ملخص كتاب البخلاء، أحد أهم كتب الأدب في العصر العباسي، وأكثرها تفصيلا في مجاله البغيض (البخل).. لخصنا بعض قصصه، مستخرجين منها بعض العبر والفوائد..
أقوال وحكم
قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار. وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب بفضل ما فيه من العيب. وأول العيب أن تعيب ما ليس بعيب. وقد عبتموني على قولي: من لم يتعرف مواقع السرف في الموجود الرخيص، لم يتعرف مواقع الإقتصاد في الممتنع الغالي (فكر في هذه).
وعبتموني حين ختمت على سد عظيم، وفيه شيء ثمين من فاكهة نفيسة ومن رُطًبَة غريبة، على عبد نهم وصبي جشع وأمة لًكْعاء وزوجة خرقاء. وليس من أصل الأدب ولا في ترتيب الحكم ولا في عادات القادة ولا في تدبير السادة أن يستوي في نفيس الماكل وغريب المشروب وثمين الملبوس وخطير المركوب، والناعم من كل فن واللباب من كل شكل، التابع والمتبوع، والسيد والمسود. كما لا تستوي مواضعهم في المجلس ومواقع أسمائهم في العنوانات، وما يُستقبلون به من التحيات. وكيف وهم لا يفقدون من ذلك ما يفقد القادر، ولا يكترثون له اكتراث العارف. ومن شاء أطعم كلبه الدجاج المسمن وأعلف حماره السمسم المقشر.
وعبتموني بخصف النعال وبتصدير القميس، وحين زعمتُ أن المخصوفة أبقى وأوطأ وأوقى، وانفى للكبر وأشبه بالنسك، وأن الترقيع من الحزم، وأن الإجتماع مع الحفظ وأن التفرق مع التضييع. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويرقع ثوبه ويلطع اصبعه ويقول: لو أتيت ُ بذراع لأكلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت. وكان في ثوب عمر رقاعُ أدَم، وقال: من لم يستحي من الحلال خفت مؤنته وقل كبره. فترقيع الثوب يجمع مع الإصلاح التواضع، وخلاف ذلك يجمع مع الإسراف التكبر.
وعبتموني حين زعمت أن التبذير إلى مال القمار ومال الميراث وإلى مال الإلتقاط وحباء الملوك أسرع. وأن من لم يحسب ذهاب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، وأن من لم يعرف للغِنى قدره فقد أذن بالفقر وطاب نفس بالذل. وأن الإنفاق في الهوى حجاب دون الحقوق، وأن الإنفاق في الحقوق حجاز دون الهوى، وقد قال معاوية: لم أر تبذيرا قطُّ إلا وإلى جانبه حق مضيع. وقد قال الحسن: إذا أردتم ان تعرفوا من أين أصاب ماله، فانظروا في أي شيء ينفقه، فإن الخبيث ينفق في السرف.
قال ابن سيرين لبغض البحريين: كيف تصنعون بأموالكم ؟ قال: نفرقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض، ولولا أن السلامة أكثر لما حملنا خزائننا في البحر.
قال الحصين بن المنذر: وددت لو أن لي مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشيء، قيل: فما ينفعك من ذلك؟ قال: لكثرة من يخدمني عليه.
وقالوا: درهمك لمعاشك ودينك لمعادك.
وقال أبو الأسود الدؤلي لإبنه: إذا بسط الله لك في الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض، ولا تجاود الله فإن الله أجود منك.
قال ثمامة: لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لاقط، يأخذ الحبة بمنقاره ثم يلفظها أمام الدجاجة إلا ديكة مرو، فإني رايتها تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب. قال: فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد.
وقال بعضهم: لا تحقروا صغار الأمور، فإن أول كل كبير صغير، ومتى شاء الله أن يعظم صغيرا عظمه، وأن يكثر قليلا كثره، وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم؟
وقال بخيل: لو لم تعرفوا من كرامة الملائكة على الله إلا أنه لم يبتلهم بالنفقة، ولا بقول: هات هات، لعرفتم حالهم ومنزلهم.
رياء
دخل أحد المرائين على طاهر بن الحسين، فقال له الأمير: منذ كم وأنت مقيم بالعراق، قال: أنا بالعراق منذ عشرين سنة، وأنا أصوم الدهر منذ أربعين سنة ! فضحك الأمير وقال: سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين.
لو خرجت من جلدك لم أعرفك!
وكان مروزي (أي من مرو) إذا قدم العراق يحط عند عراقي يعرفه فيكرمه العراقي، فيقول لو قدمت العراق لكافأتك، أما ههنا فقد أغناك الله عني. ثم عرضت للعراقي حاجة في مرو بعد سنين، فسافر إليها، وكان مما يخفف عنه وطأة السفر وجود المروزي هنالك، فلما دخل العراق ذهب إليه في ثياب سفره معتما ليحط رحله عنده ما يصنع الرجل مع أهل ثقته، فوجده قاعدا بين أصحابه، فسلم عليه من بعيد فلم يظهر أي علامة على معرفته به، فقال العراقي لعل إنكاره إياي لمكان القناع، فرمى بقناعه، فكان له انكر، فقال لعل ذلك بسبب العمامة، فنزع عماته فلم يعره اهتماما، ثم رمى بالقلنسوة، فقال له المروزي: لو خرجت من جلدك لم أعرفك!
العجلة من عمل الشيطان!
وكان أحد البخلاء يخرج في غداة كل جمعة إلى البساتين، وينظر موضعا تحت شجرة وسط خضرة على ماء جار، فيجلس ويبسط المنديل، ويأكل ثم يغسل يديه ويتمشى مقدار مائة خطوة، ثم يضع جنبه وينام إلى وقت الجمعة ثم ينتبه ليغتسل، ويمضي إلى المصلى. فمر به رجل يوما فسلم عليه، فرد السلام ثم قال: هلم عافاك الله، فانثنى الرجل راجعا يريد ان يعبر الجدول، فقال له: مكانك إن العجلة من عمل الشيطان! ثم قال: تريد ماذا ؟ قال الرجل: أريد أن اتغدى ! قال: وكيف طمعت في هذا، ومن أباح لك مالي ؟ قال: أو ليس قد دعوتني؟ قال: والله لو ظننت أنك هكذا أحمق ما رددت عليك السلام، أيحسن فيما نحن فيه إذا كنت أنا الجالس وأنت المار، أن تبدأ أنت فتسلم، فأقول: وعليكم السلام، فإن كنت لا آكل شيئا، سكت أنا، وسكت انت، ومضيت، وبقيت أنا على حالي، وإن كنت آكل فههنا وجه آخر، وهو أن أبدأ فأقول هلم، فتقول: هنيئا، فيكون كلام بكلام، فأما كلام بفعال وقول بأكل، فلا!
قول بقول
ومدح أحد الشعراء بخيلا، فقال لكاتبه: أعطه ألف درهم، ففرح الشاعر فرحا شديدا، فلما رأى فرحه قد تضاعف قال لكاتبه: أعطه أربعين ألفا، فكاد الفرح يقتله، ودعا له وخرج. فقال له كاتبه، سبحان الله، هذا كان يرضى منك بأربعين درهم، تأمر له بأربعين ألف؟ قال: ويلك، وتريد أن تعطيه شيئا؟ قال: ولم أمرت له بذلك؟ قال: يا أحمق، إنما هذا رجل سرنا بكلام، فهو حين زعم أني أحسن من القمر، وأشد من الأسد، وأن لساني أقطع من السيف، وأمري أنفذ من السنان، هل جعل في يدي من هذا شيئا أرجع به إلى بيتي؟ ألسنا نعلم أنه قد كذب؟ ولكنه سرنا حين كذب لنا، فنحن أيضا نسره بالقول، ونأمر له بالجوائز، وإن كان كذبا، فيكون كذبٌ بكذب، وقول بقول، أما أن يكون كذب بصدق، قول بفعل، فهذا هو الخسران المبين الذي سمعت به.
زوجت ابنتها بالدقيق
وزوجت مريم الصَّنَاع ابنتها، وهي بنت اثنتي عشرة سنة، فحلتها الذهب والفضة، وكستها القز والخز، فقال لها زوجها: أنى لك هذا يا مريم؟ قالت: هو من عند الله. قال: دعي عنك، وهاتي التفسير؟ والله ما كنت ذات مال قديما، ولا ورثتيه حديثا ! فقالت: اعلم أني منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها، كنت أرفع من دقيق كل عجنة حفنة، وكنا كما قد علمت نخبز في كل يوم مرة، فإذا اجتمع من ذلك مكول بعته.
تضييع القليل يجر إلى تضييع الكثير
ورأى أحدهم معاذة العنبرية كئيبة حزينة مفكرة مطرقة، فقال لها: مالك يا معاذة؟ قالت – وكان ابن عم لها أهدى إليها أضحية: أنا امرأة أرملة، وليس لي قيم، ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي، وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه، وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة. ولست أخاف من تضييع القليل إلا أن يجر إلى تضييع الكثير، أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل منه كالخطاف، ويسمر في جذع من أجذاع السقف، فيعلق عليه الزبل وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير وبنات وردان والحيات. ثم أخذت تعدد منافع أجزاء الشاة، وقالت: بقي علينا الإنتفاع بالدم، وقد علمت أن الله عز وجل بم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له مواضع يجوز فيها، لم أقع عليها، ثم طلقت وتبسمت، فقال لها: أراك انفتح لك باب في الدم؟ قالت: أجل، ذكرت أن عندي قدورا، وقد زعموا أنه لا شيء أدبغ وأزيد في قوتها من التلطيخ بالدم الحار الدسم، وقد استرحت الآن. ثم لقسها بعد ستة أشهر، فالق: كيف كان قديد (اللحم المملوح المجفف في الشمس) تلك الشاة ؟ قالت: بأبي أنت وأمي، لم يجيء وقت القديد بعد، لنا في الشحم والإلية والجنوب والعظم المعرق، وغير ذلك معاش. فقبض قبضة من حصى ثم ضرب بها الأرض، وقال: لا تعلم أنك من المسرفين حتى تسمع بأخبار الصالحين!
أجهز على الجرحى واترك الأصحاء
دخل رجل دار بخيل فإذا المائدة موضوعة بعد، والقوم قد أكلوا ورفعوا أيديهم، فمد يده ليأكل فقال له بخيل: أجهز على الجرحى، ولا تعرض للأصحاء.
كم تأكلون لا أشبع الله بطونكم؟
وقال لي رجل: أكلنا عنده يوما، وأبوه حاضر، وبني له يجيء ويذهب، فاختلف مرارا، كل ذلك يرانا نأكل، فقال الصبي: كم تأكلون لا أشبع الله بطونكم؟! فقال أبوه:، وهو جد الصبي: إبني ورب الكعبة !
حِفظ
وقال محتضر لولده يوصيه: قد حفظت عليك – المال – من فتنة البناء، ومن فتنة النساء، ومن فتنة الثناء، ومن فتنة الرياء، ومن أيدي الوكلاء فإنهم الداء العياء.
لا أخوف عليك عندي من حسن الظن بالناس
وقال آخر لولده وهو في موته: ولم تزل في السراء والمال واسع، وذرعك ضيق، وليس بشيء أخوف عليك عندي من حسن الظن بالناس، فاتهم شمالك على يمينك، وسمعك على بصرك، وخف عباد الله على حسب ما ترجو الله.
لم أدر كيف أتخلص منه
وكنت في منزل «ابن أبي كريمة»، وأصله من مرو، فرآني أتوضأ من كوز خزف، فقال: «سبحان الله تتوضأ بالعذب، والبئر لك معرضة» ؟ قلت: «ليس بعذب، إنما هو من ماء البئر» . قال: فتفسد علينا كوزنا بالملوحة» . فلم أدر كيف أتخلص منه.
لا تريده، هو كذا وكذا
وكنت عند شيخ من أهل مرو، وصبيّ له صغير يلعب بين يديه، فقلت له، إما عابثا وإما ممتحنا: «أطعمني من خبزكم» . قال: «لا تريده، هو مرّ» . فقلت: «فاسقني من مائكم» قال: «لا تريده، هو مالح» . قلت: «هات لي من كذا وكذا»، قال: لا تريده، هو كذا وكذا».
امزجوه له
وزرت أنا والمكي أبي الفتح، وكنت أنا على حمار مُكَارٍ والمكي على حمار مستعار. فصار الحمار إلى أسوأ، من حال المِذْوَد (معلف الدابة). فكلّم المكي غلمانه فقال: لا أريد منكم التبن فما فوقه، اسقوه ماءً فقط. فسقوه ماء بئر، فلم يشربه الحمار، وقد مات عطشا. فأقبل المكّي عليه، فقال: أصلحك الله! إنهم يسقون حماري ماء بئر؛ ومنزل صاحب الحمار على شارع دجلة؛ فهو لا يعرف إلا العذب. قال: فامزجوه له يا غلام. فمزجوه، فلم يشربه.
كذلك الملوك كانت لا تأكل مع السوقة
ووضعوا بين يديه الدُّرَّاجَة السمينة (نوع من الطير)، والدجاجة الرخصة. فانطفأت الشمعة في ليلة، من تلك الليالي، فأغار عليّ الأسواري على بعض ما بين يديه، واغتنم الظلمة، وعمل على أن الليل أَخْفَى لِلْوَيْل (مثل يضرب للعمل في الخفاء). ففطن له، وما هو بالفطن إلا في هذا الباب، وقال: كذلك الملوك، كانت لا تأكل مع السوقة.
من أسباب إفلاس المرء طمع الناس فيه
واستسلف منه عليّ الأسواري مائة درهم، فجاءني وهو حزين منكسر. فقلت له: إنما يحزن من لا يجد بدا من إسلاف الصديق، مخافة ألا يرجع إليه ماله… قال: اللهم غَفْرًا! (عبارة تعجب من عدم فهم المخاطَب ما يريده) ليس ذاك بي إنما بي أني قد كنت أظنّ أن أطماع الناس قد صارت بمعزل عني، وآيسة مني، وأني قد أحكمت هذا الباب وأتقنته، وأودعت قلوبهم اليأس، وقطعت أسباب الخواطر. فأراني واحدا منهم إن من أسباب إفلاس المرء طمع الناس فيه؛ لأنهم إذا طمعوا فيه، احتالوا له الحيل، ونصبوا له الشّرك، وإذا يئسوا منه فقد أمن.
لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال
وقلت له مرة: قد رضيت بأن يقال: عبد الله بخيل؟ قال: لا أَعْدَمَنِي اللهُ هذا الإسم. قلت: وكيف؟ قال: لا يقال فلان بخيل، إلا وهو ذو مال، فسلم إليّ المال، وادعني بأيّ اسم شئت.
قلت: ولا يقال أيضا فلان سخيّ، إلا وهو ذو مال، فقد جمع هذا الإسم الحمد والمال، واسم البخل يجمع المال والذم. فقد اخترت أخسّهما وأوضعهما. قال: وبينهما فرق. قلت: فهاته. قال: في قولهم بخيل تثبيت لإقامة المال في ملكه، وفي قولهم: «سخيّ» إخبار عن خروج المال من ملكه. واسم البخيل اسم فيه حفظ وذم، واسم السخيّ إسم فيه تضييع وحمد. والمال زاهر، نافع، مكرم لأهله، معزّ، والحمد ريح وسخرية، واستماعك له ضعف وفُسُولة (قلة المروءة وضعف الرأي). وما أقل غناء الحمد، والله، عنه، إذا جاع بطنه، وعري جلده، وضاع عياله، وشمت به من كان يحسده.
حسدتم للمقتصدين تدبيرهم
وكنّا مرّة موضع حشمة، وفي جماعة كثيرة، والقوم سكوت، والمجلس كبير. وهو (الحزامي) بعيد المكان مني. فأقبل عليّ المكّي وقال، والقوم يسمعون: يا أبا عثمان من أبخل أصحابنا؟ قلت: أبو الهذيل. قال: ثمّ من؟ قلت: صاحب لنا لا أسمّيه. قال الحزاميّ من بعيد: إنما يعنيني.
ثم قال: حسدتم للمقتصدين تدبيرهم، ونماء أموالهم، ودوام نعمتهم، فالتمستم تهجينهم بهذا اللقب، وأدخلتم المكر عليهم بهذا النبّز. تظلمون المتلف لماله باسم الجود، إدارة له عن شَيْنِه، وتظلمون المصلح لماله باسم البخل، حسدا منكم لنعمته، فلا المفسد ينجو، ولا المصلح يسلم.
ناس يأكلون وإبل تجترّ
نظر خالد المهزول في الجاهلية، يوما، إلى ناس يأكلون، وإلى إبل تجترّ، فقال لأصحابه: أتروني إذا أكلت بمثل هذه العين التي أرى بها الناس والإبل؟ قالوا: نعم. فحلف بإلهه ألّا يأكل بقلا وإن مات هزالا. فكان يغتذي اللبن، ويصيب من الشراب. فأضمره ذلك وأيبسه. فلما دق جسمه، واشتد هزاله، سمّي: المهزول.
وخالد المهزول هذا هو أحد الخالدين، وهما سيّدا بني أسد، وفيه، وفي خالد بن نضلة، يقول الأسود بن يعفر:
وقبلك مات الخالدان كلاهما عميد بني حجوان وابن المضلّل
ابن المضلل هو خالد المهزول.
اللكام والمصاص والنقاض
وقيل للحارثي بالأمس: والله إنك لتصنع الطعام فتجيده، وتعظم عليك النفقة.. ثم أنت مع هذا كله لا تشهده عدوّا لتغمّه، ولا وليّا فتسرّه، ولا جاهلا لتعرّفه، ولا زائرا لتعظّمه، ولا شاكرا لتثبّته.. قال: يمنعني من ذلك ما قال أبو الفاتك، قالوا: فما قال أبو الفاتك؟ قال: قال أبو الفاتك: الفتى لا يكون نشّالا، ولا نشّافا، ولا مرسالا، ولا لكّاما، ولا مصّاصا، ولا نقّاضا، ولا دلّاكا، ولا مقوّرا، ولا مغربلا، ولا محلقما، ولا مسوّغا ولا ملغّما، ولا مخضّرا. فكيف لو رأى أبو الفاتك اللطّاع، والقطّاع، والنهّاش، والمدّاد، والدفّاع، والمحوّل.. ومن يشكّ أن الوحدة خير من جليس السوء، وأن جليس السوء خير من أكيل السوء؟ لأن كل أكيل جليس، وليس كل جليس أكيلا.. فإن كان لا بد من المؤاكلة، ولا بد من المشاركة، فمع من لا يستأثر عليّ بالمخّ، ولا ينتهز بيضة البُقَيْلَة، ولا يلتهم كبد الدجاجة، ولا يبادر إلى دماغ رأس السُّلَّاءَةِ (نوع من الطير)، ولا يختطف كُلْيَةَ الجَدي، ولا يزدرد قانصة الكُرْكِيِّ، ولا ينتزع شاكلة الحمل، ولا يقتطع سُرَّة الشَّصَرِ (ما قوي واشتد من الظباء)، ولا يعرض لعيون الرؤوس، ولا يستولي على صدور الدجاج، ولا يسابق إلى أَسْقَاطِ الفراخ، ولا يتناول إلا ما بين يديه، ولا يلاحظ ما بين يدي غيره ولا يتناول إلا ما بين يديه، ولا يلاحظ ما بين غيره، ولا يتشهّى الغرائب، ولا يمتحن الإخوان بالأمور الثمينة، ولا يهتك أستار الناس بأن يتشهّى ما عسى ألا يكون موجودا.. وكيف تصلح الدنيا، وكيف يطيب العيش، مع من إذا رأى جَزُورِيَّة التقط الأكباد والأسنمة، وإذا عاين بَقَرِيَّة، استولى على العَرْقِ والقِطْنَة، وإن أتوا بجنب شواء، اكتسح كل شيء عليه. لا يرحم ذا سن لضعفه، ولا يرقّ على حدث لحدّة شهوته، ولا ينظر للعيال، ولا يبالي كيف دارت بهم الحال؛ وإن كان لا بد من ذلك، فمع من لا يجعل نصيبه في مالي أكثر من نصيبي.. وأصحابي في سهولة ازدراد الحار عليهم في طباع النعام، وأنا في شدّة الحار عليّ في طباع السباع. فإن انتظرت إلى أن يُمْكِنَ أتوا على آخره، وإن بَدَرْتُ مخافة الفوت، وأردت أن أشاركهم في بعضه، لم آمن ضرره. والحار ربما قتل..
المعاني:
«النشال» هو الذي يتناول من القدر قبل النضج. و «النشّاف» الذي يأخذ حرف الجَرْدَقَة (طرف الرغيف)، فيفتحه، ثم يغمسه في رأس القدر، ويشرّبه الدسم. يستأثر بذلك دون أصحابه. و «المرسال» رجلان: أحدهما إذا وضع في فيه لقمة هريسة أو ثريدة أو حَيْسَة (طعام من تمر ولبن مغلي وسمن)، أو أرزّة، أرسلها في جوف حلقه إرسالا. والوجه الآخر: هو الذي إذا مشى في أَشِب (الملتف والفسيل: صغار النخل) من فسيل أو شجر، قبض على رأس السّعفة، أو على رأس الغصن، لينحيّها عن وجهه، فإذا قضى وطره، أرسلها من يده. فهي لا محالة تصكّ وجه صاحبه الذي يتلوه، لا يحفل بذلك ولا يعرف ما فيه. وأما «اللكّام» ، فالذي في فيه اللقمة ثم يلكمها بأخرى قبل إجادة مضغها أو ابتلاعها. و «المصّاص» الذي يمصّ جوف قصبة العظم، بعد أن استخرج مخّه، واستأثر به دون أصحابه. وأما «النفّاض» فالذي إذا فرغ من غسل يده في الطست، نفض يديه من الماء، فنضح على أصحابه. وأما «الدلّاك» فالذي لا يجيد تنقية يديه بالأَشْنَان، ويجيد دلكها بالمنديل. و «المُقَوِّر» الذي يقوّر الجرادق، ويستأثر بالأوساط، ويدع لأصحابه الحروف. و «المغربل» الذي يأخذ وعاء الملح، فيديره إدارة الغربال ليجمع أَبَازِيرَه (توابله)، يستأثر به دون أصحابه. لا يبالي أن يدع ملحهم بلا أبزار. و «المحلقم» الذي يتكلم واللقمة قد بلغت حلقومه. و «المُسَوِّغ» الذي يعظم اللقم، فلا يزال قد غصّ، ولا يزال يُسيغه بالماء. و «الملغّم» : الذي يأخذ حروف الرغيف أو يغمز ظهر التمرة بإبهامه، ليحملا له من الزبد والسّمن، ومن اللَّبَإِ (أول اللبن عند الولادة قبل أن يرق) واللبن، ومن البيض النِّيم بِرِشْتٍ، أكثر. و «المخضّر» الذي يدلك يده بالأشنان من الغمر والودك، حتى إذا أخضّر واسودّ من الدَّرَنِ، دلك به شفته.
هذا تفسير ما ذكر الحارثيّ من كلام أبي فاتك. فأما ما ذكره هو:
فإن «اللَّطَّاع» معروف، وهو الذي يَلْطَعُ إصبعه، ثم يعيدها في مرق القوم أو لبنهم أو سويقهم، وما أشبه ذلك، و «القطّاع» الذي يعضّ على اللقمة، فيقطع نصفها، ثم يغمس النصف الآخر في الصباغ. و«النهّاش» هو الذي ينهش كما ينهش السبع. و «المداد» الذي ربما عض على العصبة التي لم تنضج، وهو يمدها بفيه، ويده توترها له. فربما قطعها بنترة، فيكون لها انتضاح على ثوب المؤاكل. وهو الذي إذا أكل مع أصحابه الرطب، أو التمر، أو الهريسة، أو الأرزة، فأتى على ما بين يديه، مد ما بين أيديهم إليه. و «الدفّاع» الذي إذا وقع في القصعة عظم، فصار مما يليه، نحاه بلقمة من الخبز، حتى تصير مكانه قطعة من لحم. وهو في ذلك كأنه يطلب بلقمته تشريب المرق دون إراغة اللحم (طلب اللحم أي السعي وراءه). و«المحوّل» هو الذي إذا رأى كثرة النوى بين يديه، احتال له حتى يخلطه بنوى صاحبه.
وطارت لقمة الأمير
أكل عليّ الأسواري مع عيسى بن سليمان بن علي، فوضعت قدّامهم سمكة عجيبة، فائقة السمن، فجلط بطنها جلطة فإذا هو يكتنز شحما. وقد كان غص بلقمة، وهو المستسقي، ففرغ من الشراب، وقد غرف من بطنها كل إنسان منهم بلقمته غرفة.
وكان عيسى ينتخب الأكلة، ويختار منهم كل منهوم فيه ومفتون به. فلما خاف عليّ الأسواري الإخفاق، وأشفق من الفوت، وكان أقربهم إليه عيسى، استلب من يده اللقمة بأسرع من خطفة البازي، وانكدار العقاب، من غير أن يكون أكل عنده، قبل مرّته. فقيل له: ويحك! استلبت لقمة الأمير من يده، وقد رفعها اليه وشحا لها فاه (أي فتحها)، من غير مؤانسة ولا ممازحة سالفة. قال: لم يكن الأمر كذلك، وكذب من قال ذلك. ولكنا أهوينا أيدينا معا، فوقعت يدي في مقدّم الشحمة، ووقعت يده في مؤخر الشحمة، معا. والشحم ملتبس بالأمعاء. فلما رفعنا أيدينا معا، كنت أنا أسرع حركة، وكانت الأمعاء متصلة غير متباينة، فتحوّل كل شيء كان في لقمته بتلك الجذبة الى لقمتي، لإتصال الجنس بالجنس والجوهر بالجوهر.
عابوا طعام مضيفهم
كان بلال بن أبي بردة رجلا عيّابا، وكان إلى أعراض الأشراف متسرعا، فقال للجارود: كيف طعام عبد الله بن أبي عثمان؟ قال: يعرف وينكر. قال: فكيف هو عليه؟ قال: يلاحظ اللقم، وينتهر السائل. قال: فكيف طعام سلم بن قتيبة؟ قال: طعام ثلاثة، فإن كانوا أربعة جاعوا. قال: فكيف طعام تسنيم إبن الحواري؟ قال: نُقَطُ العروس. قال: فكيف طعام المنجاب بن أبي عيينة؟ قال: يقول: لا خير في ثلاث أصابع في صحفة.
حتى أتى على عامة أهل البصرة، وعلى كل، من كان يؤثره بالدعوة وبالآنسة والخاصة، ويحكمه في ماله. فلم ينج منه إلا من كان يبعده، كما لم يبتل به إلا من كان يقرّبه.
قيل لأبي الحارث جميّن: كيف وجه محمد بن يحيى على غذائه؟ قال: أما عيناه فعينا مجنون.
وكان أبو الشمقمق يعيب في طعام جعفر بن أبي زهير، وكان له ضيفا، وهو مع ذلك يقول:
رأيت الخبز عزّ لديك حتّى … حسبتُ الخبز في جو السحاب
وما روّحتنا لتذبّ عنا … ولكن خفت مرزئة الذباب
وقيل للجمّاز: رأيناك في دهليز فلان، وبين يديك قصعة، وأنت تأكل، فمن أيّ شيء كانت القصعة، وأي شيء كان فيها؟ قال: قيء كلب، في قحف خنزير.
وقيل لرجل من العرب: قد نزلت بجميع القبائل، فكيف رأيت خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث.
وكم قد رأينا من الأعراب من نزل بربّ صِرْمَةٍ (ما بين 10-40 من الإبل)، فأتاه بلبن وتمر وحيس وخبز وسمن سِلاءٍ (ذهب أثر الزبد فيه)، فبات ليلته ثم أصبح يهجوه: كيف لم ينحر له بعيرا من ذَوْدِهِ، أو من صرمته (وهو لا يعرفه).
ولو نحر هذا البائس لكلّ كلب مرّ به، بعيرا من مخافة لسانه، لما دار الأسبوع إلا وهو يتعرّض للسابِلةِ يتكفّف الناس، ويسألهم العُلَقَ (جمع العلقة وهي كل ما يتبلغ به من العيش).
إذا أكل ذهب عقله
ثم قال الحارثي: وأعجب من كل عجب، وأطرف من كل طريف، أنكم تشيرون عليّ بإطعام الأكلة، ودفعي الى الناس مالي. وأنتم أترك لهذا مني. فإن زعمتم أني أكثر مالا، وأعد عدة، فليس بين حالي وحالكم في التقارب، أن أطعم أبدا، وأنتم تأكلون أبدا.. وما ظنكم برجل نهش بضعة لحم تَعَرُّقًا (أي استئصالا للحم من فوق العظم لأن العراق العظم الذي أُكل لحمه)، فبلع ضرسه، وهو لا يعلم. فعل ذلك عند إبراهيم بن الخطاب، مولى سليم. وكان إذا أكل، ذهب عقله، وجحظت عينه، وسَكِر، وسَدِر (تحير واضطرب)، وانبهر، وتربد وجهه، وعصب ولم يسمع، ولم يبصر، فلما رأيت ما يعتريه وما يعتري الطعام منه، صرت لا آذان له إلا ونحن نأكل التمر والجوز والباقلي. ولم يفجأني قط وأنا آكل تمرا إلا استفّه سفا، وحساه حَسْوًا، وذَرَا به ذروا. ولا وجده كثيرا الا تناول القَصْعَة كجمجمة الثور، ثم يأخذ بِحِضْنَيْهَا ويُقِلُّهَا من الأرض، ثم لا يزال ينهشها طولا وعرضا، ورفعا وخفضا، حتى يأتي عليها جميعا. ثم لا يقع غضبه إلا على الأنْصَاف والأتْلاف. ولم يفصل تمرة قط من تمرة. وكان صاحب جُمَل، ولم يكن يرضى بالتَّفَارِيقِ. ولا رمى بنواة قط، ولا نزع قِمْعًا، ولا نفى عنه قِشْرا، ولا فتشه مخافة السوس والدود. ثم ما رأيته قط، إلا وكأنه طالب ثأر، وشَحْشَحَانٌ (صاحب الغيرة على حق يطلبه) صاحب طائِلَة. وكأنه عاشق مغتلم، أو جائع مَقْرُوٌر (القَرُّ البرد، أي أصابه البرد).
تحميل كتاب البخلاء PDF النسخة المعتمدة من هنا.
يتبع..