مقال
صلة الرحم أمر في غاية الأهمة، لكن يوجد نوع من البشر، أبرز صفة فيه هي سهولة قطعه لرحمه، فتراه يقطعها مثلما يقطع كعكة.
أهون الناس عنده هم المقربون منه. وهو مستعد لرميهم، بقدر ما هو مستعد لتقدير التافهين الأدنياء المحيطين به – والطيور على اشكالها تقع، الذين لا يريدون له خيرا، ولا يوالون غير مصالحهم، ولا يعرفونه إذا انزلق ووقع.
هذا النوع من البشر أسوا من النرجسي (طالع موضوع الشخصية النرجسية هنا)، لأن قاطع الرحم مقطوع لا دين فيه ولا خير ولا فائدة. خاصة الرحم القريبة، بعضهم يرمي أبنائه إلى الشارع ولا يكترث، ويكون غنيا وهم فقراء ولا يكترث، ويشبع وهم جوعى ولا يكترث.
بعضهم يتجاهل أخته الفقيرة وإن جرفها السيل، لا يعبأ ولا يشغل باله، ولا يحوله ذلك عن قناة الجزيرة الكذابة، أو عن مباراة الدوري الإسباني السخيف!
المهم عنده هو أن يحيا تلك الحياة المترفة، التي هي ضنك في حقيقتها، بعيدا عن الضوضاء. وأكبر ضوضاء عنده هم قرابته وأهله، أبوه وأمه وإخوته وإخوانه، وأحيانا أصدقائه إن كانوا دونه.
البعض أسهل شيء عنده قطع الأخ الشقيق أو الأخت، ولا يبالي، ولأتفه الأسباب، كأنه يتعامل مع شخص من الشارع، حتى إن كان ذلك لمجرد خلاف بسيط، خاصة إذا دخلت زوجته المقدسة وابنائه في المسألة، حينها تجده مستعد للتضحية بالأخ والأخت والأب والأم، اللذين عاش معهم كل عمر قبل معرفة تلك الفراشة العابرة، في مزبلة النسيان لمجرد أنهم خالفوا هواه، حتى غن كان بغير قصد أو كذبا من تلك المقدسة اللئيمة.
وبعضهم إذا كان أخوه – أو أخته، فقيرا، فيا لها من مسبة، ويا له من عار، تراه يحتقره بدل أن ينفعه، ويتجرأ عليه أكثر مما يتجرأ على العبد والبعيد، ولو كان غنيا مثله لما فكر مجرد تفكير في ذلك.
والنوع المتصدر من هؤلاء الأراذل الثقلاء، عديمي الدين والضمائر والأخلاق، هو ملوك غابة قاطعي الأرحام.
أولهم الأبناء العاقون، ثم الآباء العاقون، ولا أعرف هل تصنيفهم ضمن قاطعو الأرحام صحيح أم لا، ولكن مع وجوب السكوت عنهم.
يوجد آباء وأمهات عبارة عن لعنة على أبنائهم، وللصابرين منهم على ذلك أكبر الجزاء أي دون ضوضاء، فذلك من البلاء أن تكون الأم قاسية أو الأب، وهو ما يخالف الطبيعة وتيار الحياة الذي تسير فيه.
إنه أمر غريب لكن يقع، وهو نادر، فعلى الأبناء في هذه الحالة الصبر أو الفرار قد الإمكان من تبعات ذلك، لأنهم أيضا يتحملون مسؤولية ردود فعلهم.
لا يبالي قاطعو الأرحام بقريب، وقد يكون البعيد أقرب إليهم من القريب، فترى الواحد منهم إذا جلس إليه أقرب الناس وأبعدهم، مال إلى البعيد، واحترمه وقدره ووصله، وأهمل القريب. يضع ثقته في البعيد، بل روحه بين يديه، ويبعد كل البعد عن القريب، ويجازيه بسوء الظن والإحتقار والمنع والإهمال.
وبعضهم المهم عنده مصلحته وراحته، أولاده وزوجته التي قد تسحره كمكافأة على تقديسه لها! وه واقع كثيرا، حفظنا الله والمسلمين من كل شر. فتخبل عليه وتفسد صفاء حياته، والعياذ بالله.
والعجيب أن قاطع الرحم كلما ابتعد عن أقرب الناس إليه، ممن جعل الله فيهم فطرة إرادة الخير له، كلما اقترب من أبعد الناس عنه، ممن جعل الله فيهم فطرة إرادة الشر له وأذيته بالخيانة أو الغدر او السرقة وما شابه ذلك. ولعل ذلك عقاب عادل له. فغالبا ما يُبتلى بامرأة تزيده بعدا عن أهله، وتسحره في نفس الوقت مفسدة حياته.
كم من رجل رمى بأبيه وأمه وإخوته وأخواته وأهله لأجل امرأة ساحرة أو فاسقة، فكانت النتيجة ضياعه، تأكله لحما وترميه عظما.
كم من أخ أو أب ترك أخواته الضعيفات وأبنائه لأجل ساحرة خضراء دمن، ففقد حقيقة وجوده، وأصبح إمعة بين ذئاب لا ترحمه (الزوجة الجديدة واهلها السحرة).
صلة الرحم
أمر الله سبحانه وتعالى بصلة الأرحام، والبر والإحسان إليهم، ونهى وحذر من قطيعتهم والإساءة إليهم، وعدَّ صلى الله عليه وسلم قطيعة الأرحام مانعاً من دخول الجنة مع أول الداخلين، ومُصْلٍ للمسيئين لأرحامهم بنار الجحيم.
والصلة هي الوصل، وهو ضد القطع، ويكون الوصل بالمعاملة نحو السلام، وطلاقة الوجه، والبشاشة، والزيارة، وبالمال، ونحوها.
والرحم هو اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم وغيرهم، وقال بعض أهل العلم أنه مقتصر على المحارم، بل قال بعضهم مقتصر فقط على الوارثين من المحارم.
وصلة الرحم واجبة وقطيعتها محرمة، وهي من الكبائر. قال القرطبي رحمه الله: “اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة”.
وقال ابن عابدين الحنفي: “صلة الرحم واجبة ولو كانت بسلام، وتحية، وهدية، ومعاونة، ومجالسة، ومكالمة، وتلطف، وإحسان، وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على السير كان أفضل”.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة قاطع رحم”. قطيعة الرحم من كبائر الذنوب، ومن أسباب حرمان دخول الجنة، إلا إذا عفا الله عن صاحبها، فالقطيعة من المنكرات والمعاصي الكبيرة.
وورد في الحديث: “أنَّ الرحم لما خلقها الله قامت، وقالت: يا رب، هذا مقام العائِذ بك من القطيعة، فقال الله لها جلَّ وعلا: ألا ترضين أن أَصِلَ مَن وصلَكِ، وأن أقطعَ مَن قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك”، وفي اللفظ الآخر: “مَن وصلها وصلتُه، ومَن قطعها بَتَتُّه”.
فالواجب على جميع المسلمين العناية بالرحم، من الآباء، والأمهات، والأجداد، والجدّات، والأولاد، والإخوة وأولادهم، والأعمام، والعمّات، والأخوال. كل هؤلاء رحم، وكل مَن كان أقرب كان أشدّ في إثم قطيعة الرحم، وكان أعظم في الأجر في وصله، قال رجل: “يا رسول الله، مَن أبرُّ؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمّك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب”، فبعد الأب والأجداد والأولاد يأتي الإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، ثم الأخوال، هؤلاء هم الأرحام.
وفي حديث المغيرة بن شعبة يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الله حرَّم عليكم: عقوقَ الأُمّهات، ووأد البنات، ومنعًا وهاتِ، وكَرِهَ لكم: قيلَ وقالَ، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال”، وفي اللفظ الآخر: “ويسخط لكم: قيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال”، فهذا الحديث فيه تصريح بتحريم العقوق للأمهات، فعقوقهنَّ أشد من عقوق الأب، كما أنَّ برّهنَّ أوجب من برِّ الأب، ولكن عقوقهما جميعًا من أكبر الكبائر، وبرّهما جميعًا من أهم الواجبات، ولكن حقَّ الأم أكبر.
وقال صلى الله عليه وسلم: “ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، ثم قال: وعقوق الوالدين – فجعله يلي الشّرك، ثم قال: وشهادة الزور”، فالعقوق للوالدين من أقبح الكبائر، وللأمهات بوصفٍ خاصٍّ أشد في الإثم؛ لعظم تعبها عليه وإحسانها إليه، فالواجب أن تُقابَل بالإحسان والبِرّ، فإذا قابل هذا بالقطيعة صار ذلك أشدّ في الإثم من قطيعة الأب.
ومَنْعًا وهاتِ يعني: البخل والحرص، فلا يجوز للإنسان أن يكون بخيلًا شحيحًا، قال تعالى: “وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”، وقال سبحانه: “وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ”، فلا يجوز البخل ولا الشح، والشح: الحرص على جلب المال ولو من طرقٍ محرَّمةٍ. والبخل: حبس المال وعدم إخراجه في وجوهه. والشَّحيح البخيل: هو الذي يحرص على جلب المال من كلِّ طريقٍ، ولو من حرامٍ، ثم يبخل به بعد وجوده، نسأل الله العافية.
وكَرِهَ لكم: قيلَ وقال، فلا ينبغي للإنسان أن يكون دأبُه قيل وقال، بئسَ مطِيَّة الرجل: “زعموا”، ينبغي أن يتثَبَّت، ولا يتكلم إلا عن بصيرةٍ، حتى لا يقع في الكذب، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكلِّ ما سمع”؛ لأنه إذا حدَّث بكلِّ ما سمع وقع في الكذب.
وهكذا إضاعة المال، فإضاعة المال لا تجوز، فكونه يبذر المال، أو يُسرف فيه أو يحرقه أو ما أشبه ذلك، فهذا من إضاعته، فيجب حفظه وصرفه في وجوهه، وعدم إتلافه، فإذا كان عنده سعة يتصدق ويُعطيه الفقراء والمحاويج، ويصرفه في المشاريع الخيرية.
ويكره لكم: قيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال، فُسِّر السؤال بالعلم، وفُسِّر بسؤال الدنيا وهو يعمّ الجميع. والإلحاح في السؤال في طلب الدنيا لا يجوز؛ لأنه يُحرج المسؤولين، ويدل على جشع السائل، وفي العلم: قد يُقال في الأغلاط، فكثرة الأسئلة وتواليها قد تُوقع المسؤول في الغلط، فينبغي أن تكون الأسئلة بالقسط في المال وفي العلم، يسأل ولكن بالقسط، لا يُلحّ في السؤال، ولا يُكثِر، حتى يحفظ الجواب، وحتى لا يُلْجئ المسؤول إلى أن يقع في الغلط، فيسأل عن الأهم فالأهم، ثم يحفظ ويكتب ويُقيد حتى لا ينسى، ويكون سؤاله منظَّمًا حتى لا يقع هو في الغلط، ولا يُوقِع غيرَه في الغلط.
قاطع الرحم في القران:
قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا”. وقال تعالى: “فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ”.
وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: “يا رَسُول اللَّهِ إن لي قرابة أَصِلُهُمْ ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُمُ المل، ولا يزال معك من اللَّه ظهير عليهم ما دمت على ذلك”.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “مَنْ أحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ له في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ”.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها”.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله اللَّه، ومن قطعني قطعه الله”. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
سؤال: لو قال قائلٌ: أنا أزور أقاربي مرتين في السنة: في عيد الفطر، وفي عيد الأضحى، فهل يكون قاطعًا للرحم؟
الجواب: إذا ما صار بينه وبينهم سوءٌ فما هو بقاطع رحم، قاطع الرحم الذي يُؤذيهم، أو يقطع عنهم ما يجب لهم من الحقوق؛ لفقرهم وحاجتهم، أو لأمورٍ تلزمهم، لكن كونه يصلهم بالمكاتبة أو بالزيارة فهذا من باب تثبيت الصلة (من فتاوى ابن باز).
سؤال: هل الخال أولى بالبِرِّ من العم؟
الجواب: العم والخال متساويان، هذا أخو الأب، وهذا أخو الأم، أما الخالة فبمنزلة الأم، وهي أحقّ من العمَّة (من فتاوى ابن باز).
ثواب صلة الرحم
وعد الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، واصل الرحم بالفضل العظيم، والأجر الكبير، والثواب الجزيل، ومن ذلك أن واصل الرحم:
– موصول بالله تعالى في الدنيا والآخرة
– يُبسط له في رزقه
– يُنسأ له في أجلِه
– يزاد في عمره بسبب صلته لرحمه
– تَعْمُر داره
– تدفع عنه صلة الرحم ميتة السوء
– يحبه الله
– يحبه أهله.
– صلة الرحم سبب من أسباب دخول الجنة مع أول الداخلين، سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم”.
– وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: “إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع. قيل:يا رَسُول اللَّهِ وما خرفة الجنة؟ قال: جناها”.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: “ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة”.
فمن أدب الإسلام أن يعود المسلم المريض، ويتفقد حاله تطيباً لنفسه ووفاء بحقه، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
عقوبة قاطع الرحم
– لا يرفع له عمل، ولا يقبله الله
– لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع
– تعجيل العقوبة للعاق في الدنيا قبل الآخرة
– أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم
– لا يدخل الجنة مع أول الداخلين.
– لا تفتح له أبواب الجنة أولاً، أي لا يدخلها مع أول الداخلين.
– يُدخر له من العذاب يوم القيامة، مع تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يتب أويتغمده الله برحمته.
– يُسف المَلّ، وهو الرماد الحار.
تعذر البعض بأن أهله يسيؤون إليه
ودعوى البعض أن اقاربه يسحرونه فيقطع صلته بهم، هذه قد تكون دعوى باطلة، لا أساس لها، فقد تكون أوهامًا لا دليل عليها، فليتق الله، وليحاسب نفسه، وإذا تعدوا عليه؛ فله أن يسامحهم، وله أن يخاصمهم، لكن لا يقطع الرحم بمجرد الهوى، أو الوساوس، أو دعاوى لا أساس لها.
فليتق الله وليصل رحمه إلا إذا قطعوه، وأبوا أن يأتيهم، ولم يسمحوا له بذلك، فهو معذور حينئذ. أما ما داموا لم يمنعوه؛ فإنه يصلهم، ويحسن إليهم ولو أساؤوا إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس الواصل بالمكافي، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها”. وجاءه رجل وقال: “يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيؤون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال له صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل – المل هو الرماد الحامي، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك”.
فالمؤمن يصل أرحامه، وإن قطعوه يحسن إليهم، ويعالج الأمور، فإذا كانت من شحناء يعالجها بالحكمة، أو بتوسيط الأخيار الطيبين، ولا يستمر على القطيعة، بل يعالج الأمور، إلا إذا كانوا على بدع، أو معاصي ظاهرة، ولم يتوبوا، فله أن يتركهم، وله أن يهجرهم، أما من أجل الشحناء بين وبينهم، فعليه في هذه الحالة أن يعالج الأمر بالحكمة، بالأسلوب الحسن، وبتوسيط الأخيار؛ حتى تزول الشحناء، وتحل محلها المحبة والصلة.
ولا شك أن قطيعة الرحم جرم عظيم وإثم كبير، وكبيرة من كبائر الذنوب، بل هي سبب في الطرد من رحمة الله تعالى، كما قال سبحانه: “فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ*أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ”.
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن ربه أنه قال سبحانه وتعالى للرحم: “ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال فذاك”.
فنصيحتنا لمن وقع في شيء من ذلك أن يستمر في تذكير أهله بالله تعالى، وبخطورة هذا الأمر، وأن يستعين في ذلك بمن يرجو أن يكون لقوله تأثير عليهم من أهل العلم والصلاح، ومن أهل الرأي، ولا ييأس. وأن يحتسب ما يجد من أذى في سبيل ذلك، لأن الإصلاح بين الناس من أعظم القربات، ولا سيما الإصلاح بين ذوي الأرحام، قال تعالى: “لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً”.
ولا يجوز له أن يقطع رحمه من أجل إرضاء أحد من الناس، ولو كان أحد الوالدين، لأن قطيعة الرحم معصية، ولا يطاع أحد في معصية الله تعالى. فقد روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا طاعة في المعصية إنما الطاعة في المعروف”.
فمن وقع في ذلك، فليبادر إلى التوبة، ومن تاب تاب الله عليه، وغفر له ذنبه، بل قد يبدل الله سيئاته حسنات بمنه وكرمه. وقطيعة الرحم كغيرها من المعاصي، فقد تترتب عليها آثار على الإنسان في نفسه وأهله، كما أُثر عن بعض السلف أنه قال: “إني لأعصي الله فأرى ذلك في خُلُقِ دابتي”. فالواجب الحذر من الذنوب والمعاصي.
والأعمام من ذوي الأرحام الواجبة صلتهم، فيجب الحرص على صلة العم والعمة، ومقابلة إساءتهما بالصفح والإحسان، لنيل الأجر العظيم بذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي جائه شاكياً من حال قرابته، حيث قال: “يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت كأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك”.
هل يكفي السلام في الصلة، دون كلام مسبق؟
إن صلة الرحم درجات تتفاوت، وأقل ما تتحقق به على الراجح وينتفي به الهجران الشرعي، هو مجرد السلام، وهو أدنى المراتب، قال القاضي عياض: “وصلة الأرحام درجات بعضها أفضل من بعض، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام”. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: “قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام ورده”.
ولكن لا بد أن لا يكون في ترك المكالمة ـ غير السلام ـ أذى، فإن كان ترك الكلام يتأذى به رحمه، لم تنقطع الهجرة بمجرد السلام، ولم تحصل صلة الرحم، فمن تمام كلام الحافظ ابن حجر السابق، قوله نقلا عن الإمام أحمد أنه قال: “ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام”.
وبهذا يتبين أن الأرحام إن كانوا لا يتأذون بترك تكليمهم، فإن مكالمتهم في الأعياد فقط والسلام عليهم عند الالتقاء بهم صدفة، تكفي في صلتهم، وأن ذلك لا يكفي إن كانوا يتأذون من ترك تكليمهم.
والصبر على الرحم المسيء، وتحمل الأذى منه، مما تعظم به عند الله المثوبات وترفع به الدرجات (فهو أمر عظيم يجب الحرص عليه).
والعبرة بسلامة الصدر، وتقارب القلوب، ونقاء الطوية والسريرة. ولله در ابن عباس حين قال: “قد تقطع الرحم، وقد تكفر النعمة، ولا شيء كتقارب القلوب”؛ وفي رواية عنه: “تكفر النعمة، والرحم تقطع، والله يؤلف بين القلوب لم يُزحزحها شيء أبداً” ثم تلا: “لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ”.
من أقوال السلف في صلة الرحم
قال علي بن الحسين لولده: “يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع”.
وقال المقنع الكندي:
وإن الذي بيني وبين بنيأبي … وبين بني عمي لمختلف جداً
إذا أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم … وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجداً
وإن ضيعوا غيبي حفظتُ غيوبهم … وإن هُمْ هَووا غيِّي هويتُ لهم رشداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هُمُ … دَعَوْني إلى نصر أتيتُهم شداً
وإن زجروا طيراً بنحس يمر بي … زجرت لهم طيراً يمر بهم سَعْداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم … وليس رئيسُ القوم من يحملُ الحقدا
لهم جلُّ مالي إنْ تتابع لي غنى … وإن قلَّ مالي لم أكلفهم رفداً
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً … وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
قاطع الرحم لا يقبل عمله
أما بخصوص أثر قطيعة الرحم على قبول العمل من عدمه، فقد قال ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر ما نصه: إن القاطع لا يدخل الجنة، وأنه ما من ذنب أجدر أن يعجل عقوبته من ذنبه، وأنه لا يقبل عمله.
وقد جاء التصريح بعدم قبول عمله في حديث أخرجه أحمد في المسند، وحسنه الأرناؤوط، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة جمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم”.
ومن هذا ندرك خطورة قطع الرحم، وأن ذلك قد يحبط الأعمال الصالحة، لذا يجب المبادرة بصلة الأقارب، والتوبة إلى الله تعالى مما سبق منها، و”التائب من الذنب كمن لا ذنب له”، كما صح بذلك الحديث.
فقاطع الرحم مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، يخشى عليه منها أن ترجح كفة إثم سيئاته على كفة ثواب طاعاته، فيكون عرضة للهلاك، إن لم تشمله رحمة الله وواسع مغفرته.
نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن القاضي ابن العربي قوله: “إِذَا جُعِلَتِ الْحَسَنَاتُ فِي كِفَّةٍ وَالسَّيِّئَاتُ فِي كِفَّةٍ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ نَجَا، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ وُقِفَ فِي الْمَشِيئَةِ؛ إِمَّا أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يُعَذَّبَ”.
فإذا عُلم هذا، فالواجب على قاطع الرحم أن يتوب إلى الله تعالى؛ حذرا من سوء المغبة، ولكنه إذا لم يتب فهو تحت المشيئة كما ذكرنا.
وأما فائدة فعله للعبادات فهي أن تبرأ بها ذمته، فقاطع الرحم الذي يفعل العبادات أقرب لحصول الرحمة ونيل المغفرة ممن لا يفعلها، وخير منهما التائب المقبل على الله تعالى الذي فعل جميع أوامره، وترك جميع نواهيه، وعلق قلبه به سبحانه، خائفا راجيا.