الجبال تتسابق على جنبات طريقنا.. الكثبان الرملية الذهبية تتماوج راقصة من حولنا.. الطريق الطويل صامت إلا من صفير الرياح المرحبة بنا.. فتات الصخور الصغيرة يتناثر من تحت إطارات سيارتنا.. الطريق الأسود الذي أصبح أخيرا معبدا، سعيد برحلتنا.. كل ما حولنا مغتبط بعودتنا..
العَصْمَاءْ.. قرية الكرام الوادعة الجميلة تقبع على الطريق متشبثة به.. لبنة أولى على طريق الحنان.. حلقة وصل بيننا وبين الوطن الحبيب..
الصحراء الممتدة من حولنا نابضة بالحب والوفاء.. الصمت مهيب.. الكثبان تعتصر الطريق كأنه نقطة سوداء وسطها، ذهبية أحيانا، وبيضاء كمعصم الحسناء، تتثنى راسمة أجمل ابتسامة..
قطعان الإبل والأغنام متناثرة من حولنا، تعزف على أوتار الصحراء والبداوة أجمل ألحان الطمأنينة والسعادة.. إنها تذكرنا بالأجداد الذين خالطوها بحب ووفاء، وعاشوا معها أجمل أيام الحياة..
الخيام المبعثرة تحيط بالطريق.. هنالك على بعد، أرى نسوة يضبطن حواف بعضها، وأخريات يقمن ركائزها ابتهاجا بها وبذلك المكان الجميل، الصافي النقي الأجواء، الذي تكاد نجوم سمائه تلامس الرؤوس ليلا آية للمتأملين..
أكْجَوْجَتْ مدينة العزة والكرامة، تفرد جناحيها على الطريق بكبرياء.. بجبالها الأبية المطلة عليه، وساكنتها الوفية.. قلعة حب أخرى على الطريق..
الحشائش الصفراء تكاد تشتعل حولنا على جنبات الطريق.. الجبال السوداء تطل علينا من بعيد، مستبشرة بعودتنا.. والصخور الصماء ترحب بنا في صمت هامسة: “مرحبا بالأحفاد.. مرحبا بالأحفاد”..
الدهشة تعقد ألسنتا، والطريق الطويل الصامت يدفعنا دفعا نحو الأمام.. كأني بالجبال تسابقنا مستبشرة ببراءة الأطفال..
الطمأنينة تغمر نفوسنا المغتبطة.. والسيارة تكاد تطير معنا فرحا بالرحلة.. إنها تضطر بين الحين والآخر للتوقف احتراما لناقة تعبر الطريق بشموخ الأعزاء.. رافعة رأسها بإباء وكبرياء ككل ساكنة هذه الصحراء..
يَقْرَفْ.. قرية صغيرة عزيزة علينا، جميلة في أعيننا، بسيطة في عالمنا.. تقربنا من الوطن.. هادئة وادعة.. تنادينا بمرح الأطفال المنتشين تحت قطرات المطر، وهي تلتف حول نفسها ضاحكة بسعادة: “العَيْنْ قريبة.. العَيْنْ قريبة.. أسرعوا.. إنها تنتظركم، رُطبها اللذيذة ترحب بكم”..
عَيْنَ أهْلِ الطَّائِعْ تحيينا.. رمز القوة والأصالة يناجينا.. من هنا مرت سيول التحدي، من هنا ارتفعت رؤوس النخيل مهدية ساكنتها والضيوف ألذ رطب الحياة..
من هنا مر سيل عزيز، ومن هنا سيمر آخر، وآخر إلى ما يشاء الله.. وتستمر الحياة بين الرطب وخرير المياه، فسبحان الذي جعل من الماء كل شيء حي.. سبحان الذي جعل في هذا المكان مثل هذه البساطة والجمال..
إنها تزف إلينا النبأ.. “الوطن قريب”.. إنها تشير إلى الجبل.. “اصعدوا الجبل.. اصعدوا الجبل.. هيا.. إنه هنالك خلفه”..
ننفذ أمرها بسعادة الأطفال المندفعين.. نصعد الجبل العظيم.. نطل على الوادي أسفل منا والدهشة تعقد ألسنتنا..
وادي “أَمْحَيْرِثْ” الذي تمتزج خضرة نخيله بسواد الصخور.. ما أروعه من مكان، وما أروع الحياة فيه.. وما ألذ صلاة الفجر هنا ببين النخيل والصخور.. في هذا المكان المبارك المريح..
هل صليتها يوما في هذا المكان؟ أو في أي مكان من الطريق؟
جرب الصلاة وأمامك بعض الجبال السوداء، ولن تنسى ذلك المشهد أبدا مثلي.
السيارة تتلوى صاعدة هابطة بين الصخور في إجلال.. والأخيرة تمتد أمامنا، على مرمى البصر.. الطريق المعبد يشقها في وقار.. البساطة تنبعث من كل مكان.. نسائم الوطن اللطيفة تداعب وجوهنا مبشرة بقربنا منه.. أخيرا عدنا..
أَطَارْ مدينتنا الحنونة الرائعة تستقبلنا بالأحضان.. أنفاسها الحارة تلفح أعناقنا تقبيلا وعناقا.. هنا ترعرع الآباء.. هنا بدأ التاريخ.. هنا في جزيرة أحلام بين الصخور، نبتنا مثل النخيل.. هنا أثمرنا العلم ومعالي الأخلاق..
هنا نسينا الهموم والآلام.. هنا تعرفنا على خالقنا العظيم من خلال مكتبات العلم التي ترك لنا الأجداد..
هنا أشرفنا على أجمل الوديان.. وفي كل واد جمال وحياة.. سعادة ورخاء.. بساطة وآمال.. حب ووفاء..
تمنيت وأنا أضع قدمي على الصخور الحبيبة أن أرتمي عليها مقبلا..
أن أعانق النخيل الذي يعانقني..
أن أناجي جدي الحبيب الذي مر من هنا ذات يوم.. ذات حياة..
أين أنت يا جدي الحبيب..
أين أنت لتثري مسامعي بآمالك وحكاياتك وإنجازاتك..
أين أنت لتحدثني عن الخالق والدين..
أين أنت لتعرفني بأبناء الأرض الكرام الذين أبعدتني العاصمة عنهم..
أين أنت لتسعد معي بما أرى من جمال..
أين أنت لتشاركني العرفان والحنين..
الحمد لله الذي يسر لنا رؤيتك ثانية يا أرضنا الكريمة، وتغمد الله أرواح آبائنا وآباء المسلمين برحمته الواسعة.
سيدي ول اخليل
💛 ذكريات رحلة إلى أطار 2003 💛
الطريق الموصوف هو الطريق الرابط بين انواكشوط وأطار