ملخص كتاب قصص من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي pdf (الملف في الأسفل).. ملخص جامع لكتاب رائع يتضمن بعض القصص التاريخية الجميلة المعبرة. نشر معظم هذه القصص في عام 1937م.
مقدمة
هل نحن أمة لا تقرأ تاريخها؟!
قليل منا من سمع بملوك المسلمين الذين حكموا روسية وكان لهم فيها حكومة عظيمة عاشت دهورا كانت تسمى حكومة البلغار عاصمتها بقرب ستالينجراد!
قليل منا من يعرف سير الملوك المسلمين الذين حكموا الهند قرونا، كأورنك زيب أشبه الملوك سيرة بالخلفاء الراشدين.
قل من يعرف تاريخ دول الإسلام في جنوبي آسية، وسواحل إفريقيا السوداء.
ستتفاجأ من آثار الإسلام في دلهي إذا زرتها، وستعجب، لقد حكمنا الهند ألف سنة فمن يعرف دقائق تاريخنا فيها؟
من يعرف تاريخ الإسلام العظيم الذي يفيض نبلا وتضحية وإيمانا؟
قصة وديعة الله
كان من أبناء التجار موسرا، في داره خمسون من الجواري الفاتنات، ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة ومتعة العيش حتى اشترى الجارية وذهب بها إلى داره وهو يحسب أن الدنيا قد حيزت له..
لم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة في كل يوم، وصار هذا الحب مصدر لذته وسر حياته.. وأصبح يبصر دنياه تدبر عنه، وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، فلا يزداد إلا تعلقا به وتمسكا بأهدابه. وكان كل ما في الحياة من متع لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال.
وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته، قال لها: أنت مالي وتجارتي، فلا تستطيع أن تفتح فمها بجواب لأن شفتيه تقيدان فمها فلا ينفتح.
وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال.. لكنه رأى الدار الخالية معها قصرا عامرا، والصحراء روضة مزهرة، والليل المظلم معها نهارا مضيئا.
وأخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط وفراش بلي وجهه وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب.. وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أن ألمها في ضلوعه ولا يملك لها شيئا، وقالت له بعد أن عجزت عن الإحتمال: إني أموت، فاذهب فاحتل بشيء تشتري به عسلا ودقيقا وشيرجا. إذهب وعجل، فإنك إذا أبطأت لم تجدني (الشيرج: دهن السمسم، معرب).
وخرج.. وصار يعدو كالمجنون، أين يذهب والليل قد مالت نجومه، والناس نيام في دورهم، ولا يجد من يلجأ إليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيره غريبا فيها ! وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعا ساكنا والناس قد أموا بيوتهم وأنسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد، لا أهل له إلا التي خلفها تعاني سكرات الموت ! وتصور الوحشة والوحدة المرعبة التي سيقدم عليها إن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعيش لها وبها.
ونظر إلى ماء دجلة وتراءى له الموت حلوا فيه متعة اللقاء، وعاد فذكر آلام الحبيبة وانتظارها، فدعى ربه من قلبه صادقا مخلصا، وقال: “يا رب إني أستودعك هذه المرأة، وما في بطنها”. وهم بإلقاء نفسه في الماء، فذكره عذاب الغرق بعذاب الله إن هو فعل، وسمع الأذان، سمع “حي على الصلاة، حي على الفلاح”، فرأى فيه مجد الآخرة بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، فعدل عن الموت، وعاد إلى الدار فرأى فيها نسوة سمعن صوتها فأتينها، فسألهن عنها وكانت مغمى عليها فحسبوها ميتة فأخبروه، فلطم وجهه وشق ثيابه، وانطلق ماشيا على غير هدى تقذفه قرية فتتلقاه قرية حتى بلغ خراسان. ولقي فيها من عرفه ومد إليه يد العون حتى أثرى، لكن روحه كانت تسبح في عالمه القديم، وفي تلك الخربة التي كانت أحب إليه من القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيدا بلا ونيس غير الذهب.
وأقامت السنون بينه وبين ليلة المخاض حاجزا من الأيام سمكه ثمان وعشرين سنة، وهبت على عمره رياح الخريف فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيدا عن داره التي ثوت فيها الحبيبة، فباع كل ما يملك، واشترى قماشا وبضاعة على أمل أن يقيم بهذا المال قبرا للحبيبة ويجعل له فيه مكانا، ولكن اللصوص خرجوا على القافلة ونهبوها وقتلوها من فيها، ونهض من بين الموتى وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر على الحزن، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحا انتعش واشتد، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيرا وسقط على الشاطئ.. ما الدنيا إلى حلم كاذب، الحب والمال والصحة والمجد والسعادة، لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقى! ولا يبقى منه غير ذكرى تبعث ألما وتثير حسرة وتحرق القلب.
ومر به صاحب زلال فحمله إلى بغداد وأطعمه وكساه (الزلال كلمة عباسية مولدة معناها السفينة الحربية)، وأنزله على الجسر، حيث قام تلك الليلة، فأعاده الجسر إلى ماضيه، ورأى الناس حوله، فهم أن يسألهم درهما يشتري به عسلا ودقيقا وشيرجا لإمرأته، ولكنه انتبه للحجاب الصفيق من الزمان الذي يحول بينه وبينها، ثمان وعشرون سنة، دهر طويل ولد فيه ناس ومات آخرون !
وبلغ الدار، ونظر فإذا الخربة التي خلف فيها الحبيبة قد صارت دارا فخمة على بابها الجند.. وأخبره بقال كان يعرف أباه أن الدار لإبن داية أمير المؤمنين، وصاحب بيت ماله، وبخبر أبيه الذي خرج فلم يرجع، وأن البقال أبو الفتى أسعفها، وولد للرشيد ولد فلم يقبل إلا ثديها وهو المأمون.. فسأله عن أم الولد فأخبره أنها باقية، ولكنها لا تزال حزينة لم تمسح آلامها الأيام، ولم ترقأ دمعتها إلى الآن.
ركض إلى الدار، فسأله الشاب: ما تبتغي؟ فقال له: أنا أبوك. وسار معه إلى مكان الحرم، فأقامه أمام الستارة، وذهب ليسأل أمه.. يناديها، فإذا الستارة تهتك، والمرأة تثب إلى عنق الرجل تبكي وتضحك، وتضحك وتبكي، وتقول ما لا تدري..
يمكنك مشاهدة المقطع الملخص لهذه القصة في صفحة “موقع سرد الثقافي الموريتاني” في التيكتوك.
قصة محمد الصغير
في غرناطة كان الوالدان يكتمان ابنهما اسلامهما خوفا من محاكم التفتيش التي تصلب كل من عثرت عليه ممن يكتم إسلامه من المسلمين، وتحرقهم، وتعلق النساء من شعورهم وتبقر بطونهن..
ولما بلغ الولد العاشرة من عمره أدخله أبوه إلى غرفته التي لم يكن يسمح لأحد بالإقتراب منها، فوجد فيها بساطان وكتابا وسيفا معلقا.. قال الأب: هذا كتاب الله. قال الإبن: الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع ابن الله؟ قال: كلا، هذا هو القرآن الذي انزل الله الفرد الصمد على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.. هذا كتاب المسلمين الذين ملكوا الأمر في إسبانيا فعدلوا بين الناس وأحسنوا إليهم وأمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيهم ثمان مائة سنة، جعلوا البلد فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا.. نعم يا بني نحن عرب مسلمون. لكن منذ أربعين سنة خُدع الملك البائس أبو عبد الله الصغير، آخر ملوكنا في هذه الديار، بوعود الإسبان، فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأخذ طريقه إلى بلاد المغرب ليموت هنالك وحيدا شريدا، وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والإستقلال، فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فانشؤوا ديوان التفتيش، وأدخلونا في النصرانية قسرا، وأجبرونا على ترك لغتنا إجبارا، وأخذوا منا أولادنا لينشئوهم على النصرانية !
قال الإبن: فكنا نجتمع أنا وأبي وأخ له في الله على عبادتنا وقرآننا. واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش.. وأخبرني أبي بأنه يحس بقرب أجله، وأنه يحب أن يموت شهيدا على يد هؤلاء، وأمرني بطاعة عمي في كل ما يقول.
وفي ليلة أتى العم وأمرني بالمغادرة معه، فسألته عن أبي وأمي فأخبرني بأنهما قد استشهدا، وخلص بي إلى بلاد المغرب..
وكان منه العالم المصنف سيدي محمد بن عبد الرفيع الأندلسي، وينفع الله به وبتصانيفه.
قصة ابن الحب
الطائف.. حيث يجلس على العتبات فتيات بائسات يعرضن في استحياء أجسادا قد عرتها هاتيك المهنة الآثمة، ينتظرن عابرا يسوقه المقدار إليهن فيبعنه اللذة، ويطعمنه من لحموهن..
مال ميزان الليل، وغلبهن التعب فنمن على فرش العار، ولم يبق إلا فتاة صغيرة، تنظر إلى السماء بعينين زرقاوين بلون السماء، تفيضان بالطهر رغم أنهما في وجه بغي.. كانت من بنات الروم، كان مكانها بين ذراعي أم تحنو عليها أو زوج يحميها، يكتم سر هذا الجمال أن يفشو ويستعلن وتعبث بقدسيته العيون السارقة والأيدي المجرمة.. ولكن من بيده أمرها لم ير لها إلا هذا المكان الذي تنتهبها فيه العيون، وتعبث بها فيه الأيدي، وتفترسها فيه سباع البشر..
هي زهرة ولكن الرياح العاتية قطفتها من غصنها وألقتها بين الأشواك البرية لتجف عليها وتذوي.. حملها سيدها من وطنها البعيد فنهل من كأس جمالها حتى شبع وروي، فوضع الكأس على حافة السبيل تلغ فيها الكلاب..
انطلقت تبكي هائمة على وجهها، وإذا هي بشبح يسير في شعاع القمر متشحا بثوب أسود لا يبين منه شيء، فظنته من رجالها، ومشت إليه.. وعجب أن يرى فتاة صغيرة كأنما هي حوراء من حور الجنان تسير تحت ذوائب الليل..
قال لها: لم لا تدخلين دارك؟ فأجابته هذا الجواب الذي ألفته: بعشرة دراهم.. هل تدخل؟
تبعها حزينا متألما، يفكر في هذا الجمال كيف تعلق به الأرجاس.. دخلت ودعته إلى الدخول ثم أغلقت الباب ووقفت بين يديه تنتظر ما يريد.. فلم يبد الرجل حراكا.. ما له لا يصنع ما يصنع الرجال، يضطرونها إلى فتح صدرها وشفتيها لوحشيتهم وأقذارهم، ثم يلقونها كما يلقي المرء برتقالة امتصها حتى لم يدع فيها إلا قشرة خالية من الماء..
لقد أحيا في نفسها الطهر والفضيلة، وغسلها من أدران الحيلة الداعرة.. أبصرت صباها الطاهر كثلج الصباح، وحياتها في تلك الخمائل البعيدة من وطنها النائي كفراشة تطير خلال الورود..
أخذ بيدها إلى دارها التي أعد لها.. يستطيع الحب أن يمحو من النفس صورة المجد والجاه والفضيلة والرذيلة والطموح والحسد، ولكن لا يمحوه شيء. الحب أحجية الوجود، ليس في الناس من لم يعرف الحب، وليس فيهم من عرف ما هو الحب.. لقد طهرها بحبه، وليس كالحب مطهرا للنفوس، ومصلحا للأمم، وحافزا إلى الفضيلة.
كانا يخرجان كل غداة حين تبسم الشمس بسمتها الأولى فيجلسان على هذه الصخرة المنفردة المطلة على البساتين القريبة، والقفار البعيدة، فيشاركان العصافير غنائها، والورد ضحكه، والنسيم همسه، والنور طهره وصفاءه.. فإذا انبسطت الشمس وتصرمت الظلال أويا إلى الدار فعاشا روحا واحدة في جسمين..
الحب ربيع الحياة المزهر، ولكن الربيع ينتهي ويأتي الصيف بحرارته، والخريف بشحوبه، والشتاء بزمهريره، ولا بد أن ينتهي الربيع..
وتهيأ للوداع.. ووقفت الفتاة تنظر إليه وهو ينحدر في الطريق الضيق حتى غاب عن ناظريها.. ولم يبق لها من الحياة إلا ذكريات هذا الحب الذي ولد شابا قويا ولكنه مات صغيرا، وهذا المال الذي أبقاه لها الحبيب، تنفق منه على نفسها وولدها.. لقد قوي حبها واشتد ولكنه استحال من طفل يرقص في شعاع الشمس يلهو بالألاعيب إلى شيخ يائس يتأمل في الظلام..
القصة لأبي سفيان بن حرب وولده زياد..
قصة في بيت المقدس
في أيام الصليبيين، تخرج امرأة مسيحية من القدس آمنة فتتعرض لإهانات بني جلدتها من المسيحيين، حتى تتمنى لو أنها لم تخرج، وبقيت في كنف عدل المسلمين، تقول للمسيحيين اللذين حاولا النيل من شرفها:
“وبلكم ألا تستحيون أن يكون هؤلاء المسلمون أشفق على نسائكم، وأحفظ لشرفكم منكم، وأن يكونوا أنبل وأفضل لوصايا السيد المسيح؟ لا والله لستم للمسيح ولا لمحمد أنتم للشيطان.. أولئك هم الذين جمعوا المسيح ومحمدا، أولئك أهل الفضائل أرباب الأمجاد، خلاصة الإنسانية”.. فلا تجد منهما إلا إيغالا في الضحك، وتتلفت حولها فلا تجد ناصرا، وأين المعين على الحق، المدافع عن الشرف في مكان ليس فيه مسلم؟
وتراهما قد أقبلا عليها بعيون محمرة، فيجن جنونها، فتلقي بولدها في اليم وترمي بنفسها. وكان البحر ساكنا فصعدت من الماء فقاعتان فيهما اللعنة الحمراء التي خرجت من فؤادها المحترق على هؤلاء الواغلين في فلسطين!
وعاد البحر ساكنا كما كان..
يتبع..