ملخصات إسلامية

حكم سب النبي​ صلى الله عليه وسلم وقصص المتطاولين عليه (مجموع)

حكم سب النبي صلى الله عليه وسلم.. وقصص المتطاولين عليه ومصيرهم في الدنيا والآخرة، تحذيرا من مغبة فعل ذلك.. أحكام على المسلم معرفتها في زمن الإنفتاح على كل شيء هذا، زمن الطيض والمبالغات وأوهام التحضر والرأي الكاذب..


مقدمة

جمعت في هذا الملخص بعض ما كُتب في المتطاولين على النبي صلى الله عليه وسلم، ورتبته، وصححت أخطائه المطبعية بهدف التعريف بخطورة هذا الأمر، ولمعرفة حكم من سب الرسول، خاصة بعد استسهال البعض في وسائل التقاطع الإجتماعي لرد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والإجتراء عليه رفضا للسنة، ولناقليها الذين نقلوا لنا معها القرآن! عجبا لهم، تركوا القرآن – لعجزهم عنه فقط، وهجموا على السنة، والمصدر واحد، وكذلك الناقلون!
يتجرؤون على رد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، رغم اتفاق علماء الأمة عليها! أصبح الواحد منهم يستسهل ذلك، ويناطح العلماء وهو أجهل من ثور أهله! ويسمون أنفسهم يعد ذلك قرآنيين، ولا علاقة لهم بالقرآن ولا بالمسلمين!

حكم سب النبي​ صلى الله عليه وسلم وقصص المتطاولين عليه (مجموع)

اتفقت الأمة على عدد ركعات الصلوات، لأن هذا من أول ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته لأهمية الصلاة، وهو من أشهر ما تعارف عليه الناس من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي المغرض منهم ليرد ذلك زاعما أنه غير مذكور في القرآن؟ هدفه بذلك إفساد الدين والراحة من الصلاة، خاصة جهلة الشباب في هذا الزمن، فهم المستهدفون بهذا اللغو، ولكي يجعل من القرآن كتاب فلسفة يخوض فيه كل من شاء بقدر عقله الحمار، اتباعا لهواه، ولو رد كل ما اتفقت الأمة عليه، وهو ما يفعلون بالضبط.
لكن المشكل أن مثل هذا يتضمن تطاولا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعتقد أن فاعل ذلك يسلم في الدنيا أحرى بالآخرة! سيكون مثل الذين أوردنا قصصهم في هذا البحث، ولن يزيدوا عليه بشيء إن كان طاغية.
قد يتحول شؤم الإعتراض على كلام النبي صلى الله عليه وسلم إلى سخرية واستهزاء به، لأن راد حديثه مستهزئ به لإنعدام إيمانه به من ناحية، ولوسوسة الشيطان الذي يدفعه لذلك من ناحية أخرى.

لاحظ أن البدع والشبهات ضعيفة كخيط العنكبوت، واهنة، يضعها من يضعها اعتمادا على سخافة عقول المتقبلين لها، ويعلمون أن الواحد حتى إن أدعى أنه نبي – والعياذ بالله – سيجد له لاقطة، لذا إذا أرجعناها إلى الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، وجدناها صفر، لا شيء، سخيفة تافهة، لا يقبل بها إلا ناقص عقل صاحب هوى، كالإعتراض على عدد ركعات صلاة الظهر الذي يقود إلى أن يصليها الواحد مثلما يصلي البوذيين بالتأمل، أو ركعتين كما يملي عليه هواه، فيكفي في رد هذا معرفة أن عدد ركعات الظهر ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم والأمة جميعا إلى يومنا هذا، كيف ياتي هذا الحمار ليعترض على ذلك؟
وكبدع التصوف السخيفة التي أول ما يردها أن الإسلام لا يعرف التصوف، ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، لم يكن أحد منهم يدعو بما يدعو به المتصوفة ولا يلبس ثيابه ولا يقربه، لم يكن فيهم شيوخ خارقين، ولم يامروا الناس بأوراد شيطانية في السنة ما يغني عنها.
كذلك بدعة التشيع الغبية التي لا يقبلها عقل، كيف يكون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم فاسدون؟! الذين نشروا الإسلام وفتحوا البلدان وحفظوا بحفظ الله القرآن والسنة؟
هل يعقل أن يكون أساس الإسلام هو كرسي الحاكم بدل التوحيد؟ إن الشيعة والخوارج الدواعش والإخوان، يعتقدون ذلك! مشكلتهم الأساسية هي الخلافة والحكم، فهم طلاب دنيا، ولا يزالون يطلبون الكرسي ويسعون للإنتقام السخيف من المؤمنين حتى يرديهم الله..

إن أحداث التاريخ منذ بعثة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتضمن الكثير من الأحداث والمواقف التي تبين عاقبة الإستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتؤكد أن الله تعالى تكفل بالانتقام لنبيه، وكفاه ممن استهزأ به، وهذا ماض إلى قيام الساعة دائماً وأبداً، مصداقاً لقوله تعالى: “إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ”.
قال العلامة السعدي في تفسيره لهذه الآية: “وهذا وعْدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، أنْ لا يضره المستهزئون، وأنْ يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل الله تعالى، فإنَّه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة”. ثم إن المجرم الذي يسيء للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا لم تدركه عقوبة في الدنيا ـ فيما يظهر للناس ـ فإن وراءه:
يوم عبوس قمطرير شره… في الخلق منتشر عظيم الشان
قال الله عز وجل: “إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”.. فعلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يهبوا لنصرة نبيهم صلى الله عليه وسلم..
ومن عجيب الأمر أن المسلمين كانوا في جهادهم إذا حاصروا حصنًا أو بلدة فسمعوا من أهلها سبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، استبشروا بقرب الفتح مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوه.
ومن صور حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكفايته إياه استهزاء المستهزئين، أن يصرف الشتيمة والذم والاستهزاء إلى غيره، فإذا بالشاتم يريد أن يشتمه فيشتم غيره من حيث لا يشعر!! ففي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمدٌ”!، قال ابن حجر في “الفتح”: “كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون: مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم. ومذمم ليس اسمه، ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم مصروفًا إلى غيره!”.

تلخيص: سيد محمد خليل


حرص النبي على إسلام الكل

حرص النبي عليه الصلاة والسلام على إسلام جميع الناس في مقابل تلك الوقاحة وذلك الشر البشري الشيطاني! ولا يؤمن مؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين بما فيهم نفسه، عن أسماء قالت: “لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأنَّ وجلس في المسجد أتاه أبو بكر الصديق بأبي قحافة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا بكر، ألا تركتَ الشيخ حتى أكون أنا الذي أمشي إليه؟» قال يا رسول الله، هو أحقُّ أن يمشي إِليك من أن تمشي إليه. فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، ووضع يده على قلبه ثم قال: «يا أبا قحافة، أسلم تسلم» ؛ قال: فأسلم.
وأخرج ابن عساكر عن معاوية رضي الله عنه قال: خرج أبو سفيان إلى بادية له مردفاً هنداً، وخرجت أسير أمامهما وأنا غلام على حمارة لي إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان: أنزل يا معاوية حتى يركب محمد، فنزلت عن الحمارة وركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار أمامنا هنيهة، ثم التفت إِلينا فقال: «يا أبا سفيان بن حرب، ويا هند بنت عُتبة، والله لتموتنَّن ثم لتبعثنَّ، ثم ليدخلنَّ المحسن الجنة والمسيء النار، وأنا أقول لكم بحقَ وإنَّكم لأولُ من أُنذرتم» ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم “حم تَنزِيلٌ مّنَ الرحمن الرَّحِيمِ” حتى بلغ “قالتا أَتَيْنا طائعين”، فقال له أبو سفيان: أفَرَغْت يا محمد؟ قال: نعم، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمارة وركبتها، وأقبلت هند على أبي سفيان فقالت: ألهذا الساحر أنزلتَ إبني؟ قال: لا والله ما هو بساحر، ولا كذَّاب”.
وعن عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازلنا بمنى – ونحن نازلون بالجَمْرة الأولى التي تلي مسجد الخَيْف وهو على راحلته مُرْدِفاً خلفه زيد بن حارثة – فدعانا، فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، قال: وقد كنّا سمعنا به وبدعائه في الموسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له. وكان معنا مَيْسرة بن مسروق العبسي، فقال: أحلف بالله لو صدَّقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحُل به وسط رحالنا لكان الرأي، فأحلف بالله ليظهرنَّ أمره حتى يبلغ كلَّ مبلغ. فقال له القوم. دَعْنا عنك لا تعرِّضنا لما لا قِبَلَ لنا به، فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَيْسرة فكلَّمه. فقال مَيْسرة: ما أحسن كلامك وأنوره ولكنَّ قومي يخالفونني، وإنَّا الرجل بقومه فإن لم يعضدوه فالعِداء أبعد.

فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم. فقال لهم ميسرة: ميلوا بنا إلى فَدَك فإنَّ بها يهودَ نسائلهم عن هذا الرجل. فمالوا إلى يهود فأخرجوا سِفْراً لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي، يركب الجمل، ويجتزىء بالكِسْرة وليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينه حُمْرة، مُشَرَّب اللون. فإنْ كان هذا هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه، فإِنَّا نحسده فلا نتبعه، ولنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتَّبعه أو قاتله، فكونوا ممّن يتّبعه. فقال مَيْسرة: يا قوم، إنّ هذا الأمر بيِّنٌ، قال القوم: نرجع إلى الموسم فنلقاه. فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وحجَّ حِجّة الوداع لقيه مَيْسرة فعرفه. فقال يا رسول الله، والله ما زلت حريصاً على اتِّباعك من يوم أنختَ بنا حتى كان ما كان، وأبى الله إلا ما ترى من تأخير إسلامي، وقد مات عامة النَّفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا نبي الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل من مات على غير دين الإِسلام فهو في النار» ، فقال: الحمد لله الذي أنقذني، فأسلم فحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر رضي الله عنه مكان.

وأخرج أبو نُعيم في الدلائل من طريق الواقدي حدثني محمد بن عبد الله بن كَثِير بن الصَّلْت عن ابن رومان وعبد الله بن أبي بكر وغيرهما رضي الله عنهم قالوا: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كِندة في منازلهم بعُكاظ، فلم يأتِ حيّاً من العرب كان ألين منهم، فلمَّا رأى لينهم وقوة جَبْههم له جعل يكلمهم ويقول «أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، فإنْ أظهرْ فأنتم بالخيار» . فقال عامتهم ما أحسن هذا القول ولكنَّا نعبد ما كان يعبد آباؤنا. قال أصغر القوم: يا قوم، اسبقوا إلى هذا الرجل قبل أن تُسبقوا إليه، فوالله إنَّ أهل الكتاب ليُحدِّثون أنَّ نبياً يخرج من الحَرَم قد أظلَّ زمانُه. وكان في القوم إنسان أعور فقال: أمسكوا عليَّ – أي اسمعوا لقولي فيه-، أخرجته عشيرته وتؤونه؟ أنتم تحملون حرب العرب قاطبة؟ لا، ثم لا. فنصرف عنهم حزيناً، فانصرف القوم إلى قومهم فخبروهم. فقال رجل من اليهود: والله إنَّكم مخطئون بحظكم، لو سبقتم إلى هذا الرجل لسدتُم العرب، ونحن نجد صفته في كتابنا. فوصفه القوم الذين رأَوه كل ذلك يصدقونه بما يصف من صفته، ثم قال: نجد مخرجه بمكة ودر هجرته يثرب. فأجمع القوم ليوافوه في الموسم قابل، فحبسهم سيد لهم عن حج تلك السنة فلم يوافِ أحد منهم. فمات اليهوديُّ فسُمِعَ عند موته يُصدِّق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن به.
وعن عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عُكاظ، فقال: «مِمَّن القوم؟» قلنا من بني عامر بن صَعْصَعة. قال: «من أيِّ بني عامر؟» قلنا: بنو كعب بن ربيعة. قال: «كيف المَنَعَةُ فيكم؟» قلنا: لا يُرام ما قِبَلنا، ولا يُصطلى بنارنا. قال: فقال لهم: «إنِّي رسول الله، فإنْ أتيتكم تمنعوني حتى أُبلِّغ رسالة ربي؟ ولم أُكره أحداً منكم على شيء». قالوا: ومِنْ أيِّ قريش أنت؟ قال: «من بني عبد المطلب» . قالوا: فأين أنت من بني عبد مناف؟ قال: «هم أول من كذَّبني وطردني» . قالوا: ولكنَّا لا نطردك ولا نُؤمن بك، ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك. قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون إذ أتاهم بُجْرة بن قيس القُشَيري فقال، من هذا الذي أراه عندكم؟ أُنْكرُه. قالوا: محمد بن عبد الله القرشي. قال: مالكم وله؟ قالوا: زعم لنا أنَّه رسول الله، يطلب إلينا أنْ نمنعه حتى يبلِّغَ رسالة ربه. قال: فماذا رددتم عليه؟ قالوا: قلنا في الرَّحب والسَّعة، نُخرجكم إلى بلادنا ونمنعك مما نمنع به أنفسنا. قال بُجْرة: ما أعلم أحداً من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشرَّ من شيء ترجعون به، بدأتم لتنابذ الناس، وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به، تعمدون إلى رَهيق قوم – أي ناقص عقل، سفيه- قد طرده قومه وكذَّبوه فتؤوونه وتنصرونه، فبئس الرأي رأيتم، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنَّك عند قومي لضربت عنقك. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيثُ بُجْرة شكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته. وعند بني عامر يومئذٍ ضُباعة بنت عامر بن قُرط – كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة -، جاءت زائرة إلى بني عمها، فقالت: يا آل عامر، – ولا عامر لي – أيُصنع هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم لا يمنعه أحدٌ منكم؟ فقام ثلاثة نفر من بني عمِّها إلى بُجرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علَوا وجوههم لطماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء» . قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه فقتلوا شهداء؛ وهلك الآخرون لعناً.
وعن محمد بن عبد الرحمن بن حُصَين: أنَّه أتى كَلْباً في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنَّه ليقول: “يا بني عبد الله، إنَّ الله قد أحسن إسم أبيكم”، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

وعن يحيى بن يعلى قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً – وهو يذكر الأنصار وفضلهم وسابقتهم-: “إنّه ليس بمؤمن من لم يحبَّ الأنصار ويعرف لهم حقوقهم، هم – والله – ربَّوا الإِسلام كما يُربى الفَلُوُّ – المهر الصغير- في غنائهم بأسيافهم وطول ألسنتهم وسخاء أنفسهم. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في المواسم فيدعو القبائل، ما أحدٌ من الناس يستجيب له ويقبل منه دعاءه. فقد كان يأتي القبائل بمجنَّة وعُكاظ وبمنى حتى يستقبل القبائل يعود إليهم سنة بعد سنة، حتى إنَّ القبائل منهم من قال: ما آن لك أنْ تيأس منا؟ من طول ما يعرض نفسه عليهم حتى أراد الله عز وجل ما أراد بهذا الحي من الأنصار فأعرض عليهم الإِسلام، فاستجابوا وأسرعوا وآوَوا ونصروا وواسوا، – فجزاهم الله خيراً – قدمنا عليهم، فنزلنا معهم في منازلهم، ولقد تشاحُّوا فينا، حتى إن كانوا ليقترعون علينا، ثم كنَّا في أموالهم أحقَّ بها منهم طيبة بذلك أنفسهم؛ ثم بذلوا مهج أنفسهم دون نبيهم صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.

وأخرج أبو نُعيم أيضاً في الدلائل عن أمِّ سعد بنت سعد بن الربيع رضي الله عنهما قالت: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ما أقام يدعو القبائل إلى الله عزّ وجلّ يؤُذى ويُشتم، حتى أراد الله عزّ وجلّ بهذا الحيِّ من الأنصار ما أراد من الكرامة، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفر منهم عند العقبة وهم يحلِقون رؤوسهم. قلت: من هم يا أمَّه؟ قالت: ستة نفر أو سبعة، منهم من بني النجار ثلاثة: أسعد بن زُرارة وابنا عفراء، ولم تُسمِّ لي من بقي. قالت: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، فقرأ عليهم القرآن، فاستجابوا لله ولرسوله، فواففوا قابِل – أي السنة المقبلة-، وهي العقبة الأولى؛ ثم كانت العقبة الآخرة. قلت لأمِّ سعد: وكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة؟ قالت: أما سمعت قول أبي صِرْمَة قيسِ بن أبي أنس؟ قلت: لا أدري ما قال، فأنشدتني قوله: ثَوَى في قريشٍ بِضْعَ عشْرَة حَجَّة … يُذكِّرُ لو لاقَى صديقاً مواتيا
وعن عبد الله بن سَلام رضي الله عنه قال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ لمَّا أراد هُدى زيد بن سُعنَة، قال زيد بن سُعْنَة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إِليه إلا اثنتين لم أخبُرهما منه: يسبق حلمُه جهلَه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً. قال زيد بن سُعْنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحُجرات – منازل أزواجه عليه الصلاة والسلام – ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإِسلام، وكنت حدَّثتهم إِن أسلموا أتاهم الرزق رَغَداً. وقد أصابتهم سَنَة وشدّة وقحط من الغيث، فأنا أخشى – يا رسول الله – أن يخرجوا من الإِسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً؛ فإن رأيتَ أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلتَ. فنظر إلى رجل إِلى جانبه – أُراه علياً -، فقال: يا رسول الله ما بقي منه شيء. قال زيد بن سُعْنة: فدنوت إليه فقلت: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم، إلى أجل كذا وكذا. قال: «لا تُسمِّ حائط بني فلان» (الحائط هو البستان)، قلت: نعم، فبايَعَني، فأطلقت هِمْياني (كيس النفقة) فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاه الرجل وقال: «إعدل عليهم وأغثهم».

قال زيد بن سُعْنة: فلما كان قبل مَحِلِّ الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم في نفر من أصحابه، فلما صلّى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته، فأخذتُهُ بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت له: يا محمد، ألا تقضيني حقِّي؟ فوالله، ما عُلِمْتُم بني عبد المطلب إلا مُطْلاً، ولقد كان لي بمخالطتكم علم. ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفِلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟ فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فَوْته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّ في سكون وتُؤدة. فقال: “يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن أتباعه. إذهب به يا عمر، فأعطه”، قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقِّي وزادني عشرين صاعاً من تمر. فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رُعتك. قال: قلت: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا. قلت: أنا زيد بن سُعْنة. قال: الحَبْرُ؟ قلت: الحَبْرُ. قال: فما دعاك إلى أن فعلتَ برسول الله ما فعلت، وقلت له ما قلت؟ قلت: يا عمر، لم يكن من علامات النبوّة شيء إِلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إِليه إِلا اثنتين، لم أخبُرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إِلا حلماً. وقد اختبرتهما، فأشهدك – يا عمر – أنِّي قد رضيتُ بالله رباً، وبالإِسلام ديناً وبمحمد نبياً، وأشهدك أنَّ شطر مالي – فإني أكثرها مالاً – صدقةٌ على أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال عمر: أو على بعضهم فإنَّك لا تسعهم، قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وآمن به وصدَّقه وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة؛ ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر.

وعن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه قال: لم انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون – والله – إِنِّي أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّاً منكراً، وإنِّي لقد رأيت أمراً فما تَرَون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نَلحَق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنَّا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحبُّ إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإِن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير. قالوا: إِنَّ هذا لرأي”. ثم ذهبوا إلى النجاشي فصادفوا خروج رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، قال عمرو: ” قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إِياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلتُ رأتْ قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلتُ رسول محمد. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع. فقال: مرحباً بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئاً قال: قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت لك أدَماً كثيراً. قال ثم قرّبته إليه فأعجبه واشتهاه. ثم قلت له: أيها الملك، إنِّي قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدوَ لنا؛ فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره؛ فلو انشقَّت الأرض لدخلت فيها فَرَقاً. ثم قلت: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتُكَه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟ قال قلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعني واتَّبعه فإنه – والله – لَعَلى الحقِّ، وليظهرنَّ على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على

فرعون وجنوده. قال: قلت: أفتبايعني له على الإِسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإِسلام. ثم خرجت على أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إِسلامي. ثم خرجت عامداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسقف نجران يدعوه إلى الإسلام “فلما أتى الأسقُفَ الكتابُ وقرأه فَظِعَ به وذعر به ذعراً شديداً، وبعث إِلى رجل من أهل نجران يقال له شُرحَبيل بن وَدَاعة – وكان من هَمْدان، ولم يكن أحد يُدعى إِذا نزلت مُعْضلة قبله، لا الأيهم ولا السيد، ولا العاقب – فدفع الأسقفُّ كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى شرحبيل فقرأه. فقال الأسقف: يا أبا مريم، ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمتَ ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النّبوة، فما يُؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في أمر النبوة رأي، ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرتُ عليك فيه برأي واجتهدت لك، فقال له الأسقف: تنحَّ فاجلس”، وبعث إلى إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل، وإلى رجل من أهل نجران يقال له جبَّار بن فيض، وقرأ عليهما الكتاب فقالا له مثل قول شرحبيل. حينها “أمر الأسقف بالناقوس فضُرب به ورُفعت النيران والمسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإِذا كان فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس، ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورُفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية، وعشرون ومائة ألف مقاتل. فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألهم عن الرأي فيه. فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمْداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجَبَّار بن فيض الحارثي فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حُلُلاً لهم يجرونها من حِبَرة وخواتيم الذهب. ثم انطلقوا حتى أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّموا عليه فلم يردَّ عليهم، وتصدَّوا لكلامه نهاراً طويلاً فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب. فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانوا يعرفونهما – فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس، فقالوا: يا عثمان، ويا عبد الرحمن، إن نبيكم كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلَّمنا عليه فلم يردَّ سلامنا، وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا؟ فما الرأي منكما؟ أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب – وهو في القوم – ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم هذه، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إِليه. ففعلوا فسلَّموا عليه فردَّ سلامهم، ثم قال: «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإنَّ إِبليس لمعهم» . ثم سألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى؟ فإنَّا نرجع إِلى قومنا ونحن نصارى يسرُّنا – إن كنت نبياً – أن نسمع ما تقول فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى» . فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الآية: “إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءنَا وَأَبْنَآءكُمْ وَنِسَآءنَا وَنِسَآءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ”. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعدما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خَميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذٍ عدة نسوة. فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أنَّ الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يَرِدوا ولم يصدُرُوا إلا عن رأيي، وإنِّي – والله – أرى أمراً ثقيلاً، والله لئن كن هذا الرجل مبعوثاً فكنَّا أول العرب طعناً في عينيه وردّاً عليه أمره، لا يذهب لنا من صدوره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة – أي آفة-؛ وإنا لأدنى العرب منهم جواراً. ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنّاه لا يبقى منا على وجه الأرض شَعَر ولا ظِفْر إلا هلك. فقال صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقال: أرى أن أكلِّمه، فإنِّي أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فقالا له: أنت وذاك. قال: فتلقَّى شرحبيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إنِّي قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: وما هو؟ فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فمهما حكمتَ فينا فهو جائز. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعل وراءك أحداً يُثَرِّبُ عليك» – أي يلومك ويعيرك-. فقال شرحبيل: سل صاحبيَّ، فسألهما فقالا: ما يَرِدُ الوادي ولا يصدُر إِلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم، حتى إذا كان من الغد أَتوه: فكتب لهم هذا الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران: – إِن كان عليهم حكمه – في كل ثمرة، وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم، وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة: في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة» . وذكر تمام الشروط.


أولا: أساليب المستهزئين من قريش

فكرت قريش في أساليب تقضى بها على الدعوة في مهدها‏.‏ تلخصت فيما يلي‏:‏

1ـ السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك‏

قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون ‏”‏وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏”‏، ويصمونه بالسحر والكذب “‏وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏”‏،وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة “‏وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏”‏،وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا‏:‏ هؤلاء جلساؤه ‏”‏مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا‏”‏‏، قال تعالى‏:‏ “‏أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ”،وكانوا كما قص الله علينا ‏”‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏”.‏

وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًا حتى أثر ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى‏:‏ “‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ”، ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال‏:‏ “‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏”‏، وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلاء المستهزئين حيث قال‏:‏ “‏إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ الله إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ”، وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم فقال‏:‏ “‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ‏”‏‏.‏

2ـ إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة‏

وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها، فكانوا يقولون عن القرآن‏:‏ ‏”‏أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ” (الآية)‏ يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار، ويقولون‏:‏ “‏بَلِ افْتَرَاهُ‏” (الآية)‏ من عند نفسه، ويقولون‏:‏ “‏إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏” (الآية)‏ وقالوا‏:‏ “‏إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏”‏‏ أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه‏.‏ “‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏، وأحيانا قالوا‏:‏ إن له جنًا أو شيطانًا يتنزل عليه كما ينزل الجن والشياطين على الكهان‏.‏ قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ “‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏”، أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب، وما جرّبتم علىّ كذبًا، وما وجدتم في فسقًا، فكيف تجعلون القرآن من تنزيل الشيطان‏؟‏

وأحيانًا قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه مصاب بنوع من الجنون، فهو يتخيل المعانى، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء، فهو شاعر وكلامه شعر‏.‏ قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ “‏وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ”، فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء، ليست واحدة منها في النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين اتبعوه هداة مهتدون، متقون صالحون في دينهم وخُلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وليست عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم لا يهيم في كل واد كما يهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد، ودين واحد، وصراط واحد، وهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعر والشعراء‏؟‏ وأين الشعر والشعراء منه‏.‏

هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام‏.‏

ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهاتهم‏.‏

أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا، والرسول لا يكون بشرًا حسب عقيدتهم‏.‏ فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته، ودعا إلى الإيمان به تحيروا وقالوا‏:‏ ‏”‏مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ”‏، وقالوا‏:‏ إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر، و”‏مَا أَنزَلَ الله عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ”‏، فقال تعالى ردًا عليهم‏:‏ “‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ”‏، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر‏.‏ ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على رسالتهم‏:‏ “‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا”‏، فـ ‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏‏.‏ فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشرًا، ولا منافاة بين البشرية والرسالة‏.‏

وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم وإسماعيل وموسى ـ عليهم السلام ـ كانوا رسلًا وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهم هذه، فقالوا‏:‏ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين، ما كـان الله ليترك كـبار أهـل مكـة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا‏ “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏”‏، قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ “‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ‏”، يعنى أن الوحي والرسالة رحمة من الله و‏”‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏”‏‏.‏

وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا‏:‏ إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسباب الحياة، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش وهو يدعى أنه رسول الله‏؟‏ “‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا‏”‏، ورد على شبهتهم هذه بأن محمدًا رسول، يعنى أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوى، وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرس والمواكبين مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتى يستفيدوا به، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة، ولم تعد لها فائدة تذكر‏.‏

أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون‏:‏ ‏”‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ‏”‏، وكانوا يقولون‏:‏ “‏ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ‏”،‏ وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب‏:‏ “‏هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ”.‏

وقال قائلهم‏:‏
أَموْتٌ ثم بَعْثٌ ثم حَشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو

وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجرى في الدنيا، فالـظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسيء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لأستوى الفريقان، بل لكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير معقول إطلاقا‏.‏ ولا يتصور من الله أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الفساد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏”‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ”، وقال‏:‏ “‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ”‏، وقال‏:‏ “‏أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏”‏‏.‏

وأما الاستبعاد العقلى فقال تعالى ردًا عليه‏:‏ ‏”‏أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا‏”، وقال‏:‏ ‏”‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، وقال‏:‏ ‏”‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ‏”‏، وبَيَّن ما هو معروف عقلًا وعرفًا، وهو أن الإعادة ‏”‏أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏”‏، وقال‏:‏ ‏”‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏”‏، وقال‏:‏ “‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ‏”‏‏.‏

وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذي عقل ولب، ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون عُلوا في الأرض، وفرض رأيهم على الخلق، فبقوا في طغيانهم يعمهون‏.‏

3 ـ منع الناس من سماع القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين

كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن ودعوة الإسلام بكل طريق يمكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة، أو إذا رأوه يصلى ويتلو القرآن‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏”‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏”‏ حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة من النبوة، وذلك أيضًا عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة‏.‏

بعض كبار المستهزئين:
أخرج الحافظ البزار – رحمه الله – عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال مَر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فغمزه بعضهم ، فجاء جبريل – أحسبه قال: فغمزهم -، فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة، فماتوا.
وفي توضيح ذلك قال محمد بن إسحاق: كان هؤلاء المستهزئون خمسة نفر، وكانوا ذوي مكانة في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى “أبو زمعة الأسود بن المطلب”، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني – قد دعا عليه لِما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: “اللهم اعم بصره وأثكله ولده”، ومن بني زهرة “الأسود بن عبد يغوث”، ومن بني مخزوم “الوليد بن المغيرة”، ومن بني سهم “العاص بن وائل”، ومن خزاعة “الحارث بن الطلاطلة”، فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله – صلى الله عليه وسلم- الاستهزاء، أنزل الله – تعالى- قوله العزيز: “فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ”، وهو تهديد شديد، ووعيد أكيد من الله تعالى لكل متطاول على مقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من الملاحدة والكفار الذين تنكروا لخالقهم العظيم، ومن المشركين الذين جعلوا مع الله تعالى معبوداً آخر بافتراءات لا سند لهم فيها ولا حجة، إلا ما انقادوا له من غمزات الشياطين، وكذبهم وغوايتهم.
وقال ابن إسحاق أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الخمسة المتطاولون على رسول الله يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمى، ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى (بطنه) فمات منه حبناً (أي نتيجة لانتفاخ البطن من الاستسقاء)؛ ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، كان قد أصابه قبل ذلك بسنين، فانتقض به جرحه؛ (أي تجدد بعد ما برئ) فقتله، ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه؛ (أي ما لم يصب الأرض من باطن قدمه)، ثم خرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبارقة (أو شبرقة؛ وهي شجرة عالية ذات أشواك) فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته؛ ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخض قيحاً، فقتله . وهكذا أهلك الله تعالى هؤلاء الخمسة الذين تطاولوا على مقام سيد المرسلين.
وقد أصيب الأسود بن المطلب في ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحب أن يبكي عليهم (وقريشا قد منعت البكاء على قتلاها خوفا من شماتة المسلمين)، وكان ضرير البصر، فسمع ليلًا صوت نائحة، فبعث غلامه، وقال‏:‏ انظر هل أحل النَّحْبُ‏؟‏ هل بكت قريش على قتلاها‏؟‏ لعلي أبكي على أبي حكيمة ـ ابنه ـ فإن جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال‏:‏ إنما هي امرأة تبكى على بعير لها أضلته، فلم يتمالك الأسود نفسه، وقال‏:‏
أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص ** ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبكى إن بكيت على عقيل ** وبكى حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمى جميعا ** وما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال ** ولولا يوم بدر لم يسودوا

وكان الأسود بن عبد يغوث إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه مستهزئاً: “هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى”. وكان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: “أما كُلِمتَ اليوم من السماء يا محمد؟!”، وفي رواية: وقد أصاب الله هذا الخبيث بقروح في رأسه فمات منها شر ميتة.

قال أبو عمر: وكان المجاهرون بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل من آمن به، من بني هاشم عمه أبا لهب وابن عمه أبا سفيان بن الحارث، ومن بني عبد شمس عتبة وشيبة ابني ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأبا سفيان بن حرب وابنه حنظلة والحكم بن أبي العاص بن أمية ومعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية، ومن بني عبد الدار النضر بن الحارث، ومن بني عبد شمس أسد بن عبد العزى الأسود بن عبد المطلب وابنه زمعة وأبا البختري العاص بن هشام، ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث، ومن بني مخزوم أبا جهل بن هشام وأخاه العاص بن هشام وعمهما الوليد بن المغيرة وابنه أبا قيس بن الوليد بن المغيرة وابن عمه قيس بن الفاكه بن المغيرة وزهير بن أبي أمية بن المغيرة أخو أم سلمة وأخاه عبد الله بن أبي أمية والأسود بن عبد الأسد أخا أبي سلمة وصيفي بن السائب، ومن بني سهم العاص بن وائل وابنه عمرا وابن عمه الحارث بن قيس بن عدي ونبيها ومنبها ابني الحجاج، ومن بني جمح أمية وأبيا ابني خلف بن وهب بن حذافة بن جمح وأنيس بن معير أخا أبي محذورة والحارث بن الطلاطلة الخزاعي وعدى بن الحمراء الثقفي، فهؤلاء كانوا أشد على المؤمنين مثابرة بالأذى ومعهم سائر قريش.. وأسلم الوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام أخو أبي جهل، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وجماعة أراد الله هداهم.

4- تعذيب المسلمين

كان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته‏.‏

ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية‏.‏

وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول‏.‏

وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول‏:‏ أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يـشده شـدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع‏.‏ وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول‏:‏ لا والله لا تـزال هكـذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك‏:‏ أحد، أحد، ويقـول‏:‏ لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها‏.‏ ومر به أبو بكر الصديق يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل‏:‏ بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه‏.‏ واشترى أمه حمامة، فأعتقهما، وأعتق عامر بن فهيرة.

وكان أبو فُكَيْهَةَ ـ واسمة أفلح ـ مولى لبني عبد الدار، وكان من الأزد‏.‏ فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد، وفي رجليه قيد من حديد، فيجردونه من الثياب، ويبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله‏.‏

وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكان حدادًا، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وكان المشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره‏.‏

وكانت زِنِّيرَةُ أمَةً رومية قد أسلمت فعذبت في الله، وأصيبت في بصرها حتى عميت، فقيل لها‏:‏ أصابتك اللات والعزى، فقالت‏:‏ لا والله ما أصابتني، وهذا من الله، وإن شاء كشفه، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش‏:‏ هذا بعض سحر محمد‏.‏

وأسلمت أم عُبَيْس، جارية لبني زهرة، فكان يعذبها المشركون، وبخاصة مولاها الأسود بن عبد يغوث، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المستهزئين به‏.‏

وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ـ وهو يومئذ على الشرك ـ فكان يضربها حتى يفتر، ثم يدعها ويقول‏:‏ والله ما أدعك إلا سآمة، فتقول‏:‏ كذلك يفعل بك ربك‏.‏

وممـن أسلمـن وعـذبن مـن الجـوارى‏:‏ النهدية وابنتها، وكانتا لامـرأة من بني عبد الدار‏.‏

وممن عذب من العبيد‏:‏ عامر بن فُهَيْرَة، كان يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول‏.‏

وأوذى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا‏.‏ فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما في حبل واحد، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين، فلم يجيباه، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان؛ ولذلك سميا بالقرينين، وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه‏.‏

ووُطئ أبا بكر يومًا بمكة، وضرب ضربًا شديدًا، دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير‏:‏ انظرى أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لا علم لي بصاحبك، فقال‏:‏ اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت‏:‏ إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ، قالت‏:‏ ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله ، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، قالت‏:‏ نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت‏:‏ والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال‏:‏ فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ هذه أمك تسمع، قال‏:‏ فلا شيء عليك منها، قالت‏:‏ سالم صالح، فقال‏:‏ أين هو‏؟‏ قالت‏:‏ في دار ابن الأرقم، قال‏:‏ فإن لله على ألا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتـاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيما العبيد والإماء منهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمن أسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومهم، ولذلك قلما كان يجتريء عليهم إلا أشراف قومهم، مع شيء كبير من الحيطة والحذر‏.‏

واشترى أبو بكر رضي الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهن أجمعين، فأعتقهم جميعًا‏.‏ وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال‏:‏ “أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالًا جلدًا لمنعوك”‏.‏ قال‏:‏ “إني أريد وجه الله” ‏.‏ فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه‏.‏ قال تعالى‏:‏ “‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى”، وهو أمية بن خلف، ومن كان على شاكلته ‏”‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏”، وهـو أبـو بـكـر الصديـق رضي الله عنه‏.‏


ثانيا: خروج إلى الطائف

في شوال سنة عشر من النبوة (‏في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م‏) خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهابًا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها‏.‏
فلما انتهي إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، وهم عبد يا ليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم‏:‏ هو يَمْرُط ثياب الكعبة (‏أي يمزقها‏)‏ إن كان الله أرسلك‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك، وقال الثالث‏: ‏والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولًا لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك‏.‏ فقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم‏:‏ (‏إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني‏).‏

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا‏:‏ اخرج من بلادنا‏.‏ وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سِمَاطَيْن (‏أي صفين‏) وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء‏.‏ وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُبْلَة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار‏.‏ فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقى من الشدة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، قال‏:‏ “‏اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى‏؟‏ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى‏؟‏ أم إلى عدو ملكته أمري‏؟‏ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك‏)‏‏.‏ فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له‏:‏ عَدَّاس، وقالا له‏:‏ خذ قطفًا من هذا العنب، واذهب به إلى هذا الرجل‏.‏ فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مد يده إليه قائلًا‏:‏ ‏”‏باسم الله”‏ ثم أكل‏.‏ فقال عداس‏:‏ إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”من أي البلاد أنت‏؟‏ وما دينك‏؟‏ قال‏:‏ أنا نصراني من أهل نِينَوَى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى‏”‏‏.‏ قال له‏:‏ وما يدريك ما يونس ابن متى‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي‏”، فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها‏.‏ فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر‏:‏ أما غلامك فقد أفسده عليك‏.‏ فلما جاء عداس قالا له‏:‏ ويحك ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قالا له‏:‏ ويحك يا عداس ، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه‏. ‏ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبًا محزونًا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين (جبلين) على أهل مكة‏، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ “بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا‏”.


ثالثا: مفاوضة قريش للرسول وعمه أبو طالب

عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمع عتبةُ بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو سُفيان بن حرب، والنَّضْر بن الحارث، أخو بني عبد الدار، وأبو البَخْتَري بن هشام، والأسود بن المطَّلب بن أسد، وزَمَعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونُبَيْه ومُنبَّه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم. قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه: إنَّ أشرافَ قومِك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهمْ. فجاءهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- سريعًا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بَداء، وكان عليهم حريصًا يحب رشدَهم، ويعز عليه عَنَتُهم، حتى جلس إليهم؛ فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلًا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعِبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلامَ، وفرقت الجماعةَ، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بينَنا وبينك – أو كما قالوا له-، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كَان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه قد غلب عليك – وكانوا يسمون التابع من الجن رَئِيا- فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالَنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نُعْذر فيك؛ فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “ما بي ما تقولون، ما جئتُ بما جئتكم به أطلب أموالَكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملكَ عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم”، أو كما قال – صلى الله عليه وسلم-، قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا، ولا أقل ماءً، ولا أشد عيشًا منا، فسَلْ لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيَّقت علينا، وليبسط لنا بلادَنا، وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يُبعث لنا منهم: قُصَيُّ بن كلاب، فإنه كان شيخ صِدْق، فنسألهم عما تقول: أحقّ هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولًا كما تقول. فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: “ما بهذا بُعثتُ إليكم من الله، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبرْ لأمر الله تعالى، حتى يحكم اللهُ بيني وبينكم”. قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، سل ربَّك بأن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك وسَلْه فليجعل لك جِنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلَك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربَّه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا – أو كما قال- فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر الله حتى يحكمَ الله بيني وبينكم”. قالوا: فأسقط السماءَ علينا كِسفًا كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ذلك إلى الله، إن شاء أن يفعلَه بكم فعل”. قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكَك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-، قام عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية ابن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم – وهو ابن عمته، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب-، فقال له: يا محمد، عرض عليك قومُك ما عرضوا فلم تقبلْه منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعلْ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجلَ لهم بعضَ ما تخوِّفهم به من العذاب، فلم تفعل – أو كما قال له-، فو الله لا أومن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سُلَّما، ثم ترقَى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيهَا، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وانصرف رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- إلى أهله حزينًا آسفًا لِما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولِما رأى من مباعدتهم إياه.
وقال ابن إسحاق وغيره‏:‏ لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشًا ثقله، قالت قريش بعضها لبعض‏:‏ إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، وفي لفظ‏:‏ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب، يقولون‏:‏ تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه‏.‏ فمشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم ـ وهم خمسة وعشرون تقريبًا ـ، فقالوا‏:‏ يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه؛ ليكف عنا ونكف عنه، وليدعـنا وديننا وندعه ودينه، فبعث أبو طالب، فجاءه فقال‏:‏ يا بن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك، وليأخذوا منك، ثم أخبـره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر‏.‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم‏”، وفي لفظ أنه قال مخاطبًا لأبي طالب‏:‏ ‏”‏إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية‏”، وفي لفظ آخر قال‏:‏ ‏”‏أي عم، أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم‏؟‏‏”،‏ قال‏:‏ وإلام تدعوهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏”‏أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم‏”‏، ولفظ رواية ابن إسحاق‏:‏ ‏”كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم‏”‏، فلما قال هذه المقالة توقفوا وتحيروا، ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد‏.‏ ثم قال أبو جهل‏:‏ ما هي‏؟‏ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال‏:‏ تقولون‏‏ ‏”‏لا إله إلا الله ، وتخلعون ما تعبدون من دونه‏”‏‏.‏ فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا‏:‏ أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا‏؟‏ إن أمرك لعجب‏.‏ ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا‏.‏ وفي هؤلاء نزل قوله تعالى‏:‏ ‏”‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ‏”.

قريش تهدد أبا طالب:
وجاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له‏:‏ يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين‏.‏ فعَظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ يا بن أخي، إن قومك قد جاءونى فقالوا لي كذا وكذا، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال‏:‏ ‏”‏يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته‏”‏، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فلما أقبل، قال له‏:‏ اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فو الله لا أُسْلِمُك لشيء أبدًا وأنشد‏:‏
والله لن يصلوا إليك بجَمْعـِهِم ** حتى أُوَسَّدَ في التــراب دفيــنًا
فاصدع بأمرك ما عليك غَضَاضَة ** وابْشِرْ وقَرَّ بذاك منك عيونًا

ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماض في عمله، عرفت أن أبا طالب قد أبي خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة وقالوا له‏:‏ يا أبا طالب، إن هذا الفتى أنْهَدَ فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسْلِمْ إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال‏:‏ والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه‏؟‏ هذا والله ما لا يكون أبدًا‏.‏ فقال المطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف‏:‏ والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا، فقال‏:‏ والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علىّ، فاصنع ما بدا لك‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها‏:‏ ‏”‏لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك”‏‏.‏ قال‏:‏ ويقول بين ذلك‏:‏ ‏”‏ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب”‏‏.‏


رابعا: قصص المتطاولين في مكةالعهد المكي

1- أبو لهب وامرأته أم جميل

كان أبو لهب بن عبد المطلب، و امرأته أم جميل (أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان) من أشد الناس عداءً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، فكانت “أم جميل” تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حيث يمر، فأنزل الله – تعالى – فيهما قوله الحق: “تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ*فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ”.
وفي رواية: لما نزل قوله تعالى‏:‏ “‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏”، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلًا‏.‏ فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهب وقال‏:‏ “هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به”، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس‏.‏
وعن ابن عباس قال: “لما أنزل الله “وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ” أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعده، ثم نادى: “يا صباحاه” (يقولها المستغيث لأن الغارة تكون دائما صباحا). فاجتمع الناس إليه، بين رجل يأتي إليه وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين عذاب شديد”، فقال أبو لهب: “تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله “تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ”، أخرجاه في الصحيحين.

وقال ابن إسحاق: حُدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول: يعدني محمد أشياءً لا أراها، يزعم أنها كائنة بعدَ الموت، فماذا وضع في يديَّ بعد ذلك، ثم ينفخ في يديه ويقول: تبًّا لكما ما أرى فيكما شيئًا مما يقول محمد. فأنزل الله تعالى فيه: “تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ”. قال ابن هشام: تبت: خسرت. والتباب: الخسران.

قال ابن إسحاق: فذكر لي: أن أم جميل، حمالة الحطب، حين سمعت ما نزل فيها، وفي زوجها من القرآن، أتت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فِهْر من حجارة (الفهر هو حجر على مقدار ملء الكف)، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرِها عن رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم- فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر: أين صاحبُك فقد بلغني أنه يهجوني؟ والله لو وجدتُه لضربتُ بهذا الفِهْرِ فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت: “مُذَممًا عَصَينا.. وأمرَه أبَينا.. ودينَه قَلَيْنَا” ثم انصرفت (وفي رواية أخرى: ثم انصرفت بعد أن تفوهت بشعر بذيء)، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني؟ لقد أخذ الله ببصرِها عني. قال ابن هشام: قولها: “ودينَه قلَيْنا” عن غير ابن إسحاق.

وتذكر الروايات أن قريشا لما قررت تحذير العرب الوافدين على مكة للحج، وذلك بالقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ساحر، أخذوا في تنفيذ القرار، فجلسوا بسبل الناس حين قدموا للموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره‏.‏ أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذى المَجَاز، يدعوهم إلى الله ، وأبو لهب وراءه يقول‏:‏ “لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب‏”.‏

ولما قدم وفد بكر بن وائل في الموسم أتاهم النبي صلى عليه وسلم فقال: «مِمَّن القوم؟» قالوا: من بكر بن وائل. فقال: «من أيِّ بكر بن وائل؟» قالوا: من بني قيس بن ثعلبة. قال: «كيف العدد؟» قالوا: كثير مثل الثرى. قال: «فكيف المنعة؟» قالوا: لا مَنَعة، جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نُجير عليهم. قال: «فتجعلون لله عليكم إنْ هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهَم أنْ تسبِّحوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّروه أربعاً وثلاثين» . قالوا: ومن أنت؟ قال: «أنا رسول الله» . ثم انطلق، فلمّا ولَّى عنهم قال الكلبي: وكان عمَّه أبو لهب يتبعه فيقول للناس: لا تقبلوا قوله، ثم مرَّ أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟ قال: نعم، هذا في الذروة منا، فعن أيِّ شأنه تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه، وقالوا: زعم أنه «رسول الله»، قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولاً، فإنَّه مجنون يهذي من أُمِّ رأسه. قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر.

وعن ربيعة بن عبَّاد رضي الله عنه قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أنْ تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدِّقوا بي، وتمنعوني حتى أُبَيِّن عن الله ما بعثني به» . قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان، عليه حُلَّة عدنيّة. فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إِنَّ هذا إنما يدعوكم إلى أنْ تسلخوا اللات والعُزَّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أُقيْش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه. قال: فقلت لأبي: يا أبت، من هذا الرجل الذي يتبعه ويردّ عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العُزَّى بن عبد المطلب أبو لهب.

‏ وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما‏.‏ ولما مات عبد الله ـ الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ استبشر أبو لهب، وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدًا صار أبتر‏.‏

كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، كان بيته ملصقا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ “كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى ـ وكانوا جيرانه ـ، لم يُسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول‏:‏ ‏”‏يا بني عبد مناف، أي جوار هذا‏؟‏‏”، ثم يلقيه في الطريق‏.‏

وتروى كتب السيرة أنه لما نزل الوحي بقول ربنا تبارك وتعالى: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى*مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى*وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى*ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى*وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى*ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى”. جاء عتيبة بن أبي لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً – في كفر ووقاحة وتبجح- : “أنا أكفر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى”. ثم بالغ في وقاحته، وقلة أدبه فشق قميص رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، وحاول أن يتفل في وجهه الشريف فلم يصبه، فدعا عليه النبي – صلوات الله وسلامه عليه- قائلاً : “اللهم سلط عليه كلباً من كلابك”، فانصرف عتيبة ساخراً مستهزئاً. ومرت الأيام حتى خرج عتيبة مع نفر من قريش في تجارة إلى بلاد الشام، وفي الطريق نزلوا في مكان يقال له الزرقاء (وهو مدينه كبيرة في الأردن اليوم)، وبعد أن استراحوا وضعوا العشاء، ولما جلسوا لتناوله طاف بهم أسد من الأسود، وزأر عليهم فارتعدت فرائص عتيبة، فقال له أصحابه: من أي شي ترتعد؟ فو الله ما نحن وأنت إلا سواء! فقال لهم: إن محمداً قد دعا علي، وما ترد له دعوة، ولا أصدق منه لهجة!! ومن شدة رعب عتيبة لم يدخل يده في الطعام. وعندما جاء وقت النوم أحاط القوم أنفسهم ومتاعهم، وجعلوا عتيبة في وسطهم وناموا. ثم جاء الأسد يشم رؤوسهم رجلا رجلا وهم يغطون في نوم عميق حتى انتهى إلى عتيبة بن أبي لهب فهشمه هشمة كانت إياها، وقام القوم فزعين من نومهم على صرخة عتيبة، فقال وهو بآخر رمق: ألم أقل لكم إن محمداً أصدق الناس لهجة، يا ويلي وويل أخي!! هو والله آكلي كما دعا علي محمد، قتلني وهو بمكة وأنا ببلاد الشام، وقد استجيب دعاؤه!! ومات عتيبة.

وفي رواية: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينّه في ربه  – سبحانه وتعالى، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد (يكفر بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك”. ثم انصرف عنه، فرجع إلى أبيه فقال: يا بني ما قلت له؟ فذكر له ما قاله، فقال: فما قال لك؟ قال: قال: “اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك”. قال: يا بني، والله ما آمن عليك دعاءه! فساروا حتى نزلوا بالشراة وهي أرضٌ كثيرة الأسد، فقال: أبو لهب إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لابني عليها ثم افرشوا حولها، ففعلنا، فجاء الأسد فشمَّ وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة، فإذا هو فوق المتاع فشمَّ وجهه ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه!! فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا يتفلت من دعوة محمد!!

وقد أخذ الله أبا لهب بمكة، إذ أصابه بمرض خبيث يقال له: مرض العدسة، وكان ذلك يوم هزيمة المشركين ببدر، فجمع الله عليه البلاء والعذاب النفسي والبدني، فمات شر ميتة. ذكر الطبري في “تاريخه”: “أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه، وبقي بعد موته ثلاثاً، لا تقرب جنازته، ولا يحاوَل دفنه، فلما خافوا السُّبَّةَ في تركه، حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه”.
قال أبو رافع ـ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ “كنت غلامًا للعباس وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزًا، وكنت رجلًا ضعيفًا أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فو الله إني لجالس فيها أنحت أقداحي وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طُنُب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس‏:‏ هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب‏:‏ هلم إلىَّ، فعندك لعمري الخبر، قال‏:‏ فجلس إليه، والناس قيام عليه‏.‏ فقال‏:‏ يا بن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس‏؟‏ قال‏:‏ ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لَقِينَا رجالا بيض على خيل بُلْق بين السماء والأرض، والله ما تُلِيق شيئًا، ولا يقوم لها شيء‏.‏

قال أبو رافع‏:‏ فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت‏:‏ تلك والله الملائكة‏.‏ قال‏:‏ فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علىّ يضربني، وكنت رجلًا ضعيفًا فقامت أم الفضل إلى عمود من عُمُد الحجرة فأخذته، فضربته به ضربة فَلَعَتْ في رأسه شجة منكرة، وقالت‏:‏ استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليًا ذليلًا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة ‏(‏وهي قرحة تتشاءم بها العرب‏)‏ فقتلته، فتركه بنوه، وبقى ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه”‏.‏

2- أبو جهل

كان أبو جهل يقول‏:‏ يا محمد، إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله:‏‏ “فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ‏”.
وَلَقِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: “والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد، فأنزل الله تعال: “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم”، فذُكر لي – قال الراوي – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن سب آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله.

ولما ذكر الله عز وجل شجرةَ الزقوم تخويفًا بها لهم، قال: “يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا؛ قال: عَجْوة يثرب بالزُّبد، والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقمًا. فأنزل الله تعالى فيه: “إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ”، أي: ليس كما يقول، (تزقم: ابتلع. قال ابن هشام المهل: كل شيء أذبته، من نحاس أو رصاص أو ما أشبه ذلك). قال ابن إسحاق: فأنزل الله تعالى فيه: “وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا”.

وذكر ابن كثير في تفسيره أن أبا جهل قال لقومه: “واللات والعزى لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه! فقيل: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقًا من نار، وهولاً وأجنحة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا”.
وعن ابن عباس في قوله تعالى “سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ”، قال: “قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلى لأطأن على عنقه”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو فعل لأخذته الملائكة عيانا”.

وعن ابن عباس قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا، ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم، فزَبَرَهُ، فقال أبو جهل: “إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني”، فأنزل الله تعالى: “فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ”، قال ابن عباس: “والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله”.

وكان أبو جهل يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، ويؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله ، ثم يذهب مختالًا بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشر، كأنه ما فعل شيئًا يذكر، وفيه نزل‏:‏ ‏”‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى‏”‏، وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلى في الحرم، ومرة مر به وهو يصلى عند المقام، فقال‏:‏ يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ لــه رسـول الله صلى الله عليه وسلم وانتـهره، فقال‏:‏ يا محمد، بأي شيء تهددني‏؟‏ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا‏.‏ فأنزل الله “‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ”.‏ وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه، وهو يقول له‏: ‏‏”‏أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى”،‏ فقال عدو الله ‏:‏ أتوعدني يا محمد‏؟‏ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئًا، وإني لأعز من مشى بين جبليها‏.‏

وقال أبو جهل: “يا معشر قريش إني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله أو كما قال، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد، فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه بفحل قط، فهم بي أن يأكلني. قال ابن إسحاق فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ذلك جبريل لو دنا لأخذه”.

وروى ابن إسحاق أن رجلاً من أراش (أو إراشه) قدم إلى مكة بإبل له، فابتاعها منه أبو جهل، فمطله بأثمانها. فأقبل الأراشي ووقف على ناد من قريش، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- في ناحية المسجد جالس، فقال: يا معشر قريش، من رجل يؤديني (أي يعينني على أخذ حقي) على أبى الحكم بن هشام، فإني رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس (يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم) اذهب إليه فإنه يؤديك عليه (وقالوا ذلك إستهزاءً برسول الله لما يعلمون مما بينه وبين أبي جهل من العداوة)، فأقبل الأراشي حتى وقف إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فقال له: يا عبد الله إن أبا الحكم ابن هشام قد غلبني على حق لي قِبلَهُ، وأنا رجل غريب، ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه، يرحمك الله، قال – صلى الله عليه وسلم-: “انطلق إليه”، وقام معه، فلما رآه المشركون قام معه، قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه، فأنظر ماذا يصنع! قال: وخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حتى جاء بيت أبي جهل فضرب عليه بابه، فقال أبو جهل: من هذا؟ قال – صلى الله عليه وسلم-: “محمد، فاخرج إلي”، فخرج إليه، وما في وجهه من رائحة (أي بقية من روح؛ أي مرتعداً خائفاً ما في وجهه قطرة من دم) قد انتقع أو امتقع لونه (أي تغير)، فقال له – صلى الله عليه وسلم-: “أعط هذا الرجل حقه”، قال: نعم ، لا تبرح حتى أعطيه الذي له. قال الراوي: فدخل ثم خرج إليه بحقه، فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وقال للأراشي إلحق بشأنك، فأقبل الأراشي على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيراً، فقد والله أخذ لي حقي. وعاد الرجل الذي بعثه المشركون ليراقب الموقف إليهم، فقالوا له: ويحك! ماذا رأيت؟ قال: عجباً من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه محمد بابه، فخرج إليه وما معه روحه (من شدة الفزع) فقال له: أعط هذا حقه، فقال: نعم، لا تبرح حتى أخرج له حقه، فدخل ثم خرج إليه بحقه، فأعطاه إياه. ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك! مالك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط! قال: ويحكم، والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي، وسمعت صوته، فملئت رعباً، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته (أي عنقه)، ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني. وقد كان أبو جهل بن هشام – مع عداوته لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- وبغضه إياه، وشدته عليه، يذله الله – تعالى- له إذا رآه كما روى ابن إسحاق.

وعن عثمان بن عفان: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفى الحجر ثلاثة نفر جلوس عقبة بن أبي مُعَيْط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره، فعُرف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدنوت منه حتى وسطته فكان بيني وبين أبي بكر، وأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعا، فلما حاذاهم قال أبو جهل: والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما يعبد آباؤنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنى ذلك”، ثم مضى عنهم، فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك حتى إذا كان في الشوط الرابع ناهضوه، ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه، فدفعت في صدره فوقع على أسته، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبى معيط، ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف ثم قال: “أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه عاجلا”؛ قال عثمان: فو الله ما منهم رجل إلا أخذه أفْكَل (بسكون الفاء وفتح الكاف، أي الرعدة) وهو يرتعد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بئس القوم أنتم لنبيكم، ثم انصرف إلى بيته، وتبعناه خلفه حتى انتهى إلى باب بيته ووقف على السدة، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: “أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه ومتم كلمته وناصر نبيه إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح اللهُ بأيديكم عاجلا”، ثم انصرفنا إلى بيوتنا، فو الله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا.

وروى البيهقي بسنده عن المغيرة بن شعبة قال: “إن أول يوم عرفت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  لأبي جهل: “يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله أدعوك إلى الله”، فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، فو الله لو أني أعلم أن ما تقول حق لأتبعتك. فانصرف رسول الله  صلى الله عليه وسلم، وأقبل علي فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء، إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب – تماست، أي تساوينا-، قالوا: منا نبي، والله لا أفعل. وهذا القول منه – لعنه الله – كما قال تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه: “وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا”.

قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبى جهل ابن هشام، فهمزوه واستهزءوا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم “ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون”.

وذكر الزهري أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخد كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم ذهب حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجازينا على الراكب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء!، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه.

وعن ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أسلم وكان واعية أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فإذا هو شتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا سيفه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على نادي قريش إلا وقف وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة، فلما مر بالمولاة، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده ههنا جالسا فإذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد، فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد مُعِدا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد علي ذلك إن استطعت، فقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وتم حمزة على إسلامه وعلى ما تبايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما أسلم حمزة علمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة، أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به‏.‏

وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها‏.‏ ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال‏:‏ ‏”صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة‏”، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية ـ أم عمار ـ في قبلها بحربة، فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة‏.‏ وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه‏.‏ وقالوا له‏:‏ لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأنزل الله ‏:‏ ‏”‏مَن كَفَرَ بِالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ” ‏الآية‏‏.‏

وروى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال‏:‏ “لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة، قال‏:‏ قلت‏:‏ أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلىّ، وقال‏:‏ أهلًا وسهلًا، ما جاء بك‏؟‏ قال‏:‏ جئت لأخبرك إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به‏.‏ قال‏:‏ فضرب الباب في وجهي، وقال‏:‏ قبحك الله ، وقبح ما جئت به‏”.‏

مقتله:
جاء في صحيح البخاري: “عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِى جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهُ – صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: « أَيُّكُمَا قَتَلَهُ ». قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: « هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا ». قَالاَ: لاَ. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: « كِلاَكُمَا قَتَلَهُ ». سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ”.
قال النووي– رحمه الله-: “اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال أصحابنا: اشترك هذان الرجلان في جراحته لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولاً فاستحق السلب، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كلاكما قتله” تطييبا لقلب الآخر من حيث أن له مشاركة في قتله”.
ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏”‏من ينظر ما صنع أبو جهل‏؟‏‏”،‏ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال‏:‏ هل أخزاك الله يا عدو الله‏؟‏ قال‏:‏ وبماذا أخزاني‏؟‏ أأعمد من رجل قتلتموه‏؟‏ أو هل فوق رجل قتلتموه‏؟‏ وقال‏:‏ فلو غير أكَّار قتلنى!، ثم قال‏:‏ أخبرني لمن الدائرة اليوم‏؟‏ قال‏:‏ لله ورسوله.. ثم قال لابن مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه‏:‏ لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة‏.‏
وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال‏:‏ ‏”‏الله الذي لا إله إلا هو‏؟‏”‏ فرددها ثلاثًا، ثم قال‏:‏ ‏‏”‏الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه‏”‏، فانطلنا فأريته إياه، فقال‏:‏ “‏هذا فرعون هذه الأمة‏”.‏

3- عقبة بن أبي مُعَيْط والنضر بن الحارث

كان من أشدِّ الكفار عداوةً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلانِ: أحدهما عقبة بن أبي معيط، والآخر النضر بن الحارث. قال ابن كثير – رحمه الله -: “هذان الرجلانِ من شرِّ عباد الله، وأكثرهم كفرًا وعنادًا وبغيًا وحسدًا وهجاءً للإسلام وأهله، لعنهما اللهُ، وقد فعل”.
روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير، قال: سألتُ عبدَ الله بن عمرو عن أشدِّ ما صنع المشركون برسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “رأيتُ عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: “أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟!”.

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: “بينما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائمٌ يصلي عند الكعبة، وجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جَزورِ آل فلان، فيعمد إلى فرثها (هو بقايا الطعام في الكرش) ودمها وسلاها (هو المشيمة) فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضَعَه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم (جاء في رواية أخرى أنه عقبة بن أبي معيط)، فلما سجد رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وضعه بين كتفيه، وثَبَتَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلقٌ إلى فاطمةَ – رضي الله عنها – وهي جويرية، فأقبلتْ تسعى، وثبت النبي – صلى الله عليه وسلم – ساجدًا حتى ألقتْه عنه، وأقبلتْ عليهم تسبُّهم، فلما قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصلاة، قال: “اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش”، ثم سمى: “اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد”، قال عبد الله: فو الله، لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “وأتبع أصحاب القليب لعنةً”. وفي رواية: فشقَّ عليهم؛ إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرَون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة”.

وأما النضر بن الحارث، فقد قال عنه ابن إسحاق: “كان من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلَّم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار (وهما حكيمان من حكماء الفرس)، فكان إذا جلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مجلسًا، فذكَّر فيه بالله، وحذَّر قومَه ما أصاب مَن قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلَفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا واللهِ يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلمَّ إليَّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدِّثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟ قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأُنزل مثل ما أَنزل الله، قال ابن إسحاق: وكان ابن عباس يقول فيما بلغني: نزل فيه ثماني آيات من القرآن: قول الله – عز وجل -: “إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ”، وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن”.

وروى ابن هشام أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كان إذا جلس مجلساً فدعا فيه إلى الله – تعالى – ، وتلا فيه شيئاً من القرآن الكريم خلفه في مجلسه إذا قام، النضر بن الحارث، فيحدثهم عن ملوك فارس ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني ، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله – تعالى – فيه: “وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا”. وأنزل ربنا كذلك قوله العزيز: “وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ”.

وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول‏:‏ أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ “‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله”.

وروى ابن إسحاق أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جلس يوماً في المسجد الحرام مع الوليد بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من قريش، فتكلم الرسول الخاتم – صلوات الله وسلامه عليه – فعرض له النضر بن الحارث، ورد عليه الرسول حتى أفحمه، ثم قرأ عليه وعليهم قول الحق – تبارك وتعالى-: “إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ”. قال ابن إسحاق : ثم قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وأقبل عبد الله بن الزّبعَري السهمي حتى جلس، فقال له الوليد: والله ما قام النضر بن الحارث لإبن عبد المطلب آنفاً وما قعد (أي ما استطاع أن يقارع حجته أو يرد عليه)، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم؛ فقال عبد الله بن الزعبري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمداً: أكل ما يُعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى بن مريم؛ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري، ورأوا أنه قد أحتج وخاصم، فذُكر ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم الشياطين بعبادته”. فأنزل الله – تعالى – في ذلك قوله العزيز: “إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ”.

وكان النضر بن الحارث حامِلَ لواء المشركين في غزوة بدر، وقد أُسر هذان الرجلان – عقبة والنضر – في غزوة بدر، وجيء بهما مع الأسرى، وفي مكانٍ – على طريق العودة من بدر إلى المدينة- يقال له: الأُثَيْل، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بضرب عنق النضر بن الحارث، فقتله عليُّ بن أبي طالب ضربًا بالسيف، وأرغم الله أنف هذا الكافر وأذلَّه، قال – تعالى -: “وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ”.
وأما عقبة بن أبي معيط، فقد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بضرب عنقه في مكانٍ يقال له: عِرْق الظُّبْيَة، وكان الذي أسره من المسلمين عبد الله بن سلمة، فقال عقبة حين أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقتله: فمَن للصبية يا محمد؟ يستعطف النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: “النَّارُ”، وكان الذي قتله عاصم بن ثابت. وفي رواية الواقدي: أنه لما أقبل عاصم بن ثابت ليقتله، قال: يا معشر قريش، علامَ أُقتل مِن بين مَن ها هنا؟ قال: لعداوتك لله ولرسوله، فأمر به فضُربتْ عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بئس الرجلُ كنتَ، والله ما علمتُ كافرًا بالله وبرسوله وبكتابه مؤذيًا لنبيِّه، فأحمد الله الذي هو قتلك، وأقرَّ عيني منك”.

وذُكر في الخبر بعث قريش النضر بن الحارث بن كلدة، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود فقالت لهما: سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو، وإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فأقبل النضر وعقبة فقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون فقال عليه السلام: “أخبركم غدا”، ولم يستثن، فانصرفوا، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة، وقالوا وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه حتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، قال ابن إسحاق: فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لقد احتبست عني يا جبريل” فقال: “وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ” الآية؛ وافتتح السورة بحمده وبذكر نبوة رسوله عليه السلام، وفيها ذكر الفتية الذين ذهبوا، وهم أصحاب الكهف، وذكر الرجل الطواف، وهو ذو القرنين، وقال فيما سألوه عنه من الروح “وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” (انتهى ملخصا)..

وروى ابن إسحاق عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال‏:‏ حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها‏.‏ فوقف ثم قال‏:‏ ‏”‏أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسى بيده، لقد جئتكم بالذبح‏”‏، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول‏:‏ انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولًا‏.‏ فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكى ويقول‏:‏ أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله ‏؟‏ ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو‏:‏ فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط‏.‏ انتهي ملخصًا‏.‏

وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال‏:‏ سألت ابن عمرو بن العاص‏:‏ أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ “أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟”‏‏.‏ وفي حديث أسماء‏:‏ فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال‏:‏ أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وعليه غدائر أربـع، فـخرج وهــو يـقول‏:‏ “أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟”،‏ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئًا من غدائره إلا رجع معنا‏.

4- أمية بن خلف

كان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- همزه ولمزه، فأنزل الله – تعالى – فيه: “وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ*يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ*كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ*فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ”. قال ابن هشام: الهُمزة: الذي يشتم الرجلَ علانية، ويُكسر عينيه عليه، ويَغْمِز به، واللُّمَزَة: الذي يعيب الناس سرًّا ويُؤْذيهم.

وقال سعد بن معاذ ـ وهو بمكة ـ لأمية بن خلف‏:‏ لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏”‏إنهم ـ أي المسلمين ـ قاتلوك‏)”، ففزع فزعًا شديدًا، وعهد ألا يخرج عن مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر، اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار، وقالت له امرأته‏:‏ يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي‏؟‏ قال‏:‏ لا والله، ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا‏.‏

وكان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن، وهو واقف مع ابنه على بن أمية، آخذًا بيده، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، وهو يحملها، فلما رآه قال‏:‏ هل لك فيَّ‏؟‏ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن‏؟‏ ـ يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن ـ فطرح عبد الرحمن الأدراع، وأخذهما يمشى بهما، قال عبد الرحمن‏:‏ قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه‏:‏ من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره‏؟‏ قلت‏:‏ ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال‏:‏ ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل‏.‏

قال عبد الرحمن‏:‏ فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بلالًا بمكة ـ فقال بلال‏:‏ رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أي بلال، أسيري‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أتسمع يا بن السوداء‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ ثم صرخ بأعلى صوته‏:‏ يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا‏.‏ قال‏:‏ فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الْمَسَكَة، وأنا أذب عنه، قال‏:‏ فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت‏:‏ انج بنفسك، ولا نجاء بك، فو الله ما أغني عنك شيئًا‏.‏ قال‏:‏ فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول‏:‏ يرحم الله بلالًا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري‏.‏

5- أُبَيّ بن خلف

كان أبي بن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، وعقبة بن أبي مُعيط، متصافيين، حَسَنًا ما بينهما. فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله –  صلى الله عليه وسلم- وسمع منه، فبلغ ذلك أبيًّا، فأتى عقبة فقال: ألم يبلغني أنك جالستَ محمدًا وسمعت منه! قال: وجهي من وجهك حرام أن أكلِّمَك – واستغلظ من اليمين- إن أنت جلستَ إليه أو سمعت منه، أو لم تأته فتَتْفل في وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي مُعيط لعنه الله، فأنزل الله تعالى فيهما: “وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا”.

ومشى أبَيُّ بن خلف إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بعظم بالٍ قد ارْفَتَّ، فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرَمَّ، ثم فتَّه بيده، ثم نفخه في الريح نحوَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك اللهُ النارَ”. فأنزل الله تعالى فيه: “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ”.

وكان أبي بن خلف يتوعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالقتل‏.‏ فقال‏:‏ “‏بل أنا أقتلك إن شاء الله”‏، فلما طَعَنَ أبيًا في عنقه يوم أحد ـ وكان خدشًا غير كبير ـ، كان أبي يقول‏:‏ إنه قد كان قال لى بمكة‏:‏ أنا أقتلك، فو الله لو بصق على لقتلني.
قال ابن إسحاق‏:‏ فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب – يوم أُحد – أدركه أبي بن خلف وهو يقول‏:‏ أين محمد؟‏ لا نجوتُ إن نجا‏.‏ فقال القوم‏:‏ يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏‏‏”‏دعوه”‏، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه مراراً‏.‏ فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم، قال‏:‏ قتلني والله محمد، قالوا له‏:‏ ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال‏:‏ إنه قد كان قال لي بمكة‏:‏‏‏ “‏أنا أقتلك‏”، فو الله لو بصق على لقتلني‏.‏ فمات عدو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة‏. ‏وفي رواية أبي الأسود عن عروة، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه‏:‏ أنه كان يخور خوار الثور، ويقول‏:‏ والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً‏.‏

وكان أبي إذا لقي الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة يقول: يا محمد إن عندي “العود” فرسا أعلفه كل يوم مرقا من ذكرة، أقتلك عليه، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “بل أنا أقتلك إن شاء الله”.

6- عتبة بن ربيعة

روى الإمام عبد بن حميد (في مسنده) بسنده عن جابر بن عبد الله قال: اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟
فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله  صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة (ولد الشاة) قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا. فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: فرغت؟. قال: نعم. فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم “حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون”، إلى أن بلغ: “فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود”، فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم. ثم قال: لا والذي نصبها بنيئة – يقصد الكعبة- ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وقد رواه البيهقي، وزاد: وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت. وعنده أنه لما قال: “فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود”، أمسك عتبة على فِيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد وأعجبه كلامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه. فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد، فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته – وقص عليهم القصة -، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم “حم تنزيل من الرحمن الرحيم” حتى بلغ “فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود”، فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.

وكان عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فلما انفصلوا من الصف – في يوم بدر – طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار عَوْف ومُعَوِّذ ابنا الحارث ـ وأمهما عفراء ـ وعبد الله بن رواحة، فقالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ رهط من الأنصار‏.‏ قالوا‏:‏ أكِفَّاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم‏:‏ يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏”‏قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا على‏”، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا‏:‏ من أنتم‏؟‏ فأخبروهم، فقالوا‏:‏ أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدة ـ وكان أسن القوم ـ عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد‏.‏ فأما حمزة وعليّ فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كَرَّ عليّ وحمزة على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، فلم يزل ضَمِنًا حتى مات بالصفراء، بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة‏.‏ وكان علي يقسم بالله أن هذه الآية نــزلت فيهم‏:‏ “‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ‏”..

ولما أُمِر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأُخِذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال‏:‏ ‏‏”‏يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء‏؟‏‏”،‏ فقال‏:‏ لا والله، يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلًا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك‏.‏ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرًا‏.‏

ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال‏:‏ ‏‏”‏بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس‏”‏، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر‏.‏

وعن أبي طلحة‏:‏ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طَويّ من أطواء بدر خَبِيث مُخْبث‏.‏ وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، واتبعه أصحابه‏.‏ حتى قام على شفة الرَّكِىّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، ‏‏”‏يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله‏؟‏ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا‏؟‏‏”،‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها‏؟‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏”‏والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏”،‏ وفي رواية‏:‏ ‏‏”‏ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون‏”‏.‏

7- الوليد بن المغيرة

قال: أينْزل على محمد وأترَك وأنا كبير قريش وسيدُها! ويُترك أبو مسعود عمرو بن عُمير الثقفي سيد ثقيف! ونحن عظيما القريتين؟! فأنزل الله تعالى فيه: “وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ”.

ولما مضت على الجهر بالدعوة أيام أو أشهر معدودة، وقرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد‏:‏ أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا‏:‏ فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به‏.‏ قال‏:‏ بل أنتم فقولوا أسمع‏.‏ قالوا‏:‏ نقول‏:‏ كاهن‏.‏ قال‏:‏ لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ مجنون، قال‏:‏ ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ شاعر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ ساحر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم‏.‏ قالوا‏:‏ فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ والله إن لقوله لحلاوة، ‏‏وإن عليه لطلاوة‏،‏ وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا‏:‏ ساحر‏، جاء بقولٍ هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك‏.‏ وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا‏:‏ أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم‏:‏ أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفًا‏.‏ وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر‏ “‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِسَأُصْلِيهِ سَقَرَ”.

واعترض رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم- وهو يطوف بالكعبة، الأسودُ بنُ المطلب بن أسَد بن عبد العُزى، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذَوي أسنان في قومِهم، فقالوا: يا محمد، هلمَّ فلنعبد ما تعبدُ، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظِّنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظِّك منه. فأنزل الله تعالى فيهما: “قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”، أي إن كنتم لا تعبدون الله إلا أن أعبد ما تعبدون، فلا حاجة لي بذلك منكم، لكم دينكم جميعًا ولي ديني.

ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يكلمه، وقد طمع في إسلامه، فبينا هو في ذلك، إذ مر به ابنُ أمِّ مكتوم الأعمى، فكلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وجعل يستقرئه القرآنَ، فشق ذلك منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه. فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسًا وتركه. فأنزل الله تعالى عليه فيه: “عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى” إلى قوله تعالى: “فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}” أي: إنما بعثتك بشيرًا ونذيرًا، لم أخص بك أحدًا، فلا تمنعْه ممن ابتغاه، ولا تتصدين به لمن لا يريده.

8- العاص بن وائل

جاء في السيرة لإبن هشام: “أن خَبَّاب بن الأرَتّ، صاحبُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قينًا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفًا عملها له حتى كان له مال، فجاءه يتقاضاه فقال له يا خباب: أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه، أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب، أو فضة، أو ثياب أو خدم؟ قال خَباب: بلى. قال: فأنظرني إلى يوم القيامةِ يا خَباب، حتى أرْجعَ إلى تلك الدار فأقضيَك هناك حقَّك، فو الله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله مني، ولا أعظم حظًّا في ذلك؛ فأنزل الله تعالى فيه: “أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ” إلى قوله تعالى: “وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا”.

9- الأخنس بن شَريق

هو الأخنس بن شَريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زُهرة، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه، فكان ممن ينال من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ويرد عليه؛ وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، فأنزل الله تعالى: “وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ” إلى قوله تعالى: “زَنِيمٍ” ولم يقل: “زَنِيمٍ” لعيب في نسبه؛ لأن الله لا يعيب أحدًا بنسب، ولكنه حقق بذلك نعتَه ليُعرف. والزنيم: العديد للقوم (وهو من يعد في القوم وهو ليس منهم، وهو الدعي).

10- الحارث بن قيس السهمي

كان أحد المسيئين للنبي صلى الله عليه وسلم، الذين ظلوا يؤذونه طول حياتهم، وكان لشدة كفره وجهله يقول: “غرَّ محمد أصحابه، ووعدهم أن يحيوا بعد الموت”. وهلك هذا الكافر بالذبحة؛ إذ أكل حوتاً مملوحاً، فلم يزل يشرب حتى مات، وقد امتلأ رأسه قيحاً، فكانت موتته شر ميتة وأنكرها.

11- متآمرون من الطغاة

عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجالاً من قريش اجتمعوا في الحجر، ثم تعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف أن لو رأينا محمدًا لقمنا إليه مقام رجل واحد فقتلناه قبل أن نفارقه، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك لقد تعاهدوا لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل واحد إلا قد عرف نصيبه من دمك. فقال: “يا بنية ائتيني بوضوء”، فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: “ها هو ذا”، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم منهم إليه رجل، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، وأخذ قبضة من التراب ثم قال: “شاهت الوجوه”، ثم حصبهم بها فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصا حصاةٌ إلا قتل يوم بدر كافرًا.


خامسا: قصص المتطاولين في العهد المدني

1- كعب بن الأشرف

لما بلغه خبر انتصار المسلمين في بدر، وقتل صناديد قريش في بدر قال‏:‏ أحق هذا‏؟‏ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها‏.‏
ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش، فنزل على المطلب بن أبي وَدَاعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القَلِيب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون‏:‏ أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه‏؟‏ وأي الفريقين أهدي سبيلاً‏؟‏ فقال‏:‏ أنتم أهدي منهم سبيلا وأفضل، وفي ذلك أنزل الله تعالى‏:‏ ‏”‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً‏”‏‏.‏
وقال محمد بن إسحاق: “إنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر حين قدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها”.

قال موسى، ومحمد بن إسحاق: “وقدم المدينة فجعل يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب، ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يشبب بأم الفضل بنت الحارث وبغيرها من نساء المسلمين حتى أذاهم”. وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏”من لكعب بن الأشرف ؟‏ فإنه آذى الله ورسوله‏”‏، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعَبَّاد بن بشر، وأبو نائلة ـ واسمه سِلْكَان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة ـ والحارث بن أوس، وأبو عَبْس بن جبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة‏.‏

وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال‏:‏ ‏‏”‏من لكعب بن الأشرف ‏؟‏ فإنه قد آذى الله ورسوله‏”‏، قام محمد بن مسلمة فقال‏:‏ أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏”‏نعم‏‏”.‏ قال‏:‏ فائذن لي أن أقول شيئاً‏.‏ قال‏:‏ ‏‏”‏قل‏‏”.‏ فأتاه محمد بن مسلمة، فقال‏:‏ إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عَنَّانا‏.‏ قال كعب‏:‏ والله لَتَمَلُّنَّهُ‏.‏ قال محمد بن مسلمة‏:‏ فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟‏ وقد أردنا أن تسلفنا وَسْقـًا أو وَسْقَين‏.‏ قال كعب‏:‏ نعم، أرهنوني‏.‏ قال ابن مسلمة‏:‏ أي شيء تريد؟‏ قال‏:‏ أرهنوني نساءكم‏.‏ قال‏:‏ كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب‏؟‏ قال‏:‏ فترهنوني أبناءكم‏.‏ قال‏:‏ كيف نرهنك أبناءنا فيُسَبُّ أحَدُهم فيقال‏:‏ رُهِن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا‏.‏ ولكنا نرهنك الَّلأْمَة، يعني السلاح‏.‏ فواعده أن يأتيه‏.‏ وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعباً فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة، ثم قال له‏:‏ ويحك يا بن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني‏.‏ قال كعب‏:‏ أفعل‏.‏ قال أبو نائلة‏:‏ كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قَوْسٍ واحدة، وقطعتْ عنا السبل، حتى ضاع العيال، وجُهِدَت الأنفس، وأصبحنا قد جُهِدْنا وجُهِد عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة‏.‏ وقال أبو نائلة أثناء حديثه‏:‏ إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك‏.‏
وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصد، فإن كعباً لن ينكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار‏.‏
وفي ليلة مُقْمِرَة ـ ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 هـ ـ اجتمعت هذه المفرزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى بَقِيع الغَرْقَد، ثم وجههم قائلاً‏:‏ ‏‏”انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم‏”، ثم رجع إلى بيته، وطفق يصلى ويناجي ربه‏.‏ وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته ـ وكان حديث العهد بها‏:‏ أين تخرج هذه الساعة ‏؟‏ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم‏.‏ قال كعب‏:‏ إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفح رأسه‏.‏
وقد كان أبو نائلة قال لأصحابه‏:‏ إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة‏:‏ هل لك يا بن الأشرف أن نتماشى إلى شِعْب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا ‏؟‏ قال‏:‏ إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق:‏ ما رأيت كالليلة طيباً أعطر، وزهي كعب بما سمع، فقال‏:‏ عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة ‏:‏ أتأذن لي أن أشم رأسك؟‏ قال‏:‏ نعم، فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه‏.‏ ثم مشى ساعـة ثم قال‏:‏ أعود؟‏ قال كعب‏:‏ نعم، فعاد لمثلها.‏ حتى اطمأن ‏.‏ ثم مشى ساعة ثم قال‏:‏ أعود‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال‏:‏ دونكم عدو الله، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئاً، فأخذ محمد بن مسلمة مِغْوَلاً فوضعه في ثُنَّتِهِ، ثم تحامل عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو الله قتيلاً، وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران‏.‏
ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذُبَاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حَرَّة العُرَيْض رأت أن الحارث ليس معهم، فوقفت ساعة حتى أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه، حتى إذا بلغوا بَقِيع الغَرْقَد كبروا، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر، فلما انتهوا إليه قال‏:‏ ‏‏”أفلحت الوجوه‏”، قالوا‏:‏ ووجهك يا رسول الله، ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل علي جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده‏.‏
ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يري أن النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا.
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أنهم جاءوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق: وفي ذلك يقول كعب بن مالك:
فغودر منهم كعب صريعا … فذلت بعد مصرعه النضير

2- منافق ضرير

مر جيش المسلمين في الطريق إلى “أُحُد” بحائط مِرْبَع بن قَيظِي ـ وكان منافقاً ضرير البصرـ، فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول‏:‏ “لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله‏”.‏ فابتدره القوم ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏‏”‏لا تقتلوه، فهذا الأعْمَى أعمى القلب أعمى البصر‏”‏‏.‏ ونفذوه حتى نزلوا الشعب..

3- أبو عَزَّة الجمحي

في طريق النبي صلى الله عليه وسام إلى المدينة راجعا من حمراء الأسد (سرية بين غزوة أحد وغزوة الأحزاب)، كان قد أخذ أبا عَزَّة الجمحي ـ وهو الذي كان قد منّ عليه من أساري بدر؛ لفقره وكثرة بناته، على ألا يظاهر عليه أحداً (فأطلقه بدون فداء)، ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وخرج لمقاتلتهم في أحد، فلما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ “يا محمد، أقلني، وامنن على، ودعني لبناتي، وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت”، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏”‏لا تمسح عارضيك بمكة بعدها، وتقول‏:‏ خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين‏”، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه‏.‏

4- غدر بني النضير

لم يكن اليهود أهل حرب بل أهل سب وغدر، فلما قُتل الكلابيَّيْنِ (من بني كلاب) خطأً، (قتلهما عمرو بن أمية، وهو لا يعلم أن معهما عهد من الرسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد غدر المشركين بالقراء)، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير يريد منهم المساعدة في دفع دية الكلابيين كما تنص عليه المعادة بينه وبينهم، وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ أيكم يأخذ هذه الرّحي، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها‏؟‏‏‏.‏‏.‏ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش‏:‏ “أنا”‏.‏ فقا ل لهم سَلاَّم بن مِشْكَم‏:‏ “لا تفعلوا، فوالله ليُخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه”‏.‏ ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم‏. ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا‏:‏ نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود‏.‏ وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم ‏:‏ ‏‏”‏اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه‏”‏‏.‏

5- أَبِي عفك اليهودي

توجهت إليه سرية سالم بْن عمير العمري فِي شوال عَلَى رأس عشرين شهر مِن مهاجر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أَبُو عفك مِن بني عَمْرو بْن عوف شيخا كبيرا قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يهوديا، وكان يحرض عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول الشعر، فَقَالَ سالم بْن عمير، وهو أحد البكائين وقد شهد بدرا: “عَلِيّ نذر أن أقتل أَبَا عفك أو أموت دونه”، فأمهل يطلب لَهُ غرة حتى كانت ليلة صائفة، فنام أَبُو عفك بالفناء وعلم بِهِ سالم بْن عمير، فأقبل فوضع السيف عَلَى كبده ثُمَّ اعتمد عَلَيْهِ حتى خش فِي الفراش، وصاح عدو اللَّه، فثاب إِلَيْهِ ناس ممن هُم عَلَى قوله فأدخلوه منزله وقبروه”.

6- عصماء بنت مروان

وهي من بني أمية بن زيد، لما قتل أبو عفك نافقت، فذكر عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه، قال: “وكانت تحت رجل من بني خطمة، ويقال له يزيد بن زيد، فقالت تعيب الإسلام وأهله (شعرا أجابها حسان عليه).. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك، ألا آخذ لي من ابنة مروان؟ فسمع ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن عدي الخطمي، وهو عنده؛ فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها في بيتها فقتلها، ثم أصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد قتلتها. فقال: “نصرت الله ورسوله يا عمير”، فقال: هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان”..

7- سلام بن أبي الحقيق

وكنيته أبو رافع، كان من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله‏.‏ وكان قتل كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم، فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان‏.‏ وأذن رسول الله في قتله ونهي عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامها خمسة رجال، كلهم من بني سلمة من الخزرج، قائدهم عبد الله بن عَتِيك‏.‏ خرجت هذه المفرزة، واتجهت نحو خيبر؛ إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه‏:‏ اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب‏:‏ يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب‏.‏ قال عبد الله بن عَتِيك‏:‏ فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وَدٍّ‏.‏ قال‏:‏ فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من داخل‏.‏ قلت‏:‏ إن القوم لو نَذِروا بي لم يخلصوا إلى حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت‏.‏ قلت‏:‏ أبا رافع، قال‏:‏ من هذا‏؟‏ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت‏:‏ ما هذا الصوت يا أبا رافع‏؟‏ فقال‏:‏ لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف‏.‏ قال‏:‏ فأضربه ضربة أثخنته، ولم أقتله‏.‏ ثم وضعت ضَبِيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أري أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب‏.‏ فقلت‏:‏ لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته‏؟‏ فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال‏:‏ أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت‏:‏ النجاء، فقد قتل الله أبا رافع‏.‏ فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته فقال‏:‏ ‏”ابسط رجلك‏”‏، فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها‏.‏
هذه رواية البخاري، وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع واشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد الله بن أنيس، وفيه‏:‏ أنهم لما قتلوه ليلاً، وانكسرت ساق عبد الله بن عتيك حملوه، وأتوا مَنْهَرًا من عيونهم فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران واشتدوا في كل وجه، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، وأنهم حين رجعوا احتملوا عبد الله بن عتيك حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

8- كِنَانة بن الربيع

قال ابن إسحاق‏:‏ وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكِنَانة بن الربيع (بعد فتح خيبر)، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتي رجل من اليهود فقال‏:‏ إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة‏:‏ ‏”‏أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك‏؟‏‏”،‏ قال‏:‏ “نعم”، فأمر بالخربة، فحفرت، فأُخْرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبي أن يؤديه‏.‏ فدفعه إلى الزبير، وقال‏:‏ عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة ـ وكان محمود قتل تحت جدار حصن “ناعم”، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل بالجدار فمات‏.‏

9- زينب بنت الحارث

في مغازي الواقدي: “لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَاطْمَأَنّ جَعَلَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَسْأَلُ أَيّ الشّاةِ أَحَبّ إلَى مُحَمّدٍ؟ فَيَقُولُونَ: الذّرَاعُ وَالْكَتِفُ. فَعَمَدَتْ إلَى عَنْزٍ لَهَا فَذَبَحَتْهَا، ثُمّ عَمَدَتْ إلَى سُمّ لَابَطِيّ قَدْ شَاوَرَتْ الْيَهُودَ فِي سُمُومٍ فَأَجْمَعُوا لَهَا عَلَى هَذَا السّمّ بِعَيْنِهِ فَسَمّتْ الشّاةَ وَأَكْثَرَتْ فِي الذّرَاعَيْنِ وَالْكَتِفَيْنِ. فَلَمّا غَابَتْ الشّمْسُ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ وَانْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ وَيَجِدُ زَيْنَبَ جَالِسَةً عِنْدَ رَحْلِهِ فَيَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَتْ: أَبَا الْقَاسِمِ هَدِيّةٌ أَهْدَيْتهَا لَك. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدِيّةِ فَقَبَضْت مِنْهَا وَوَضَعْت بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ وَهُمْ حُضُورٌ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ: “اُدْنُوا فَتَعَشّوْا” فَدَنَوَا فَمَدّوا أَيْدِيَهُمْ، وَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذّرَاعَ، وَتَنَاوَلَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ عَظْمًا، وَأَنْهَشَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا نَهْشًا، وَانْتَهَشَ بِشْرٌ، فَلَمّا ازْدَرَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَتَهُ ازْدَرَدَ بِشْرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كُفّوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنّ هَذِهِ الذّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنّهَا مَسْمُومَةٌ”. فَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ: قَدْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ وَجَدْت ذَلِكَ مِنْ أَكْلَتِي الّتِي أَكَلْتهَا، فَمَا مَنَعَنِي أَنّ أَلْفِظَهَا إلّا كَرَاهِيَةَ أُنَغّصَ إلَيْك طَعَامَك، فَلَمّا تَسَوّغْتَ مَا فِي يَدِك لَمْ أَرْغَبْ بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِك، وَرَجَوْت أَلّا تَكُونَ ازْدَرَدْتهَا وَفِيهَا نَعْيٌ. فَلَمْ يَرْمِ بِشْرٌ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى عَادَ لَوْنُهُ كَالطّيْلَسَانِ، وَمَاطَلَهُ وَجَعُهُ سَنَةً لَا يَتَحَوّلُ إلّا مَا حُوّلَ ثُمّ مَاتَ مِنْهُ، وَيُقَالُ لَمْ يَقُمْ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى مَاتَ، وَعَاشَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ. وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ فَقَالَ: “سَمَمْت الذّرَاعَ ؟”. فَقَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَك؟ قَالَ: “الذّرَاعُ”. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: “وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ ؟”. قَالَتْ: “قَتَلْت أَبِي وَعَمّي وَزَوْجِي، وَنِلْت مِنْ قَوْمِي مَا نِلْت، فَقُلْت: إنْ كَانَ نَبِيّا فَسَتُخْبِرُهُ الشّاةُ مَا صَنَعْت، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ”، فَاخْتَلَفَ عَلَيْنَا فِيهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: رِوَايَةً أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ ثُمّ صُلِبَتْ. وَقَالَ قَائِلٌ: رِوَايَةً عَفَا عَنْهَا.

10- مشرك يحاول قتل الرسول

قصد النبي صلى الله عليه وسلم بعد (خيبر) إلى الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخري.‏
عن جابر‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق بها سيفه‏.‏ قال جابر‏:‏ فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين‏:‏ فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ “أتخافني‏؟”،‏ قال‏:‏ ‏”‏لا‏”‏، قال‏:‏ “فمن يمنعك مني‏؟”‏ قال‏:‏ ‏”‏الله‏”‏‏.‏ قال جابر‏:‏ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا‏.‏ فقال لي‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ قلت‏:‏ الله، فها هو ذا جالس‏)”، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي رواية أبي عوانة‏:‏ فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏”‏من يمنعك مني‏؟‏‏”،‏ قال‏:‏ “كـن خـير آخـذ”، قال‏:‏ ‏”‏تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله‏؟‏‏”،‏ قال الأعرابي‏:‏ “أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك”، قال‏:‏ فخلي سبيله، فجاء إلى قومه، فقال‏:‏ جئتكم من عند خير الناس‏.‏

11- أنس بن زنيم الديلي

قال الواقدي: “حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير عن محجن بن وهب قال: كان آخر ما كان بين خزاعة و بين كنانة أن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه، فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها. قال الواقدي: حدثني حزام بن هشام بن خالد الكعبي عن أبيه قال: و خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة يستنصرون رسول الله صلى الله عليه و سلم و يخبرونه بالذي أصابهم، وذكر قصة فيها إنشاد القصيدة التي أولها: “لاَهُمَّ إني ناشد محمدا”.. قال: فلما فرغ الركب قالوا: يا رسول الله إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك، فهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه، فبلغ ذلك أنس بن زنيم الديلي فقدم معتذرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما بلغه عنه، فقال (قصيدة فيها مدح رسول الله صلى الله عليه و سلم). وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته هذه واعتذاره، وكلمه نوفل بن معاوية الديلي، فقال: يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك؟ ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك، وأنقذنا بك من المهلك، وقد كذب عليه الركب، وأكثروا عندك، فقال: “دع الركب عنك فإنا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب ولا بعيد كان أبر من خزاعة”، فأسكت نوفل بن معاوية، فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قد عفوت عنه”، قال نوفل: فداك أبي و أمي.

12- الأعمى الذي قتل أم ولده

جاء في الحديث أن أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له أم ولد، وكان له منها ابنان، وكانت تكثر الوقيعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسبه فيزجرها، فلا تنزجر، وينهاها فلا تنتهي، “فلما كان ذات ليلة ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم، فوقعت فيه، فلم أصبر أن قمت إلى المغول، فوضعته في بطنها، فاتكأت عليه، فقتلتها، فأصبحت قتيلا”، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس، وقال: أنشد الله! رجلا لي عليه حق فعل ما فعل إلا قام . فأقبل الأعمى يتدلدل، فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت أم ولدي، وكانت بي لطيفة رفيقة، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، ولكنها كانت تكثر الوقيعة فيك وتشتمك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر. فلما كانت البارحة ذكرتك فوقعت فيك، فقمت إلى المغول فوضعته في بطنها، فاتكأت عليها حتى قتلتها. فقال رسول الله: ألا؛ اشهدوا أن دمها هدر” (رواه النسائي). وفي سنن أبي داوود زيادة: “فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم”.

وقال ابن سعد في “الطبقات الكبرى”: “أخبرنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن معقل قال: نزل ابن أم مكتوم على يهودية بالمدينة عمة رجل من الأنصار، فكانت ترفقه وتؤذيه في الله ورسوله، فتناولها فضربها فقتلها، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله يا رسول الله إن كانت لترفقني، ولكنها آذتني في الله ورسوله، فضربتها فقتلتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبعدها الله تعالى، فقد أبطلت دمها”.
والذي يبدو أنها حادثة واحدة، وإليه مال شيخ الإسلام ابن تيمية. ويؤيد ذلك: أن وقوع قصتين مثل هذه لِأَعْمَيَيْنِ، كل منهما كانت المرأة تحسن إليه وتكرر الشتم، وكلاهما قتلها وحده، وكلاهما نشد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيها الناسُ: بَعِيدٌ في العادة (انظر الصارم المسلول) . إذن ليس هناك جنين مقتول، ولا يمكن أن تأتي الشريعة بأخذ الجنين بجريرة أمه. ويبقى إشكال في الجمع بين الاختلاف الذي جاء في الروايات في طريقة قَتل اليهودية: هل كان خنقاً أم طعناً بالسيف في بطنها؟

13- عبد الله بن أبي والمنافقون

كان عبد الله بن أبي يَحْنَقُ على الإسلام والمسلمين، ولاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَنَقًا شديداً ؛ لأن الأوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخَرَزَ ليتوجوه إذ دخل فيهم الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، فكان يري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي استلبه ملكه‏.‏

وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعد أن تظاهر به‏.‏ ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حمار ليعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي فخَمَّرَ ابن أبي أنفه، وقال‏:‏ لا تُغَبِّرُوا علينا‏.‏ ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن، قال‏:‏ اجلس في بيتك، ولا تؤذنا في مجالسنا‏.‏

وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما تظاهر به بعد بدر لم يزل إلا عدوًا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في تشتيت المجتمع الإسلامي وتوهين كلمة الإسلام‏.‏ وكان يوالى أعداءه، وقد تدخل في أمر بني قينقاع، وفي إرباك المسلمين في غزوة أحد، والتفريق بينهم.‏

وكان من شدة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعـوا لــه وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب‏.‏ وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في يوم الجمعة التي بعد أحد ـ مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع ـ قام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له‏:‏ اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطي رقاب الناس، وهو يقول‏:‏ والله لكأنما قلت بُجْرًا أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد‏.‏‏.‏‏‏ فقال‏:‏ ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ والله ما أبتغي أن يستغفر لي‏.‏

وكانت له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم‏:‏ ‏”‏لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ‏”.‏

وكذلك فعل، هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من إثارة القلق والاضطراب وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قصه الله تعالى في سورة الأحزاب‏:‏ ‏”‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا‏”‏ إلى قوله‏:‏ “يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا‏”.‏

فكان المنافقون يعرفون أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن عن طريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا حرباً دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة‏.‏ ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين‏.‏ وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، فقد كان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون ثُلْمَتَيْن ـ حسب زعمهم ـ لإثارة المشاغب ضد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
الأولى‏:‏ أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج‏؟‏
الثانية‏:‏ أن زينب كانت زوجة ابنه ـ مُتَبَنَّاه ـ فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب‏.‏ وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصاً وأساطير، قالوا‏:‏ إن محمداً رآها بغتة، فتأثر بحسنها وشغفته حباً، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة، وأثرت أثراً قوياً في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله‏:‏ ‏”‏يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاَ‏”.‏

وهذه إشارات عابرة، وصور مصغرة لما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعالى‏:‏ ‏”‏أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏”.‏

دور المنافقين بعد غزوة المصطلق:
ولما كانت غزوة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى‏:‏ “‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ”،‏ وجدوا متنفسين للتنفس بالشر، فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها‏:‏

قول المنافقين‏‏ “‏لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏”:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له‏:‏ جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني‏:‏ يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه‏:‏ يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم‏؟‏ دعوها فإنها مُنْتِنَة‏”‏، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال‏:‏ “أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول‏:‏ سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”، ثم أقبل على من حضره فقال لهم‏:‏ “هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم‏”.‏
فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر‏:‏ “مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله‏”.‏ فقال‏:‏ ‏”‏فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه‏؟‏ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل‏”، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال‏:‏ لقد رحت في ساعة منكرة‏؟‏ فقال له‏:‏ ‏”‏أوَ ما بلغك ما قال صاحبكم‏؟‏‏”،‏ يريد ابن أبي، فقال‏:‏ “وما قال‏؟”‏ قال‏:‏ ‏”‏زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏”‏، قال‏:‏ “فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز”، ثم قال‏:‏ “يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يري أنك استلبته ملكاً‏”.‏
ثم مشي بالناس يومهم ذلك حتى أمسي، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسَّ الأرض فوقعوا نياماً‏.‏ فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث‏.‏

أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلّغ الخبر، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار‏:‏ “يا رسول الله عسي أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل‏،‏ فصدقه، قال زيد‏:‏ فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله‏:‏ ‏”‏إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ‏”‏ إلى قوله‏:‏ ‏”هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا‏” إلى ‏”لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ‏”‏، فأرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي‏.‏ ثم قال‏:‏ “‏إن الله قد صدقك‏”.‏

وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له‏:‏ والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، أذِن له فخلي سبيله، وكان قد قال عبد الله ابن عبد الله بن أبي‏:‏ يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه‏.‏

حديث الإفك:
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها‏:‏ أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هَوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خِفَّتَه؛ لأنها رضي الله عنها كانت فَتِيَّةَ السن لم يَغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر من فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل‏:‏ “إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟”،‏ وكان صفوان قد عَرَس في أخريات الجيش؛ لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأي ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفساً، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لايتكلم، ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طويلاً ـ في فراقها، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحاً لا تصريحاً، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء‏.‏ فقام على المنبر يستعذر من عبد الله ابن أبي، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج، وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية، فجري بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت‏.‏

أما عائشة فلما رجعت مرضت شهراً، وهي لا تعلم عن حديث الإفك شيئاً، سوي أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نَقِهَتْ خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوماً، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال‏:‏ ‏”‏أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه‏”.‏

وحينئذ قَلَص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان‏.‏ فقالت‏:‏ والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم‏:‏ إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف، قال‏:‏ ‏”‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏”.‏ ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك‏.‏ فكانت أول كلمة تكلم بها‏:‏ ‏”‏يا عائشة، أما الله فقد برأك‏”‏، فقالت لها أمها‏:‏ قومي إليه‏.‏‏.‏ فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: “والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله”‏.‏

والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالي‏:‏ ‏”‏إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ‏” (العشر آيات)‏.‏

وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، جلدوا ثمانين، ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولي كبره؛ إما لأن الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله‏.‏

وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعده، قال ابن إسحاق‏:‏ وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ ‏”‏كيف ترى يا عمر‏؟‏ أما والله لو قتلته يوم قلت لي‏:‏ اقتله، لأرعدت له آنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته‏”‏‏.‏ قال عمر‏:‏ “قد والله علمتُ، لأمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري‏”.

14- غورث بن الحرث

قال لأقتلن محمدًا، فقال له أصحابه، كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. فأتاه فقال: “يا محمد أعطني سيفك أشمّه”، فأعطاه إياه، فرعدت يده، فسقط السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حال الله بينك وبين ما تريد”.

15- رجل من بني النجار

لقد جرت سنة الله فيمن افترى على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقصمه ويعاقبه عقوبة خارجة عن العادة ليتبين للناس كذبه وافتراؤه، فقد روى الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: “كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فعرفوه، قالوا: هذا كان يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا له فحفروا له فواروه؛ فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، وهكذا في الثالثة، فتركوه منبوذًا”.

قال ابن تيمية رحمه الله: “فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مراراً، وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب؛ إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد”.

16- فضالة بن عمير

كان رجلاً جريئا، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الطواف؛ ليقتله (بعد فتح مكة)، فأُخْبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه، فأسلم‏.‏ وكان من أشدِّ أعداء الرسول ، وصل حقده على الرسول إلى الدرجة التي أراد معها أن يقتله في وقت فتح مكة!! الرسول في وسط جيش كبير يبلغ عشرة آلاف من الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا قام فضالة بن عمير بهذا التَهَوُّر فلا شك أنه مقتول، ومع ذلك فقد أعمى الحقد قلبه، فقرَّر أن يضحِّي بنفسه ليقتل الرسول!!
حمل السيف تحت ملابسه، ومرَّ بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَفُضَالَةُ؟». قال: نعم، فضالة يا رسول الله (وكان يدَّعِي الإسلام في ذلك الوقت). فقال صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟». قال: “لا شيء، كنتُ أذكر الله”. وضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: «اسْتَغْفِرِ اللهَ يَا فُضَالَةُ». ثم وضع يده على صدر فضالة، فسكن قلبه!! فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيئا أحبُّ إليَّ منه.

ومن صور الكفاية الربانية لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم ممن آذاه أن يقذف الله في قلب هذا المؤذي المعتدي الإسلام، فيؤوب ويتوب، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين!! ومن أعجب الأمثلة في ذلك قصة أبي سفيان بن الحارث أخا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، وكان يألف النبي صلى الله عليه وسلم أيام الصبا، وكان له تربًا، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادها أحدًا قط، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجا أصحابه.. ثم شاء الله أن يكفي رسوله صلى الله عليه وسلم لسان أبي سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه وإنما بهدايته!! قال أبو سفيان عن نفسه: “ثم إن الله ألقى في قلبي الإسلام، فسرت وزوجي وولدي حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرت وخرجت حتى صرت تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ملأ عينيه مني أعرض عنّي بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى. قالوا: فما زال أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومعه ابنه جعفر، وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي رسول الله أو لآخذن بيد ابني هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما فدخلا عليه”.

وفي مغازي الواقدي: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ: “وَقَدْ سَمِعْت فِي إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَجْهًا آخَرَ، قَالَ: لَقِيت رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بِنِيقِ الْعُقَابِ، فَطَلَبْنَا الدّخُولَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى يُدْخِلَهُمَا عَلَيْهِ، فَكَلّمَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتُهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ صِهْرُك وَابْنُ عَمّتِك وَابْنُ عَمّك وَأَخُوك مِنْ الرّضَاعَةِ وَقَدْ جَاءَ اللّهُ بِهِمَا مُسْلِمَيْنِ لَا يَكُونَانِ أَشْقَى النّاسِ بِك. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمّا أَخِي فَالْقَائِلُ لِي بِمَكّةَ مَا قَالَ لَنْ يُؤْمِنَ لِي حَتّى أَرْقَى فِي السّمَاءَ وَذَلِك قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ”: “أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ”، إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا هُوَ مِنْ قَوْمِك مَا هُوَ، وَقَدْ تَكَلّمَ وَكُلّ قُرَيْشٍ قَدْ تَكَلّمَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ عَفَوْت عَمّنْ هُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْهُ، وَابْنُ عَمّك وَقَرَابَتُهُ بِك، وَأَنْتَ أَحَقّ النّاسِ عَفْوًا عَنْ جُرْمِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “هُوَ الّذِي هَتَكَ عِرْضِي، فَلَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا”، فَلَمّا خَرَجَ إلَيْهِمَا الْخَبَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَمَعَهُ ابْنُهُ وَاَللّهِ لَيَقْبَلَنّي أَوْ لَأَخَذْت بِيَدِ ابْنِي هَذَا فَلَأَذْهَبَن فِي الْأَرْضِ حَتّى أَهْلَكَ عَطَشًا وَجُوعًا، وَأَنْتَ أَحْلَمُ النّاسِ وَأَكْرَمُ النّاسِ مَعَ رَحِمِي بِك. فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتُهُ فَرّقَ لَهُ.

17- كسرى وقيصر

قصتهما مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهورة، جديرة بالتأمل، فقد كتب إليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع كلاهما من الإسلام، لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فثبت الله ملكه، أما كسرى فمزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله الله بعد قليل، ومزق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك.
وكان من أثر ذلك ما ذكره السهيليُ أنّه بلغه أنّ هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيمًا له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلّب على طليطلة، ثم كان عند سِبطه، قال: فحدثني بعضُ أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر، وسأله أن يمكِّنه من تقبيله فامتنع. ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا.
وقد عظم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لأبي سفيان بن حرب: “إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه‏”، قال أبو سفيان: “فقلت لأصحابي حين أخرجنا‏:‏ لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كَبْشَة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام”..
أما كسرى فمزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في غطرسة‏:‏ “عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي”، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏”‏مزق الله ملكه‏”‏ (وفي رواية “مزق كسرى ملكه”)، وقد كان كما قال، فقد كتب كسرى إلى بَاذَان عامله على اليمن‏:‏ “ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به”‏.‏ فاختار باذان رجلين ممن عنده، أحدهما‏:‏ قهرمانه بانويه، وكان حاسباً كاتباً بكتاب فارس‏.‏ وثانيهما‏:‏ خرخسرو من الفرس ، وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسري، فلما قدما المدينة، وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما‏:‏ “إن شاهنشاه ‏(‏ملك الملوك)‏ كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك، وبعثني إليك لتنطلق معي”، وقال قولاً توعده فيه، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاقياه غداً‏.‏ وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادي الأولي سنة سبع ، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الوحي، فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك‏.‏ فقالا‏:‏ “هل تدري ما تقول‏؟‏ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك”‏.‏ قال‏:‏ ‏”نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له‏:‏ إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى!‏ وينتهي إلى منتهي الخف والحافر، وقولا له‏:‏ إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء‏”‏، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر، وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لأبيه، وقال له شيرويه في كتابه‏:‏ “انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري‏”.‏ وكان ذلك سبباً في إسلام باذان ومن معه من أهل فارس باليمن‏.‏

18- صاعقة تحرق متجبرا من العرب

عن أنس رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه إلى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه إلى الله تبارك وتعالى، فقال: إيش ربُّك الذي تدعوني؟ من حديد هو؟ من نحاس هو؟ من فضّة هو؟ من ذهب هو؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسله إليه الثالثة، فقال مثل ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تبارك وتعالى قد أنزل على صاحبك صاعقة فأحرقته”، فنزلت هذه الآية: “وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ”.


سادسا: من قصص المتطاولين بعد زمن النبوة

1- ريح سوداء تقصم ظهر المجترئ الساب للرسول

ذكر الكتانيّ في “ذيل مولد العلماء” أنه ظهر في زمن الحاكم رجلٌ سمّى نفسه هادي المستجيبين، وكانوا يدعون إلى عبادة الحاكم، وحُكيَ عنه أنّه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وبصق على المصحف، فلما ورد مكة شكاه أهلها إلى أميرها، فدافع عنه، واعتذر بتوبته، فقالوا: مثل هذا لا توبة له! فأبى، فاجتمع الناس عند الكعبة وضجوا إلى الله، فأرسل الله ريحًا سوداء حتى أظلمت الدنيا، ثم تجلت الظلمة وصار على الكعبة فوق أستارها كهيئة الترس الأبيض له نور كنور الشمس، فلم يزل كذلك ترى ليلاً ونهارًا، فلما رأى أمير مكة ذلك أمر بـ”هادي المستجيبين” فضرب عنقه وصلبَه.

2- خشبته تحوله عن القبلة

ذكر القاضي عياض في “الشفا” قصة عجيبة لساخر بالنبي صلى الله عليه وسلم! وذلك أن فقهاء القيروان وأصحابَ سحنون أفتوا بقتل إبراهيم الفزاري، وكان شاعرًا متفننًا في كثير من العلوم، وكان يستهزئ بالله وأنبيائه ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر القاضي حيى بن عمر بقتله وصلبه، فطُعن بالسكين وصُلب مُنكسًا، وحكى بعضُ المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته وزالت عنها الأيدي استدارت وحوَّلته عن القبلة فكان آيةً للجميع، وكبر الناسُ، وجاء كلبٌ فولغ في دمه.

3- عرَّض بالرسول ليربح فكان مآله الخسران

حكى الشيخ العلامة أحمد شاكر أن خطيبًا فصيحًا مفوهًا أراد أن يثني على أحد كبار المسئولين لأنه احتفى بطه حسين فلم يجد إلا التعريض برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال في خطبته: “جاءه الأعمى فما عبس وما تولى”!!. قال الشيخ أحمدُ: ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي ـ بعد بضع سنين، وبعد أن كان عاليًا منتفخًا مستعزا بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهينًا ذليلاً، خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار.

4- لا عذر لمن يضعف أمام الإغراءات

ذكروا أن رجلاً ذهب لنيل الشهادة العليا من جامعة غربية، وكانت رسالتُهُ متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان مشرفه شانئًا حانقًا، فأبى أن يمنحه الدرجة حتى يضمن رسالته انتقاصًا للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فضعفت نفسه، وآثر الأولى على الآخرة. فلما حاز شهادته ورجع إلى دياره فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مفاجئ.


سابعا: مصير المتطاولين من الجِنة والشياطين

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- في مؤلفه المشهور (الصارم المسلول على شاتم الرسول): “وقد ذكروا أن الجن الذين آمنوا به، كانت تقصد من سبه من الجن الكفار فتقتله، فيقرها على ذلك، ويشكر لها ذلك! ونُقل عن أصحاب المغازي أن هاتفًا هتف على جبل أبي قبيس بشعر فيه تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم، فما مرت ثلاثة أيام حتى هتف هاتف على الجبل يقول:
نحن قتلنا في ثلاث مسعرا … إذ سفه الحق وسن المنكرا
قنّعتُهُ سيفًا حسامًا مبتـرا … بشتمـه نبينـا المطهـرا
ومسعر ـ كما في الخبر ـ اسم الجني الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم”.

شيطان آخر:
وفي بيعة العقبة الثانية اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم سرا بوفد الأنصار الذي قدم لأداء مناسك الحج، وذلك بعد مضي ثلث الليل، وكانوا 73 رجلا وامرأتان، ولما تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك الانفضاض، اكتشفها أحد الشياطين؛ وحيث إن هذا الاكتشاف جاء في اللحظة الأخيرة، ولم يكن يمكن إبلاغ زعماء قريش هذا الخبر سرًا، ليباغتوا المجتمعين وهم في الشعب، قام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض، وصاح بأنفذ صوت سمع قط‏:‏ يا أهل الجَبَاجب (المنازل) هل لكم في مُذَمَّم والصباة معه‏؟‏ قد اجتمعوا على حربكم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ “هذا أزَبُّ العقبة، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك‏.‏ ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم‏”.


ثامنا: مخاطر التطاول على الصحابة

1- انتصار الزنابير لأبي بكر وعمر

روَى ابن عساكر في تاريخِ دمشق عن أبي المحياةِ عن رجلٍ قال: “خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر، فنهيناه فلم ينته، فخرج لبعض حاجته، فاجتمع عليه الدّبر يعني الزنابير، فاستغاث فأغثناه، فحمَلتْ علينا حتى تركناه، فما أقلعت عنه حتى قطعته”.

2- ذبحه لسانه

وروى الإمام أحمدُ في فضائل الصحابةِ عن رضوان السمان قال: “كان لي جار في منزلي وسوقي، وكان يشتم أبا بكر وعمر حتى كثر الكلام بيني وبينه، حتى إذا كان ذات يوم شتَمَهما وأنا حاضرٌ، فوقع بيني وبينه كلامٌ كثير حتى تناولني وتناولته، قال: فانصرفت إلى منزلي وأنا مغمومٌ حزين ألوم نفسي، قال: فنِمت وتركت العَشاء من الغمّ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي من ليلتي فقلت له: يا رسول الله، فلان جاري في منزلي وفي سوقي، وهو يسبُّ أصحابكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ هذه المدية فاذبحه بها، قال: فأخذتها فأضجعته فذبحته، قال: فرأيت كأنّ يدي قد أصابها من دمه، فألقيت المدية وضربت بيدي إلى الأرض فمسحتها بالأرض، فانتبهت وأنا أسمع الصّراخ من نحو الدار، فقلت للخادم: انظر ما هذا الصراخ، فقال: فلان مات فجأة، فلما أصبحنا نظرنا إلى حلقِه فإذا فيه خطُّ موضع الذبح”.

3- مغبة معاداة أولياء الله

وعن سعيد بن المسيّب أنَّ رجلاً كان يقع في عليٍّ وطلحةَ والزبيرِ رضي الله عنهم، فجعل سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه ينهاه ويقول: “لا تقع في إخواني”، فأبى، فقام سعد فصلى ركعتين ثم قال: “اللهم إنْ كان مسخِطًا لك فيما يقول فأرني به آفةً، واجعله آية للناس”، فخرج الرجلُ فإذا هو ببخْتِيٍّ – جملٍ ضخمٍ- يشق الناس، فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله، فأنا رأيت الناس يتبعون سعدًا، ويقولون: هنيئًا لك أبا إسحاق، أُجيبَت دعوتك.


تاسعا: تضحيات الصحابة في سبيل نصرة الدين، وتوقيرهم للرسول

1- مصعب وأخوه يوم بدر

مر مصعب بن عمير العبدري بعد انتهاء معركة بدر الكبرى بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين، مر به وأحد الأنصار يشد يده، فقال مصعب للأنصاري‏:‏ “شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك”، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب‏:‏ “أهذه وصاتك بي‏؟”‏ فقال مصعب‏:‏ “إنه ـ أي الأنصاري ـ أخي دونك‏”.‏

2- عمر وخاله يوم بدر

وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الأسر‏:‏ يا عباس أسلم، فو الله أن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك‏.‏

3- حنظلة وزوجه يوم أحد

وكان من الأبطال المغامرين يوم أُحُد: حَنْظَلة الغَسِيل، وهو حنظلة بن أبي عامر، كان حديث عهد بالعُرْس، فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقي بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله‏.
ولما فقدوا نعش حنظلة بعد انتهاء المعركة، تفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال‏:‏ ‏‏”‏سلوا أهله ما شأنه‏؟‏‏”،‏ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر‏. ‏ومن هنا سمي حنظلة‏:‏ غسيل الملائكة‏.

4- أنس بن النضر بعد نزول الرماة يوم أحد

بعد نزولهم كان من المسلمين طائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منها الكثيرون؛ لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح‏:‏ إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان‏. ‏ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال‏:‏ ما تنتظرون‏؟‏ قالوا‏:‏ قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ما تصنعون بالحياة بعده ‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال‏:‏ “اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء”، يعني المسلمين، “وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء”، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال‏:‏ “أين يا أبا عمر؟‏”، فقال أنس‏:‏ “واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد”، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل، فما عُرف حتى عرفته أخته بعد نهاية المعركة ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم‏.‏

5- أنصاري يحض على نصرة الدين وهو يتشحط في دمه

ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه (في غزوة أحد)، فقال‏:‏ يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل؟‏ فقال الأنصاري‏:‏ إن كان محمد قد قُتل فقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم.

6- أبطال المسلمين يفدون الرسول في يوم أحد

ولما كان العراك محتدماً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ المشركون عمل التطويق، ولم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادي المسلمين‏:‏ ‏‏”‏هلموا إلي، أنا رسول الله‏”‏، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة‏.‏

روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال‏:‏ ‏‏”‏من يردهم عنا وله الجنة‏؟‏ أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏”،‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال‏:‏ ‏‏”من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ‏؟‏‏”،‏ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قُتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه ـ أي القرشيين‏:‏ ‏‏”‏ما أنصفنا أصحابنا‏”‏.‏ وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط.‏

وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال‏:‏ لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكُلِمَتْ شفته السفلي، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخري عنيفة كالأولي حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه، وقال‏:‏ خذها وأنا ابن قمئة‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه‏:‏ ‏‏”أقمأك الله‏”‏.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول‏:‏ ‏‏”‏كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله‏”‏، فأنزل الله عز وجل‏:‏ “‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ”.

ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون للقضاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيلا إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب فناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال‏:‏ “‏ارم فداك أبي وأمي‏”‏.‏ ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد‏.‏ وروي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏ وروي أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت‏:‏ كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال‏:‏ ذلك اليوم كله لطلحة‏.‏
واعترضت أم عمارة نُسَيْبة بنت كعب  لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا.

وقعت هذه الحوادث كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف، أو يسمعوا صوته صلى الله عليه وسلم حتى أسرعوا إليه؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات، وستة من الأنصار قد قتلوا، والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح، فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماته‏.‏ وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

روي ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت‏:‏ قال أبو بكر الصديق‏:‏ “لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت‏:‏ كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، ‏(‏حيث فاتني ما فاتني، فقلت‏:‏ يكون رجل من قومي أحب إلي‏)،‏ فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ “‏دونكم أخـاكم فقـد أوجب‏”‏، وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال‏:‏ فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر‏:‏ ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة‏:‏ نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال‏: ‏فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخري، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: “‏دونكم أخاكم، فقد أوجب‏”‏، قال‏:‏ فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة.‏ وفي تهذيب تاريخ دمشق:‏ فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر، بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه‏”.‏

وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب‏.‏

وامتص مالك بن سنان والد أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال‏:‏ ‏‏”‏مُجَّه‏”‏، فقال‏:‏ والله لا أمجه، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏”‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا‏”، فقتل شهيداً‏.‏

وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسري، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسري، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله ـ لشبهه به ـ، فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح‏:‏ إن محمداً قد قتل.‏

وفرغ الناس لتفقد القتلي والجرحي بعد منصرف قريش‏.‏ قال زيد بن ثابت‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع‏.‏ فقال لي‏:‏ ‏‏”‏إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له‏:‏ يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف تجدك‏؟‏‏”،‏ قال‏:‏ فجعلت أطوف بين القتلي، فأتيته وهو بآخر رمق، فيه سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت‏:‏ يا سعد، إن رسول الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك‏:‏ أخبرني كيف تجدك‏؟‏ فقال‏:‏ وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار‏:‏ لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عينٌ تطرف، وفاضت نفسه من وقته.‏

ولما رأى النبي صلى عليه وسلم ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها، لا ترى ما بأخيها، فقالت‏:‏ “ولم‏؟‏ وقد بلغني أن قد مُثِّلَ بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله”، فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له‏.‏ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفنه مع عبد الله بن جحش ـ وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب‏. ‏وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء ـ والنشع‏:‏ الشهيق‏.‏

وفي طريق العودة إلى المدينة: لقيت النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق حَمْنَة بنت جحش، فَنُعِي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ “‏‏إن زوج المرأة منها لبِمَكان‏”‏.‏

ومر بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت‏:‏ فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالوا‏:‏ خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت‏:‏ أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت‏:‏ كل مصيبة بعدك جَلَلٌ ـ تريد صغيرة-‏.‏

وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال‏:‏ يا رسول الله، أمي، فقال‏:‏ ‏‏”‏مرحباً بها‏”‏، ووقف لها، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ‏.‏ فقالت‏:‏ أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ، ثم دعا لأهل من قتل بأحد، وقال‏:‏ “‏يا أم سعد، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً‏”‏‏.‏ قالت‏:‏ “رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا‏؟”‏ ثم قالت‏:‏ “يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم”، فقال‏:‏ ‏‏”‏اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا‏”‏.‏

7- المسلمون يردون عير قريش إكراما للرسول

وبعد غزوة الأحزاب، خرجت سرية زيد إلى العِيص في جمادي الأولي سنة 6 هـ في سبعين ومائة راكب، وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص خَتَن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏. ‏وأفلت أبو العاص، فأتي زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد أموال العير عليه ففعلت، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل، والكبير والصغير، حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدي الودائع إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين ونيف.

8- المسلم قد يخطئ لكنه أواب

‏وبعد هذه الغزوة أيضا، غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة، فلما حاصرهم لم يبق أمامهم إلا أن ينزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، لعلهم يتعرفون ما سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيره، وكان حليفاً لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَشَ النساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا‏:‏ يا أبا لبابة، أتري أن ننزل على حكم محمد‏؟‏ قال‏:‏ نعم ؛ وأشار بيده إلى حلقه، يقول‏:‏ إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضي على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتي المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً‏.‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال‏:‏ ‏”أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه‏”.‏ وأقام أبو لبابة مرتبطاً بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، ثم نزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَحَرًا وهو في بيت أم سلمة، فقامت على باب حجرتها، وقالت‏:‏ يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس ليطلقوه، فأبي أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه‏.

9- دفاعهم عن الرسول في حنين

لما انتهي الجيش الإسلامي إلى حنين، كان قائد المشركين مالك بن عوف قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما يطلعون، ثم يشدوا شدة رجل واحد‏.‏

وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وعقد الألوية والرايات، وفرقها على الناس، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام‏:‏ لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ـ يقصد الأحمرـ، وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بن الحَنْبَل‏:‏ ألا بطل السِّحْر اليوم‏.‏

وانحاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول‏:‏ ‏”هَلُمُّوا إلى أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد اللّه‏”،‏ ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار‏.‏ تسعة على قول ابن إسحاق، واثنا عشر على قول النووي، والصحيح ما رواه أحمد والحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود، قال‏:‏ “كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نُوَلِّهم الدُّبُر”، وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن، قال‏:‏ “لقد رأيتنا يوم حنين وإنَّ الناس لمولون، وما مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مائة رجل”‏.‏

وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها، فقد طفق يركض بغلته قِبل الكفار، وهو يقول‏:‏
‏‏أنــا النبي لا كَذِبْ ** أنا ابن عبد المطلب‏

بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته، والعباس بركابه، يكفانها ألا تسرع، ثم نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستنصر ربه قائلاً‏:‏ ‏”‏اللّهم أنزل نصرك‏”‏‏.‏

وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمه العباس ـ وكان جَهِيَر الصوت ـ أن ينادي الصحابة، قال العباس‏:‏ فقلت بأعلى صوتي‏:‏ “أين أصحاب السَّمُرَة‏؟”،‏ قال‏:‏ “فو الله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا‏:‏ يا لبيك، يا لبيك”‏.‏ ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس، واقتتلوا‏.‏

وصرفت الدعوة إلى الأنصار‏:‏ “يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار”، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى كما كانوا تركوا الموقعة، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال‏:‏ ‏”‏الآن حَمِي الوَطِيسُ‏”‏.‏ ثم أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمي بها في وجوه القوم، وقال‏:‏ ‏”‏شاهت الوجوه‏”، فما خلق اللّه إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاً وأمرهم مُدْبِرًا‏.

‏وكان الرسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين؛ عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان من أهل مكة‏.‏ وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش‏:‏ “لن نُغْلَبَ اليوم”، وكان قد شق ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ونزل قول الله تعالى:‏ “‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ‏”.

ولما حاصر المسلمون حصن الطائف، بعد انهزام المشركين إليه، نادى مناديه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون رجلاً ، فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف، وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏”‏أبا بكرة‏”، فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة‏.‏
ولما طال الحصار واستعصي الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيبوا من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ـ استشار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي، فقال‏:‏ “هم ثعلبٌ في جحرٍ، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك”، وحينئذ عزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا‏:‏ نذهب ولا نفتحه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏اغدوا على القتال‏”‏، فغدوا فأصابهم جراح، فقال‏:‏ ‏”‏إنا قافلون غداً إن شاء اللّه‏”،‏ فسُرُّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضحك‏.‏

ولما ارتحلوا واستقلوا قال‏:‏ قولوا‏:‏ ‏”آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون‏”‏‏.‏ وقيل‏:‏ “يا رسول اللّه، ادع على ثقيف”، فقال‏:‏ ‏”اللّهم اهد ثقيفا، وائت بهم‏”‏.‏
ولما عاد رسول اللْه صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف، مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأني بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة‏.‏ حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه، فقال‏:‏ ‏”‏أيها الناس، ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً‏”‏‏.‏

روى ابن إسحاق عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال‏:‏ لما أعطي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ، حتى قال قائلهم‏:‏ “لقي واللّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قومه”، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال‏:‏ يا رسول اللّه، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء‏.‏قال‏:‏ ‏”‏فأين أنت من ذلك يا سعد‏؟‏‏”،‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه، ما أنا إلا من قومي‏.‏ قال‏:‏ ‏”‏فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة‏”‏‏.‏ فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا‏.‏ وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له، أتاه سعد فقال‏:‏ لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فحمد اللّه، وأثني عليه، ثم قال‏:‏ ‏”‏يا معشر الأنصار، ما قَالَهٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها على في أنفسكم‏؟‏ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه‏؟‏ وعالة فأغناكم اللّه‏؟‏ وأعداءً فألف اللّه بين قلوبكم‏؟‏‏”،‏ قالـوا‏:‏ بلـي، اللّه ورسولـه أمَنُّ وأفْضَلُ‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏”‏ألا تجيبوني يا معشر الأنصار‏؟‏‏”،‏ قالوا‏:‏ بماذا نجيبك يا رسول اللّه‏؟‏ للّه ورسوله المن والفضل‏.‏ قال‏:‏ ‏”‏أما واللّه لو شئتم لقلتم، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ‏:‏ أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك‏.. ‏أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم‏؟‏ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم‏؟‏ فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار”‏‏.‏
فبكي القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم، وقالوا‏:‏ رضينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَسْمًا وحظاً، ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا‏.‏

وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير ابن صُرَد، وفيهم أبو بُرْقَان عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فأسلموا وبايعوا ثم قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات، والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام‏:‏
فامنن علينا رسول اللّه في كـرم ** فإنـك المرء نرجـوه وننتظر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
وذلك في أبيات‏.‏ فقال‏:‏ ‏”‏إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلي أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم‏؟‏‏”،‏ قالوا‏:‏ ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إذا صليت الغداة ـ أي صلاة الظهر ـ فقوموا فقولوا‏:‏ إنا نستشفع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا‏”‏، فلما صلي الغداة قاموا فقالوا ذلك‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس‏”، فقال المهاجرون والأنصار‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال الأقْرَع بن حابس‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا‏.‏ وقال عُيَيْنَة بن حِصْن‏:‏ أما أنا وبنو فَزَارَة فلا‏. ‏وقال العباس بن مِرْدَاس‏:‏ أما أنا وبنو سُلَيْم فلا‏.‏ فقالت بنو سليم‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال العباس بن مرداس‏:‏ وهنتموني‏.‏
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ “‏إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سَبْيَهُمْ، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء اللّه علينا‏”‏، فقال الناس‏:‏ قد طيبنا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ ‏”‏إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عُرَفَاؤكم أمركم‏”‏، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبي أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك، وكسا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية‏.‏

10- خروج المسلمين رغم القيظ والعسرة للقاء جيش كبير

كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ترامى إلى المدينة إعداد الرومان للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان‏، وكان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل قيظ شديد، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر، وكانت الثمار قد طابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، والمسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله، فقرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام‏.‏ فأعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم‏.‏ وكان قلّ ما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وما كان من المسلمين يعد أن سمعوا النداء إلا أن تسابقوا إلى امتثال الأوامر، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض، وإلا ثلاثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، فإذا قال لهم‏:‏ “‏لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ‏”‏، كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، وكان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول‏:‏ ‏”‏ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم‏”، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود‏.‏ وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ، وهو أول من جاء بصدقته‏.‏ وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال‏.‏ وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها‏.‏ وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم‏.‏
ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون ‏”‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏”، وتحرك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيراً ـ ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط ـ فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزاً كاملاً، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب، فكان ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيراً واحداً، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح البعير ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما في كرشه من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العُسْرَةِ‏.‏

ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحِجْر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القُرَى ـ، فاستقي الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً‏”، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول الله‏.‏ وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر، قال‏:‏ ‏”‏لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين‏”‏، ثم قَنعَ رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي‏.‏

واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول اللّه، فدعا اللّه، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتى ارتوي الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء‏.‏ ولما قرب من تبوك قال‏:‏ ‏”‏إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعالى عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي‏”، قال معاذ‏:‏ فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين تَبِضُّ بشيء من مائها، فسألهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏هل مسستما من مائها شيئاً‏؟‏‏”،‏ قالا‏:‏ نعم‏، وقال لهما ما شاء اللّه أن يقول‏.‏ ثم غرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع الْوَشَلُ، ثم غسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويده، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقي الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة أن تري ما ها هنا قد ملئ جناناً‏”‏.‏

وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلاف الروايات ـ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عِقَالَه‏”‏، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ.‏

وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذهم الرعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية في داخل الجزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة، لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين‏.‏

ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيداً، وكفي الله المؤمنين القتال، وفي الطريق عند عقبةٍ حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة ابن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة‏.‏ فبينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه ، فأرعبهم اللّه، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول اللّه تعالي‏:‏ ‏”‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا‏”، ولما لاحت للنبي صلى الله عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال‏:‏ ‏”‏هذه طَابَةُ، وهذا أحُدٌ، جبل يحبنا ونحبه‏”، وتسامع الناس بمقدمه، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة.

وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من اللّه، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول‏:‏ ‏”‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ”‏‏.‏ فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏”‏دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه اللّه بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه‏”، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا‏.‏ نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر، وهم الذين أبتلاهم اللّه، ثم تاب عليهم‏.‏

ولما دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلاً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتي من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه‏.‏

وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك، ومُرَارَة بن الربيع، وهلال بن أمية ـ فاختاروا الصدق، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم أنزل اللّه توبتهم‏:‏ ‏”‏وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”‏‏.‏
وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم‏.‏

وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم‏:‏ ‏”‏لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ”‏.‏ وقال فيهم رسول اللّه حين دنا من المدينة‏:‏ ‏”‏إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ‏”، قـالوا‏:‏ يا رسول اللّه، وهــم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏”‏وهم بالمدينة‏”‏‏.‏

ونزلت آيات كثيرة من “سورة براءة” حول موضوع الغزوة، نزل بعضها قبل الخروج، وبعضها بعد الخروج ـ وهو في السفر ـ، وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة، وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين والمخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، الخارجين منهم في الغزوة والمتخلفين، إلى غير ذلك من الأمور‏.‏‏


عاشرا: أحكام السبابين

حكم سب النبي صلى الله عليه وسلم

ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابا نفيسا في بيان حكم المتطاول على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب ”الصارم المسلول على شاتم الرسول“، ولهذا الكتاب مختصر قام به الشيخ محمد بن علي البعلي، إليك بعض الفقرات منه:
من المسائل المهمة التي حررها شيخ الإسلام في الصارم مسألة السب (سب الله ورسوله)، وأنهُ كفر ظاهرا وباطنا، سواء اعتقد الساب تحريم ذلك أو استحلاله، أو كان ذاهلا عن اعتقاده. قال شيخ الإسلام: ”وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان قول وعمل“.
ثم أجاب عن شبه من قال إنما يكفر مستحل السب، وبين أن هذا قول الجهمية والمرجئة (المبني على قولهم المنحرف في الإيمان، وناقشَ شبهاتهم).
واعلم بأن الإيمان وإن قيل هو التصديق، فالقلب يصدق بالحق، والقول يصدق ما في القلب، والعمل يصدق القول، والتكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب ورافع للتصديق الذي كان في القلب، إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثر في الجوارح، فأيهما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر.

فالحكم الشرعي في مسألة السب مرتب على أربعة مسائل:
الأولى: في أن الساب يقتل سواء كان مسلما أم كافرا.
الثانية: في أنه ينبغي قتله وإن كان ذميا.
الثالثة: في حكمه إذا تاب.
الرابعة: في بيان السب ما هو ؟

المسألة الأولى: في أن من سبه من مسلم وكافر يجب قتله
هذا مذهب عامة العلماء، قال ابن المنذر (في إجماعهم على قتله): ”أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل، وممن قاله مالك بن أنس والليث وأحمد واسحاق، وهو مذهب الشافعي، وُحكي عن النعمان: لا يُقتل الذمي“.
قال الخطابي: ”لا أعلم أحدا اختلف في وجوب قتله“. وقال محمد بن سحنون: ”أجمع العلماء ان شاتم الرسول المتنقص له كافر، ومن شك في كفره كفر“.
وتحرير المسألة أن الساب المسلم يُقتل بلا خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان ذميا قتل أيضا عند مالك بن أنس وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. قيل لأحمد: فيه حديث؟ قال: ”نعم، أحاديث، منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة حين سمعها تشتم النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث حصين“ (وفيه أن ابن عمر مر براهب فقيل له إنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو سمعته لضربت عنقه، إنا لم نعطهم العهد على أن يسبوا نبينا).
قال الإمام أحمد: ”ولا يستتاب“ (فالذمي ينتقض عهده بذلك، وقال أبو حنيفة لا ينتقض العهد بالسب، ويقول أكثرهم بقتل من تكرر منه السب، وقدم شيخ الإسلام الأدلة على قتله). (واحتج الشافعي على قتل الذمي الساب بقصة كعب بن الأشرف اليهودي).

(وللرسول صلى الله عليه وسلم أن يعفو عمن آذاه، وقد عفا عن بعض من آذوه، فأين بعد موته من يضمن لنا أنه قد عفا عمن سبه؟).

المسألة الثانية: أنه يتعين قتله، ولا يجوز استرقاقه، ولا المن عليه، ولا فداؤه
أما إن كان مسلما فبالإجماع، لأنه نوع من المرتد أو من الزنديق، وكلاهما يتعين قتله. وإن كان معاهدا يتعين قتله أيضا عند عامة الفقهاء من السلف ومن تبعهم. وقد تقدم قول ابن المنذر (في إجماعهم على قتله).
ولقتله مأخذان، أحدهما: انتقاض عهده. والثاني: أنه حد من حدود الله، وهو قول فقهاء الحديث.

المسألة الثالثة: أنه ُيقتل ولا يُستتاب سواء كان مسلما أو كافرا
قال الإمام أحمد: ”كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا فعليه القتل، وأرى أن يُقتل ولاُيستتاب“. مع نصه أنه مرتد إن كان مسلما، وناقض للعهد إن كان ذميا.
وقال القاضي وغيره (من أصحابه، وهو منصوص عنه): ”لا تُقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم لأن المعرة تلحق الرسول“. وكذلك قال ابن عقيل: ”وهو حق آدمي لم يُعلم سقوطه“.
وإن كان ذميا قال أبو حنيفة لا ينتقض عهده، واختلف أصحاب الشافعي فيه.
ومذهب مالك كمذهبنا، وعامة هؤلاء لم يذكروا خلافا في وجوب قتل الساب المسلم والكافر، وأنه لا يسقط بالتوبة من إسلام وغيره.
وكذلك ذكر الخطابي فيمن سب أمه لا تقبل توبته، وإن كان كافرا ففيه روايتان.

وحكى بعض أصحابنا رواية أن المسلم تقبل توبته في رواية بأن يسلم ويرجع عن السب، كما ذكره أبو الخطاب في ”الهداية“، ومن احتذى حذوه من المتأخرين.
فتَلخص أن الأصحاب حكوا في توبة الساب ثلاث روايات:
الأولى: لا تقبل، وهي المنصورة.
الثانية: تقبل.
الثالثة: الفرق بين المسلم والكافر، فتقبل توبة الكافر دون المسلم، وتوبة الذمي إذا قلنا تقبل هو أن يسلم، فأما إن أقلع وطلب عقد الذمة ثانيا لم يُعصم. رواية واحدة كما تقدم.

وأما مذهب مالك فإنه يُقتل الساب ولا يستتاب – أيضا -، والمشهور من مذهبه: أنه لا يقبل توبة المسلم إذا سب، وحكمه حكم الزنديق، ويقتل عندهم حدا لا كفرا إذا أظهر التوبة. وُروي عنه أنه جعله ردة، قال أصحابه: فعلى هذا يستتاب فإن تاب نُكِّلَ، وإن أبى يُقتل.
وأما الذمي إذا سب ثم أسلم، فهل يدرأ عنه إسلامه القتل، على روايتان.

وأما مذهب الشافعي فلهم في الساب وجهان:
أحدهما: هو كالمرتد، فإن تاب سقط عنه.
والثاني: أن حده القتل بكل حال.
وذكر الصيدلاني قولا ثالثا: أن الساب بالقذف يقتل للردة، فإن تاب زال القتل وُجلد ثمانين للقذف، وبغير القدف يعزر بحسبه.

المسألة الرابعة: في بيان السب المذكور والفرق بينه وبين مجرد الكفر
سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم كفٌر ظاهرا وباطنا، سواء اعتقد الساب أنه محرم، أو كان مستحلا، أو كان ذاهلا عن اعتقاد، هذا مذهب الفقهاء، وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد قال إسحاق بن راهويه – وهو أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد -: ”قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا، أنه كافر وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله“.
وبذلك قال سحنون، وقال: “من شك في كفره كفر”، ونص على ذلك غير واحد من الأئمة، أحمد والشافعي وغيره، قال: ”كل من هَزَل بشيء من آيات الله فهو كافر“.
وكذلك قال أصحابنا وغيرهم: ”من سب الله أو رسوله كفر إن كان مازحا أو جادا، وهذا هو الصواب.

قال شيخ الإسلام: والحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه “إن كان مستحلا كفَر وإلا فلا”، ليس لها أصل، وإنما نقلها القاضي من كتاب بعذ المتكلمين الذين حكوها عن الفقهاء، وهي كذب ظنوها جارية على أصولهم، فلا يظن ظان أن في المسألة خلافا، إنما ذلك غلط“.

حكم سب الله تعالى

إن كان المتجرئ على سب الذات الإلهية مسلما وجب قتله بالإجماع، لأنه كافر، بل أسوأ حالا من الكافر.

كيف يتوب من سب الله:
اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته، بمعنى أنه هل يستتاب كالمرتد ويسقط عنه إذا أظهر التوبة بعد رفعه إلى السلطان؟ على قولين..

وإن كان الساب ذميا، فهو كما سب الرسول، وقد تقدم نص أحمد أنه يقتل مسلما كان أو ذميا، وكذلك أصحابنا، وكذا مذهب مالك وأصحابه، وكذا أصحاب الشافعي، لكن ههنا مسألتان:
الأولى: سبه بما لا يُتدين به، بل هو استهانة عند المتكلم وغيره، كاللعن، فهذا هو السب بلا ريب.
والثاني: أن يكون مما يُتدين به، ويعتقده تعظيما، مثل قول النصارى له صاحبة وولد، فهذا مما اختلف فيه إذا أظهره الذمي، فقال القاضي وابن عقيل: ينتقض عهده. وقال مالك بن أنس: “ما يتدين ليس هو بسب”، وهو ظاهر كلام أحمد، وذلك أن الكافر لا يقول ذلك سبا، بل هو عنده تعظيم.

حكم سب الأنبياء صلوات الله عليهم

الحكم في سائر الأنبياء كالحكم في نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يُعلم أن أحدا فرق بين نبي ونبي، ولا ريب أن جرم سابه أعظم من ساب غيره.

حكم سب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

أما حكم سب زوجات الرسول أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قذف عائشة بما برأها الله منه فقد كفر، حكى الإجماع عليه غير واحد (أو سب عائشة).
وأما من سب غيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم (سب امهات المؤمنين)، ففيه قولان:
أحدهما: انه كسب واحد من الصحابة.
الثاني: – وهو الصحيح -، أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة.

حكم سب الصحابة رضوان الله عليه

حكم من سب الصحابة: فأما من سب أحدا من الصحابة فقد أطلق أحمد أنهُ يُنَّكُل، وتوقف عن كفره وقتله. بل قال يعاقب ويجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عن ذلك، وهذا المشهور من مذهب مالك.
وقد قطع طائفة من الفقهاء بقتل من سب الصحابة، وكفروا الرافضة، وصرح بذلك كثير من أصحابنا (الشيعة يسبون الصحابة).

قال شيخ الإسلام: ونحن نرتب الكلام في فصلين:
أحدهما: في حكم سبهم مطلقا.
والثاني: في تفصيل أحكام الساب.

أما الأول: فسب أصحابه حرام بالكتاب والسنة، أما من الكتاب فلأنه غيبة، قال تعالى: ”ولا يغتب بعضكم بعضا“، وقوله: ”والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا“، وقال تعالى: ”لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة“، وقال تعالى: ”والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غل للذين ءامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم“. فُعلم أن الإستغفار لهم وطهارة القلب من الغل أمر يحبه الله ويرضاه ويثني على فعله.
وقد ثبت في الصحيح: ”أنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة“ (صحيح مسلم).
وفي الصحيحين: ”لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحكم أحدكم مثل أُحد ذهبا ما بلغُمَّد أحدهم ولاَنِصيَفه“ (الُمد هو ملء كفي الرجل المعتدل – المتوسط اليدين -، والنصيف يعني النصف، والمعنى: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أحد أصحابيُم مُدًّا ولا نصف مُد).
وإذا كان شتمهم بهذه الصفة فأقل ما فيه التعزير، وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان. وسائر أهل السنة والجماعة مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والإستغفار لهم والترحم عليهم والترضي عنهم واعتقاد محبتهم وموالاتهم وعقوبة من أساء فيهم القول.
قال مالك بن أنس: ”هؤلاء قوم أرادوا قدح الرسول فما أمكنهم فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجُل سوء كان له أصحاب سوء“.
قال ابن عمر: ”لاتسبوا أصحاب محمد فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله“ (رواه ابن ماجه).
وفي الصحيحين: ”آية الإيمان حب الأنصار، وآية الكفر بغض الأنصار“.
وقال علي بن أبي طالب: ”لا يفضلني رجل على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري، خير الناس بعد رسول الله أبو بكر الصديق وعمر“.

وتفصيل القول في ذلك:
أن من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو أنه نبي وجبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في كفره.
وكذلك من زعم أن القرآن نَقص منه شيء وكُتِم، أو أن له تأويلات باطنة تُسقِط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهذا قول القرامطة والباطنية والتناسخية، فلا خلاف في كفر هؤلاء كلهم.
وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم ببخل أو جبن أو قلة علم أو عدم زهد، ونحوه، فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يكفر، وعلى ذلك يُحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء.
وأما من لعن وقبَّحَ مطلقا، فهذا محل الخلاف، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الإعتقاد.
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر.
وهؤلاء قد ظهر الله فيهم مثلات، وتواتر أن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات (انظر ما ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة حول التطاول على الصحابة).


الخاتمة

تأتي هذه الوقائع وأمثالها انطلاقًا من هذا الوعد الإلهي المطلق الذي قطعه ربنا – تبارك وتعالى – على ذاته العلية فقال لخاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم: ”إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ“.
وهذا الوعد الإلهي قد تحقق في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، كما سوف يتحقق في مئات من الحالات بعد وفاته، يتحقق في الحاضر والمستقبل وفاء لوعد الله الذي لا يتخلف. ووفاؤه في القديم هو من صور الإعجاز التاريخي، ووفاؤه في الحاضر والمستقبل هو من صور الإعجاز الإنبائي في كتاب الله. وعلى ذلك فليس من قبيل الحدس أو الأمل بل هو من قبيل اليقين القاطع أن يتنزل عقاب الله الرادع بكل من تطاول على دين الله، وكتابه ورسوله في أي وقت وزمن كان.

جاء في موقع الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان:
موضوع الرد على أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأصحاب الشهوات والشبهات. نحن نعلم جميعا أنهم لا يضرون الرسول صلى الله عليه وسلم مهما قالوا ومهما تكلموا فإن غيظهم في نحورهم، والنبي صلى الله عليه وسلم منصور ومؤيد من قبل الله جل وعلا الذي أرسله كإخوانه من النبيين كما قال تعالى: ”إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ “، فهم إنما ضروا أنفسهم ولن يضروا الله شيئا، ولن يضروا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يضروا المسلمين، وليس ما ظهر من سبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم – يتكرر في هذا الزمان – بغريب، فإن هذا منذ بعثه الله جل وعلا وأعداؤه ينالون منه
ومن رسالته، فالمشركون وعبدة الأوثان ينالون منه انتصارا لأصنامهم وأوثانهم التي جاء صلى الله عليه وسلم لإبطال عبادتها، وإزالتها ومحوها، غاروا عليها، ووصفوه بأنه شاعر، ووصفوه بأنه مجنون، ووصفوه بأنه ساحر، وصفوه بأنه كذاب، وصفوه بأوصاف اخترعوها من عند أنفسهم إنما تليق بهم هم، ولا تليق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أهل الكتاب فهم يعلمون أنه رسول الله، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وإنما حملهم على سبه وتنقصه الحسد.
محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، والله يؤتي فضله من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فلا أحد يحجر على الله سبحانه وتعالى أن يعطي عبده ما يشاء من الفضل سبحانه وتعالى، ولكن هؤلاء حملهم الحسد والكبر والإستكبار على الكفر مع أنهم يعرفون أنه رسول الله صلى الله عليه.
وأما المنافقون فآذوه صلى الله عليه وسلم لأنهمكفار في الأصل والباطن، لكنهم اظهروا الإسلام خديعة.
أما أصحاب الشهوات الذين رأوا أن في إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم منعا لشهواتهم المحرمة (ومنهم الكثير من العلمانيين والليبراليين اليوم)، فهم يريدون الزنا ويريدون الخمر ويريدون الربا ويريدون ما ألفوه ونشئوا عليه، لذلك عادوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل البقاء على شهواتهم.
وكل هؤلاء لن يضروا الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول رفع الله درجته وأعلى منزلته. قال الله تعالى: ”َإِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ “ أي مبغضك، لأنهم قالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس له عقب، أي ليس له أولاد يعيشون بعده، وانه سينقطع ذكره ويبتر ذكره، فقال الله جل وعلا: ”إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ“، فالرسول صلى الله عليه وسلم محمود عند الله وعند خلقه حيا وميتا، أما هم فإن العار يلحقهم والبتر يلحقهم، البتر المعنوي والبتر الحسي، فلم يضروا الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا.
قال الله تبارك وتعالى: ”يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ“، الله جل وعلا يتم نوره ولن يطفئوه بأفواههم، ونفخهم بأفواههم ليطفئوا الضياء الذي جاء به صلى الله عليه وسلم لأن الله جل وعلا يحميه ويحفظه، وإذا كان الله هو الحافظ له فلن يستطيع أحد أن ينال منه، ولهذا قال ”إنا كفيناك المستهزئين”، وأمره الله تعالى بالإستمرار على الدعوة والمنهج السليم الذي رسمه له، وأن لا يخشى في الله لومة لائم ولن يضره أحد.

سؤال للشيخ الفوزان:
نريد خطوات وأساليب عملية وفاعلة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: أول شيء بإتباعه صلى الله عليه وسلم، تحقيق أتباعه صلى الله عليه وسلم، وتقديم قوله على قول كل أحد، تقديم سنته صلى الله عليه وسلم، هذا أول شيء، ثم دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم، ودراسة سيرة أصحابه وأتباعه من أجل أن نقتدي بهم في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف نصروا الرسول؟ كيف دافعوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟


المصادر

– بعض كتب السيرة، كتاب الصارم المسلوم على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلخ
– موقع الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، ملتقى أهل الحديث، موقع أمين بن عبد الله الشقاوي، إسلام ويب، موقع أنصار السنة، موقع ملتقى الخطباء… وغيرها..

محب التوحيد

قلمي بالحق نابض.. وحروفي تنادي بوضوح.. أن لا إله إلا الله.. محمد رسول الله.. أكتب للعقول.. وأغرس في القلوب حب التوحيد.. لعل كلماتي تكون سراجًا.. في درب الباحثين عن اليقين.. أنا حامل للواء السلف.. بنور من الكتاب والسنة.. لا أنحني لعواصف البدع.. ولا أسير في دروب الهوى.. أنظر إلى الصحابة بعين الإجلال.. وأقتفي آثارهم دون تردد.. هم النجوم، وهم الدليل.. لمن ضل عن الطريق.. أعلم الناس أن الله أحد.. لا شريك له ولا ولد.. فيا كل قلبٍ تائه.. عن الحق طريقك هنا.. في زاد من الكلمات.. تصدح بالتوحيد والنصيحة.. تنير لك درب الصواب..

المواضيع المتعلقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!