طريق الجنون
لم تكن المرة الأولى التي يجلس فيها منفردًا تحت الشجرة المسنة العملاقة القريبة من منزله الصغير. فقد اعتاد الجلوس تحتها منذ شهور، وألفها مثلما ألف الجميع مناجاته الغريبة لها.
كان الظلام في تلك الليلة حالكًا، والجو مشحونًا ينذر بعاصفة وشيكة. البرق يضيء السماء على فترات، خاطفًا الأبصار بنوره الساطع، والرعد المدوي يرتفع تدريجيًا، معلنًا عن أمطار قد تُغرق الطرقات.
ورغم الجو المتوتر، أسند ظهره إلى جذع الشجرة بلا اكتراث، وكأنه في عالم آخر.
ساد الهدوء التام قبل العاصفة، فغمغم مخاطبًا الشجرة:
- كم أحب العاصفة… كم أعشق هذا الهدوء الغريب الذي يسبقها. على الأقل لن يمر بجانبي أحد أولئك الفضوليين الساخرين.
دوى صوت الرعد المزلزل في تلك اللحظة، فارتسمت على وجهه ابتسامة عابرة، كابتسامة شيخ استعاد ذكرى طريفة. تمتم بصوت خافت:
- كم كنت جبانًا عندما كنت أخشى صوت الرعد الجميل.
لاح له شبح يتحرك في عتمة المنزل، يقترب بخطوات حذرة. كانت أمه، تملأ الدموع عينيها، ترجوه بصوت متقطع مرتجف قائلة:
- ادخل يا ابني عن العاصفة.
لكن قوة غريبة ثبتته في مكانه، دفعته للتشبث بجذع الشجرة كأنها الملاذ الوحيد. صاح بأعلى صوته:
- دعوني… دعوني وشأني!
تراجعت الأم المسكينة، تجر أذيال الخيبة والحسرة أمام إصرار الجنون على ابتلاع ولدها الوحيد أمام عينيها.
كان الابن الأوحد بين كوكبة من البنات لم يكن أوفر حظًا منه في الحياة. كان الأب الراحل، رغم الفقر وقلة الحيلة، يكافح من أجل أسرته الصغيرة. كان أبي النفس قنوعًا، زرع في أبنائه المثل العليا التي لم تعد تجد مكانًا في عالم يتسابق فيه الكل نحو الرذالة والآثام.
أفاق من خياله على صوت انفجار آخر للرعد، فتمتم:
- ما أقسى الحياة، خاصة على كرام النفوس.
لم يكن له سند ولا معين بعد رحيل والده المسكين، فأصبح عبء الأسرة كله على عاتقه، وأكبر بكثير مما أمكنه تحمله.
بدأ المطر ينهمر بغزارة. كانت حبيباته تضرب الأرض المتعطشة كقرع الطبول. رفع نظره بحنان إلى الشجرة التي لم تفلح في حمايته من البلل، وغمغم مبتسمًا بحزن:
- اطمئني… لن أحملك فوق طاقتك مثلما فعلت الحياة معي.
طالبته الحياة بلبن العصفور. طالبته بأن يدفع مُثله وكرامته ثمنًا لزيفها البراق. طالبته بأن يميت ضميره متجاوزا أسوار الحرام، مُذعنًا لإغراء الظلام. طالبته ببيع دينه مقابل لقمة العيش.
تردد في أعماقه صدى كلمات والدته الناصحة:
- ضحِّ يا ولدي من أجل أخواتك الضعيفات، لا أحد لهن سواك.
انحدرت دمعة ساخنة على خده الأيمن وهو يتذكر جوابه لها:
- لن أبيع أخلاقي أبدًا ولو بكنوز الأرض كلها.
انهمرت الدموع من عينيه لتختلط بمياه المطر المتدفقة على وجهه. ازداد انحناءً وهو يردد بصوت متهدج:
- كان علي التضحية من أجلهن…
تردد في داخله صدى ضحكة أصغر أخواته وهي تهتف ممازحة:
- كنت أظن أني الأكثر شرودًا بينكم، لكن يبدو أنك لا تُبارى فيه يا أخي العزيز.
ارتجف جسده من البرد المصاحب للمطر الغزير، وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يتمتم:
- المسكينة… ترى كيف حالها الآن؟ كم أشتاق إليها.
كان في تلك اللحظات يشعر بصفاء فكري لم يعهده منذ توغله في طريق الضياع، نظر إلى الشجرة وكأنها صديق قديم يبوح له بأفكاره، وتمتم مناجيا بصوت خافت:
- الشر هو الغالب في هذه الدنيا، لكن علينا أن نلتمس طريق الخير وحده، علينا التشبث بمبادئنا وأخلاقنا، والمحافظة على ديننا. لا ينبغي أن نساوم في هذه مهما بدت لنا الحياة قاسية مستحيلة بدون المساومة عليها، مهما كان الثمن.
توقف لحظة، ثم أكمل وهو يحدق في ظلمة الليل:
- كلها أيام وتنقضي، ثم يعقب ذلك السرور الحقيقي الذي لا تشوبه شائبة في الجنة، والراحة من كل عناء. فلماذا لا نصبر قليلاً؟
هب واقفًا فجأة، وكأنه استفاق من كابوس مخيف. نظر حوله بدهشة وهتف:
- هل كنت أخاطب شجرة؟!
رفع عينيه إلى السماء التي بدأت تصفو ببطء كصفاء ذهنه من جديد. تمتم بدهشة:
- هل أنا مجنون لأجلس منفردا في هذا المكان؟
نظر برعب إلى ثيابه البالية، التي غسل المطر على جسده كأنه يراها لأول مرة. تساءل بخفوت:
- يا إلهي… ما الذي حدث لي؟؟
وقعت عيناه على منزله الصغير القابع أمامه في تواضع وسكون. ارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة، وهو يهرول نحوه بخطوات متعثرة، هتف بلهفة:
- ترى… كيف حالهن الآن؟
استدار نحو شجرته قبل أن يدخل المنزل، وهمس بخفوت:
في ظلمات اليأس، يسطع داخل الواحد منا شعاع من الأمل تغذيه غريزة البقاء والتغلب على العقبات. قد يكون كافيًا للنجاة من الضياع. وبالعزيمة والمواظبة على الصالحات والخيرات، يشق الإنسان طريقه في ضوء ذلك الأمل، غير عابئ بالظلام الذي يحاول ابتلاعه. الدنيا دار ابتلاء، لا ينبغي للمؤمن أن يعطيها أكبر من قدرها، ذلك هو أول خطوات الخلاص من الهموم. ومهما اشتد الظلام، يبقى الأمل نورًا لا ينطفئ، والفوز بالجنة أكبر أمل.