، ووصل الخبر إلى مصر فتجهز الأشرف وسار بعسكره، فوجدهم قد ارتحلوا ورتكوها، ويقال إن الفرنساوي الذي يكون في أذنه قرط أمه أصلها من النساء المأسورات في تلك الواقعة.
وفي أيامه كثر عبث المماليك الأجلاب، فأمر بإخراجهم من مصر، فتجمعوا وعصوا فحاربهم فأنهزموا، فقبض على كثير منهم، فقتل طائفة وغرق طائفة ونفى طائفة وبقي منهم بمصر طائفة، وهم مختلفوا الأجناس، ومنهم جنس الجركس، فلم يزالوا في اختلاف ومقت وهياج وحقد للدولة إلى أن تحيلوا وتداخلوا في الدولة، وسكنت طائفة منهم بالطباق، ودخلوا في مماليك الأسياد أي أولاد السلطان، وكانوا أرذل مذكور في الإقليم المصري.
ثم أثاروا الفتنة وتمكنوا من قتل السلطان الأشرف، ونهبوا الخزينة والحج، وتقاسموا محظيات السلطان، وتمكنوا من الدولة ووصل كل صعلوك منهم لمراتع الملوك، وازالوا عز الدولة القولونية، وأصبح الذين كانوا بالأمس أسفل الناس ملوك الأرض، يجبى إليهم ثمرات كل شيء.
ثم وقعت فيهم حروب وحوادث أسفرت عن ظهور برقوق الجركسي، واستقراره أميرا كبيرا، وكان غاية في الدهاء والمكر، فلم يزل يدبر لنفسه حتى عزل ابن الأشرف واخذ السلطنة لنفسه، وهو أول ملوك الجراكسة بمصر، وبالأشرف هذا وأولاده زالت الدولة القولونية.
الجراكسة
أولهم برقوق، واستمر الملك فيهم إلى الأشرف قانصوه الغوري، وابتدداء دولتهم سنة 784، وانقضاؤها سنة 923، فتكون مدتها 139 سنة. وسبب انقضائها قدوم السلطان سليم شاه بن عثمان إلى مصر، فخرج إليه سلطان مصر قانصوه الغوري، فلاقاه عند مرج دابق بحلب، وخامر عليه أمراؤه خير بك والغزالي، فخذلوه وفقدوه.
ولم يزل حتى تملك السلطان سليم الديار المصرية والبلاد الشامية، وأقام خير بك نائبا بها، وعادت مص إلى النيابة كما كانت في صدر الإسلام، ولما خلص له أمر مصر عفا عمن بقي من الجراكسة وأبنائهم، ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات، وأبطل المظالم والمكوس والمغارم.
ثم رجع إلى بلاده وأخذ معه الخليفة العباسي، وانقطعت الخلافة والمبايعة، وأخذ معه ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لم توجد في بلاده بحيث أنه فقد من مصر نيفا وخمسين صنعة.
ولما توفي تولى بعده ابنه السلطان سليمان عليه الرحمة والرضوان، فنظم الملك ورفع منار الدين، وأخمد نيران الكافرين، ولم تزل البلاد منتظمة في سلكهم ومنقادة تحت حكمهم إلى هذا الوقت الذي نحن فيه، وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشد من ذب عن الدين، ولذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم.
قصة في ضياع الملك إذا انتشر السوء في المملكة
ولما تولى سليم ابن السلطان سليمان المذكور، كان لوالده مصاحب يدعى شمسي باشا العجمي، ولا يخفى ما بين آل عثمان والعجم من العداوة، فأقر السلطان سليم شمسي مصاحبا على ما كان عليه أيام والده، وكانت للأخير حيل غريبة يلقيها في قالب مرضي، ومصاحبة يسحر بها العقول.
فقصد أن يدخل شيئا منكرا يكون سببا لخلخة دولة آل عثمان، وهو قبول الرشا من أرباب الولاة والعمال، فقال للسلطان على سبيل العرض: “عبدكم فلان المعزول من منصب كذا، وليس بيده منصب الآن، وقصده من فيض إنعامكم عليه المنصب الفلاني، ويدفع إلى الخزينة كذا وكذا”، فعلم السلطان انها مكيدة منه، وقصده ادخال السوء بيت آل عثمان، فتغير مزاجه، وقال له: “يا رافضي تريد أن تدخل الرشوة بيت السلطنة حتى يكون ذلك سببا لإزالتها”.
وأمر بقتله، فتلطف به، وقال له: “يا بادشاه لا تعجل، هذه وصية والدك، فإنه قال لي إن السلطان سليم صغير السن، وربما يكون عنده ميل للدنيا، فاعرض عليه هذا الأمر، فإن جنح إليه فامنعه بلطف، فإن امتنع فقل هذه وصية والدك، قدم عليها”، ودعا له بالثبات وخلص من القتل.
وكانوا قديما على صحة *** فقد داخلتهم حروف العلل
انقسام معسكر مصر إلى طائفتين
وظهر في عسكر مصر سنة جاهلية وبدعة شيطانية زرعت فيهم النفاق وأسست فيما بينهم الشقاق، وهو أن الجند بأجمعهم اقتسموا قسمين واحتزبوا بأسرهم حزبين، فرقة يقال لها فقارية، وأخرى تدعى قاسمية.
وأصل ذلك أن السلطان سليم شاه لما بلغ من ملك الديار المصرية مناه، وقتل من قتل من الجراكسة، سأل بعض جلسائه هل بقي أحد من الجراكسة نراه، فقال نعم أيها الملك العظيم هنا رجل قديم يسمى الأمير سودون طاعن في السن رزقه الله بولدين شهمين بطلين لا يضاهيهما أحد في الميدان، فلما حصلت هذه القضية تنحى عن المقارشة بالكلية، وحبس ولديه بالدار، وسد أبوابه بالأحجار، وخالف العادة واعتكف على العبادة، وهو الآن مستمر على حاله، مقيم في بيته وراحته.
فقال السلطان: هذا والله رجل عاقل، خبير كامل، ينبغي لنا أن نذهب لزيارته، ونقتبس من بركته وإشارته، قوموا بنا جملة نذهب إليه على غفلة لكي اتحقق المقال، فدخل عليه فوجده جالسا على مطية الإيوان وبين يديه المصحف وهو يقرأالقرآن، وعنده خدم وأتباع، وعبيد وممالك أنواع.
فعندما عرف انه السلطان بادر لمقابلته بغير توان، وسلم عليه ومثل بين يديه، فأمره بالجلوس، ولاطفه بالكلام المأنوس إلى أن اطمئن خاطره وسكنت ضمائره فسأله عن سبب عزلته، وانجماعه عن خلطته بعشيرته.
فأجابه أنه لما رأى قي دولتهم إختلال الأمور، وترادف الظلم والجور، وأن سلطانهم مستقل برأيه، لم يصغ إلى وزير، ولا عاقل مشير، وأقصى كبار دولته، وقتل أكثرهم ما امكنه من حيلته، وقلد ممالكه الصغار متاصب الأمراء الكبار، ورخص لهم فيما يفعلون، وتركهم يفترون، فسعوا بالفساد وظلموا العباد وتعدوا على الرعية حتى في المواريث الشرعية، فانحرفت عنه القلوب وابتهلوا إلى علام الغيوب، فعلمت أن امره في إدبار، ولابد لدولته من الدمار، فتنحيت عن حال الغرور، وتباعدت عن نار الشرور، ومنعت ولدي من التداخل في الأهوال، وحبستهما عن مباشرة القتال، خوفا عليهما لما أعلمه فيهما من الإقدام، فيصيبهما كغيرهما من البلاء العام، فإن عموم البلاء منصوص، واتقاء الفتن بالرحمة مخصوص.
ثم أحضر ولديه فنظر إليهما السلطان فرأى فيهما مخايل الفرسان الشجعان، وخاطبهما فاجاباه بعبارة رقيقة وألفاظ رشيقة.
ثم إن السلطان خرج إلى الخلا بجمع من الملا، ونبه على أصناف العساكر بالحضور، وطلب الأمير سودون وولديه، فحضروا بين يديه، وأمر الأخوين بالركوب والترامح والمسابقة بالخيل، فامتثلا أمره، وركبا وأظهرا من أنواع الفروسية الفنون حتى شخصت فيهما العيون، وتعجب منهما الأتراك، فخلع عليهما السلطان وقلدهما إمارتين.
ثم خرج في اليوم الثاني، وحضر الأمراء والعسكر، فأمرهم ان ينقسموا بأجمعهم قسمين، وينحازوا بأسرهم فريقين، قسم يكون رئيسهم ذو الفقار، والثاني أخوه قاسم الكرار، وأضاف إلى الأول أكثر الفرسان العثمانيين، وإلى الثاني أكثر الشجعان المصريين، وميز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب، وميز القاسمية بالأحمر، وأمرهم أن يركبوا في الميدان على هيئة المتحاربين، فانحدروا كالسيل متسابقين، ورمحوا متلاحقين، وتناوبوا في النزال، وأثاروا العجاج، وكثرت الصيحات، وكثرت الزعازع، وكاد الخرق يتسع على الراقع، وقرب أن يقع القتل والقتال، فنودي فيهم عند ذلك بالإنفصال.
فمن ذلك اليوم افترق أمراء مصر وعسكرهما فرقتين، واقتسموا بهذه الملعبة حزبين، واستمر كل منهما على محبة اللون الذي ظهر فيه وكره اللون الآخر في كل ما يتقلبون فيه حتى أواني المأكولات والمشروبات، ولم يزل الأمر فشو ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسم ونما، وأهريقت فيه الدماء، فكم خربت بلاد، وقتلت أمجاد، وهدمت دور، وأحرقت قصور، وسبيت أحرار، وقهرت أخيار.
ولرب لذة ساعة *** قد أورثت حربا طويلا
وقيل غير ذلك، وهو أن القاسمية والفقارية ينتبسون إلى أميرين لهما هذين الإسمين، وأول ظهور ذلك من سنة 1050 والله أعلم بالحقائق.
ثم بعد ذلك حدث وقائع ومناوشرات بين بعض الأمراء وعرب الحجاز، فكان طريق الحج يقطع ثم ينهزم العربان ويقتل بعضهم ويؤسر بعضهم إلى مصر.
وفي ثامن عشر من ربيع الأول، ورد مرسوم بتزيين الأسواق بمصر وضواحيها بمولودين توأمين رزقهما السلطان أحمد، سمى أحدهما سليمان والآخر ابراهيم.
وفي 12 رمضان سنة 10105، هبت ريح شديدة، وتراب اظلم منه الجو، وكان الناس في صلاة الجمعة، فظن الناس انها القيامة، وسقطت المركب التي على منارة جامع طولون، وهدمت دور كثيرة.
عسكر لحماية الخبز
وفي سنة 10107 اجتمع الفقراء والشحاذون رجالا ونساء وصبيانا، وطلعوا إلى القلعة، ووقفوا بحوش الديوان، وصاحوا من الجوع فلم يجبهم أحد، فرجموا بالأحجار، فركب الوالي وطردهم، فنزلوا إلى الرميلة ونهبوا حواصل الغلة التي بها، ووكالة القمح، وحاصل كتخدا الباشا، وكان ملآنا بالشعير والفول.
وكانت هذه الحادثة ابتداء الغلاء، حتى بيع الأردب القمح ب 600 نصف فضة، والشعير بثلثمائة والفول بأربعمائة وخمسين والأرز بثمانمائة، واما العدس فلا يوجد، وحصل شدة عظيمة بمصر وأقاليمها، وحضرت أهالي القرى والأرياف حتى امتلأت منهم الأزقة، واشتد الكرب حتى أكل الناس الجيف، ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من أهاليها، وخطف الفقراء الخبز من الأسواق ومن الأفران ومن على رؤوس الخبازين.
ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطف وبأيديهم العصى، حتى يخبزوه بالفرن ثم يعودون به، واستمر الأمر على ذلك إلى أن عزل علي باشا في 18 المحرم سنة 10107.
مقتل اليهودي الغليظ
وفي 13 من رمضان سنة 10108ن قامت العساكر على ياسف اليهودي وقتلوه، وجروه من رجله وطرحوه في الرميلة، وقامت الرعايا فجمعوا حطبا وأحرقوه، وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة، وسبب ذلك أنه كان ملتزما ردار الضرب – النقود – في دولة علي باشا المنفصل، فالتزم بتحصيل الخزينة زيادة عن المعتاد، ولما حضر مصر تلقته اليهود من بولاق، واطلعوه إلى الديوان، وقرئت الأوامر التي حضر بها، ووافقه الياشا على إجرائها وتنفيذها.
وأشهر النداء بذلك في شوراع مصر، فاغتم الناس، وتوجه التجار واعيان البلد إلى الأمراء، وراجعوهم في ذلك، فركبوا إلى القلعة، وفاوضوا الباشا فجاوبهم بما لا يرضيهم، فقاموا عليه قومة واحدة، وسألوه أن يسلمهم اليهودي، فامتنع، فاغلظوا عليه، فأمرهم بأن يضعوه في العرقانة ولا يشوشوا عليه حتى ينظروا في أمره.
فقامت الجند على الباشا، وطلبوا أن يسلمهم اليهودي المذكور ليقتلوه، فامتنع، فمضوا إلى السجن، فاخرجوه وفعلوا به ما ذكر، وفي ذلك يقول الشيخ حسن البدري:
بمصر حل يهودي *** أخفى عليه الإله
فظ غليظ عنيف *** سوء كريه لقاه
بعشر صوم أتانا *** له جواد علاه
والناس تشتد سعيا *** أمامه ووراه
ومعه أمره وفيه *** ما قاده لرداه
من أن دينار مصر *** يغيرون حلاه
والفرش يبدل نقش *** فيه بنقش سواه
ليأخذ المال قهرا *** بالنقص بما حواه
فحين قص عليهم *** ما قص قصوا قفاه
بصارم ذي صقال *** أزال عنا عناه
وبعد ذا حرقوه *** والعالمون تراه
حتى استحال رمادا *** فيه الهباه حكاه
يا بئس ذا اليهودي *** يا بئس ما قد نحاه
يا نعم ما فعلوه *** به على ما جناه
الصوفي المحتال
وفي آخر جمادى الثانية من سنة 10110 ظهر رجل من اهل الفيوم يدعى بالعليمي، قدم إلى القاهرة، وأقام بظهر القهوة المواجهة لسبيل المؤمن، فاجتمع عليه كثير من العوام، وادعوا فيه الولاية، واختلط النساء بالرجال، وكان يحصل بسببه مفاسد عظيمة، فقامت عليه العسكر وقتلوه بالقلعة.
وفي ذلك يقول الشيخ حسن الحجازي:
جاء دجال بمصر *** وادعى ما يدعيه
هرع الناس إليه *** من وضيع ووجيه
وعليه قد أكبوا *** يرتجون الخير فيه
وله يدلى صريع *** ليرى ما يعتريه
فيرى فيه انعكاسا *** خاب من يسعى إليه
جاءه أهل نفاق *** وقفوا مما يليه
عقدوا مجلس ذكر *** بينما رقص وتيه
ونباح وصياح *** وصراخ كالعتيه
عندما يطبق العوام القانون بأيديهم
وفي 14 شوال (من نفس السنة)، كانت واقعة المغاربة من أهل تونس وفاس، وذلك أن من عادتهم أن يحملوا كسوة الكعبة التي تحمل كل سنة للبيت الحرام، ويمرون بها وسط القاهرة، ويضربون كل من رأوه يشرب الدخان في طريق مرورهم، فرأوا رجلا من أتباع مصطفى كتخدا، فكسروا أنبوبته وشجوا رأسه، وزاد الشجار، وقام عليهم أهل السوق، وحضر اوده باشا فقبض على أكثرهم، ووضعهم في الحديد، وطلع بهم إلى الباشا، فأمر يسجنهم بالعرقانة، فاستمروا حتى سافر الحج من مصر، ومات منهم جماعة في السجن، ثم أفرج عن باقيهم.
الموحد المظلوم
وفي شهر رمضان 1132 الموافق أكتوبر 1711، جلس رجل رومي واعظ يعظ الناس بجامع المؤيد، فكثر عليه الجمع وازدحم المسجد، وأكثرهم اتراك، ثم انتقل من الوعظ، وذكر ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء، وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء، وتقبيل أعتابهم، وفعل ذلك كفر يجب على الناس تركه، وعلى ولاة الأمور السعي في إبطال ذلك.و
ذكر أيضا قول الشعراني في طبقاته أن بعض الأولياء اطلع على اللوح المحفوظ، أنه لا يجوز ذلك، ولا تطلع الأنبياء فضلا عن الأولياء على اللوح المحفوظ، وأنه لا يجوز بناء القباب على ضرائح الأولياء والتكايا، فلما سمع حزبه ذلك خرجوا بعد صلاة التراويح، ووقفوا بالنبابيت والأسلحة، فهرب الذين يقفون بالباب، فقطعوا الجوخ والأكر الملعلقة، وهم يقولون أين الأولياء.
فذهب بعض الناس إلى العلماء بالأزهر، وأخبروهم بقول ذلك الواعظ، وكتبوا فتوى، وأجاب عليها الشيخ أحمد النفراوي وأحمد الخليفي، بأن كرامات الأولياء لا تنقطع بالموت، وأن إنكاره على إطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ لا يجوز، ويجب على الحاكم زجره عن ذلك، وأخذ بعض الناس تلك الفتوى، ودفعها للواعظ وهو في مجلس وعظه، فلما قرأها غضب، وقال: يا أيها الناس إن علماء بلدكم أفتوا بخلاف ما ذكرت لكم، وإني أريد أن أتكلم معهم، وأباحثهم في مجلس قاضي العسكر، فهل منكم من يساعدني على ذلك، وينصر الحق؟
فقال له جماعة: نحن معك لا نفارقك، فنزل عن الكرسي، واجتمع عليه من العامة زيادة عن ألف نفس، ومر بهم من وسط القاهرة إلى أن دخل بيت القاضي، قريب العصر، فانزعج القاضي، وسألهم عن مرادهم، فقدموا له الفتوى، وطلب الجماعة منه إحضار المفتيين والبحث معهما، فقال القاضي: اصرفوا هؤلاء الجموع ثم نحضرهم ونسمع دعواكم. فقالوا: ما تقول في هذه الفتوى، قال: هي باطلة. فطلبوا منه أن يكتب لهم حجة ببطلانها، فقال إن الوقت قد ضاق والشهود ذهبوا إلى منازلهم، وخرج الترجمان وقال لهم ذلك، فضربوه واختفى القاضي بحريمه.
فما وسع النائب إلا أنه كتب لهم حجة حسب مرادهم، ثم اجتمع الناس في يوم الثلاثاء وقت الظهر بالمؤيد لسماع الوعظ على عادتهم، فلم يضر لهم الواعظ، فاخذوا يسألون عن المانع من حضوره، فقال بعضهم أظن ان القاضي منعه من الوعظ، فقام رجل منهم وقال: أيها الناس من أراد ان ينصر الحق فليقم معي، فتبعه الجم الغفير.
فمضى بهم إلى مجلس القاضي، فلما رآهم القاضي ومن في المحكمة طارت عقولهم من الخوف، وفر من بها من الشهود، ولم يبق إلا القاضي، فدخلوا عليه وقالوا له: أين شيخنا، فقال: لا أدري، فقالوا له: قم واركب معنا إلى الديوان وتكلم الباشا في هذا الأمر، وتسأله ان يحضر لنا أخصامنا الذين أفتوا بقتل شيخنا، ونتباحث معهم فإن أثبتوا دعواهم نجوا من أيدينا وإلا قتلناهم. فركب القاضي معهم مكرها إلى ان طلعوا إلى الديوان، وعرف الباشا بسبب حضوره في غير وقته، وقص عليه قصتهم وأخذهم للحجة قهرا وضربهم للترجمان.
فأرسل الباشا يسألهم عن مرادهم فقالوا نريد إحضار النفراوي والخليفي ليبحثا مع شيخنا فيما أفتيا به عليه. فوافقهم الباشا، ونزلوا إلى المؤيد وأتوا بالواعظ وأصعدوه على الكرسي، فصار يعظهم ويحرضهم على اجتماعهم في غد بالمؤيد ليذهبوا بجمعيتهم إلى القاضي، وحضهم على الإنتصار للدين وقمع الدجالين، وافترقوا على ذلك.
واما الباشا فأرسل إلى ابراهيم بيك وقيطاس بيك يعرفهم ما حصل، وما فعله العامة من سوء الأدب، وقصدهم تحريك الفتن وتحقيره هو والقاضي، وأنه عزم هو والقاضي على السفر عن البلد، فلما سمعا ذلك لم يقر لهما قرار، واجمعوا على نفي الواعظ وطرد من بالمؤيد، وضربوا بعض المتعصبين له، وسكنت الفتنة، وفي ذلك يقول الشيخ حسن الحجازي:
مصر قد حل بها واعظ *** عن منهج صدق قد اعرض
أبدى جهلا فيها قولا *** منه الحبلى حالا تجهض
فأساء الظن بسادات *** أحكام الدين بهم تنهض
إذ قال لنا من أين لكم *** ختم بالخير لهم يفرض
وكرامات لهم انقطعت *** بالموت زيارتهم ترفض
إلى قوله:
والواعظ قيل فر وقيل قتل *** وعليه الخزي قد استربض
وكفانا الله مؤنته *** وله أرخ عيب أمرض
الغدر والإنتقام
وفي سنة 1125 انتهت رياسة مصر إلى قيطاس بيك ومحمد بيك وحسن كتخدا وكور عبد الله وإبراهيم الصابونجي، فورد خبر بأن عرب الضعفاء أخربوا الوادي، وقطعوا درب الفيوم، فاجتمع الأمراء عند الباشا، وكان قيطاس أغراه وأطمعه في القاسمية.
فلما استقر مجلسهم، أظهر الباشا الحدة وقال: “أنا أذهب لهؤلاء المفاسيد الذين يخربون بلاد السللطان ويقطعون الطريق”، فانحط الكلام على ذهاب ابراهيم بيك واسماعيل بيك ويوسف بيك وقيطاس بيك وعثمان بيك ومحمد بيك، فخلع عليهم الباشا قفاطين، واتفق قيطاس وعثمان على أنهم يعدون خلفهم بعد المغرب، ويتركوا الخيول ملجمة والمماليك والطوائف بأسلحتها، فإذا أتى الثلاثة صناجق يقتلونهم، ثم يقتلون كل أتباعهم، ويخلصون ثأر الفقارية الذين قتلهم خال إبراهيم بيك في الطرانة.
وكان ذلك وقت العشاء، فقال ابراهيم ليوسف واسماعيل: قوموا بنا نذهب عند قيطاس، فقالا له: “أنت فيك الكفاية، فذهب وهو ماش، ولم يخطر بباله شيء من الخيانة، فلما دخل عليهم وسلم وجلس سأله قيطاس عن رفاقه، فقال: إنهم جالسون محلهم، فلم يتم ما أرادوه فيهم من الخيانة، فعند ذلك قلعوا أسلحتهم وخلعوا لجامات الخيول وعلقوا مخالي التبن، ورجعوا إلى ابراهيم، وقال له قيطاس: اركبوا انتم الثلاثة في غد، وانصبوا عند وسيم – مدينة -، ونحن نذهب إلى جهة سقارة، فنطرد العرب فيأتون إلى جهتكم، فاركبوا عليهم. فأجابه إلى ذلك.
ثم قام وذهب إلى رفقائه فأخبرهم بذلك، وباتوا إلى الصباح، وفي الصباح ساروا إلى جهة وسيم كما أشار إليهم قيطاس، فنزلت إليهم الزيدية – عرب تلك الناحية – بالفطور، فسألوهم عن العرب، فقالوا لهم: الوادي في أمن وامان بحمد الله، لا عرب ولا جرب ولا شر. وأما قيطاس ومن معه فرجعوا إلى مصر، وأرسل إلى ابن حبيب بأن يجمع نصف سعد وعرب بلى، ويرسلهم يدهمون الجماعة بناحية وسيم ويقتلونهم.
فتلكأ ابن حبيب في جمع العربان لصداقة قديمة بينه وبين ابراهيم، وحضر لهم رجل من الجناد كان تخلف لعذر، فأخبرهم برجوع قيطاس بيك، فعادوا إلى منازلهم سالمين.
عاقبة الشفقة على الحاسد واللئيم
وفي سنة 1125 وصل عابدين باشا إلى الإسكندرية، وتقلد يوسف بيك الجزار قائمقام، وخلع على ابن سيده إسماعيل بيك بن إيواظ، وقدمه للباشا أحسن تقديم، فأحبه الباشا واختص به ومال قلبه إلى فرقة القاسمية، فقلدهم المناصب والكشوفيات، وحضر مرسوم بإمارة الحج لإسماعيل بيك.
وعابدين باشا هذا هو الذي قتل قيطاس بيك بقراميدان، وهرب محمد بيك قطامش تابعه إلى بلاد الروم ثم عاد إلى مصر.
فطلع اسماعيل بيك بالحج سنة 27 و28 في أمن وأمان، وسخاء ورخاء. وفي سنة 28 ورد أغا من إسلامبول، وعلى يده مرسوم بطلب 3000 من العسكر المصري وعليهم أمير قادر، وكانت النوبة على محمد بيك جركس الكبير، واخذ يطلب اكياس المال من الباشا علي لتجهيز حاله.
وركب إلى قصر الحلى بالموكب، وأحضر عنده الحريم، فأقام أياما في حظه وصفائه، والأغا يستعجل السفر، وهو يطلب 10 أكياس، فدفعها له الباشا وقال: سوف يخرب هذا بيتي بعناده. فلما وصله ذلك نزل إلى المراكب وسافر.
ومات ابراهيم بيك الكبير سنة 30 فاستقل اسماعيل بيك بالرياسة، وسكن محمد بيك بن إبراهيم بيك بمنزل أبيه وفي نفسه ما فيها من الغيرة والحسد لإسماعيل بيك ابن زميل أبيه في الخدمة.
وفي أواخر سنة 29 ورد مرسوم بطلب 3000 من العسكر وعليهم أمير، وكان الدور على محمد بيك أخي إسماعيل بيك، فعلم أن أخاه خفيف العقل، فلا يستر نفسه في السفر، فقلد أحمد كاشف صنجقية – رتبة عسكرية كبيرة -، وجعل مملوكه علي الهندي كتخداه، فادركوا عسكر الروم وسافروا بصحبتهم.
وحضر محمد جركس من السفر في سنة 30، فوجد سيده ابراهيم بيك توفى، وأمير مصر إسماعيل، فتاقت نفسه للرياسة، فضم إليه جماعة من الفقارية منهم ذو الفقار، وفاوض ذو الفقار محمد بيك جركس في قتل اسماعيل بيك، لحرمان اسماعيل ذا الفقار من فائض قرية، وكان اسماعيل يكرهه لقتله سيده عمر أغا، وأراد قتله فاحتمى بأحد الوجهاء، فطلب منه الصفح عنه.
فقال له محمد بيك: افعل ما تريد، فخرج لقتل اسماعيل بيك ومعه أصلان وقيلان وجماعة خيالة من الفقارية، ووقفوا لإسماعيل في طريق الرميلة وهو طالع إلى الديوان ومعه جماعة، فرموا عليهم بالرصاص، فلم يصب منهم إلا رجل قواس، ونزل إسماعيل إلى باب القلعة، وكتب شكوى من محمد بيك جركس، وأنه جامع عنده المفسدين ويريد إثارة الفتن في البلد، وأرسلها إلى الباشا.
فأمر الباشا علي بإحضار محمد بيك، وإن أبى أن يحاربوه ويقتلوه، فلما وصله الخبر ركب مع المنضمين إليه، وصادف المتوجهين إليه، فحاربهم وحرابوه، وانهزم جيشه ولم يبق صحبه سوى مملوكين، فسار حتى وصل إلى شبرا، فلاقاه جماعة من عرب الجزيرة، فقبضوا عليهم وأخذوا سلاحهم، وأتوا بهم إلى بيت اسماعيل بيك، وكان عنده أحمد كتخدا والصابونجي، فأشاروا عليه بقتله، فلم يرض، وقال: إنه دخل بيتي، وخلع عليه فروة سمور، وأعطاه كسوة ذهب، ونفاه إلى جزيرة قبرص.
ورجع العسكر الذين كانوا بالسفر، واستشهد أميرهم أحمد بيك، فقلدت الدولة علي كتخدا الهندي صنجقا عوضا عن مخدومه أحمد بيك، وأطلقوا له بلاده من غير حلوان، فلما وصلوا إلى مصر خلع عليه الباشا خلعة السلامة، ونزل إلى بيت إسماعيل بيك، وانعم عليه بتقاسيط بلاد فائضها 12 كيسا، واستمر صنجقا وناظرا على الخاصكية.
وفي هذه السنة 30، حصلت حادثة بولاق، وهو أن سكان حارة الجوابر تشاجروا مع بعض الجمالة أتباع امير الحج، فحضر إليهم أمير أخور فضربوه، فأرسل إليهم إسماعيل بيك أغات الينكجرية والوالي، فضربوهم، فركب الصنجق بطائفته، وقتلوا منهم جماعة وهرب باقيهم، وأخرجوا النساء بمتاعهن، وسمروا الدرب من جهتين، وكانت حادثة مهولة، واستمر الدرب مقفولا ومسمرا نحو سنتين.
وفيها كان موسم سفر الخزينة واميرها محمد بيك ابن ابراهيم بيك، وكان وصل إليه الدور، فخرج، ولما وصل إلى إسلامبول واجتمع بالوزير ورجال الدولة، أوشى إليهم في حق اسماعيل بيك، وعرفهم أنه إن استمر أمره بمصر إدعى السلطنة بها لأن الكبار صاروا أتباعه ومماليكه، وعلي باشا المتولي لا يخرج عن مراده في كل شيء، ونفى كل من كان ناصحا في خدمة الدولة مثل جركس ومن يلوذ به.
ثم إن أهل الدولة عينوا رجب باشا أمير الحج الشامي، ورسموا له عند حضوره إلى مصر أن يقبض على علي باشا ويحاسبه ويقتله، ثم يحتال في قتل اسماعيل بيك وعشيرته ما عدا علي بيك الهندي، ورجع محمد بيك إلى مصر، وحضر رجب باشا ومعه الأمر بحبس علي باشا بقصر يوسف، فلما استقر بالقلعة أحضر إليه إبن علي باشا وخازنداره وكاتب خزينته، وأمرهم بعمل حسابه، ثم قطع رأسه ظلما، ودُفن علي باشا، ويعرف إلى الآن قبره بعلي باشا المظلوم.
ثم أحضر له محمد جركس، فاختلى به وقال له كيف العمل والتدبير في قتل اسماعيل وجماعته، فقال له رأيا، فلم يتم لهم بل اختفى اسماعيل ثم دخل مصر ثم ظهر بعد أن دبر أموره، وعزل رجب باشا، وكتب عرض حال بصورة الواقع، وأرسله إلى اسلامبول، ثم حضر مرسوم بالعفو والأمان لإسماعيل بيك.
وسافر رجب باشا، وسكن الحال مع التنافر والحقد الباطني الكامن في نفس محمد بيك جركس وابن أستاذه محمد بيك لإسماعيل بيك، وهو يسامح لهم ويتغافل عن أفعالهم وقبائحهم، ويسوس أموره معهم، وكل عقدة عقدوها بمكرهم حلها بحسن سياسته وجودة رأيه، وجرت بينه وبينهم وقائع ومخاصمات ومصالحات يطول شرحها، ولم يزل ظاهرا عليهم حتى خانوه واغتالوه وقتلوه بالقلعة على حين غفلة على يد ذي الفقار تابع عمر أغا وأصلان وقيلان ومن معهم، ثم قتلوا أخاه وبعض الأمراء بعد ذلك.
وتولى محمد باشا المذكور، وقلدوا ذا الفقار قاتل اسماعيل الصنجقية، وانضم إليه من كان خاملا من الفقارية، وبدأ أمرهم في الظهور، فتغير خاطر محمد جركس وخشي من ظهور الفقارية، فدبر لقتل أصلان وقيلان فقتلهما، ثم طلب من الباشا فرمانا بتجريدة يرسلها إلى ذي الفقار ومن معه، فامتنع الباشا وقال: رجل خاطر بنفسه بمعرفتكم واطلاعكم، كيف أني أعطيكم بعد ذلك فرمانا بقتله.
فقام جركس ونزل بيته، ولم يطلع بعد ذلك إلى الديوان، واهملوا الدواوين والباشا، فلما ضاق خناق الباشا أبرز مرسوما برفع صنجقية جركس، وبلغ الخبر إلى جركس، فتدارك الأمر وعمل جمعيات، ورتب أمورا، وعزل الباشا، ووصل الخبر إلى ذي الفقار بيك، فوزع طوائفه في البلاد ودخل مصر متخفيا في بيت أحمد أوده باشه، وسافر ابراهيم بيك أمير العسكر بالتجريدة فلم يجده، فضبط موجوداته، وتحقق من المخبرين أنه دخل مصر، وأرسل الخبر لجركس، فأمر بالبحث عنه.
وأرسلوا عرض حال، وكان محمد باشا قد سبقهم لذلك، فعينوا علي باشا واليا جديدا لمصر بتدبير ومكيدة، وصحبته قبودان (قائد الأسطول البحري).
ثم مرت سنون، وفر محمد بيك جركس بعد اهدار اسلامبول لدمه، وانتهت رياسة مصر لذي الفقار وعلي الهندي، ثم إن رجالا من القاسمية تسامروا وكانوا كل ليلة يشربون عند واحد منهم، فلما اخذ منهم السكر قال مصطفى بن إيواظ: يموت العزيز أخي الكبير والصغير، ويصير الهندي مملوكنا سلطان مصر، ونأكل من تحت يده والباشا في قبضته. وتواعد الثلاثة على أن يقتل كل منهما صاحبه، فتعهد مصطفى بقتل الهندي، وتعهد الآخران بقتل الباشا وذا الفقار.
وكان في البيت مملوك للهندي كان قد أخذ من داره، فلما سمع الخبر أخبر الهندي فأخبر الباشا، فقُتل مصطفى بعد أن طيف به على حمار، وبهذا ضعف القاسمية وتشردوا، وحارب القاسمية محمد بيك الجزار وقتلوه، ثم حضر محمد بيك جركس من غيبته ببلاد الإفرنج، فاجتمع عليه القاسيمة المشردون، وهجم على الفقارية وكاد يهزمهم، وأخرج ذو الفقار فرمانا بسفر تجريدة، فسافر إليه عثمان بيك وعلي بيك قطامش.
فتلاقوا وانهزمت التجريدة، فجمع ذو الفقار الأمراء، واتفقوا على إخراج تجريدة أخرى، فاحتاجوا إلى مصروف، فطلبوا فرمانا من الباشا بمبلغ 300 كيس من الميري عن السنة القابلة، فامتنع عليهم، فركبوا عليه، وانزلوه وقلدوا محمد بيك قطامش قائمقام، وأخذوا منه فرمانا بمطلوبهم، وجهزوا أمر التجريدة واهتموا فيها اهتماما زائدا، فوقعت الهزيمة على جركس.
ثم بعد ذلك ثار القاسمية المختفون بالمدينة، ودبروا مكرهم، ورئيسهم في ذلك سليمان أغا أبو دفية، ودخل منهم طائفة على ذي الفقار وقت العشاء في رمضان وقتلوه، وكان محمد بيك جركس جهة الشرق ينتظر موعدهم معه، فمات خارج مصر، ومات ذو الفقار داخلها، ولم يشعر أحدهما بموت الآخر، وكان بينهما خمسة أيام، وثار أتباع ذي الفقار بالقاسمية، وظهروا عليهم وقتلوهم وشردوهم، ولم يقم منهم قائم بعد ذلك إلى يومنا هذا، وانقرضت دولة القاسمية من الديار المصرية، وظهرت دولة الفقارية وتفرع عنها طائفة القازدغلية.
الصوفي الذي يأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون حجاب
ومات السيد السند صاحب الكرامات والإشارات، عبد الرحمن السقاف باعلوى، نزيل المدينة، رحل إلى الهند فأخذ بها الطريقة النقشبندية عن الأكابر العارفين، واشتغل بها حتى لاحت عليه أنوارها، فقطن بالمدينة المنورة، وتزوج الشريفة العلوية العيدروسية، وكان المترجم يخبر عن نفسه أنه لم يبق بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاب، وأنه لم يُعط الطريقة النقشبندية لأحد إلا بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل على طريقة حميدة حتى توفي بها سنة 1124.
شيخ الأزهر الغني
ومات الشيخ العلامة، شيخ الجامع الزهر، الشيخ محمد شنن المالكي، وكان مليا متمولا، أغنى أهل زمانه بين أقرانه، وجعل الشيخ محمد الجداوى وصيا على ولده سيدي موسى، فلما بلغ رشده سلمه ماله، وهو كثير جدا، فبدده جميعه، وبنى له دارا عظيمة بشاطئ النيل ببولاق، أنفق عليها أموالا عظيمة، ولم يزل حتى مات مديونا في سنة 1192، وكان موت أبيه في سنة 1133، وكان للأب مماليك وعبيد وجوار، ومن مماليكه أحمد بيك شنن.
شعر في القناعة والتوحيد والناس
وفي 1131 مات الشيخ العمدة المنتقد الفاضل، الشاعر البليغ الصالح العفيف، حسن البدري الحجازي الأزهري، وكان عالما فصيحا مفوها متكلما، منتقدا على أهل عصره وأبناء مصره، سمعت من الشيخ الوالد، قال: “رأيته ملازما لقراءة الكتب الستة تحت الدكة القديمة، منجمعا عن خلطة الناس، معتكفا على شأنه، قانعا بحاله، استشهدت بكثير من كلامه في هذا المجموع بحسب المناسبة، وله أرجوزة في التصوف.
قال أحد العلماء:
وجانب الدار إن ضاقت مرافقها *** والمرأة السوء لو معروفة النسب
وقال:
أخي كن فطنا واحذر الناس جملة *** ولا تك مغرور الظنون الكواذب
فكم من فتى يرضيك ظاهر أمره *** وفي باطن يرتاغ روغ الثعالب
وقال:
وأنقص خلق الله عقلا فتى غدا *** بقيضة أنثى لعبة المتلاعب
يروح ويغدو صادرا عن مقالها *** يرى طوعها ما عاش أوجب واجب
وقال:
ولا تك ممن صده اللهو والهوى *** عن الرشد حتى عاد أخيب خائب
ولا تعجبن من واقع النكر والردى *** ولكن لعدل قام من غير حاجب
ولا تطمعن في راحة أي ساعة *** من الدهر تعرو عن جميع الشوائب
فما دمت في الدنيا فإنك لم تزل *** على نصب لو نلت أعلى المناصب
وهذا دليل الزهد فيها ورفضها *** سوى ما بها يحتاجه من مناسب
وقال:
حذار حذار من قرب الأقارب *** فهم صل الأفاعي والعقارب
أناس إن تعبت يستريحوا *** وتعلوهم لراحتك المتاعب
وقال (ينتقد مدعي القطبانية لا القطبانية ذاتها):
ليتنا لم نعش إلى أن رأينا *** كل ذي جنة لدى الناس قطبا
علماؤهم به يلوذون بل قد *** اتخذوه من دون العرش ربا
إذ نسوا الله قائلين فلان *** عن جميع الأنام يفرج كربا
وإذا مات يجعلوه مزارا *** وله يهرعون عجما وعربا
بعضهم قبل الضريح وبعض *** عتب الباب قبلوه وتربا
هكذا المشركون تفعل مع أصنـ *** ـامهم تبتغي بذلك قربا
وأولو العلم والقرآن عليهم *** صُبّ سوط العذاب والمقت صبا
إذ رموهم بالفسق والزور والجو *** ر وظلم العباد سلبا ونهبا
كل ذا من عمى البصيرة والويـ *** ـل لشخص أعمى الله له قلبا
وقال:
وسبعة إن حواها الشخص ساد على *** جميع أقرانه من غير ما ريب
علم وحلم وبذل مع شجاعته *** والنصح والنسب الزاكي مع الأدب
وقال:
حارات أولاد العرب *** سبعا حوت من الكرب
بولا وغائطا كذا *** ترب غبار سوء أدب
وضجة وأهلها *** شبه عفاريت الترب
وقال:
إحذر أولي التسبيح والسبحة *** والصوف والعكاز والشملة
والدلق والإبريق لا سيما *** شيوخ إبليس أولي الشعرة
إلى قوله:
فصار إبليس لهم تابعا *** يقول يا للعون والنجدة
مما حويتم علموني فما *** لي عنكم في المكر من غنية
إلى قوله:
بماء الأفواه ينادون يا *** أهل الوفا يا صاحب النوبة
يا شافعي يا قطب يا رافعي *** يا للرفاعي يا بني الرفعة
يا سيدي أحمد يا أوليا *** ء الكون عينونا على الحملة
ذو كرة والمال يبغون ما *** لهم بغير المال من بغية
لكنهم في الفسق أرقى الورى *** كما ترى من غير ما مرية
اتخذوا المرد مرادا لهم *** تهالكوا فيهم على الهلكة
إلى قوله:
فالبعد كل البعد عنهم فما *** في النحس من خير ولا خيرة
إلى قوله:
في هيئة يمشون مع هينة *** تخشعا من غير ما خشية
لجمع المال وكي ما يقال *** أهل الهدى والدين والتقوة
في الظالمين انحجروا مثل ما *** تنحجر الحية في الحجرة
إلى قوله:
يا ويلهم قد خلعوا دينهم *** واختلعوا خبث ما خلعة
من يتبع غير سبيل الهدى *** تهوى به الأهواء في هوة
وقال:
رب قصير في الورى لحيته *** طولها الله بلا فائدة
كأنها بعض الليالي الشتا *** طويلة مظلمة باردة
وقال:
إذا امرأة يوما خطبت فلم تجب *** فدعها ولا ترجع لخطبنها العمرا
فعسر ابتداء الشيء آية شؤمه *** وعزة نفس المرء نعمته الكبرى
فصنها وقيدها عليك بشكرها *** وإلا تولت عنك ذاهبة قهرا
وقال:
عن علماء عصرك لا تسألن *** فإن أحوالهم ظاهره
نفعك من جانبه منتف *** في هذه الدنيا وفي الآخره
قوم إذا لاح لهم مطمع *** تسارعوا كالكلاب العاقره
والعمل الصالح ما بينهم *** همتهم عن فعله فاتره
فجانبا خذ عنهم تسترح *** إذ قربهم صفقتك الخاسره
تقارب الأمر وبان العنا *** وطمت الغمة والحاصره
ونفسك الزم فعسى أن تكن *** مع فرقة أوجهها ناضرة
وقال:
لا شيء تزرعه إلا قلعت سوى *** بني آدم من يزرعه يقلعه
ولا على ذاهب يجري الدموع دما *** إلا الذي بالعنا والكد يجمعه
وأقرب الناس للإنسان عقربه *** بل صله بل دواهيه ومفجعه
إلى قوله:
وراحة المرء في دنياه عزلته *** وصمته عن سوى ما فيه منفعه
إذا السلامة عشر عزلة أخذت *** جزء وتسع بصمت ذاك مجمعه
هذا هو الصدق حقا لا خفاء به *** عن النبي رسول الله نرفعه
ولا تكن عاتبا يوما على أحد إلا على حظك المنحوس مطلعه
فذاك صاحبه ميت وتبصره *** حيا ولكن على الحيات مضجعه
والظلم والنكر لا تعجب إذا وقعا *** واعجب لعدل ترى يوما وتسمعه
إلى قوله:
دع المطامع في الدنيا بأجمعها *** فإنما آفة الإنسان مطمعه
الكل فان وما المطموع فيه سوى *** ما كان من صالح الأعمال توقعه
ثم ذكر بعض المتوفين من مشايخ وعلماء الصوفية، منهم من كان يأخذه الحال فيطعن نفسه بالسكاكين فلا تؤثر فيه (الجزء 1- ص 155).
ومنهم من أخذ الخرقة عن والده ثم أخذ عن محمد بن أبي بكر الشبلي، وجد في تحصيل المكارم والفضائل!
منع الغلاء وقصة فضح سارق
ومات الأمير كجك محمد باش أوده، وكان له سمعة وشهرة وحسن سياسة، وقصر مد النيل في سنة 10106، وشرقت البلاد، وكان القمح بستين نصفا فضة، فزاد سعره، وبيع ب 72 فضة، فنزل كجك إلى بولاق، وجلس بالتكية، وأحضر الأمناء ومنعهم من الزيادة عن الستين، وخوفهم وحذرهم.
وأجلس بالجملة إثنين من القابجية، ويرسل حماره كل يومين أو ثلاثة مع الحمار يمشي به جهة الساحل، ويرجع فيظنون أن كجك محمد ببولاق، فلا يمكنهم زيادة في ثمن الغلة، فلما قتل كما ذكر، بيع القمح في ذلك اليوم ب 100 ونصف فضة، ولم يزل يزيد حتى بلغ 600 نصف فضة.
ومما اتفق له: أن بعض التجار بسوق الصاغة، أراد الحج، فجمع ما عنده من الذهبيات والفضيات واللؤلؤ والجوهر ومصاغ حريمه ووضعه في صندوق، وأودعه عند صاحب له بسوق مرجوش يسمى الخواجا علي الفيومي، بموجب قائمة أخذها معه مع مفتاح الصندوق، وسافر إلى الحجاز، وجاور هناك سنة، ورجع مع الحجاج.
وحضر إليه أحبابه وأصحابه للسلام عليه، وانتظر صاحبه الحاج على الفيومي، فلم يأته، فسأل عنه، فقيل له إنه طيب بخير، فأخذ شيئا من التمر واللبان والليف، ووضعه في منديل، وذهب إليه، ودخل عليه، ووضع بين يديه المنديل، فقال له: من أنت، فإني لا أعرفك قبل اليوم حتى تهاديني، فقال له أنا فلان صاحب الصندوق الأمانة، فطار عقل الجوهري، وتحير في أمره، وضاق صدره، فأخبر بعض أصحابه، فقال له: اذهب إلى كجك محمد أوده باشه.
فذهب إليه، وأخبره بالقصة، فأمره أن يدخل إلى المكان الداخل، ولا يأتي إليه حتى يطلبه، وأرسل إلى علي الفيومي، فلما حضر إليه بش في وجهه، ورحب به، وآنسه بالكلام الحلو، ورأى في يده سبحة مرجان، فأخذها بيده يقلبها ويلعب بها، ثم قام كأنه يزيل ضرورة، وأعطاها لخادمه، وقال له: خذ خادم الخواجا صحبتك، واترك دابته هنا عند بعض الخدم، واذهب صحبة الخادم إلى بيته، وقف عند باب الحريم، وأعطهم السبحة أمارة، وقل لهم إنه اعترف بالصندوق الأمانة.
فلما رأوا الأمارة والخادم، لم يشكوا في صحة ذلك، وعندما رجع كجك محمد إلى مجلسه قال للخواجا: بلغني أن رجلا جواهرجي أودع عندك صندوقا أمانة، ثم طلبه فأنكرته، فقال: لا وحياة رأسك، ليس له أصل، وكأني اشتبهت عليه، أو أنه خرفان وذهلان، ولا أعرفه قبل ذلك ولا يعرفني.
ثم سكتوا وإذا بتابع الأوده باشه والخادم داخلين بالصندوق على حمار، فوضعوه بين أيديهما، فانتقع وجه الفيومي واصفر لونه، فطلب الأوده باشة صاحب الصندوق، فحضر، فقال له: هذا صندوقك، قال: نعم، قال له: عندك قائمة بما فيه، قال: معي، وأخرجها من جيبه مع المفتاح، فتناولها الكاتب، وفتحوا الصندوق، وقابلوا ما فيه على موجب القائمة، فوجده بالتمام، فقال له: خذ متاعك واذهب، فأخذه وذهب إلى داره وهو يدعو له، ثم التفت إلى الخواجا علي الفيومي، وهو ميت في جلده، ينتظر ما يفعل به، فقال له: صاحب الأمانة أخذها، وايش جلوسك، فقام وهو ينفض غبار الموت وذهب.
قصة وفاء
ومات الأمير الجليل يوسف بيك المعروف بالجزار، تابع الأمير الكبير إيواظ بيك، تقلد الإمارة والصنجقية في سنة 1126 أيام الواقعة الكبيرة بعد موت أستاذه ، وكانت له اليد البيضاء في الهمة والإجتهاد والسعي لأخذ ثأر سيده.
ركب في اليوم الثاني من قتل سيده، وصحبته إسماعيل ابن أستاذه وأتباعهم (من القاسمية)، وجر المدافع، وحارب محمد بيك الصعيدي وطائفته حتى هزمهم وأجلاهم عن الميدان إلى السواقي، واستمر يخرج إلى الميدان في كل يوم، ويكر ويفر ويدبر الأمور، وينفق الأموال، حتى تم لهم الأمر بعد وقائع وأمور ذكرنا بعضها.
وفي ذلك يقول الشيخ حسن الحجازي:
واستمروا مدة طالت وقد *** عمنا خوف وجوع وعطش
فرمى كيدهمو في نحرهم *** قاهر نعمته عنه قطش
بيد الجزار يدعى يوسفا *** بيك فاستمكن منهم ونهش
بعدما أن قتلوا سيده *** بيك إيواظ الفتى الشهم الأجش
ولما حقدوا على إسماعيل بيك ابن سيده، ودبروا على إزالته في أيام رجب باشا، قام في تدبير الأمر، واختفى إسماعيل بيك، وأشاع ذهابهم إلى الشام، وتصدر هو للأمر، ولم يزل يدبر على إظهار ابن سيده، واستمال أرباب الحل والعقد، وأنفق الأموال سرا، وضم إليه من الأخصام أعاظمهم وعقلاءهم، واتفق معهم على إظهار إسماعيل بيك وأخيه إسماعيل بيك جرجا، فعزلوا الباشا، وأنزلوه من القلعة، وتأمر إسماعيل بيك، وظهر أمره كما كان.
وتولى المترجم الدفتردارية في سنة 1127 بعد انفصاله من إمارة الحج، ثم عزل عنها، واستمر أميرا مسموع الكلمة وافر الحرمة إلى أن مات في سنة 1134، ووقع له مع العرب عدة وقائع، وقتل منهم ألوفا، فلذلك سمي بالجزار، ولما مات قلدوا مملوكه إبراهيم أغا الصنجقية عوضا عنه.
ومات الأمير النبيه الفطن الذكي، حسن أفندي الروزنامجي الدمرداشي، وكان له ميل للعلوم والمعارف، وخصوصا الرياضيات والفلكيات، ويوسف الكلارجي الفلكي الماهر هو تابع المذكرو ومملوكه.
الخرابة
ومات الأمير المعظم والملاذ المفخم، الأمير إسماعيل بيك ابن الأمير الكبير إيواظ بيك القاسمي، من بيت العز والسيادة والإمارة، نشأ في حجر والده في صيانة ورفاهية، وكان جميل الذات والصفات، وتقلد الإمارة والصنجقية بعد موت والده الشهيد في الفتنة الكبيرة كما تقدم، وكان لها أهلا ومحلا، وكان عمره إذ ذاك 16 سنة، كما قد دب عذاره، وسمته النساء قشطة بيك.
فإنه لما أصيب والده في المعركة بالرملة تجاه الروضة، ودفن، فلما أصبحوا ركب يوسف الجزار تابع إيواظ بيك، وأحمد كاشف، وأخذوا معهم المترجم وذهبوا إلى بيت قانصوه بيك قائمقام، فوجدوهم جلوس، وعليهم الكآبة والحزن، وصاروا مثل الغنم بلا راع متحيرين في أمرهم وما يؤول إليه حالهم، فلما استقر بهم الجلوس، نظر يوسف الجزار إلى قيطاس بيك فرآه يبكي.
فقال له: “لأي شيء تبكي، هذه القضية ليس لنا فيها ذنب، ولا علاقة، وأصل الدعوى فيكم معشر الفقارية، والآن انجرحنا وقتل منا واحد، وخلف مالا ورجالا، قلدوني الصنجقية، وأمير الحاج، وسر عسكر، وكذلك قلدوا ابن سيدي هذا صنجقية والده، فيكون عوضا عنه، ويفتح بيته، وأعطونا فرمانا وحجة من الذي جعلتموه نائب شرع بالحلوان معاف، ونحن نصرف الحلوان على المقاتلين، والله يعطي النصر لمن يشاء. ففعلوا ذلك.
ورجع يوسف بيك وصحبته إسماعيل بيك ومن معهم إلى بيت المرحوم إيواظ بيك، ورتبوا أمورهم، ونظموا أحوالهم في الثلاثة أيام الهدنة، وكان الفاعل لذلك أيوب بيك، وقصده حتى يرتب أموره في الثلاثة أيام، ثم يركب على بيت قانصوه بيك ويهجم على من فيه، ولو فعل ذلك في اليوم الذي قتل فيه إيواظ بيك لتم لهم الأمر، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ولم يرد الله لهم بذلك.
فبرزوا للحرب وعملوا المكائد وأنفقوا الأموال حتى نصرهم الله على الفرقة الأخرى، وقتل من قتل وفر من فر، ونهبت دورهم، وشردوا في البلاد، وسافر أميرا بالحج في تلك السنة يوسف بيك الجزار، واستقر المترجم بمصر وافر الحرمة محتشم المكانة مشاركا لإبراهيم بيك أبي شنب وقيطاس بيك في الأمر والرأي، وفي نفس قيطاس ما فيها من حقد العصبية.
ثم لما تولى يوسف بيك الجزار قائمقائم، وتولى عابدي باشا، قدم له يوسف بيك إسماعيل بيك تقدمة عظيمة، فاحبه عابدي باشا، ثم أخبره إسماعيل ويوسف بأصل العداوة بين إسماعيل وقيطاس بيك، وذلك أن قيطاس بيك وأيوب بيك كانا بيت واحد، ووقعت بينهما خصومة، وأيوب بيك أكثر عزوة وجندا، فوقع قيطاس بيك على إيواظ بيك، والتجأ إليه، فقام بنصرته وفاداه، وأنفق بسببه أموالا، وتجندلت من رجاله أبطال إلى أن مات، وقتل، فلم يراعي قيطاس الجميل.
وأخبراه انه في كل وقت ينصب لهما الحبائل، ويحفر فيهم الغوائل، وهم بالله مستعينون، فقال الباشا: يكون خيرا، وأضمر لقيطاس السوء، ولم يزل حتى قتله كما ذكر بقراميدان، ثم توفى ابراهيم بيك أبو شنب في سنة 30، وسكن محمد بيك ولده في منزله، وحضر محمد بيك جركس تابعه من السفر، فوجد سيده توفى فتاقت نفسه للرئاسة، وضم إليه جماعة من الفقارية، وأخذوا يحفرون للمترجم وينصبون له الغوائل. ثم اضطر اسماعيل إلى الإختفاء.
ودخل يوسف بيك مصر ولم يزل يدبر أمره حتى اظهره وأعاده، وذلك بجمع طائفة من الأمراء من بينهم جركس الذي قال: “الله يجازي من كان السبب، انا إيش فعل معي إسماعيل بيك، رجل قدر على قتلي، وأشار عليه الناس، فلم يفعل، وأكرمني وكساني، وأعطاني دراهم، ونفاني لأجل تمهيد الفتنة”، فخرج عليهم إسماعيل بيك من خلف الستارة، فقام الجميع وسلموا عليه، وجلس في صدر المكان، وهنوه بالسلامة، ثم وضع لهم خطة إنزال الباشا وكتابة عرض حال، وانتظار الجواب، وفي الصباح أنزلوا الباشا، فاجتمعت عليه الأولاد الصغار تحت شباك المكان، وصاروا يقولون:
باشا يا باشا عين القملة *** من قال لك تعمل دي العملة
باشا يا باشا يا عين الصيرة *** من قال لك تدبر دي التدبيرة
فضاق منهم، وأرسل إلى أحمد بيك الأعسر، فنقله إلى بيت إبراهيم جربجي الداودية، واستلم إسماعيل بيك ماله وخيوله وجماله، وكتبوا عرض محضر، وسافر رجب باشا من حيث أتى بعدما دفع ال 120 كيسا التي أخذها من دار الضرب وصرفها على تجريدة أجرود، ولم يزل محمد بيك جركس ومحمد بيك ابن سيده ومن يلوذ بهم مصرين على حقدهم وعداوتهم لإسماعيل بيك، وهو يتغافل عنهم ويغضي عن مساويهم ويسامح زلاتهم حتى غدروا به وقتلوه بالقلعة على حين غفلة في سنة 1136 هو وأخوه.
وانقضت دولة إسماعيل وكانت أيامه سعيدة، وأفعاله حميدة، والإقليم في أمن وأمان من قطاع الطريق وأولاد الحرام، وله وقائع مع حبيب وأولاده يطول شرحها، وكان صاحب عقل وتدبير، وسياسة في الأحكام، وفطانة ورياسة وفراسة في الأمور.
فمن ذلك ما يحكى أن امراة من الشرقية، تعدى عليها بعض الحرامية، وسرق بقرتها ومعها عجلتها، فاستيقظت من نومها وصرخت، وأصبحت فخرجت من دارها وهي تقول: لابد من ذهابي إلى ابن إيواظ، وكيف ياخذوا بقرتي في أيامه؟ ولم تزل حتى وصلت إليه، وكان لا يحجب أحدا يأتي إليه في شكوى أو تظلم، فقال لها: من أي بلد انت؟ قالت: من تلبانة.
قال: اكتبوا إلى القائمقام يفحص لها عن بقرتها، وختم الورقة، وأعطاها لرجل قواس، وأمره بالذهاب معها، وقال له: اذهب وإذا وصلت إلى القرية، أول من يلاقيكما ويسألكما فأقبض عليه، واذهب به إلى قائمقام يقرره فإن البقرة عنده، فلما وصلا إلى القرية، وإذا برجل هابط من فوق التل، وهو يسأل المرأة، ويقول لها: إيش فعل معك ابن إيواظ؟ فقبض عليه القواس، وأخذه إلى قائمقام، فأمر بعقوبته وضربه، فأقر بالبقرة انها عنده في القاعة، فأرسل من أتى بها، وأعطاها لصاحبتها، فأخذتها وذهبت وهي فرحانة.
ومنها: أنه أحضر بين يديه جماعة متهمون، وسألهم فانكروا، فأمرهم بالخروج من بين يديه، واحضرهم مرة أخرى، فانكروا، وكرر إحضارهم وإخراجهم، ثم أمر بتقرير واحد منهم، فأقر بأدنى عقوبة، فتعجب من شاهد، وسئل عن سر معرفة ذلك الشخص من دون الجماعة، فقال: “إني لما أطلبهم يكون هو آخرهم في الدخول، وعندما آمرهم بالإنصراف يكون هو أولهم في الخروج، فعلمت من ذلك أنه صاحب العملة”.
ومن مآثره انه جدد سقف الجامع الأزهر، وكان قد آل إلى السقوط، وأنشا مسجد إبراهيم الدسوقي بدسوق، وذهب إلى طندتا وزار ضريح سيدي أحمد البدوي، وتعجب الناس من قوة جنانه وخروجه من مصر وبها أخصامه والكارهون له، ويريدون له الغوائل، وهو يعلم ذلك، مع أن محمد بيك جركس مع شهرته بالشجاعة لم يخرج إلى العادلية يوم ظهوره، وأكثر أيامه ملازم لبيته.
وكان يرسل غلال الحرمين في أوانها، ولما بلغ خبر موته لأهل الحرمين حزنوا عليه وصلوا عليه صلاة الغيبة عند الكعبة، وكذلك أهل المدينة صلوا عليه بين المنبر والمقام، ومات وله من العمر 28 سنة، وطلع أميرا بالحج 6 مرات، ورثاه الشعراء بمراث كثيرة، لم أظفر بشيء منها سوى أبيات من قصيدة طويلة، وهي:
وما هذه الدنيا سوى دار غرة *** فنعماؤها بؤس وفي نفعها ضرر
ورفعتها خفض وراحتها عنا *** وعزتها ذل وفي صفوها كدر
فلا تغترر ذا اللب يوما بها وكن *** على حذر فالعارفون على حذر
ترى بؤس إسماعيل بيك بمصرنا *** إلى أن له دانت رقاب ذوي الخطر
وكان جديرا بالرئاسة والعلا *** فقد سار فينا سيرة سارها عمر
وكان له حزم ورأي ومنعة *** ولكن إذا جاء القضا عمي البصر
به غدر الجبار جركس ماكرا *** فعما قليل يجزى بما مكر
أسر له كيدا به كان حتفه *** بديوان مصر بئس والله ما أسر
فقطعه إربا وسيق لجنة *** وقاتله ظلما يساق إلى سقر
وكان منزله هو بيت يوسف بيك بدرب الجكاميمز المجاور لجامع بشتاك المطل على بركة الفيل، وقد عمّره وزخرفه بأنواع الرخام الملون، وصرف عليه أموالا عظيمة، وقد خرب وصار حيشانا ومساكن للفقراء، وطريقا يسلك منها المارة إلى البركة، ويسمونها الخرابة، ولما مات لم يخلف سوى إبنة صغيرة ماتت بعده بمدة يسيرة، وحملين في سريتين ولدت إحداهن ولدا، وسموه إيواظ، عاش نحو سبعة أشهر ومات، وولدت الأخرى بنتا ماتت في فصل كوّ دون البلوغ، فسبحان الحي الذي لا يموت.
ولما مات اجتمعت طائفته على عبد الله بيك وكان من رجال إيواظ الكبراء لأنه أعقلهم وأقربهم للقيادة، فرأى القتلة أن بقائه حيا يهدد وجودهم فعملوا الحيلة في قتله، وغدروه بحيلة عملوها، هو وبعض الكبار، وكان أحد أصحابه قد نصحه أن لا يذهب إليهم لما استدعوه للتباحث في قضية مقتل سيده، فلم ينصت إليه لنفاذ المقدور، وذهب إليهم، فأركبوه حمارا هو ومحمد بيك بن إيواظ وابراهيم بيك الجزار تابع يوسف الجزار، وساروا بهم إلى فارسكو وأنزلوهم في المركب وقتلوهم وسلخوا روسهم ورموهم إلى البحر، وتغيب حالهم وما فعل بهم أياما، كل ذلك وأتباعه ينتظرون رجوعه من عند الباشا.
عاش غنيا ومات فقيرا
ومات الأمير أيوب بيك تابع درويش بيك، وهو كان ممن تسبب في إثارة الفتنة المذكورة، وتولى كبرها مع إفرنج احمد، طلع بالحج 10 مرات، وقهر في الفتنة وخرج من مصر هاربا إلى جهة الشام، وذهب إلى إسلامبول، ولم يزل بها حتى مات سنة 1124، طريدا غريبا وحيدا، بعد الذي رآه من العز والجاه بمصر، وخلف 12 من الأولاد، لم ينتج منهم أحد، عاشوا وماتوا فقراء لأن ماله انتهب في الفتنة.
عدل في المكيال
ومات الأمير علي الأغا مستحفظان المشهور، تولى أغاوية مستحفظان في 1108 وما بعدها، ولما فشا أمر الفضة المقاصيص والزيوف، وقل وجود الديواني وإن وجد اشتراه اليهود بسعر زائد وقصوه، فتلف بسبب ذلك أموال الناس، فاجتمع اهل الأسواق ودخلوا الجامع الأزهر، وشكوا أمرهم للعلماء، وأزموهم بالركوب إلى الديوان في شأن ذلك.
فأمر الباشا بعمل جمعية في بيت حسن أغا بإبطال الفضة المقصوصة، وظهور الجدد، وإدارة دار الضرب، وعمل تسعيرة، وضرب فضة وجدد نحاس، ويكون ذلك بحضور كبار رجال الدولة ونقيب الأشراف وكبار العلماء، فاتفقوا على إبطال المقاصيص وضرب فضة جديدة توزع إلى الصيارف، ويستبدلون المقاصيص بالوزن، وأن صرف الكلب ب 43 نصفا (الريال الكلب هو ريال هولندي وسعره في القرن الثامن – عشر – 43 نصف فضة)، والريال ب 50 (مشتق من كلمة ريال أي ملكي وكان الإسبان أول من تداوله، واطلق عليه اسم الريال في العالم العربي من االقرن 17 الميلادي)، والأشرفي ب 90، والطرلي ب 100.
وقيدوا بتنفيذ ذلك على أغا المذكور وكذلك الأسعار، وشرط عليهم إبطال الحمايات وعدم معارضته في شيء، وكل من مسك ميزانا فهو تحت حكمه، وكذلك الخصاصة وتجار البن والصابون، ويركب بالملازمين، وكتب القاضي حجة بذلك، وكتب المشايخ عليها، وكذلك الباشا، وأعطوهما لعلي أغا، فطلع إلى الباب، وأحضر شيخ الخبازين وباقي مشايخ الحرف.
وأحضر أردب قمح وطحنه، وعمل معدله على الفضة الديواني 5 أوراق بجديدين، والبن ب 12 فضة رطل (القهوة)، والصابون ب 3، والسكر النبات ب 12 رطل، والعسل الشهد ب 6 أنصاف، والزبد البقري بنصفين، واللحم الضاني بنصفين، والماعز بنصف وأربعة جدد، والجاموسي بنصف وجديدين، والزيت الطيب بنصفين وستة جدد، والجبن الكشكبان ب 3 أنصاف فضة، والعيش العلامة خمسة أوراق بجديدين، وحصل ذلك بحضرة مشايخ الحرف والمغاربة.
وأرسل الأغا قفل الصاغة ومسبك النحاس، وامر بإحضار الذهب والفضة المبتاعة والريالات لدار الضرب، وأحضر شيخ الصيارفة، وأمرهم بإحضار الذهب والريالات وقروش الكلاب، يصرفونها بفضة وجدد نحاس، وأعلمهم أنه يركب ثالث يوم العيد، ويشتق بالمدينة، وكل من وجد حانوته خاليا من الفضة والجدد، قتل صاحبه أو سمره، وكتب القائمة بالأسعار.
وركب ثالث يوم من شهر شوال سنة 1114، وعلى رأسه العمامة الديوانية وأمامه القابجية والملازمون والوالي وأمين الإحتساب وأوده باشة البوابة بطائفته، والسبعة جاوشية خلفه، ونائب القاضي في مقدمته، وكيس جوخ مملوء عكاكيز شوم على كتف قواس، وهو ينادي على رأس كل حارة، ويقف مقدار نصف ساعة، وضرب في ذلك اليوم إثنين قبانية وثلاثة زياتين وجزار لحم خشن، ومات الستة من الضرب، ورسم على شيخ القبانية بأن لا أحد يزن في بيت زيات سمنا ولا جبنا، وصار يتفقد الدراهم، وكل من وجده على خلاف الشرط سواء كان فلاحا أو تاجرا أو قبانيا، بطحه وضربه بالمساوق الشوم حتى يتلف أو يموت، وغالبهم لم يعش بذلك.
وصار له هيبة عظيمة ووقار زائد، ولم يقف أحد في طريقه، سواء كان خيالا أو حمارا أو قرابا، ويخشاه حتى النساء في البيوت، وهو فائت، لم تستطع امرأة أن تطل من طاقة، ثم عُزل، ثم تولى في أيام الواقعة الكبيرة في أواخر سنة 1123، ولم يزل حتى مات في يوم الجمعة ثاني شهر شوال بجامع القلعة، وذلك أنه صلى الجمعة والسنن بعدها، وسجد في ثاني ركعة فلم يرفع رأسه من السجود، فلما أبطأ حركوه فإذا هو ميت.
وفي موته يقول الشيخ حسن الحجازي:
من السوقة والأشرار الأنجاس من لهم *** من النجس والخسران عزم له عزم
فأرجح ميزانا وأوفى مكايلا *** وأخمد نيرانا وقام به سلم
وليس له من مبغض غير معرض *** عن الحق أو من في عقيدته سقم
وظن بليد الطبع سوء فعاله *** فقلت له اكفف فاتك العلم والفهم
فما زاجر عن عاكر غير صارم *** وما حاكم إلا الفتى البطل الشهم
إلى قوله:
علي أغات الينكجرية الذي *** توفى ثاني عيد فطر له غنم
فقام يصلي الجمعة التي حتمت *** فمات بثاني ركعة حفه الرحم
عليه دماكم مقلة قد بكت إلى *** أن انعدمت حتى بكى الحجر الصم
وحلت على أقطار مصر كآبة *** وداهمة تاريخها كلب الغم
وكنا نقمنا فعله في حياته *** فمذ مات بان العكس وانتقم النقم
فهيهات اتيان الزمان بمثله *** وهيهات جبر بعد ما حصل القصم
وليس لهذا الدهر إلا تفجع *** وليس لنا إلا نوائبه قسم
لعمرك ما نلنا مدى العمر راحة *** ولا في منام ولا خيال ولا وهم
الإغترار بالمنافقين
ومات الأمير علي بيك المعروف بالهندي، وهو مملوك أحمد بيك تابع إيواظ بيك الكبير، جرجي الجنس، تقلد الإمارة والصنجقية بالديار الرومية بعد انهزام الروميين ومقتل قائد الحملة سيده أحمد بيك، فأعطاه السلطان صنجقية أستاذه ونظر الخاصكية قيد الحياة، ورجع إلى مصر، ولم يزل معدودا في الأمراء الكبار مدة دولة إسماعيل بيك ابن سيد أستاذه، حتى قُتل إسماعيل بيك.
وأراد محمد بيك جركس قتله، فدافع عنه الباشا وقال: “إن الهندي منظور مولانا السلطان”. ولما استوحش جركس من ذي الفقار هرب وحضر إلى مصر، ودخل عند علي بيك الهندي، فاخفاه عنده 65 يوما ثم اختفى عند غيره بعلمه، وجركس وأتباعه يتجسسون ويفحصون عليه ليلا نهارا، وعزل جركس محمد باشا، وحضر علي باشا، ودبروا أمر ظهور ذي الفقار مع عثمان كتخدا، وصدروا المترجم لذلك وأعانوه بالمال، ففتح بيته وجمع إليه الإيواظيين والخاملين من عشيرتهم، وكتموا أمرهم وثاروا ثورة واحدة، وأزالوا دولة حركس كما تقدم.
وظهر أمر ذي الفقار، وتقلد علي بيك الدفتردارية، وحضر محمد بيك قطامش من الديار الرومية باستدعاء المصريين بتقليد الدفتردارية من الدولة، فلم يمكنه المترجم منها، حتى ضاقت نفسه منه، ووجه عزمه إلى ذي الفقار بيك، وألح عليه وهو يعده ويميه ويأمره بالصبر والتأني، إلى أن حضر المملوك الواشي، وأخبر علي بيك باجتماع مصطفى بيك ابن ايواظ وأبي العدب ومن معهم، وذكر له ما قالوه في حال نشوتهم.
فلم يتغافل عن ذلك، وقال للملوك اذهب إلى ذي الفقار بيك فأخبره، ففعل، فأوقع بهم ما تقدم ذكره من قتلهم بيد الباشا، وكان يظن مصافاة ذي الفقار له، ويعتقد مراعاة حقه له، وبهذه النكتة صار علي بيك وحيدا، فطمع فيه العدو، واختلى محمد بيك قطامش بذي الفقار وتذاكر معه أمر الدفتردارية، وعدم نزول علي بيك عنها، وقال لابد من قتلي إياه.
فقال ذو الفقار لا أدخل معك في دمه، فإن له في عنقي جميلا، فإن كنت ولابد فاعلا، فاذهب إلى يوسف كتخدا البركاوى ورضوان أغا وعثمان جاويش القازدغلي، ودبر معهم ما تريد، ولكن إن قتلتم الهندي فلازم من قتل محمد بيك الجزار وذي الفقار قانصوه. فقال محمد بيك قطامش: إن ابن الجزار له في عنقي جميل، فإنه صان بيتي وحريمي في غيابي كوالده من قبل. وانحط الأمر بينهما على الخيانة والغدر.
وأمر يوسف كتخدا سراجينه بقتل الهندي، ووعده بالإكرام، فأخذ معه خمسة أنفار، ووقف بهم عند باب العزب، فلما أقبل علي بيك في طائفته ابتكر ذلك السراج مشاجرة مع بعض الساراجين وتساببوا، فقيل لهم: أما تستحون من الصنجق، فاخرج ذلك السراج الطبنجة وضربها في صدر الصنجق (علي بيك)، فنفذت الرصاصة من كمه، وذهب إلى داره بحارة عابدين.
وحضر إليه طوائفه وأغراضه وأصحابه، وامتلأ البيت والشارع، وباتوا تلك الليلة، وعند الفجر ركب محمد بيك قطامش، وحضر عند ذي الفقار فركب معه إلى جامع السلطان، وحضر عندهم رضوان أغا وعثمان جاويش ويوسف كتخدا البركاوى وباقي الأغوان، فأرسلوا من طرفهم جاسوسا إلى بيت الهندي، فرجع وعرفهم بمن عنده، فقال رضوان أنا أذهب إليه وأحضره بحيلة إلى بيت ذي الفقار بيك، وأرسلوا إلى ذي الفقار بيك قانصوه فأتى عندهم أيضا.
فلما دخل رضوان على علي الهندي وجده شعلة نار، فجلس معه وحادثه وخادعه، وقال له بلغني أن ذا الفقار بيك أقام في بيتك 65 وستين يوما وبينك وبينه عهد وميثاق، فقم بنا إلى بيته، وهو ينظر السراج الذي ضرب عليك الطبنجة وينتقم منه، ودع الجماعة بنتظرونا إلى أن نعود إليهم.
فطلب الحصان، فأشار عليه علي كتخدا الجلفي بعدم الذهاب، فلم يسمع، وركب في قلة من أتباعه وصحبته مملوكان فقط، وذهب مع رضوان، فدخل معه بيت ذي الفقار بيك، وتركه وسار ليأتي بذي الفقار بيك، وذهب إليهم وعرفهم حصوله في بيت ذي الفقار، فأخذوا الحصان والكرك من عليه، وقدموا له إكديشا عريانا، وقام عثمان تابع صالح كتخدا عزبان وأخذ كليما قديما فوضعه فوق الإكديش، وميل عليه، وقال له: هذا جزاء من يقص جناحه بيده.
وأركبوه عليه وذهبوا به إلى السلطان حسن، فلما رآه ذو الفقار بيك، قال: خذوا هذا أيضا، وأشار إلى ذي الفقار قانصوه. وكان رجلا وجيها ولحيته بيضاء عظيمة وعليه هيبة ووقار، فقال: خذوا عني البلاد والصنجقية ولا تقتلوني. فسحبوهما مشاة على أقدامهما إلى سبيل المؤمنينن وقطعوا رؤوسهما وضعوهما في تابوتين، وذهبوا بهما إلى بيوتهما.
فما شعر الجماعة الجالسون في بيت علي الهندي إلا وهم داخلون عليهم برمته، فغسلوه وكفنوه ومشوا في جنازته، وذهبوا إلى منازلهم، وانفض الجمع، وركب ذو الفقار ومن معه، وطلعوا إلى القلعة وتمموا أغراضهم. وكان المترجم سليم الصدر، وعنده الحلم والعفة وسماحة النفس، وكان موته في أوائل سنة 1140.
ومات الأمير ذو الفقار بيك قانصوه، وهو تابع قنصوه بيك الكبير الإيواظي القاسمي، تقلد الإمارة والصنجقية في سنة 1128، ولبس عدة مناصب، ولما قتل إسماعيل بيك بن إيواظ اعتكف في بيته، ولازم داره، ولم يتداخل معهم في شيء من الأمور، فلما تعصب ذوالفقار بيك ومحمد بيك قطامش ومن معهم على قتل علي بيك الهندي، وإخماد فرقة القاسمية، عزم على قتل ذي الفقار قانصوه أيضا، وأرسل إليه وأحضره إلى جامع السلطان حسن، وهو لم يخطر بباله أنهم يغدرونه لإنجماعه عنهم.
فلما أحضروا علي بيك الهندي على الصورة المتقدمة وسحبوه إلى القتل، قال ذو الفقار بيك: “خذوا هذا أيضا، وأشار إلى المترجم لحزازة قديمة بينهما أو لعلمه أنه من رؤساء القاسمية، وقاعدة من قواعدهم، فقال له: وما ذنبي خذوا عني الإمرية والبلاد ولا تقتلوني ظلما. فلم يمهلوه، ولم يسمعوا لقوله، فسحبوه ماشيا مع الهندي، وقتلوهما تحت سبيل المؤمنين بالرميلة، وكان إنسانا عظيما، وجيها منور الشيبة، عظيم اللحية، رحمه الله تعالى.
ومات الأمير محمد بيك بن يوسف بيك الجزار، تقلد الإمارة والصنجقية في سنة 1138، بعد واقعة محمد بيك جركس وخروجه من مصر، ولما قتل علي بيك الهندي وذو الفقار قانصوه، كان هو في كشوفية المنوفية، فعينوا له تجريدة وعليها اسماعيل بيك قيطاس، وأخذ صحبته عربان نصف سعد، وكان وصل إليه الخبر، فأخذ ما يعز عليه وارتحل إلى جسر سديمة.
فلحقوه هنالك واحتاطوا به وحاربوه وحاربهم، وحمى نفسه إلى الليل ثم أحضر مركبا فنزل فيها، وصحبته مملوكان لا غير وفراش وأخراج، وذهب إلى رشيد، وترك 24 مملوكا خلاف المقتولين، فأخذوا الهجن وساروا ليلا متحيرين حتى جاوزوا وطاق اسماعيل بيك، وتخلف منهم شخص، فحضر إلى وطاق إسماعيل بيك فيطاس، فأخبره، فارتحل كتخداه بطائفة فردوهم وأخذهم عنده، فخدموه إلى أن مات، ودخل محمد بيك ثغر رشيد، فاختفى في وكالة.
فنمى خبره إلى حسين جربجي الخشاب السردار، فحضر إليه وقبض عليه، وسجنه مع أحد المملوكين، وكان الثاني غائبا بالسوق فتغيب، ولم يظهر إلا بعد مدة، وأرخى لحيته وفتح له دكانا يبيع ويشتري، ولم يعرفه أحد، وأرسل حسين الخبر إلى مصر عبر الساعي إلى ذي الفقار بيك، ويستأذن في أمره بشرط أن يجعلوه صنجقا ويعطوه كشوفية البحيرة، فأجيب إلى ذلك.
وأرسلوا فرمانا بقتل محمد بيك الجزار وقتل مملوكه، وأن يأتي هو إلى مصر، ويعطوه مراده ومطلوبه، مع الفرمان أغا معين من طرف الباشا، فقتلوا محمد بيك وملوكه، وسلخوا رؤوسهما، ورجع بهما الأغا المعين إلى مصر.
ومات الأمير محمد بيك بن ابراهيم بيك أبي شنب القاسمي، تقلد الإمارة والصنجقية في سنة 1127، وتولى عدة مشرفيات بالأقاليم في أيام المرحوم إسماعيل بيك بن إيواظ، وكان يحقده ويحسده ويكرهه باطنا هو ومماليك أبيه، وخصوصا محمد بيك جركس، وأرادوا اغتياله ونجاه الله منهم وظفر بهم، ونفى جركس إلى قبرص.
ولما قُتل اسماعيل بيك واستقل محمد جركس، فتقلد المترجم دفتردار وصار أميرا كبيرا يشار إليه ويرجع إليه في جميع الأمور ثم تقلد قائمقام، وعمل الدواوين في بيته ولم يطلع إلى القلعة كعادة الوكلاء والنوابين، وقلد المناصب والإمريات في منزله، وصار كأنه سلطان، وكان على نسق مملوك أبيه محمد جركس في العسف وسوء التدبير، ولا يخرج أحدهما عن مراد الآخر، ولم يزل على ذلك حتى ظهور ذي الفقار، وخروج محمد بيك جركس ومن معه هاربين.
واختفى المترجم، ثم إن جماعة من العامة وجدوه ميتا بالجامع الزهر، فأخذه أغات مستحفظان في تابوت، وطلع به إلى القلعة ووضعه بديوان قايتباي، وحضرت والدته خلفه وهي تبكي، وخرج محمد باشا فكشف وجهه ورآه، وقال: لو كان عليك شطارة كنت قطعت رأسك، أخربت البيتين بفتنتك، ثم التفت إلى أمه وقال لها: هذا ابنك؟ قالت نعم، قال: ليتك ولدت حجرا ولا هذا، خذيه فادفنيه، فاخذته وغسلته وكفنته بباب الوزير، ونهبوا بيته وانقضى أمره.
ومات الأمير يوسف بيك زوج هانم بنت إيواظ بيك، وتزوج بها بعده عبد الله بيك، وأصل يوسف من مماليك إيواظ بيك، وقلده الإمارة والصنجقية اسماعيل بيك، وعرف بالخائن، لأنه لما هرب عنده رضوان بيك خازندار جركس أحبر عنه، وخفر ذمة نفسه، وسلمه إليهم فقتلوه، فسماه أهل مصر الخائن، ولما حصل ما تقدم ذكره من قصة اجتماعهم وحديثهم في حال نشوتهم بمنزل علي بيك الأرمني، ونقل عنهم المملوك مجلسهم إلى علي بيك الهندي، وأرسله علي بيك إلى الأمير ذي الفقار والباشا.
وقتل الباشا علي بيك الأرمني ومصطفى بيك ابن إيواظ، فاختفى المترجم وباقي الجماعة، ولم يزل في اختفائه إلى أن حضر رجل عطار إلى أغات مستحفظان، وأخبره عن رجل من الفقهاء يأتي إلى الجزار بجواره، ويأخذ منه كل يوم زيادة على عشرة أرطال من اللحم الضاني، وكان من عادته أن لا ياخذ سوى رطلين ونصف في يومين، ولابد لذلك من سبب بأن يكون عنده أناس من المطلوبين.
فركب الأغا والوالي إلى ذلك البيت، فوجدوا به امرأتين عجوزتين، وعندهم حلل وقصاع ومعالق، وليس بالبيت فراش ولا متاع، فطلعوا إلى أعلى المكان، ونزلوا إلى أسفله، فلم يجدوا شيئا، فنزل الأغا وهو يشتم العطار، وأراد ضربه، وإذا بشخص من الجناد أراد ان يزيل ضرورة في ناحية فلاح له رأس إنسان في مكان متسفل مظلم، فلما راى ذلك الجندي خبأ رأسه وانزوى إلى الداخل فأخبر الأغا.
فأوقدوا الطلق، وإذا بشخص صاعد من المحل، وبيده سيف مسلول، وهو يقول طريق، فتكاثروا عليه وقتلوه، ونزلوا بالطلق إلى أسفل، فوجدوا يوسف بيك المترجم، ومعه شخصان فقبضوا عليهم، وأنعم الأغا على العطار، وأخذهم إلى الباشا، فأرسلهم عثمان بيك إلى ذي الفقار، فضربوا رقابهم تحت المقعد.
العبد المخلص
ومات عبد الغفار أغا لبن حسن أفندي، وقد تقدم أنه تقلد في أيام ابن إيواظ أغاوية المتفرقة بموجب مرسوم ن الدولة، وسببه ان والده كان له يد وشهرة في رجال الدولة، وكانوا يهادونه ويهاديهم، فاتفق أنه أهدى إلى السلطنة عبدا طواشيا، فترقى هنالك، وأرسل إلى ابن سيده مرسوما بأغاوية المتفرقة في سنة 1135 بعد موت والده، وعد ذلك من النوادر التي لم يسبق نظيرها.
وفي أثناء تتبع القاسمية وقتلهم ورد مكتوب من كتخدا الوزير إلى عبد الله باشا بالوصية على عبد الغفار أغا، فأرسل الباشا يطلبه، فعلم محمد بيك قطامش الدفتردار بذلك، فقال للموكل بإحضاره للباشا: أرسل إليه واطلبه للحضور، وطلب الوالي فقال له: إذا انقضى أمر الديوان، فانزل إلى باب العزب، واجلس هنالك وانتظر عبد الغفار أغا وهو نازل من عند الباشا، فاركب وسر خلفه حتى يدخل إلى بيته، فاعبر عليه واقطع رأسه.
فما حضر المترجم إلى الباشا وعرف كتخدا الجاويشية الباشا عنه، وخرج، حادثه الباشا، فقال له: أنت لك صاحب في الدولة؟ قال: نعم كان لأبي صديق من اغوات عابدي باشا، وكان شهر حوالة، وبلغني أنه الآن كتخدا الوزير، وكان اشترى جارية ووضعها عندنا في مكان، فكان ينزل إليها ويبيت عندنا، ولما عزل عابدي باشا أخذها وسافر، فهو إلى الآن يودنا ويراسلنا بالسلام، فقال له الباشا: إنه يوصينا عليك، فانظر ما تريد من الحوائج أو المناصب.
فقال: لا أريد شيئا، ويكفيني نظركم ودعاؤكم، ونزل إلى داره، فسار الوالي خلفه حتى دخل إلى بيته، فقبضوا عليه وأخذوا عمامته وفروته وثيابه وسحبوه إلى باب الإسطبل فقطعوا رأسه، واتى بها الوالي إلي بيت محمد بيك قطامش، فصرخت والدته وزوجته وجواريه وتقنعن، وطلعن إلى القلعة صارخات، فقال الباشا: ما خبر هذا الحريم، فقالت والدته: حيث أن الباشا أراد قتله، كان يفعل به ذلك بعيدا عنا.
فتعجب الباشا، واستخبرهن فأخبرنه بما حدث، فاغتم غما شديدا، وطلب الوالي، وأمر بغرجاع الحوائج والرأس، وأعطاهن كفنا ودراهم، وأعطى والدته فرمانا بكامل ما كان تحت تصرفه من غير حلوان، ونزلت الأغوات والنساء، فاخذوا الرأس والثياب، وغسلوه وكفنوه وثلوا عليه ودفنوه، ولما طلع محمد بيك إلى الديوان، قال له الباشا: تقتلون الأغوات في بيوها من غير فرمان؟ فقال: لم نقتله إلا بفرمان، فإنه كان من جملة الثلاثمائة المتعصبين على قتل أخينا ذي الفقار بيك، وعزل الباشا الوالي، وكان المترجم آخر من قتل من القاسمية المعروفين، رحمه الله.
الفصل الثاني: في ذكر أخبار مصر ابتداء من سنة 1143، كلام صوفي
ووجهه أن بهذا التاريخ كان انقراض فرقة القاسمية وظهور أمر الفقارية، وخلع السلطان أحمد وولاية السلطان محمود خان، ووالي مصر إذ ذاك عبد الله باشا الكبورلي، نسبة إلى كبور، بلدة بالروم، وحضر إلى مصر في السنة الخالية، وكان من أرباب الفضائل، وله ديوان شعر جيد، ومدحه شعراء مصر لفضله وميله إلى الأدب. وكان خيرا صالحا منقادا إلى الشريعة، أبطل المنكرات والخمامير، ومواقف الخواطي، والبوظ من بولاق وباب اللوق وطولون ومصر القديمة، وجعل للوالي والمقدمين عوضا عن ذلك كل شهر كيسا من كشوفيات الباشاوات، وكتب بذلك حجة شرعية وفيها لعن كل من تسبب في رجوع ذلك.
وفي سنة 1161 مات الإمام الكبير صاحب الأسرار والأنوار، الشيخ عبد الغني بن اسماعيل، وأحواله شهيرة، ومن مؤلفاته: “المقصود في وحدة الوجود” و”الفتح الرباني والفيض الرحماني” (بدع التصوف الشركية)، وله وفيه الإشارة:
يا حمزة اسمح بوصل *** وامنن علينا بقرب
في شرك اسمك أضحي *** مصحفا وبقلب
ومن كلامه:
لم أزل في الحب يا أملي *** أخلط التوحيد بالغزل
وعيوني فيك ساهرة *** دمعها كالصيب الهطل
وقال:
قيل لي كن مع الأنام وداري *** كل شخص فقلت ما أذل قدري
أنا عبد الغني لا عبد زيد *** من جميع الورى ولا عبد عمرو
شعر:
إن الأمور إذا ما الله يسرها *** أتتك من حيث لا ترجو وتحتسب
وكل ما لم يقدره الله فما *** يفيد حرص الفتى فيه ولا النصب
ثق بالإله ولا تركن إلى أحد *** فالله أكرم من يرجى ويرتقب
حرص على التصوف
ومات الإمام العلامة الشيخ محمد بن محمد الفلاني الكثناوى السوداني، وله باع واسع في جميع العلوم، ومعرفة تامة بدقائق الأسرار والأنوار، تلقى العلوم ببلاده عن مشايخ منهم الشيخ محمد فودو، قال: “وهو أول من حصل لي على يديه الفتح، ولازمته حضرا وسفرا، نحو أربع سنوات”. وتلقى عن الشيخ محمد بندو علم الحرف والأوقاف، والعلوم السرية بأنواعها الحرفية والوفقية.
وكان للمترجم همة عالية في تحصيل العلوم، وكان يقول عن نفسه: “لولا علو همتي وصدق رغبتي في تحصيل العلوم، لما فارقت أهلي وأنسي، وطلقت راحتي، وبدلتها بغربتي ووحشتي وكربتي، مع كون أهلي غاية الغبطة والإنتظام، فبادرت في اقتحام الأخطار لكي أدرك الأوطار”.
ومر في رحلته إلى الحج بعدة ممالك، واجتمع بملوكها وعلمائها، فممن اجتمع به الشيخ محمد كرعك، وأخذ عنه أشياء كثيرة من علوم الأسرار والرمل، وعنده قرأ كتاب الوالية للكردي، وهو كتاب جليل معتبر في علوم الرمل.
ثم حج في سنة 1142 وجاور بمكة، وألف هناك: “الدر المنظوم وخلاصة السر المكتوم في علم الطلاسم والنجوم”، ومن تآليفه أيضا: “بهجة الآفاق وإيضاح اللبس والإغلاق في علم الحروف والأوقاف”.
توفي سنة 1154 بمنزل المرحوم الشيخ الوالد، وجعله وصيا على تركته وكتبه، وهو الذي أخذ عنه علم الأوقاف وعلم الكسر والبسط الحرفية والعددية. ومن كلامه:
طلبت المستقر بكل أرض *** فلم أر لي بأرض مستقرا
تبعت مطامعي فاستعبدتني *** ولو اني قنعت لكنت حرا
زهد في الدنيا
ومات العلامة الصالح الزاهد الشيخ مصطفى العزيزي الشافعي، كان أزهد أهل زمانه في الورع والتقشف في المأكل والملبس، والتواضع وحسن الأخلاق، ولا يرى لنفسه مقاما، وتأتي الأكابر والأعيان لزيارته، ويرغبون في مهاداته وبره، فلا يقبل من أحد شيئا كائنا من كان مع قلة دنياه، لا كثيرا ولا قليلا، وأثاث بيته على قدر الضرورة والإحتياج.
وكان يحضر دروسه كبار العلماء والمدرسين، ولا يرضى للناس بتقبيل يده، ويكره ذلك، فإذا تكامل حضور الجماعة، وتحلقوا حضر من بيته، ودخل إلى محل جلوسه بوسط الحلقة، فلا يقوم لدخوله أحد، وعندما يجلس يقرأ المقري، وإذا تم الدرس قام في الحال، وذهب إلى داره، وهكذا كان دأبه. توفي سنة 1154، وأقام عثمان بيك ذو الفقار وصيا على ابنته.
أول قطب
ومات القطب لكامل السيد عبد الله بن جعفر، نزيل مكة، ولد بالشحر وبها نشأ، وتوجه إلى الهند ومكث في دهلي مدة تقرب من 20 عاما، ثم عاد إلى الحرمين، وله مؤلفات نفيسة منها “كشف أسرار علوم المقربين”، وقيل تولى القطبانية، ومن شعره قوله:
خليلي طاب القلب وانشرح الصدر *** وجاء المنى والأمن والفتح والنصر
وقد جاء وجه الحق بالحق وانجلى *** بنور اتجاد عندنا الخلق والأمر
فلا شيء غير الله في كل ما نرى *** وآياته في مجلى به زهر
وما هذه الأكوان إلا مراتب *** لوحدته اللاتي هي القِل والكثر
ومن كلامه أيضا:
ما نحن إلا عبيد الله ليس لنا *** شيء من الأمر في التحقيق والنظر
إن الهموم من الأوهام منشؤها *** ورؤية الغير ترمي العبد في الغِير
وله أيضا:
يا من هم مظاهر *** والحق فيهم ظاهر
حجبتم لأنكم *** ألهاكم التكاثر
وله كرامات شهيرة، توفي بمكة سنة 1160.
القطب الخلوتي
ومات الأستاذ شيخ الطريقة والحقيقة، قدوة السالكين ومربي المريدين، الإمام مصطفى بن كمال الدين، نشأ ببيت المقدس، ورحل إلى جل الأقطار لبلوغ أجل الأوطار، ولما ارتحل إلى إسلامبول لبس فيها ثياب الخمول، ومكث فيها سنة، لم يؤذن له بارتحال، ولم يدر كيف الحال، فلما كان آخر السنة، قام ليلة فصلى على عادته من التهجد.
ثم جلس لقراءة الورد السحري (أجل أوراده)، فأحب أن تكون روحانية النبي في ذلك المجلس، ثم روحانية خلفائه الأربعة والأئمة الأربعة والأقطاب الأربعة والملائكة الأربعة، فبينما هو في أثنائه إذ دخل عليه رجل، فشمر عن أذياله كأنه يتخطى أناسا في المجلس جتى انتهى إلى موضع فجلس فيه.
ثم لما ختم الورد، قام ذلك الرجل فسلم عليه، ثم قال: “ماذا صنعت يا مصطفى؟”، فقال له: “ما صنعت شيئا”، فقال له: ” ألم ترني أتخطى الناس؟”، قال: “بلى إنما وقع لي أني أحببت أن تكون روحانية – من ذكرناهم – حاضرة”، فقال له: “لم يتخلف أحد ممن أردت حضوره، وما أتيتك إلا بدعوة، والآن أذن لك في الرحيل، وحصل الفتح والمدد”. والرجل المذكور هو الولي الصوفي السيد محمد التافلاتي.
وأحزابه وأوراده أكثر من ستين، وأجلها ورده السحري، إذ هو باب الفتح، وقد شاد أركان هذه الطريقة (الخلوتية)، وأقام رسومها وأظهر فوائدها، ومنحه الله من خزائن الغيب ما لا يدخل تحت حصر.
وقد رأى النبي في النوم، وقال له: من أين لك هذا المدد؟ فقال: منك يا رسول الله، فأشار أن نعم. ولقي الخضر 3 مرات، وعُرضت عليه قطبانية المشرق فلم يرضها، وأوتي مفاتيح العلوم كلها حتى أذعن له أولياء غصره، وأخذ على رؤساء الجن العهود.
ومات الغادر أيضا
ومات الأمير علي كتخدا الجلفي تابع حسن كتخدا الجلفي، تنقل في الإمارة بعد سيده، وصار من أعيان المراء بمصر، وأراد يوسف كتخدا البركاوي غدره، وأسر بذلك إلى ذي الفقار بيك، فقال له: “كل شيء أطاوعك فيه إلا الغدر بعلي كتخدا، فإنه كان السبب في حياتي، وله في عنقي ما لا انساه من المنن والمعروف”.
ثم بعد ذلك تكفل أحمد كتخدا بقتل المترجم، فاحضر شخصا يقال له لاظ إبراهيم من أتباع يوسف كتخدا البركاوي، وأغراه بذلك، فوقف مع من أختارهم ينتظر مرور علي كتخدا، وهو طالع إلى الديوان، وأرسل ابراهيم جاويش إنسانا من طرفه سرا، يقول له: لا تركب في هذا اليوم صحبة احمد كتخدا فإنه عازم على قتلك، فلما بلغه الرسالة لم يصدق ذلك، وقال: أنا أي شيء بيني وبينه من العداوة حتى يقتلني، وأعطى الرسول بقشيشا، وقال له سلم على سيدك.
وبعد ساعة حضر إليه أحمد كتخدا، فقام وتوضأ، وركب معه ومع إبراهيم جاويش، وخلفهم حسن كتخدا الرزاز وأتباعهم، فما وصلوا إلى المكان المعهود خرج لاظ ابراهيمن وتقدم إلى المترجم كأنه يقبل يده، فقبض على يده وضربه بالطبنجة في صدره فسقط إلى الأرض، وأطلق باقي الجماعة ما معهم من آلات النار، وعبقت الدخنة، ولما سقط علي كتخدا سحبوه إلى الخرابة وفيه الروح، فقطعوا رأسه، ووضعوها تحت مسطبة البوابة في الخرابة.
وحضر شريف علي أفندي يطلب رمة المقتول من أحمد كتخدا، فأنكرها، فقال اسماعيل كتخده: أي شيء تعمل بالرمة أعطها لهم يدفنوها، فأرسل صحبة سراج بإمارة، فدخل إلى الخرابة فوجده مرميا على الزبالة، وهو عريان من غير رأس، فوضعوه في النعش، وفتشوا على الرأس، فأشار بعض جيران المحل على الدولاب، فأخذوها منه، وأتوا به إلى بيته، فغسلوه وكفنوه وأخرجوه في مشهد عظيم إلى الأزهر، فصلوا عليه ودفنوه.
ولما بلغ خبر قتله عثمان بيك ذي الفقار، اغتم غما شديدا لكونه صديقه وصديق أستاذه من قبله، وطلب رضوان جربجي وسليما جربجي أتباع علي كتخدا، وقال لهم: اجمعوا عندكم أنفارا قادرة بسلاحها، ولازموا بيت المرحوم أستاذكم، وإن أتاكم أحد اضربوه واطردوه”، فأحضروا شخصا يقال له أبو مناخير فضة، فجمع إليه نحو 200 نفر من وجاق العزب، وجلسوا في بيت المرحوم، فحضر إليهم جاويش وقابجية وسراجون، وأرادوا ان يختموا على مخلفاته فطردوهم، ثم انزلوا الباشا بعد ذلك. وللمترجم مآثر كثيرة وخيرات، رحمه الله.
ومات أحمد كتخدا قاتل علي كتخدا، ويعرف بالبركاوي، وكان عثمان بيك يقول: “لابد من قتل قاتل صاحبي ورفيق أستاذي قبل طلوعي إلى الحج، وإلا أرسلت خلافي، وأقمت بمصر وخلصت ثأر المرحوم”، وأرسل إلى جميع الأعيان والرؤساء بأن لا يقبلوا أحمد كتخدا، وطاف هو عليهم بطول الليل، فلم يقبله منهم أحد، فضاقت الدنيا في وجهه، وتوفي في تلك الليلة محمد كتخدا الطويل.
فاجتمع الإختيارية والأعيان ببيته لحضور مشهده، فدخل عليهم أحمد كتخدا في بيت المتوفى وقال: “أنا في عرض هذا الميت”، فقالوا له: “اطلع إلى المقعد، واجلس به حتى نرجع من الجنازة”، فطلع إلى المقعد وجلس كما أشاروا عليه، وجلس لاظ ابراهيم بالحوش وصحبته إثنان من السراجين.
فلما خرجوا بالجنازة أغلقوا عليهم الباب من خارج، وتركوا معهم جماعة حرسجية، وأقاموا مماليك أحمد كتخدا في بيته يضربون بالرصاص على المارين حتى قطعوا الطريق، وقتلوا رجلا مغربيا وفراشا وحمارا، فأرسل عثمان بيك إلى رضوان كتخدا يأمره بارسال جاويش ونفر وقابجية بطلب أحمد كتخدا من بيته، ففعل ذلك.
فلما وصلوا إلى هناك، ويقدمهم أبو مناخير، وجدوا رمي الرصاص، فرجعوا ودخلوا من درب المغربلين، وأرادوا نقب البيت من خلفه، وقتلوا لاظ إبراهيم ومن معه، وطلعوا إلى أحمد كتخدا فقتلوه أيضا، وألقوه من الشباك المطل على حوض الداودية، فقطعوا رأسه وأخذوها إلى رضوان كتخدا فأعطاهم البقاشيش، وقطع رجل منهم ذراعه، وذهب بها إلى الست الجلفية، وأخذ منها بقشيشا أيضا، ورجع من كان في الجنازة وفتحوا الباب وأخرجوا لاظ ابراهيم ميتا ومن معه، وقطعوه قطعا، واستمر أحمد كتخدا مرميا من غير رأس ولا ذراع حتى دفنوه بعد الغروب، ثم دفنوا معه الرأس والذراع.
قتله حب والدته
ومات الأمير محمد بيك بن اسماعيل بيك الدفتردار، وهو الذي كانت الحمعية وقتل الأمراء المتقدم ذكرهم في بيته، ووالدته بنت حسن أغا بلفية، وخبر موته أنه لما حصل ما حصل وانقلب التخت عليهم، اختفى المترجم في مكان، فمرضت والدته مرض الموت، فلهجت بذكر ولدها، وصارت تقول: هاتوا ولدي أنظره بعيني قبل أن أموت.
فذهبوا إليه وأقنعوه، واتوا به إليها بزي النساء، فنظرت إليه وتأوهت وماتت، ورجع إلى مكانه، وكانت عندهم امرأة بلانة، فشاهدت ذلك، وعرفت مكانه، فذهبت إلى أغا الينكجرية وأخبرته بذلك، فركب إلى المكان الذي هو فيه، وكبسوا البيت وقبضوا عليه، وأركبوه حمارا، وطلعوا به إلى القلعة فرموا عنقه، وكانوا نهبوا بيته قبل ذلك في إثر لحادثة.
الباحث عن حتفه بظلفه
ومات عثمان بيك ورضوان بيك ومملوكه سليمان بيك، فإنهم بعد الحادثة وقتل الأمراء المذكورين، وانعكاس أمر المذكورين، اختفوا بخان النحاس في خان الخليلي، وصحبتهم صالح كاشف زوج بنت إيواظ الذي هو السبب في ذلك، فاستمروا في إختفائهم مدة.
ثم أنهم دبروا بينهم رأيا في ظهورهم، واتفقوا على إرسال عثمان كاشف إلى ابراهيم جاويش، فغطى رأسه بعد المغرب، ودخل بيت ابراهيم، فلما رآه رحب به، وسأله عن مكانهم، فأخبره أنهم بخان النحاس، ويعرفون همته، وقصدهم الظهور على أي وجه كان، فقال له: نعم ما فعلتم، وآنسه بالكلام إلى بعد العشاء، فأراد أن يقوم، فقال له: اصبر، وقام كأنه يزيل ضرورة، فأرسل سراجا إلى محمد جاويش يخبره عن عثمان كاشف بأنه عنده، ويقول له: أرسل إليه جماعة يقتلوه بعد خروجه من البيت.
فأرسل طائفة وسراجين وقفوا في الطريق وقتلوه، وكبس أغات مستحفظان خان النحاس، وقبض على رضوان بيك وصحبته ثلاثة، فأحضرهم إلى الباشا، فقطع رؤوسهم، وأما صالح كاشف فإنه قام وقت الفجر فدخل إلى الحمام، فسمع بالحمام بقتل عثمان كاشف، فطلع من الحمام وهو مغطى الرأس، وضاقت الدنيا في وجهه، وقال: لم يبق لنا عيشة بمصر، فذهب إلى بيته عند هانم بنت إيواظ فودعها، وأخذ ما يحتاج إليه، وحمل هجينا، وأخذ صحبته خادما ومملوكا راكبا حصانا.
وركب وسار، وكلما أمسى عليه الليل يبيت في بلد حتى وصل عربان غزة، ثم ذهب في طلوع الصيف إلى إسلامبول، ونزل في مكان، ثم ذهب إلى دار السعادة وفيها واحد اصله من أتباع والد محمد بيك الدفتردار، فعرفه عن نفسه، فقال له: أنت السبب في خراب بيت ابن سيدي، واستأذن في قتله، فقتلوه بين الأبواب، فكان كما قيل:
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يجني عليه اجتهاده
فلا تمدن للعلياء منك أبدا *** حتى تقول لك العلياء هات يدك
فكان تحرك هؤلاء الجماعة وطلبهم الظهور من الإختفاء كالباحث عن حتفه بظلفه.
ظلم حتى للحُجاج!
ومات الأمير خليل بيك قطامش أمير الحج سابقا، طلع بالحج سنة 1158، ولم يحصل في إمارته على الحجاج راحة، وكذلك على غيرهم، وكان أتباعه يأخذون التبن من بولاق والمراكب إلى المناخ بغير ثمن، ومنع عوائد العرب، وصادر التجار في أموالهم بطريق الحج، وكانت أولاد خزنته ومماليكه أكثرهم عبيد سود، يقفون في حلزونات العقبة، ويطلبون من الحجاج دراهم مثل الشحاتين.
وكان الأمير عثمان بيك ذو الفقار يكرهه، ولما وقع للحجاج ما وقع في إمارته، ووصلت الأخبار إلى مولاي عبد الله صاحب المغرب، وتأخر بسبب ذلك الركب عن الحج إلى السنة الأخرى، أرسل مكتوبا إلى علماء مصر وأكابرها ينقم عليهم في ذلك.
ويقول فيه: “وإن مما شاع بمغربنا والعياذ بالله، وانصدعت منه صدور أهل الدين والسنة أي انصداع، وضاقت من أجله الأرض على الخلائق، وتحمل من فيه إيمان لذلك ما ليس بطائق، من تعدي أمير حجكم على عباد الله، وإظهار جراءته على زوار رسول الله، فقد نهب المال، وقتل الرجال، وبذل المجهود في تعديه الحدود، وبلغ في خبثه الغاية، وجاوز في ظلمه الحد والنهاية، فكيف يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم يهان أو يضام حجاج بيت الله الحرام، وزائرو نبينا عليه الصلاة والسلام، فيا للعجب كيف بعلماء مصر ومن بها من أعيانها، لا يقومون بتغيير هذا المنكر الفادح بشيوخها وشبانها، فهي والله معرة تلحقهم من الخاص والعام.
فلما وصل الجواب واطلع عليه الوزير محمد باشا راغب، أجاب عنه بأحسن جواب، وقال فيه: أن كتابكم الذي خصصتهم به إلى ذوي الإفاضة الجلية النقية، سلالة الطاهرة الفاخرة الصديقية، إخواننا مشايخ السلسلة البكرية، تشرفت أنظارنا بمطالعة معانيه الفائقة، فكل ما حررتموه، صدر من الشقي المذكور، بل أكثر مما تحويه بطون السطور، لكن الزارع لا يحصد إلا من جنس زرعه، لما تجاسر إلى بعض المنكرات في السنة الأولى، حملناه إلى جهالته، واكتفينا بتهديدات تلين عروق رعونته، وتكشف عيون هدايته، فلم تفد السنة الثانية إلا الزيادة في التو والفساد، ومن يضلل الله فما له من هاد، ولما تيقنا أن التهديد بغير الإيقاع كالضرب في الحديد البارد، أو كالسباخ لا يرويها جريان الماء الوارد، هممنا بإسقائه من حميم جزاء أفعاله، لأن كل أحد من الناس مجزى بأعماله.
فوفقني الله تعالى لقتل الشقي المذكور مع ثلاثة من رفقائه العاضدين له في الشرور، وطردنا بقيتهم بأنواع الخزي إلى الصحاري، فهم بحول الله كالحيتان في البراري، وولينا إمارة الحج من الأمراء المصريين من وصف بين أقرانه بالإنصاف والديانة، وشهد له بمزيد الحماية والصيانة، والحمد لله حق حمده، فإن كان العائق من توجه الركب المغربي تسلط الغادر السالف، فقد انقضى أوان غدره على ما شرحناه، وصار كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، والحمد لله على ما منحنا من نصرة المظلومين، وأقدرنا على رغم أنوف الظالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، والحمد لله رب العالمين، تحريرا في 16 المحرم، افتتاح سنة 1161.
عدل حتى مع قاتله
ومات الأجل الأمثل المبجل الخواجا الحاج قاسم، من بيت المجد والسيادة، والإمارة والتجارة، وسبب موته أنه نزلت بانثييه نازلة، فأشاروا عليه بفصدها، وأحضروا له حجاما ففصده فيها بمنزله الذي خلف جامع الغورية، ثم ركب إلى منزله بالأزبكية، فبات به تلك الليلة، وحضر المزين في ثاني يوم ليغير له الفتيلة، فوجد الفصد لم يصادف المحل فضربه بالريشة ثانيا، فأصابت فرخ الأنثيين، ونزل منه دم كثير، فقال له: قتلتني أنج بنفسك.
وتوفي في تلك الليلة، فقبضوا على ذلك المزين، وأحضروه إلى أخيه سيدي أحمد، فأمرهم بإطلاقه فأطلقوه، وجهزوا المتوفى، وخرجوا بجنازته من بيته بالأزبكية في مشهد عظيم. ومن مآثره الجامع المعروف به، الذي انشاه بالقرب من الرويعي المطل على بركة الأزبكية.
لا يريد شيئا من اللئام
ومات الوزير المكرم عبد الله باشا الكبورلي الذي كان واليا في مصر في سنة 1140، وقد تقدم أنه من أرباب الفضائل، وله ديوان وتحقيقات، وكان له معرفة بالفنون والأدبيات والقراءات.
وأنشدني الأديب الفاضل خليل البغدادي له، وقد أحسن جدا، قوله:
أرى أيديا نالت غنى بعد قترة *** لألأم قوم في أخس زمان
فضنت بما نالته شل بنائها *** وإن رُمت جدواها فشل بناني
مكانة وفطنة أمير
ذكر خبر الأمير عثمان بيك ذي الفقار، هو وإن لم يمت، لكنه خرج من مصر، ولم يعد إليها إلى أن مات بالروم، وانقطع أمره من مصر، فكأنه صار في حكم من مات، وليس ممن يهمل ذكره أو يذكر في غير موضعه، لنه عاش بعد خروجه من مصر نيفا وثلاثين سنة، ولجلالة شأنه جعل أهل مصر سنة خروجه منها تاريخا لخبارهم ووقائعهم ومواليدهم إلى الآن من تاريخ جمع هذا الكتاب، أعني سنة 1220، أحسن الله عاقبتها.
هو تابع الأمير ذي الفقار تابع عمر أغا، تقلد الإمارة والصنجقة سنة 1138، بعد ظهور أستاذه من إختفائه، وخروج محمد بيك جركس من مصر، ولما رجع محمد بيك خرج إليه بالعسكر، وجرى ما تقدم ذكره من الحروب والإنهزام، وخروجه صحبة علي بيك قطامش، ولما قتل سيده بيد خليل أغا وسليمان أبي دفية قبل صلاة العشاء، وجرى ما تقدم أرسلوا إليه، وحضر من التجريدة، وجلس ببيت أستاذه، ومات محمد بيك جركس ودخل برأسه على بيك قطامش، ثم تفرغوا للقبض على القاسمية.
فكانوا كلما قبضوا على أمير منهم أحضروه إلى محمد باشا، فيرسله إلى المترجم فيأمر برمي عنقه تحت المقعد، حتى أفنوا طائفة القاسمية قتلا وطردا، ولما حصلت كائنة قتل الأمراء الأحد عشر ببيت الدفتردار، كان المترجم حاضرا في ذلك المجلس، وأصابه سيف فقطع عمامته، فنزل وركب وخرج من باب الركة، وسار إلى باب الينكجرية.
واجتمع إليه الأعيان، وأحضروا عمر بن علي بيك قطامش، فقلدوه إمارة أبيه، وضموا إليهم باب العزب، وعملوا متاريس، وحاربوا المجتمعين بجامع السلطان حسن حتى خذلوهم وتفرقوا واختفوا كما تقدم، وعزلوا الباشا، وظهر أمر المترجم بعد هذه الواقعة، وانتهت إليه رياسة مصر، ولما خضلت الكائنة التي قتل فيها علي كتخدا الجلفي، تعصب الممترجم أيضا لطلب ثأره، وبذل همته في ذلك، وعضد أتباعه، وعزل الباشا المتولي، وقلد رضوان كتخدائية العزب عوضا عن أستاذه، وأحاط باحمد كتخدا قاتل المذكور حتى قتل هو ولاظ ابراهيم كما تقدم، وانتهب إليه الرياسة وشمخ على أمراء مصر، ونفذ احكامه عليهم، فهرا عنهم.
وعمل في بيته دواوين لحكومات العامة وإنصاف المظلوم من الظالم، وجعل لحكومات النساء ديوانا خاصا، ولا يجري احكامه إلا على مقتضى الشريعة، ولا يقبل الرشوة، ويعاقب عليها، ويباشر أمر الحسبة بنفسه، وعمل معدل الخبز وغيره حتى الشمع والفحم ومحقرات المبيعات، شفقة على الفقراء، ومنع المحتسب من أخذ الرسوات، وكان يرسل الخاصكية أتباعه في التعايين حتى على الأمراء، ولم يعهد عنه أنه صادر أحدا في ماله، او أخذ مصلحة على ميراث.
ومات كثير من الأغنياء وأرباب الأموال العظيمة، مثل عثمان حسون وسليمان جاويش تابع عثمان كتخدا، فلم تطمح نفسه لشيء من اموالهم، ولما وصل الأمر بإبطال المرتبات وجعلوا على تنفيذها مصلحة للباشا وغيره، فأفرزوا له قدرا، لإمتنع من قبوله، واقتدى به رضوان بيك، وقال: هذا من دموع الفقراء وإن حصلت الإجابة كانت مطلمة، وإن لم تحصل كانت مظلمتين. وكان علي الهمة حسن السياسة ذكي الفطنة، يحب إقانة الحق والعدل في الرعية، وهابته العرب، وأمنت الطلاق والسبل والبحرية في أيامه.
ولم يات بعد إسماعيل بيك ابن إيواظ في أمراء مصر من يشابهه ويدانيه، لولا ما كان فيه من حدة الطبيعة، إذا قال كلاما أو عاند في شيء لا يرجع نه، كما سمعت ذلك من لفظ الشيخ الوالد، وكان له به صحبة أكيدة ومحبة زائدة، وصاحبه في سفر الحج ثلاث مرات، وكان لا يجالس إلا أرباب الفضائل، وقرأ على الشيخ الوالد: تحفة الملوك في المذهب، والمقامت الحريرية، وكتبها له بخطه التعليق الحسن في 50 جزء لطافا، وألف لأجلخ “مناسك الحج” المشهورة في جزء لطيف.
ومما اتفق له أنه لما قلد مملوكه حسن بيك كشوفية البحيرة، قبض على رجل بدوي من أعيان عربان الطارة، فخضر إليه بعض أعيانهم، وتشفعوا عنده بان يفرج عنه، وعملهوا له مائة دينار، فلم يرض، فأتوا إلى سيده بمصر، وذكروا له ذلك، فقال لكاتبه: خذ منهم المائة دينار واحسبها في أصل مال الكشوفية المطلوب من حسن بيك، وكتب لهم مكتوبا بالإفراج عن البدوي، وأرسله مع بعض الأجناد.
فلما قرأه وفهم ما فيه اغتاظ، واحضر ذلك البدوي فأعطاه لريس معاش (سفينة صغيرة) وأمره بان يربطه في العيار، ويصعده إلى أعلى الصاري، ثم يهبطه إلى البحر، فكتفوه وربطوه وسحبوه بالحبال إلى الأعلى وانزلوه حتى غطس في الماء، فعلوا به ذلك مرتين أو ثلاثة حتى شرق ومات، فأخذه أقاربه ودفنوه، ورجع الرسول فأخبر الصنجق بما فعل حسن بيك بالبدوي، فهز رأسه وسكت.
ثم أذن لخازنداره بإرخاء لحيته، واعطاه مكتوبا إلى حين بيك، وامره بان يجعله قائمقام العمل، فلما وصل إليه وأعطاه المرسوم، لم يجبه إلى ذلك، وقال إن قلدت ذلك الشخص من مماليكي من أول السنة، فارجع إلى مخدومك الذي أرسلك يقلدك منصبا غير هذا او كشوفية. فأرسل الخازندار مكتوبا إلى أستاذه يخبره بما حصل، فاحتد وأرسل إليه علي قرقاش بطائفة فقبض عليه، وأنزله إلى أبي قير وقتله وألقاه في البحر المالح، ثم ندم على قتله لنه كان بطلا شجاعا.
وحضر إليه إنسان، وأخبره ان زوجته خرجت منذ أيام إلى الحمام ولم ترجع، وفتش عليها فلم يقع لها على خبر، فتفكر ساعة ثم قال للرجل: اذهب فتفقد ثيابها، وانظر هل ترى فيها شيئا غريبا وأخبرني، فذهب ثم عاد ومعه يلك، وقال: هذا لم أعرفه ولم أفصله لها، فأمر بإحضار شيخ الخياطين، وأطلعه عليه، وأمره ان يطوف به على الخياطين، ويعرف من خاطه وياتي به.
ففعل وأحضر خياطا، فاخبره بانه خاطه لفلان السراج، وكان من أتباعه، فأحضره وسأله، فجحد ذلك، فامر بتفتيش مكانه، فوجدت امرأة مقتولة في المرحاض بعد تتبع الأثر، فأخرجوها ودفنوها، وأمر الوالي بقطع رأس ذلك السراج.
وبالجملة كان المترجم من خيار الأمراء لولا ما كان فيه من الحدة، وهي التي نفرت قلوب المعاصرين له حتى استوحشوا منه، وحضر إليه يوما علي باشجاويش إختيار مستحفظان الدرندلي في قضية، فسبه وشتمه، وكذلك علي جاويش الخربطلي شتمه وأراد أن يضربه، وغير ذلك.
وكان مبدأ خروجه من مصر بسبب تغير خاطره من إبراهيم جاويش وتغير خاطر هذا منه لأمور، وحقد باطني لا تخلو عنه الرياسة والإمارة في الممالك.
يتبع..