كوكب الموت

كانت العاصفة المدمرة على وشك الهبوب. ملأت الأفق كتل من السحب القاتمة، حبلى بغبار نووي قاتل. شق الرعد المزلزل طريقه بين صواعق تضرب الأرض بنيران عمياء، لا تفرق بين ظالم ومظلوم.

بدت الطبيعة وكأنها تنتقم ممن غدر بها، ترسم لوحتها المرعبة التي أصبحت مألوفة منذ أن انهار نظامها على يد الإنسان. كان البشر يدفعون ثمن جبروتهم وأطماعهم التي لا تعرف حدودًا، في ذلك الزمن.

كانت الأرض تدفع ثمن الحرب النووية التي حولت عالمها إلى ركام وخراب، حيث تتسلل خيوط الشمس الباهتة عبر أدخنة الحرائق النووية، مضفية عليه كآبة لم يشهدها في أي عصر من عصوره.

اعتاد الناجون من تلك الكارثة على حياة مظلمة في جوف الأوبئة والدمار. ورغم ذلك، لم يعتبر الإنسان، بل أضاف إلى الظلام ظلمات من الظلم، وزادته رائحة الدماء شراسة ووحشية.

انقسم الناجون إلى قسمين: متجبرون يستعينون بمخلفات الحضارة البائدة من أسلحة بالية ليفتكوا بغيرهم، ومستضعفون لا حول لهم ولا قوة، يُطاردون كالفرائس، ويُصطادون كالعصافير.

انتشر الظلم كالنار في الهشيم، وأثبت قدرته على التأقلم مع كل الظروف، فافترس القوي الضعيف بلا رحمة. اندلعت الحروب في كل بقعة من الأرض، كأن أصحابها يحتفلون بذلك الخراب. عاد الإنسان إلى همجيته الأولى، تحكمه غريزة البقاء بأي ثمن، وأصبحت الأرواح تُقايَض بلقمة عيش لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

تحركت كومة من الركام في أحد أركان الكوكب البائس، كاشفة عن منفذ لمخبأ مدفون تحت الأنقاض. خرج منه رجلان يجران شابة في مقتبل العمر، ارتسمت على وجهها ألوان الحزن والأسى، فزادته جمالًا مهيبًا.

كانت السماء تنذر بغضب جديد، فالعاصفة النووية كانت تتشكل في آخر أطوارها. تمتم أحدهما بحزن:

  • يبدو أن هذه العاصفة اللعينة ستضرب قريبًا.

رد الآخر بتنهيدة مثقلة:

  • هذا العالم جحيم لا هوادة فيه… هذه العاصفة تتكرر كل ساعتين، لتصب جام غضبها على كل شيء.

دوى الرعد بقوة، معلنًا بداية الهجوم. لكن الثلاثة كانوا في انتظاره، فقد كان فرصتهم الوحيدة للخروج من مخبئهم دون لفت انتباه الصيادين المتربصين.

كوكب الموت

جذبا الفتاة المنهكة، وابتعدوا بخطوات متسارعة بين الخرائب والحرائق. شقوا طريقهم وسط وابل من الصواعق القاتلة، غير مبالين بالجحيم الذي يحيط بهم. فجأة، تمتم الأول بشرود:

  • كم هو ظالم الإنسان…

رد عليه الآخر بمرارة:

  • هو السبب في كل هذا الخراب.

توقف الأول للحظة، قبل أن يتمتم بصوت خافت مليء بالغضب:

  • اللعنة عليه… وعلى طمعه الذي لا يعرف الحدود.

كانوا كغيرهم من البؤساء، يتخفون تحت الركام خوفًا على أرواحهم التي لم تعد تساوي شيئًا في ذلك العالم. كانوا مستهدفين من قبل الجبابرة الذين وجدوا في الفوضى فرصة للمزيد من الإفساد. أما العاصفة، فكانت الغطاء الوحيد الذي يمكنهم الهروب تحت ستاره من أعين المتجبرين.

كانت مهمة الرجلين التخلص من الفتاة المصابة بالفيروس الوبائي الذي ظهر بعد الحرب، وحصد من الأرواح أكثر مما حصدته القنابل، إذ كان التخلص من المصابين السبيل الوحيد لحماية المختبئين من العدوى.

لكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا؛ الفتاة المصابة لم تكن مجرد شخص عادي، بل كانت زوجة أحدهما، حبيبته ورفيقة دربه. وكان عليه أن يقتلها بيده.

كوكب الموت

بعد ساعة من السير المتواصل، وصل الثلاثة إلى المكان المخصص للإعدام. جلس كل منهم على كومة من الحجارة، غير مكترثين بالفوضى التي تحيط بهم. وعلى ضوء الصواعق المتقطعة، التقت أعين الزوجين الحائرين؛ فكانت نظرة صامتة حملت كل ما لم يُقال.
في تلك الأثناء، كان الآخر يجهز إبرته السامة بيد ثابتة، يستعد لغرسها في ذراع المرأة، التي بدا الحزن على وجهها انعكاسًا قاتمًا للدمار المحيط بهم.

اقترب الزوج المنكوب من زوجته بخطى متثاقلة، وكأنه يحمل على كتفيه ثقل العالم. نظرت إليه بعينيها الممتلئتين بالأسى، وكأنها تقول كل شيء بلا كلام. فك وثاقها بيدين مرتجفتين، وأزال الشريط اللاصق عن فمها. كاد يعانقها، لكن خوفه من العدوى كبح عاطفته. تراجع بخطوات مثقلة بالحزن، ليقف في مكانه، باكيا في صمت مرير تمزقه الرعود.

ألقت عليه نظرة حب وإشفاق، والدموع تملأ عينيها الزائغتين. ثم حولت بصرها بشرود نحو الإبرة التي تلألأت في يد الرجل الثالث، وغمغمت بأسى:

  • كأني بالموت يعتصرنا بقبضته.

أجابها الآخر بنبرة خافتة:

  • إنه قدرنا… كوني شجاعة كما عهدناك. لا مكان للحياة على ظهر هذا الكوكب البائس.

التفتت إلى زوجها وقالت بحسرة:

  • كم تمنيت أن أرى ضوء الشمس مرة أخرى…

كوكب الموت

ألقى عليها نظرة حزينة وقال في خفوت:

  • كم أنت محظوظة… ستغادرين هذا العالم البائس إلى غير رجعة، وترتاحين منه.

اقترب الآخر منها وهو يشهر إبرته، وقال:

  • تشجعي… لن يستغرق الأمر سوى لحظات، ثم ينتهي كل شيء.

رفعت يدها ببطء، وكأنها تحمل كل أحزان العالم، لتكشف عن ذراعها، وابتسمت ابتسامة باهتة وقالت:

  • ما أظلم الإنسان…

هتف حامل الإبرة بحنق:

  • لقد قتلك وقتلنا وقتل الكوكب كله.

نظرت إلى زوجها الشارد، بنظرة ثابتة كأنها تحاول حفر صورتها الأخيرة في ذاكرته، وقالت:

  • كم هو عجيب الموت… أتذكر؟ لقد وعدتك بأنه الوحيد القادر على التفريق بيننا.

هب الزوج واقفًا فجأة، وهتف وهو يلقي بقناعه بعيدًا بقوة، كأنه يتخلص من خوفه وتردده:

  • لن يفرق بيننا… بل سيجمعنا، كما جمعتنا الحياة.

برقت عيناه في الظلام وهو يتقدم نحو زوجته الحبيبة، غير عابئ بصيحات صديقه المحذرة:

  • هل فقدت عقلك؟!

ابتسم بحسرة، وقال بصوت متهدج:

  • نعم… فقدته منذ أن فقدت كوكبي وحياتي الطبيعية.

اقترب منها وضمها إلى صدره بحنان، وهي تحدق فيه بذهول ودموعها تغرق عينيها. همس وهو يربت على شعرها:

  • سامحيني… سامحيني على خوفي منك. التمسك بهذه الحياة البائسة كان أقوى مني.

صرخ صاحبه مذهولًا، وكأن ما يراه أمامه ضرب من الجنون:

  • لقد حكمت على نفسك بالموت! لا شك أن الفيروس يتغلغل الآن في جسدك!

ازداد تشبثًا بجسد زوجته الضئيل، وقال بصوت يحمل خليطًا من الحزن والتحدي:

  • الموت! أنظر حولك يا صديقي… ألا ترى هذا الدخان الكثيف الذي لا ينقشع أبدًا؟ ألا ترى تلك السحب التي تصعقنا كل ساعتين؟ ألا ترى الفيروس المجهري الذي يفتك بنا في صمت، وتلك الوحوش الآدمية التي تتحين الفرص لاقتناصنا كفئران؟

توقف للحظة، ثم تابع بنبرة حازمة:

  • إنه الموت يا صديقي، في أبشع صوره. وإن كان قدرنا، فليكن بين أحضان من نحب.

غمغمت الفتاة بصوت خافت يحمل ألمًا عميقًا:

  • من المؤسف أننا، بشكل أو بآخر، ساهمنا في كل هذا الدمار.

كان الآخر يراقبهما بصمت يملؤه الأسى، ثم تمتم بحزن:

  • أظن أنكما ستتقاسمان ما تحتويه هذه الإبرة السامة… كم أنا حزين لأجلكما.

رفعت الفتاة رأسها، تستمد قوتها من عيني زوجها الزائغتين، وقالت بثبات:

  • إن كان ولا بد من الموت، فليكن انتقامًا لكوكبنا.

هتف زوجها بحماس مفاجئ:

  • لمَ لا؟ لمَ لا نعاقب ذلك المخلوق الهمجي الذي زاد كوكبنا ظلامًا على ظلامه؟

التفت إلى صديقه، وعيناه تلتمعان بتصميم جديد، وقال:

  • الموت بين أشلاء أولئك الظلمة خير من الموت تحت ظلال إبرتك السامة.

خطا نحو الأمام وهو يضيف بحزم:

  • الوداع يا صديقي… لن تجد بعد اليوم من يساعدك في قتل أولئك الضعفاء العاجزين.

برقت عينا صاحبه في الظلام، وهتف بإصرار وهو ينزع القناع عن رأسه:

  • ولكنك ستجد من يساعدك في القضاء على أولئك الطغاة الجبابرة.

عانقه صديقه بقوة، كأنهما يوقعان ميثاقًا جديدًا، وقال:

  • مرحبًا بك في فريق الموت.

حمل الثلاثة أسلحتهم المتواضعة، واختاروا أقرب طريق يؤدي إلى الظلمة، تاركين وراءهم مخبأهم السري والمستضعفين اليائسين الذين يحتمون به. وكأن الطبيعة المدمرة، بنورها الخافت، كانت تبارك خطواتهم بصمت.

اشتبكت يدا الزوجين العاشقين بقوة عندما لاح لهم الهدف من بعيد. تسارعت خطواتهم، وتلاحقت أنفاسهم، وهم يقتربون أكثر فأكثر من مصيرهم المحتوم.

محب التوحيد

سيدي محمد الشنقيطي. أعتز بالسير على نهج السلف، متمسكًا بالكتاب والسنة. أستلهم من الصحابة لأنهم منارات الهدى. لا أرى مجاملة أهل البدع، وفي نفس الوقت لا أرى الغلظة مع المخالفين. أكتب للعقول وأغرس حب التوحيد في القلوب، طامعًا في أن تكون كلماتي نورًا يهدي الباحثين عن الحق. وفقني الله وإياكم لكل خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!