مجموعة خواطر أدبية مختارة.. عند الإضافة للصفحة ستتم الإشارة للتحديثات في الصفحة الرئيسية.
✍️ أبلى الهوى أسفا يوم النوى
قال أبو الطيب المتنبي في صباه:
أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدنـي … وفرق الهجر بين الجفن والوسنِ [1]
روح تردد في مثل الخـلال إذا … أطارت الريح عنه الثوب لم يبنِ [2]
كفى بجسمي [3] نحولاً أنني رجل … لولا مخاطبتي إياك لم ترني [4]
وقال أيضا في صباه ارتجالاً:
بأبي من وددته فافتـرقـنـا … وقضى الله بعد ذاك اجتماعاً [5]
فافترقنا حولاً فلما التقينا … كان تسليمه عليّ وداعاً
وقال من قصيدة يمدح بها ابن عبيد الله:
إلى فتًى يصدر الرماح وقد … أنهلها في القلوب موردها [6]
له أيادٍ إليّ سـابـقةٌ … أُعدُّ منها ولا أعددها [7]
يُعطى فلا مطلهُ يكدرها … به ولا منه ينكـدهـا [8]
خير قريشٍ أبا وأمجدها … أكثرها نائلاً وأجودها [9]
وقال فيها:
تبكى على الأنصلِ الغُمُودُ إذا … أنذرهـا أنـه يُجـردهـا [10]
لعلمها أنها تَصـير دمـاً … وأنه في الرقابِ يُغمدها [11]
أصْبَحَ حُسّادُهُ وَأنْفُسُهُمْ …. يُحْدِرُهَا خَوْفُهُ وَيُصْعِدُهَا [12]
أطلقها فالعدو من جَزعٍ … يذمها والصديق يحمدها [13]
وقال في صباه وقد مر برجلين قد قتلا جرذا وأبرزاه يُعجبان الناس من كبره:
لقَدْ أصْبَحَ الجُرَذُ المُسْتَغِيرُ … أسيرَ المنَايا صَريعَ العَطَبْ[14]
رَمَاهُ الكِنَانيُّ وَالعَامِرِيُّ … وَتَلاّهُ للوَجْهِ فِعْلَ العَرَبْ [15]
كِلا الرّجُلَينِ اتّلَى قَتْلَهُ … فَأيُّكُمَا غَلّ حُرَّ السَّلَبْ [16]
وَأيُّكُمَا كانَ مِنْ خَلْفِهِ … فإنّ بهِ عَضَّةٌ في الذّنَبْ
وقال أيضا في صباه يهجو القاضي الذهبي:
لمّا نُسِبْتَ فكُنْتَ ابْناً لِغَيرِ أبٍ … ثمّ اخْتُبِرْتَ فَلَمْ تَرْجعْ إلى أدَبِ
سُمّيتَ بالذّهَبيّ اليَوْمَ تَسْمِيَةً … مُشتَقّةً من ذهابِ العقلِ لا الذّهَبِ
وقال:
هُوَ الأميرُ الذي بَادَتْ تَميمُ بهِ … قِدْماً وساقَ إليْها حَيْنُهَا الأجَلا
لمّا رَأوْهُ وَخَيْلُ النّصْرِ مُقْبِلَةٌ … وَالحَرْبُ غَيرُ عَوَانٍ أسلموا الحِلَلا [19]
وَضاقَتِ الأرْضُ حتى كانَ هارِبُهمْ … إذا رَأى غَيرَ شيءٍ ظَنّهُ رَجُلا [20]
وقال في صباه:
عِشْ عزيزاً أوْ مُتْ وَأنتَ كَرِيمٌ … بَينَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ
فَرُؤوسُ الرّمَاحِ أذْهَبُ للغَيْـ … ظِ وَأشفَى لِغلّ صَدرِ الحَقُودِ
لا كَما قد حَيِيتَ غَيرَ حَميدٍ … وإذا مُتَّ مُتَّ غَيْرَ فَقيدِ [28]
فاطْلُبِ العِزّ في لَظَى وَدَعِ الذّ … لّ وَلَوْ كانَ في جِنانِ الخُلُودِ [29]
يُقْتَلُ العاجِزُ الجَبَانُ وقَدْ يَعـ … جِزُ عَن قَطْع بُخْنُقِ المَولودِ [30]
وَيُوَقَّى الفَتى المِخَشُّ وقَدْ خوّ … ضَ في ماءِ لَبّةِ الصّنْديدِ [31]
لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي … وَبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي [32]
وبهمْ فَخْرُ كلّ مَنْ نَطَقَ الضّا … دَ وَعَوْذُ الجاني وَغَوْثُ الطّريدِ [33]
إنْ أكُنْ مُعجَباً فعُجبُ عَجيبٍ … لمْ يَجدْ فَوقَ نَفْسِهِ من مَزيدِ [34]
أنَا تِرْبُ النّدَى وَرَبُّ القَوَافي … وَسِمَامُ العِدَى وغَيظُ الحَسودِ [35]
أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـ … هُ غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ [36]
✍️ الأسير
كيف استطاعوا الوصول إلى هذه الخرابة ؟! ألح هذا السؤال على خاطره بعد أن ودع الرجل وأغلق الباب خلفه . المرأة والعيال لن يصدقوا أنهم سيرونه فى التليفزيون . صحيح أنه أبيض وأسود ولكن صورتها ستكون واضحة ، وسيتعرفون عليه بسهولة . لن يلوح لهم بيده كما يفعل جمهور كرة القدم ، إنما سيجلس بوقار يتناسب مع بطل . لقد أنسته السنوات ومتاعب الحياة أنه بطل . قام يعبث فى أحد أدراج الدولاب . أخرج صحيفة اصفر ورقها . نظر طويلاً إلى صورته وإلى اسمه المكتوب تحتها . وحكت أيضاً عن ساقه التى بترت فى الحرب وكيف لم تقعده عن الرغبة فى مواصلة القتال ، لولا أن أجبروه على الكف . شعر بالسخونة فى ساقه المبتورة ، وكأنها قد بترت الآن ، وأحس بسخونة الدم النازف. واستعاد الإحساس القديم بأنه على استعداد أن يفقد ساقه الأخرى فى سبيل أن يروى غليله من اليهود. كان على استعداد لأن يفقد ألف ساق . ولكن ما أدراك بفقد ساق واحدة ، وعذاب المهانة بها فى المواصلات والزحام .
وعدوه بسيارة معاقين ، ولكن مضت السنوات ولا شىء يأتى. فى هذه الخرابة لا تأتى سوى المرارة ، وأيام متشابهة ، وامرأة لا تمل من المطالبة بالمال . المرتب شحيح ، ولولا كشك السجائر بعد الظهر ، لمات الجميع جوعاً .
ولكنه رغم كل شىء بطل . سيظهر فى التليفزيون ، ويحكى عن بطولات فى حرب النصر . سيقول فى البرنامج أن ألف ساق ليست خسارة من أجل وطنه . وسيحكى لهم عن زملائه الذين استشهدوا، وكيف تعيش أسرهم فى ضنك . سيطالب المسئولين بمساعدتهم . ولكن قبل أى شىء لابد من ملابس جديدة لائقة للظهور فى التليفزيون . سيذهب إليهم بعد الغد ، والأسمال التى يرتديها ربما جعلتهم يطردونه من على باب مبنى التليفزيون . ولكن الظروف لا تسمح الآن بشراء الجديد ، والمرأة سليطة اللسان لن تسكت ولن يرحم لسانها الحاد .
اقترب من المرأة فى تودد ، وحاول أن يمازحها توطئة لطلبه. وجهها الجهم أقنعه بعبث المحاولة . طفت على وجهه ابتسامة ساخرة مريرة ، عندما جاءه خاطر أن الحرب مع اليهود كانت أسهل من حربه معها من أجل النقود . قرر الدخول إلى الموضوع مباشرة .
– الظهور فى التليفزيون يحتاج إلى ملابس جديدة .
– وما دخلى أنا بذلك ؟
– سأقترض من مصروف المنزل حتى يفرجها الله .
– المصروف يكفينا بالكاد .
– أعدك برد المبلغ سريعاً .
– لست على استعداد لأن يجوع ” عيالى ” بقية الشهر من أجل ملابسك الجديدة.
حاول معها بشتى الطرق ، لكنها كانت صلدة كصخرة . يأس أخيراً من الاستمرار فى الكلام . قرر أن يكف عن محاولاته ، ويبحث عن طريق آخر .
تذكر شقيقه الأكبر . رجل ميسور الحال . لن يمانع فى إقراضه المبلغ المطلوب ، ولن يطالبه سريعاً برد المبلغ .
عندما عاد من عند شقيقه ، أخفى المال عن عيون المرأة . قرر أن يشترى الملابس فى الصباح . ستفاجئ حتماً بالملابس الجديدة ، وستسأله عن مصدر المال ، ولن يريحها بالإجابة .
فى يوم التصوير ، أخذ إجازة من العمل . ذهب إلى الحلاق ، وعاد عريساً . حدث نفسه وهو ينظر فى المرآة أن المرأة لو لم تكن تعلم بذهابه إلى التليفزيون ، لظنت أنه سيتزوج عليها اليوم . ولكنه اليوم بالفعل عريس ، أليس هو البطل الذى سيتحدث فى يوم النصر .
عندما عاد من التليفزيون ، كان سعيداً . جلس يحكى للمرأة والأولاد ما قاله فى البرنامج عن المعارك والبطولات والشهداء ، وأيضاً الدبابات الكثيرة التى دمرها . وحكى أيضاً عن ساقه التى بترت وكيف بكى عندما منعوه من مواصلة القتال . أخبر المرأة أن البرنامج سيذاع الأسبوع القادم .
فى ليلة إذاعة البرنامج ، اشترى لهم ” اللب ” وزجاجات المياه الغازية . لم ينس إخبار كل من يعرفهم بموعد البرنامج . حرص على أن يفتح التليفزيون قبل موعد البرنامج بأكثر من ساعة . لأول مرة فى حياته يشعر بالندم لأنه لا يملك تليفزيون ملون ليرى نفسه وملابسه الجديدة بالألوان الطبيعية .
عندما بدأ البرنامج أمرهم جميعاً بالإنصات وعدم الكلام . فهم من سير البرنامج أن هناك ضيوف آخرين . أسهبت إحدى المطربات فى الحديث عن دورها فى المعركة بالأغانى الحماسية التى رددها الشعب والجنود . وتحدث ممثل شهير عن فيلمه الذى مجد فيه الانتصار ، وعن ضرورة قيام الدولة بتمويل فيلم عن الملحمة العظيمة يليق بحجم الانتصار . وتحدث أحد الضيوف العرب عن تأثير الإنتصار على أسعار البترول ، وعن معركة البترول التى شارك فيها كل العرب . ثم شعر بالاضطراب عندما رأى صورته تظهر على الشاشة . احمر وجهه ، وزاد إيقاع ضربات قلبه . قبل أن يفيق من سكرته ، كان ضيف آخر يتحدث .
فوجئ أن حديثه لم يستغرق أكثر من ثوانٍ . وبكثير من الغضب اكتشف أن حديثه قد بتر . لم يأت حديث البطولات ، ولا حكايات الشهداء ، وربما لم يلحظ أحد ملابسه الجديدة .
استند على عكازه ، ومتثاقلاً قام يغلق التليفزيون ، وهو يشعر بآلام حادة تجتاح ساقه المبتورة .
بقلم : خالد السروجي
✍️ الأثير
الليل خاو خرب ، إلا من أصوات تنبعث من بعض المنازل ، تناهت إلى سمعه خافته واهنه .. شيخ كبير ، ووجه ممصوص ، تضافرت عليه قطرات المطر حتى غسلته .. مضى فى خطوات كليلة وذهن شارد ، يدفع عربة ” الساندويتشات ” أمامه .. أصطكت أسنانه بصوت عالى من شدة البرد . شعر بتجمد قدميه ، فأسرع فى خطوه لتجلب له الحركة دفئا. سقطت إحدى العجلات فى بركة طينية، فتناثرت البقع الطينية على جلبابه لترسم لوحة سريالية غير مفهومة .. أستولت عليه الوساوس حول الولد الغائب منذ الصباح ، ” لا شك أن الضابط سيستطيع العثور عليه بسهولة ، فهم يقبضون على مروجى المخدرات ، حتى ولو اختبئوا فى باطن الأرض ، ولن يعجزهم العثور على ولد تائه . لعلهم الأن وجدوه بالفعل ، وهو الأن فى رعايتهم حتى يأتى من يتسلمه ، أو لعله.. أعوذ بالله ، إن شاء الله خير… ” . أستولت عليه وساوس وأخيلة مرعبة ، فركبته كل هموم الحياة نظر إلى السماء فى ذلة واستعطاف : ” الولد ابن العمر ، جاء على كبر وعلقت عليه الآمال “.. أقترب من قسم الشرطة الذى دائماً ما كان يتحاشى الإقتراب منه ، فأسند العربة إلى جوار الرصيف ، وتقدم إلى ناحية ” الشاويش ” بخطوات وجلة مضطربة يسأل عن الضابط . أجابه ” الشاويش ” بلهجة جافة وخالية من الود :
– نعم ماذا تريد ؟
– أريد أن أسال.
قاطعه الشاويش فى عدم اكتراث:
– انتظر حتى أفرغ من كوب الشاى فقد بدأ يبرد.
أقعى إلى جانبه ، وأسند ظهره للحائط لدغته برودة الأرض بسم ثلجى نفد إلى عظامه ، فأنتفض واقفاً. مضت الدقائق عليه أحقاباً ، فتركت مساحة لعربدة الأفكار السوداوية .. نظر إلى الشاويش بحقد شديد وهو يرشف الشاي بلا مبالاة ، ثم أدرك خطورة الموقف فحول وجهه عنه ، حتى لا يضبط متلبساً بالكراهية .. ولكنه ظل يتململ فى جلسته ثم فجأة وبدون تفكير وجد نفسه يتحرك من جانب الشاويش ، بهدوء وحذر الثعابين . عندما وصل إلى حجرة الضابط نظر إلى الباب المغلق متردداً ، ثم أستجمع شجاعته وفتح الباب بهدوء .
دلف إلى الحجرة بخفة ، ووقف فى أحد الأركان ، حتى ينتهى الضابط من مكالمة تليفونية بدا أنها هامة . شعر بالبرودة الثلجية تجتاحه ، ثم سمع الضابط ينهى مكالمته وهو يقول بأدب جم :
– ” يا أفندم أبلغ سيادته أن كل الترتيبات قد تمت “.
أغلق الضابط السماعة ، ثم جالت عيناه فى أرجاء الحجرة ، لتصطدم بالرجل المنزوى فى الركن. تأمله لبرهة بدهشة ، ثم ضغط على زر الجرس ، لينفرج الباب فى لمح البصر عن الشاويش . فأشار الضابط ناحية الرجل المنزوى فى ركن الحجرة صائحاً :
– ” ماذا يفعل هذا فى حجرتى ؟ ” .
قبل أن يجيب الشاويش ، هدر الضابط وهو يخبط بيده على المكتب :
– ” كيف دخل إلى هنا ؟ أهى وكالة بدون بواب ؟
حاول الرجل المنزوى أن ينطق ، ولكن رعشة شديدة أستولت على جسده النحيل ، فأنحبس صوته . هدير الضابط فجر فى داخله ينابيع الرعب ، ومن شدة الارتباك والرعب نسى الهدف الذى جاء من أجله .
قال الشاويش بإرتباك :
– ” لا أعرف كيف تسلل إلى هنا يا أفندم، سآخذه إلى النوباتجية، لا أعرف حكايته “.
عندما أبتعد الشاويش عن حجرة الضابط ، صاح فى الرجل وقد أحمر وجهه :
– ” كدت تخرب بيتى . الله يلعنك . ماذا تريد ؟
حاول الرجل أن يجيب ولكن صوته كان قد أنحبس تماماً ، وبدت إمارات الرعب فى وجهه ولم تفارقه الرعشة التى بدأت فى حجرة الضابط، أمتدت يد الشاويش لتصفعه:
– مالك لا تنطق، أخرس..
بشكل لا إرادى وجد الرجل نفسه يتجه ناحية باب القسم وهو ينتفض ، توجه إلى عربته ، وجاهد كثيراً لكى يستطيع دفعها، كانت السماء لا تزال تمطر ، رفع رأسه إلى السماء فى نظرة طويلة ساهمة ، فأختلطت القطرات الساخنة بالباردة على صفحة وجهه ، ثم واصل دفع العربة.
بقلم : خالد السروجي
✍️ الفتى الأبيض
لم يكن حلمه بالبالطو الأبيض ، وهوى زميلة الطب ذات البشرة الحليبية ، وقطته السيامية البيضاء مجرد مصادفات فى حياته ، فالأشياء البيضاء دائماً ما كانت تخطف بصره وتأسر قلبه بقدر ما ينقبض من اللون الأسود . وخرج لأول مرة فى حياته فى مظاهرة ليهتف بحماس ضد كل الأشياء السوداء ، ولم يكن يشعر – لفرط حماسه – ببرودة يناير القارصة . وأثناء المظاهرة كانت تلتقى نظراته مع نظرات رفاقه فى الجامعة ، فتعبر العيون عن الفرحة بما يصنعونه . ولكن الجنود أحاطوا بهم ، وأوسعوهم ضرباً بالعصا المكهربة . واستطاعوا الإمساك به مع بعض رفاقه ، واقتادوهم إلى مبنىً بارد ، ثم أدخلوهم إلى ضابط شاب أكسبته البدلة الرسمية السوداء هيبة وجلالاً .
قال لهم الضابط حانقاً :
– تهيجون الناس يا أبناء الزوانى .
أوجعه أن تهان أمه بهذا اللفظ . فتح فمه ليرد ، ولكن صفعة اعتقلت رده فى لسانه . احمر وجهه غيظاً وقهراً .
علا صوت الضابط :
– إن لم يعجبك الكلام ، نستطيع أن نزنى بأمك هنا أمامك .
وأشار الضابط لرجاله ، فأمسكوه وجعلوا رأسه إلى الأرض ، وضربوه بعصاً رفيعة ملفوفة على أقدامه المرفوعة لأعلى . حاول أن يتحداهم بتحمل الألم وعدم الصراخ . قال له الضابط ساخراً :
– تظن نفسك رجلاً ؟!! .
ثم أردف مخاطباً جنوده :
– أعيدوا إليهم عقولهم داخل الرؤوس .
اقتادهم الجنود إلى غرفة باردة وكئيبة ، وتباروا فى إيلامهم وإهانتهم . ورسم له أحد الجنود دشاً على الحائط وأجبره على خلع ملابسه، والاستحمام تحته وسط ضحكات باقى الجنود . لم يقو على الإحتجاج . كان يبتلع الإهانات ، فيشعر بمرارتها فى حلقه ، وهو الذى لم يعتد الإهانات طيلة عمره القصير . وكان يضنيه التساؤل : ما الذى يبرر إهانة أى إنسان ؟!! . حاول أن يتذكر أشياءه البيضاء ، فجاءت صورها باهتة مهتزة .
كان رقيقاً وضعيفاً، ولم يستطع تحمل نوبات الضرب المبرح ، فأغمى عليه عدة مرات . عندما أفاق من الإغماءة الأخيرة ، نظر بتلقائية – من خلال الضوء الضعيف بالغرفة – إلى ساعة يده فوجدها تشير إلى الثالثة . اندهش لأنه كان قد نظر فى ساعته قبل أن يقبضوا عليه بحوالى الساعة ، وكانت الثانية ظهراً . والآن قد حل المساء .
عند الفجر ألقوا عليه ماءً باردًا ، فاستيقظ مذعوراً . وأخبره أحد الجنود بأنه قد أصبح ديكاً، وأن عليه أن يؤذن مثل الديكة حتى يوقظ رفاقه ، وجعلوه يؤذن كالديكة حتى استيقظ رفاقه .
عندما أفرجوا عنه ، كان قد أحس بشرخ فى روحه ، شعر بأنه لن يلتئم أبداً . كانت روحه ممتهنة ، ولم يكن قد جرب من قبل القهر والامتهان . نظر إلى الناس فى الشوارع ، فأحس بأنهم مجرد آلات تتحرك . بدت له الشوارع كئيبة ومعتمة رغم أضواء المصابيح . حاول أن يتوارى عن الناس حتى لا يروا روحه الممتهنة . حانت منه نظرة إلى ساعة يده . كانت لا تزال تشير إلى الثالثة . لأول وهلة ظن أن الساعة قد أصابها العطب ، ولكنه اندهش عندما رأى عقرب الثوانى يدور بلا انقطاع . وعندما مر بأحد المقاهى ، لاحظ أن الساعة المعلقة على الحائط تشير إلى التاسعة والنصف .
عندما شاهدوه فى البيت بعد هذا الغياب فرحوا ، ولكنه لم يستطع أن يفرح . ولما أفزعهم منظره حاولوا إضحاكه . حاول أن يجاملهم ، ولكنه اكتشف عدم قدرته على الضحك . كان يخشى أن يشاهدوا روحه المشروخة . أغلق عليه باب غرفته ، ولم يرد على الطرقات أو النداءات . كان منكفئاً على شرخ روحه الذى بدأ يتشعب ليصبح عدة شروخ . نظر بيأس إلى ساعة يده وكانت لا تزال تشير إلى الثالثة رغم دوران عقرب الثوانى .
عندما حاول بعد ذلك أن يفتح أحد الكتب ، تراءت له على الصفحات مشاهد امتهانه ، فأغلق الكتاب بعنف ليهرب منها ، ولكنها ظلت تطارده بلا رحمة . حاول أن يتذكر أشياءه البيضاء : البالطو ووجه الحبيبة والقطة السيامية ، ولكن الذاكرة كانت عصية . فقط كانت بدلة الضابط الرسمية السوداء هى التى تلح على مخيلته . نظر بحنق إلى ساعته وقرر يائساً أن يذهب إلى محل الساعاتي .
ناوله الساعاتي ساعته وهو يقول له باسماً :
– الساعة سليمة وليس بها عطب .
وضعها فى يده بصمت ، ومضى ساهماً . كان ينظر إلى مشاهد الحياة فى الشوارع بعدم اكتراث . البيوت لازالت كئيبة ، والناس لا يزالوا مجرد آلات تتحرك .
سأله أحد المارة :
– كم الساعة الآن ؟
أجاب دون أن ينظر إلى ساعته :
– الثالثة تماماً .
نظر إليه السائل فى ذهول ، ثم ابتعد عنه مهرولاً .
لم يحك لأحد عن وجعه . كان يلتف بصمته ، ويحاول أن يتوارى عن العيون حتى لا يلاحظ أحد شروخ روحه التى كانت تتسع وتتشعب بلا نهاية .
بقلم : خالد السروجي
✍️ المطعون
ذهب البستاني إلي الحكيم حزينا.. وهو يضع يده علي ظهره ليداري جرحا.
قال : ” يا سيدي الحكيم . كلما غرست زهرة، رأيت الحسد في عيونهم”.
ثم اطرق حزينا يعاني من ألمه وجرحه، وأكمل: ” وعندما كثرت زهوري ، جاء أحدهم فطعنني في ظهري”.
ابتسم الحكيم له، وقال : ” يا بني .. كلما طالتك طعنة، اغرس زهرة”..
ثم اطرق الحكيم قليلا ، ورفع رأسه وقال للبستاني : ” عندما تكثر الطعنات ، ستكون قد صنعت حديقة كبيرة”..
5- نداء الجنة / قصة بقلم : خالد السروجي
وقف الصغير ذاهلا أمام السرير . كان يتأمل بفزع وجه أمه الجامد المزرق وعينيها المغمضتين . وامتدت يده الصغيرة المرتعشة تهزها:
– أمي . أمي .
ولكنها لم تتحرك ولم تفتح عيناها . وعندما أستولي عليه اليأس، أنطلق من صدره بكاء حار ، جاء على إثره عويل النسوة اللاتي يرتدين السواد . وجاء والده مسرعاً وأنتزعه من فوق السرير ، خرج به من الغرفة ، بينما الصغير يقاومه محاولاً الإفلات منه .
قال الصغير – وهو يضرب والده بقبضتيه الصغيرتين :
– أريد أمي . أريد أمي.
قال والده وهو يحاول السيطرة على بكائه :
– أمك ماتت.
لم يكن الصغير يعرف بالضبط معنى كلمة ماتت ، ولكنه كان يدرك أنها كلمة سيئة كالمرض .
عندما حملوا جسد أمه ليضعوه في النعش بكى بمرارة ، وحاول أن يفلت من قبضة والده لينقذ أمه من الأيدي التي تحملها ، وصرخ فيهم :
– إلى أين تأخذون أمي؟
وفى المساء ، كان الصغير يبكى وهو يسأل والده المنهك:
– أين ذهبوا بأمي ؟
أجابه بصوت متهدج :
– أمك عند الله في السماء.
– وهو الذي أخذها ؟
– نعم.
يعرف الصغير الله ككبير يعيش في السماء ، وقادر دائماً على معاقبة من لا يسمع الكلام ، أو يضرب أحداً ، أو يوذى القطط . ولكنه على الرغم من ذلك قال لوالده :
– ولماذا أخذها هى ؟!
نظر إليه والده بمزيج من اللوم والإشفاق .
قال الصغير بعناد :
– ولماذا لم يأخذ أم أحد آخر ؟
أطرق الصغير قليلاً ، ثم عاد يسأل بصوت مرتعش :
– هل سيعاقب الله أمي ؟
الصغير أستقر على ساقي والده الذي رفعه وأحتضنه وقبله بحنو شديد :
– الله يحب أمك . لقد أعطاها قصرا في الجنة .
اتسعت عين الصغير من الدهشة ، فأكمل والده :
– في الجنة حدائق وفواكه كثيرة ، وأمك تعيش الآن سعيدة ، فالله يحبها ويعطيها أشياء كثيرة .
الصغير أطرق يفكر ، وتخيل أمه تقف أمام الله ، وأن الله ينظر إليها بحب ويضحك لها ، وأنها تقف أمام الله وهى غير خائفة من حجمه الكبير جداً . ثم تخيل يد الله الكبيرة جداً تمسك بأمه التي مثل عقلة الإصبع وتضعها في قصر جميل مثل الذي شاهدة في التليفزيون ، وتخيل أمه وهى تمشى بين أشجار القصر وتقطف التفاح والمانجو من الشجر . وشعر الصغير بموجة عارمة من الحب تجاه الله ، وتبدلت مشاعره السابقة ، فها هو الله لا يعاقب أمه ويعطيها قصراً فيه فاكهه من كل نوع . ولكنه عاد يشعر بالقلق إزاء غياب أمه .
سأل الصغير والده بقلق :
– متى ستعود أمي ؟
– أمك الآن في الجنة.
قال الصغير بنفاد صبر :
– أعرف . ولكن متى ستعود ؟
الذين يذهبون إلى الجنة يعيشون فيها ولا يعودون .
تجهم وجه الصغير الذي كان يعتقد أن أمه ستقضى عدة أيام في الجنة ثم تعود ثانية ، وأطرق يفكر .
قال الصغير لوالده :
– إذن خذنى إليها في الجنة.
– من يموت فقط يذهب إلى الجنة.
قال الصغير بإصرار :
– إذن اجعلني أموت وأذهب إليها .
لم ينم الصغير هذه الليلة . وعندما تأكد من نوم والده تسلل إلى البلكونه ، وأخذ يبحث بنظره في السماء عن الجنة . كانت السماء خالية أمامه إلا من النجوم . أخذ يدقق النظر لعل الجنة تكون خلف هذه النجوم . ظل الصغير يحدق في السماء ويفرك بيده في عينيه من وقت لآخر . وفجأة بدأت الجنة تظهر أمام عينيه . في البداية ظهرت الأشجار ، ثم شيئاً فشيئاً ظهر القصر الجميل ، ثم بعد ذلك رأى أمه تمشى بين الأشجار فنادى عليها . ورأى أمه تنظر إلى أسفل ثم تراه وتناديه ، ثم غلبه النعاس وهو مستند بظهره إلى حائط البلكونة .
بعد عدة أيام – وكان يوم خميس – أستيقظ الصغير من نومه ليجد عمته وقد ارتدت ملابس الخروج السوداء .
سأل الصغير عمته :
– إلى أين تذهبين يا عمتي ؟
قالت العمة وهى تربت على كتفه :
– سأزور أمك
اجتاحت الصغير سعادة غامرة ، فعمته ستذهب إلى الجنة – دون أن تموت – وسترى أمه .
تشبث الصغير بعمته وهو يقول لها :
– سأذهب معك إلى الجنة لأرى أمي .
شعرت العمة بالندم لأنها أخبرت الصغير بأمر زيارة أمه ، وفكرت في طريقة للتخلص من هذا المأزق الذي نتج عن انفلات لسانها.
قالت العمة للصغير :
– لا يسمحون في الجنة بدخول الأطفال . عندما تكبر سآخذك معي
الصغير تشبث بملابس العمة ، وقال بإصرار :
– بل سأذهب معك إلى الجنة لأرى أمي.
شعرت العمة بصعوبة التخلص من هذه الورطة فقالت للصغير:
– أستأذن أباك . إذا وافق سآخذك .
أنطلق الصغير إلى والده فرحاً :
– أبى سأذهب مع عمتي إلى الجنة لأرى أمي .
ارتسمت على وجه الأب دهشة ممزوجة بالغضب ، ثم أنطلق خارجاً من الغرفة .
قال الأب للعمة بغضب :
– هل جننت لتخبريه بذلك !!
قالت العمة أسفه :
– أنفلت لساني رغماً عنى .
أطرق الأب مفكراً ، ثم قال للعمة بلهجة حادة :
– من المستحيل الآن إقناعه بعدم الذهاب . الأمر لله . ولكن لابد أن أجيء معكم ليكون تحت رعايتي فلست أطمئن عليه بدون وجودي.
العمة ساعدت الصغير في ارتداء ملابسه . وبعد قليل مرت سيارة تحمل خالات الصغير الذاهبات لزيارة المتوفاة . كان الصغير سعيداً وهو في الطريق إلى أمه ، وأخذ يعد في رأسه الكلمات التي سيقولها لها عندما يراها . وقرر أن يطلب من الله أن يعيد معه أمه إلى البيت . الصغير كان متأكداً من أن الله أصبح يحبه وسيسمح بعودة أمه إلى البيت من أجل خاطره ، لأنه منذ أن ذهبت أمه إلى الجنة لم يضرب أحداً ، ولم يؤذِ القطط . وأخذ الصغير يستجمع شجاعته لمقابلة الله ، لأن الله كبير جداً وسيكون هو أصغر من عقلة الإصبع أمامه . وكان الصغير يفكر أيضاً في أن يقطف بعض التفاح من شجر الجنة ويعود به إلى البيت مع أمه . كان الصغير يفكر في هذه الأشياء ، بينما تلوح في الأفق مساحة ترابية كبيرة تتناثر فوقها الصناديق الرخامية المستطيلة ونباتات الصبار .
بقلم : خالد السروجي
تعليق:
لولا أن الحديث على لسان صبي لما أدرجت هذه القصة هنا، لكنها فرصة للتذكير بعدم الخوض فيما لا نعلم، خصوصا في مجال الأدب، فالذات الإلهية لا نعلم عنها إلا ما ثبت في القرآن والسنة.. فمثلا قال الله تعالى إنه فوق السماء، فنقر بذلك، اما الكيفية، فنقول: لا نعلمها، ولا نتبع الأشاعرة في نفيهم لذلك العلو، وغيره من الصفات، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا..
وعلى كل حال المتجرؤون على الحديث عن الله في قصصهم ورواياتهم نوعان: نوع يحب الخير، وهو قليل جدا، ونوع جاهل بالدين يسمح لشطحات قلمه بأن تتجاوز حدودها مثل عقله..
✍️ شرفات الزمن
أصنعُ قهوتي ، أخرج للشرفة – محيط إبداعي – أستقل موجة نص جديد ، أغوص في عمق عبارة ، أمرح على سطح معنى شيق ..!
على الوجة المقابل شرفتان ، لم أتلصص عليهما ـ ولم أحاول ـ. كأن الجدران زجاجية ، بل ربما البيوت تقيأت أسرار أصحابها ..
زوج وزوجة، بنيا هرم حياتهما من أحجار السنين ، تطاول البنيان حتى شابت قمته ، سكون يضج به المكان ، الأثاث يحترف لغة الصمت ، الستائر أصابها شلل السنين ..
يجلسان في الشرفة ، بيد كل منهما كوب شاي . هو ينظر إلى الشارع ، و هي تجلس خلفه بيدها كوبها يرتعش خوفاً من سقوطه .. صمتها جعلها غير مرئية له ..
تضع يدها على فمها لتأسر لسانها عنوة ، يسير كوبيهما في رحلة شاقة لتتمكن من الوصول إلى أفواههما، قد تبرد حتى تصل ، تغيب لتستريح من عناء الوصول ، أو يبثان لها شقاء العمر الطويل ، ترهلات زمنهم القاسي ..
وفي الشرفة الأخرى ، تبدوالحياة فيها لعوباً ، الأثاث يتراقص على ترانيم عشقهما، الستائر باسمة الوجه ، موسيقى وصخب للمشاعر ، يعدوان خلف بعضهما للإمساك بالحب ، يراوغهما في لعبة عشق مسلية ..
كل يوم أشاهد ؛ حتى صرت أتنبأ أحيانا بما يحدث في الشرفتين ..
تغلق الأيام بيديها القاسية شرفة السكون ؛ لتصمت صمتاً أبدياً ..!
الشرفة الأخرى تهدأ فيها الحياة ، لم يعد هناك عدو خلف الحب ، نضج ، وسكن في القلوب ، واستكان .. صار صوته همساً ..!
أرفع فنجان قهوتي الذي يئن في رحلته الشاقة ؛ ليصل إلى شفتيَّ مرتعشاً خوفاً من سقوطه ..!
بقلم: صابرين الصباغ
✍️ سقوط الجدران
يهبط المساء سريعاً فى الشتاء . جال هذا الخاطر برأسه وهو يرى عباءة الليل تفترش الشوارع . كانت الساعة لم تتعد السادسة ، إلا بدقائق قليلة . يوم طويل من العمل المضنى قد اعتاده ، ففى الحياة لابد أن تتعب لكى تأكل لقمة نظيفة ، وتطعم أيضاً الأفواه التى تنتظرك .
رفع ” جاكت ” البدلة المهترئ الذى يضعه فوق القفطان ، ليغطى له رأسه من قطرات المطر . ومن بعيد لاحت أضواء خافته من العشش المتراصة والتى كثيراً ما خيل إليه أنه لا يمنعها من التداعى سوى التصاقها ، واستناد إحداها على الأخرى. وعندما يقترب أكثر تلوح له عشته فيميزها بوضوح . ينتبه إلى أنه جائع ويرتسم فى مخيلته طبق الفول الساخن الذى تعده المرأة ، فيكاد يشم رائحته . يتضاعف إحساسه بالجوع ، فتتسع خطواته ويتسارع إيقاعها . سيدخل متجهماً كالعادة ، وترد المرأة على التحية بلا حماس .
– العشاء يا ” ولية “.
فى صمت تعد المرأة العشاء ، طبق الفول الساخن ، والجبنة “القريش” . لا يتكلم معه أحد حتى ينتهى العشاء ، وإلا ناله من الضرب والشتم ما هو فى غنى عنه . الجميع يعلم أنه بعد العشاء ، يهدأ ويصفو ، خاصة بعد أن يأخذ ” الكيف ” . وعندما حاولت المرأة يوماً أن تقول أن ” العيال ” أحق بفلوس الكيف . نالت علقة لم تنلها فى حياتها ، ولم يخلصها سوى الجيران فى العش الملاصقة . يومها قال وهو لا يزال ممسكاً بها والجيران يحاولون تخليصها :
– حرمت من كل متع الحياة ولم تعد لى بهجة سوى ” هذا “، وبنت الكلب تريد أن تحرمنى منها .
وفى الأيام التى لم يستطع فيها الحصول على الكيف ، كان يتحول إلى وحش شرس ، يضرب لأتفه الأسباب ، ساعتها قالت لنفسها سأشترى له الكيف بنفسى ، حتى ولو لم يأكل ” العيال ” .
– الشاي يا ” ولية “.
فى صمت تشعل الموقد بينما هو يلف سيجارة حتى يعتدل مزاجه بعد يوم من العمل المضنى ، والإهانات التى يبتلعها من أجل لقمة العيش من أول النهار لآخره ، ثم ينساها مع أنفاس الكيف ، ليستطيع أن يتحمل من جديد . يرتشف الشاى مع الأنفاس ، وقد بدأت نفسه تصفو ، ويلاحظ ” العيال ” وقد بدأ النوم يغزو عيونهم ، فتترنح نظراتهم كأنها سكرى . تنام ” سامية ” و” سكينة ” على الكنبة المواجهة للسرير ، بينما ينام ” محمد ” الرضيع على حرف السرير الملاصق للحائط . تبدأ البهجة تغزو نفسه فيحاول مداعبة الرضيع ، ولكن “محمد” الصغير لا يستجيب، وقد أحكم النوم سيطرته على وعيه ، فيتركه وينتبه إلى الحوار الدائر فى العشة المجاورة . هم جميعاً فى العشش الملاصقة ، يسمعون ما يدور عند بعضهم ، فلا يوجد سر ، لم يعودوا يتحرجون وهم يعملون أن آذان الآخرين تعيش معهم . المرأة فى العشة المجاورة للسرير دائماً تثير الشجار ، ولكنه يعلم ما الذى يجعلها تهدأ . تقول امرأته وهى تتابع الشجار الدائر بأذن مدربة :
– هى هكذا كل يوم .
ثم تصعد بجانبه على السرير وهى تمسك بجلاليب البنات القديمة ، تجتهد فى ترقيعها بينما هو يقترب من إنهاء سيجارته الملفوفة الثانية . فكرت فى أن تبدأ معه حديثاً ولكنها تراجعت وآثرت الصمت. وعندما لاحظا الصمت فى العشة الملاصقة للسرير ، تبادلا النظرات ، ثم أصغيا السمع . بعد فترة قصيرة اخترقت مسامعهما ضحكات ماجنة ، فتبادلا النظرات وغرقا فى الضحك . قال لها وهو لا يزال غارقاً فى الضحك ، وقد أصبح مزاجه أكثر إشراقاً :
– إما هذا وإما لا تكف عن الشجار .
وواصل الإصغاء إلى التأوهات والفحيح ، والضحكات الماجنة، وهو يجتهد فى إرهاف السمع ، حتى شعر بأنه بجانبهما على الفراش . ثم ببطء بدأ شيء فى داخله يتحرك ، فخرج صوته متهدجاً :
– ” أم محمد ”
فهمت المرأة صوته ، فقالت بصوت خفيض :
– اعقل يا رجل . ” العيال ” لم يناموا تماماً .
لم يأبه بكلامها ، وجذبها بعنف ، ثم طوقها بذراعيه ، بينما هى تحاول التملص . أحكم ذراعيه حول جسدها والتصق بها ، فقالت وهى تحاول إبعاده :
– فلنطفئ النور أولاً .
عندما أطفأت النور لم تكن العشة معتمة تماماً ، فقد كان الضوء يخترقها . خلعت ملابسها بسرعة ، وفعل هو مثلها . كان بصرها يجول فى العشة ، بينما هو جاثم فوقها . تريد أن ينتهى سريعاً . متعبة ولكن لا بأس من الإنتظار .
عاد بصرها يجول فى أرجاء العشة ثم توقف بصرها عند الكنبة المواجهة للسرير ، على أربعة عيون تلمع فى الظلام..
بقلم : خالد السروجي
تعليق:
كثيرا ما أنتقد على الأدباء سعيهم إلى ابراز مخفيات الحياة في أدبهم الوقح، فما الفائدة من الفرجة على ما يفعله الزوجان في ركنهما الخفي؟ ألا يزيد ذلك من الأمراض والقلاقل، ويدفع إلى الذنوب؟ ألا يعتبر هذا ضربا من الخسة والشذوذ والوضاعة؟ مثال ذلك وصف ما يفعله المرء في المرحاض في خلوته! أو تصويره وهو عاري! ما الذي يفيد المشاهد من ذلك؟ إذا كان من قوانين الحياة ستر بعض الأشياء، فهل من الإبداع كشفها وفضحها؟ ثم يسمون ذلك فنا وأدبا راقيا وإخراجا إبداعيا، ويكرمون أصحابه بدل ضربهم على أقفيتهم.. لكن ظهرت الآن حقيقة الذين يحكمون العالم الغربي – والعالم – فدعوتهم المبالغ فيها إلى الشذوذ اليوم، كشفت الوجه الحقيق الذي يخفون تحت شعارات مثل “الدفاع عن الأقليات” التي تبطرت على الأكثريات! و”نصرة المظلوم” و”كشف المستور”، حتى “أبناء المسلمين” يخطفونهم من ىبائهم تحت ذريعة “حقوق الأطفال”!
اللعنة على الحقوق التي لا يعرفون لها معنى وهم أعتى المجرمين في هذا العصر.. لقد ظهر وبان لكل عاقل أنهم مجرد دعاة للشيطان، بل إن رؤساؤهم يعبدونه! وأن حضارتهم الآسنة مجرد شر، كيف لا وهم يقتلون الناس بأوبأتها ولقاحاتها وأدخنتها وأدويتها وأغذيتها المعلبة وحتى ترددات هواتفها! فالغبي كل الغباء من لا يزال يؤمن بهم ويعتقد أنهم على شيء..
والمؤسف أن بعض الأفارقة الحاقدين على العرب، يريدون صب جام غضبهم على فرنسا في دول المغرب العربي البريئة من تعذيب الأخيرة ونهبها لهم! فيا له من غباء آخر.. عندما ينكشف أمر القراصنة الأوروبيين للبلهاء الأفارقة يسارعون إلى وضع اللوم على تونس والمغرب العربي الذي لم يفعل لهم شيئا أبدا! فهم كالشيعة في بغضهم للعرب، والأحق بالبغض هو الكفار لا المسلمين.
✍️ المهذار
البطل مردف على جمل في قافلة عابرة للصحراء، مع مهذار لا يسمح للآخرين بالكلام، ولا يسمحون له به، من النوع الذي يفرض على الآخرين الإنصات لثرثرته التي لا تنقطع.. البطل مريض ضعيف عاجز عن الحركة، أردفوه مع مهذار ليمسكه ويمنعه من السقوط من على الجمل، فوجدها الأخير فرصة للهذر إنه: “رجل لا يتكلم، قطعا سينصت إليه!”..
درجة الحرارة آخذة في الإنخفاض، لكن الرياح المتربة لم تضعف.. الظلال تتمدد ببطء مشرقة، كأنما في تيتها أن تفلت منا.. بدأ الطريق وعرا.. العوكلات الثقال تتخللها الأحقاف الرملية الهاوية.. كانت المسالك قليلة.. في أحيان كثيرة، كان على الدليل أن يجابه الوعثاء، ويصارعها لكي يحتفظ بجهة المقصد.. رتابة السير في هذه الأرض الوعرة ما كان يقطعها سوى الإصطدام بين حين وآخر بسيوف رملية.. كانوا يصارعون من أجل التقدم خطوة، وكانوا يراقبون عن قرب أحوال الجمال واعتدال أحمالها.. وحده “قوسباستر” كان يتأخر أحيانا عن القافلة، وينحرف ذات اليمين وذات الشمال، يتفحص الطريق، كأنما يفتش عن ضالة. أحيانا يتوقف، يأخذ شيئا يتأمله.. يعثر مرة على محارة أو على شظية من أي شيء، وأحيانا على عظم رميم يأخذه معه.. كان يلفلف ما يجمعه من الهودج لتتناولها منه.
الرجل الهامة الذي يركب معي كان يتكلم بلا انقطاع:
… أخيرا وجدت من يصغي إلي! انت لا تنبس بحرف، لكنك لست أبكم.. إنما فقدت مؤقتا القدرة على الكلام.. أنت الآن مستودع للاندهاش البكر والروع المتوثب الحاد.. وليست لك القدرة على إخصاء الحقائق وتدجينها، وتشويهها، ودفنها في القوالب الكلامية المميتة.. أنت كلك تعجب.. صامت، مطبق على ذنبك الأكبر! أعرف انك تسمعني، لكنك لا تستطيع الجواب.. أنا أكره الأجوبة لأنها لا تنطبق أبدا على الأسئلة! إنها تعتمد دائما على افتراضات غير موجودة في الأسئلة أصلا.. على كل حال، إذا أجبتني فسأرمي بك وأقول لقوسباستر أنك سقطت مني خطأ.. أنا لا أحب البشر الذين يكلمونني، لأنهم دائما عنيدون، ومتعصبون على جهالتهم.. مضى علي زمن طويل وأنان ممنوع من الكلام.. عندما صحت وقت ولادتي، كمموا فمي.. وخلال الخدمة العسكرية حرموا علي الكلام.. وكان الرقيب يحبسني كلما تكلمت في الصف.. وفي الحياة المدنية لا ينبغي الجهر بالكلام لأن ذلك ينافي الأدب.. وبما أني لست غنيا ولست سليل أسرة نبيلة، فليس لي الحق في الكلام.. غنني كلما تكلمت أجد الناس طرشانا.. يعطوني اللسنة بدلا من الآذان.. تُرى، لو أنصت إلي الناس هل أتمكن من شحن الحقائق في أسماء وألفاظ وأنقلها إليهم؟.. الوجود يهرب من أي كلمة أحاول التعبير عنه! كلما فكرت في أعجوبة من البعيد، أجابني هاتف: :ما عُلّم آدم اسما كهذا!”..
لم أسكت فقط، بل أغمضت عيني مخافة أن يلقي بي هذا المجنون إلى الهاوية، بين يدي الجمل الذي يتبعنا. كانت هدهدة الجمل بين تضاريس الرمال صعودا، هبوطا، وحديث هذا المهذار المجنون بمثابة الحكايات التي ينام عليها الأطفال.. رحت في نوم عميق.. رجع وعيي بالزمن الآخر.. عرفت من أنا.. تساءلت عن الحقبة الزمنية التي أنا فيها..
كنت أستطيع أن أجلس على ظهر الجمل دون مساعدة، عندما غادرنا المعرس.. أردفوني مع رجل نحاسي، من باب الاحتياط. كان المهذار يمشي صامتا بين الآخرين..
من رواية مدينة الرياح