ملخص كتاب شبهات القرآنيين.
الشبهة 1: “من كتب عني غير القرآن فليمحه”، وقولهم إن السنة ليست جزء من الدين
قال برويز: “لو كانت السنة جزءاً من الدين لوضع لها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجا كمنهج القرآن من الكتابة والحفظ والمذاكرة،.. لأن مقام النبوة يقتضي أن يعطي الدين لأمته على شكل محفوظ، لكنّه الله عليه وسلم صلى احتاط بكلّ الوسائل الممكنة لكتاب الله، ولم يفعل شيئا لسنّته، بل نهى عن كتابتها بقوله: لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه “.
الرد:
نقول: ما هذا المنهج في القرآن؟ وإذا لم يكن منصوصا في القرآن، وليس منصوصا قطعا – فمن أين علمتم بوجود هذا المنهج، وقد رفضتم السنة وجعلتموها مختلقة مفتراة؟ فكيف تستدلون بسنة مختلقة مفتراة بزعمكم على أهمّ المطالب عندكم وهي ادعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للقرآن منهجا في كتابته وحفظه ومذاكرته، ولم يعمل للسنة مثله.
أما السنة فقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة في حفظها فقال: “نضر الله امرأ سمع منّا شيئاً فبلّغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع ” (أخرجه الترمذي) ، فهذا الحديث فيه أعظم حث على حفظ السنن، والمذاكرة من وسائل الحفظ وطرقه فليست مخالفة للحفظ، والوسيلة لها حكم المقصد.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ليبلغ الشاهد الغائب” (صحيح البخاري)، فيه حض على الحفظ أيضا إذ لا يمكن تبليغ ما لم يحفظ، إما اللفظ وإما المعنى.
فهذا كاف في حفظ السنة، مع علم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها من الذكر الذي تكفل الله بحفظه، وعلمه بحرص الصحابة على الحديث وأن بعضهم أحرص عليه من بعض. سأل أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسعد النّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة ألاّ يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك لما رأيت من حرصك على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله صدقاً من قلبه ” (صحيح البخاري).
والحديث الذي استدلوا به رواه مسلم من طريق همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ: “لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه” (1) .
وهو الحديث الوحيد الصحيح فيما أعلم الناهي عن كتابة الأحاديث النبوية، ووردت أحاديث عديدة صحيحة في الأمر بكتابة الأحاديث النبوية والرخصة فيها.
وقد سلك أهل العلم في دفع ظاهر التعارض بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى مسالك متعددة:
المسلك الأول: مسلك الترجيح لأحاديث الإذن على حديث النهي.
المسلك الثاني: مسلك النسخ، وهو القول بأن أحاديث الإذن متأخرة عن حديث النهي ناسخة له.
المسلك الثالث: مسلك الجمع بينهما وفيه طرائق:
قال البيهقي: “لعله إن شاء الله أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه لمن وثق بحفظه، أو نهى عن الكتابة عنه من خاف عليهم الاختلاط وأذن في الكتابة عنه حين أمن منه”.
وذكر الزركشي وجوها أخرى في الجمع بينهما فقال: “أحدها: أن النهي عن الكتابة مخصوص بحياة سيد البشر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النسخ يطرأ في كل وقت فيختلط الناسخ بالمنسوخ.. الثاني: أن النهي لئلا يتكل الكاتب على ما يكتب ولا يحفظ فيقل الحفظ.. الثالث: ألا يتخذ مع القرآن كتابا يضاهى به”.
وهذا الخلاف كان في العصر الأول، ثم أجمعت الأمة على تسويغ كتابة الحديث والعلم، واستقر الأمر على ذلك.
وليس في مسلك من هذه المسالك التي سلكها أهل العلم ما يشهد لما ضلت به هذه العصابة وفرقت به الأمة وشذت به عن السواد الأعظم، {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
الشبهة الثانية: قول مؤسسهم “إن الكتاب المجيد ذكر كل شيء يحتاج إليه في الدين مفصلا ومشروحا من كل وجه، فما الداعي إلى الوحي الخفي وما الحاجة إلى السنة”؟
ويقول – عبد الله جكرالوي مؤسس الفرقة – في موضع آخر: “كتاب الله كامل مفصل لا يحتاج إلى الشرح ولا إلى تفسير محمد صلى الله عليه وسلم له وتوضيحه إياه أو التعليم العملي بمقتضاه”.
ويقول الحافظ أسلم في المعنى ذاته ما نصه: “قد انحصرت ضروريات الدين في اتباع القرآن المفصل ولا تتعداه”.
الرد:
هذا كفر بالقرآن الذي يزعمون الانتساب إليه لأن الله يقول:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، فموضع الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن موضع البيان له، فمن كذب ذلك فقد كذب نص القرآن. ومفهوم كتاب الله عند أهل العلم والإيمان يختلف عن مفهوم الكتاب عند هذه الفرقة المشبوهة.
حيث يطلق عند أهل العلم والإيمان على معنيين:
روى الشيخان من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي: قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم ردٌّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها.
وفي هذا الحديث طلب الخصمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما بكتاب الله، وأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وحلف ليفعلنّ، والحكم الذي حكم به بينهما هو رد مائة الشاة والخادم وجلد مائة وتغريب عام على الزاني ورجم الزانية، وليس الرجم ولا التغريب ولاردّ مائة الشاة والخادم منصوصا عليها في القرآن المنزل، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق على هذا الحكم أنه كتاب الله أي حكم كتاب الله.
قال أهل العلم والإيمان: كتاب الله ينطلق على معنيين:
المعنى الأول: ما حكم الله به وكتب به على عباده سواء أكان منصوصا في القرآن أم في السنة، وإطلاق كتاب الله على القرآن والسنة إطلاق اشتراك (المشترك: هو الكلي الذي له مسمّيان فصاعدا يسمى بكل منهما بوضع خاص)، فما ثبت بالسنة يطلق عليه أنه كتاب الله، ومن حكم بالسنة لم يخرج عن كتاب الله حكماً ومفهوما على هذا المعنى.
قال الواحدي: “وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب، وهذا يدل على أن ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عن كتاب الله”، قال الرازي: وهذا حق لأنه تعالى قال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فكل ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام كان داخلاً تحت هذه الآية.
والمعنى الثاني عندهم: أن كتاب الله هو القرآن وحده ولكن يطلق على مدلول السنة بأنه في كتاب الله بواسطة أمر الله لنا بطاعة رسوله واتباع أمره، و ” مَنْ قَبِلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قَبِلَ، لِما افترض الله من طاعته، فيجمع القبولُ لما في كتاب الله وسنة رسول الله القبول لكل واحد منهما عن الله ” .
ومن حكم بالسنة لم يخرج عن كتاب الله حكما ومفهوما على هذا المعنى أيضاً.
روى الشيخان واللفظ لمسلم عن عبد الله بن مسعود قال: “لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله؟ وهو في كتاب الله، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
روى البيهقي بسنده عن عبد الله بن محمد بن هارون قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله فقال له رجل: أصلحك الله ما تقول في المحرم قتل زنبوراً؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر”، وحدثنا سفيان عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر أنه أمر بقتل زنبور.
قال الواحدي: “فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات”.
الشبهة الثالثة: قولهم إن السنة ليست وحياً من الله، وإنما لفقت ثم نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صحت فإننا لم نؤمر باتباعها.
يقول عبد الله جكرالوي: “إنا لم نؤمر إلا باتباع ما أنزله الله بالوحي، ولو فرضنا جدلاً صحة نسبة بعض الأحاديث بطريق قطعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها مع صحة نسبتها لا تكون واجبة الاتباع؛ لأنها ليست بوحي منزل من الله عز وجل.
وقال في موضع آخر: “يعتقد أهل الحديث أن نزول الوحي من الله عز وجل إلى نبيه عليه الصلاة والسلام قسمان: جلي متلو وخفي غير متلو، والأول: هو القرآن، والثاني: هو حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.. غير أن الوحي الإلهي هو الذي لا يمكن الإتيان بمثله، بيد أن وحي الأحاديث قد أتى له مثيل بمئات الألوف من الأحاديث الوضعية “.
ويرى برويز: “أنّ هذا التقسيم للوحي معتقد مستعار من اليهود (شبكتب) المكتوب، و (شَبْعَلْفَهْ) المنقول بالرواية وأنه لا صلة به بالإسلام”.
ويقول خواجه أحمد الدين: “إن الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل هو الوحي الإلهي فحسب، وهل أُمرنا بالبحث عن الوحي الإلهي في التوراة والإنجيل.. أو البخاري ومسلم أو الترمذي وأبي داود وابن ماجه. أو مسانيد أئمة آخرين ” .
الرد:
كذب عدو الله جكرالوي في المقام الأول، وهو زعمه عدم صدور هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى قوله هذا: أنه لم يصدر منه صلى الله عليه وسلم غير هذا القرآن المتعبد بتلاوته.
وهذا أمر مناقض لِبَدَاْئِهِ العقول؛ إذ كيف يُتصور أن يكون رسولاً إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً يأمرهم بما يرضي الله ويوصل إلى جناته، وينهاهم عما نهى الله عنه ويوصل إلى نيرانه، ويصبغ حياتهم كلها بصبغة هذا الدين الذي أُمر بتبليغه إليهم ثم لا يصدر منه غير تلاوة القرآن عليهم.
فدعوى جكرالوي مناقضة للعقل الصريح ومنافية للقرآن الذي يتشدقون باتباعه.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة:2) . وقال عز وجل: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 151) . وقال سبحانه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء:113) . وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} (البقرة:231) . ففي هذه الآيات إخبار من الله سبحانه وتعالى أنه أنزل على رسوله وحيين: الكتاب والحكمة، وقد فسر أهل العلم والإيمان الحكمة بأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك عن قتادة، وروي نحوه عن أبي مالك، ومقاتل بن حيان، ويحيى بن أبي كثير.
قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: ” فَذَكَرَ الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يَجُزْ – والله أعلم – أن يقال هاهنا إلا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله “.
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: “قد تأولت جماعة من أهل التأويل من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين (الحكمة) في قول الله تعالى ذكره: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة: 269) . أنها القرآن، وتأولت (الحكمة) في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164) . أنها السنن التي سنها رسول الله بوحي من الله جل ثناؤه إليه، وكلا التأويلين في موضعه صحيح؛ وذلك أن القرآن حكمة، أحكم الله عز ذكره فيه لعباده حلاله وحرامه، وبين لهم فيه أمره ونهيه، وفصَّل لهم فيه شرائعه، فهو كما وصف به ربنا تبارك وتعالى بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} (القمر: 4-5) ، وكذلك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها لأمته عن وحي الله جل ثناؤه إليه حكمة حكم بها فيهم، ففصل بها بين الحق والباطل، وبين لهم بها مجمل ما في آي القرآن، وعرَّفهم بها معاني ما في التنزيل “.
وأكد أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي هذا المعنى الذي سبقه إليه غيره من أهل العلم وزاده وضوحا وإشراقا فكان مما قاله: “تأولت العلماء أن الحكمة هاهنا هي السنة؛ لأنه قد ذكر الكتاب، ثم قال: والحكمة، ففصل بينهما بالواو، فدلّ ذلك على أن الحكمة غير الكتاب، وهي ما سن الرسول صلى الله عليه وسلم مما لم يُذكر في الكتاب؛ لأن التأويل إن لم يكن كذلك فيكون كأنه قال: وأنزل عليك الكتاب والكتاب، وهذا يبعد “.
أما قول برويز: إن تقسيم الوحي إلى جلي متلو وخفي غير متلو مستعار من اليهود، الأول: المكتوب، والثاني: المنقول بالرواية، فيقال له: ضللت في التشبيه بين المسلمين واليهود؛ إذ يشترط المسلمون للرواية اتصال السند من مبدئه إلى منتهاه بالعدول الضابطين، وليس ذلك عند اليهود أو عند غيرهم من أمم الكفر والشقاق.
وقد دلّ القرآن على أن هناك وحياً من الله إلى رسوله زيادة على ما في القرآن المتلوّ، قال الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} فقد كانت القبلة في أول الإسلام إلى بيت المقدس فأين في القرآن النص على وجوب التوجه إلى بيت المقدس؟ لم يثبت هذا الأمر إلا بالسنة، ثم نسخت بالقرآن.
الشبهة الرابعة: قولهم إن الحض على أقوال الرسل وأفعالهم وتقريراتهم مع وجود كتاب الله علة قديمة قدم الزمن
وأنه وقد برأ الله رسله وأنبياءه من هذه الأحاديث، بل جعل تلك الأحاديث كفراً وشركاً”.
ويقول الخواجه أحمد الدين في تفصيل هذه الشبهة ما نصه: “وقد وضع الناس لإحياء الشرك طرقاً متعددة، فقالوا: إنا نؤمن أن الله هو الأصل المطاع، غير أن الله أمرنا باتباع رسوله، فهو اتباع مضاف إلى الأصل المطاع، وبناء على هذا الدليل الفاسد يصححون جميع أنواع الشرك، فهل يصبح الأجنبي زوجا لمتزوجة بقول زوجها إنها زوجته، ألا وإن الله لم يأمر بمثل ذلك {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (يوسف:40) .
يقال لعبد الله جكرالوي: أوجدنا أين برّأ الله رسله من هذه الأحاديث؟ وأين جعلها كفراً وشركاً؟ وكيف يبرأ الإنسان من أقواله وأفعاله وتقريراته؟ ونحن لا نفرق بين الله ورسله، بل نؤمن بالله ورسله ولا نفرق بين أحد منهم.
وأقوالهم هذه التي تفوهوا بها محض مشاقة لله ومعاندة سافرة للوحي المنزل، لأن الله دعا في كتابه إلى الإئتساء بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب:21)، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54)، فهل يقول من يصدق بهاتين الآيتين: إن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم شرك.
ويظهر من أقوال الخواجه أحمد الدين أنه يرى أن الأدلة الدالة على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أدلة فاسدة؛ لأن وصف الدليل بالفساد يرجع إلى ذاته، ولو أراد فَهْمَ الناس للدليل لقال: إن استدلالهم فاسد، فالله يأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يأبون ذلك ويَعُدُّونه شركاً.
وما الكفر والشرك إلا في الطاعة التي يُتَدَيَّنُ بها ولم يُنْزِل الله بها من سلطان، أما وصف ما أنزل الله به سلطاناً بالكفر والشرك فهو خروج عن ربقة الإسلام، ووقوع في مهاوي الضلال، فما أجرأهم على الله وأوسع حلم الله عليهم !!
والمثال الذي ضربه الخواجه أحمد الدين بالغ القبح والشناعة، وينبئ عن فجور قلبه وسوء أدبه، حيث يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأجنبي الذي يطمع في زوجة غيره، ويمثل الله سبحانه بما لا أعيد حكايته، وإن كان ناقل الكفر للرد عليه ليس بكافر، ثم إن الزوج لا يملك من زوجته شرعاً أن يبيحها من يشاء، أما الله سبحانه فهو فعال لما يريد لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وقد حكم بأن الرسول يطاع بإذن الله.
أما قوله ” إن الله لم يأمر بمثل ذلك {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ” فنقول: قد أمر الله باتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم وقد مرّ آنفاً آيتان كريمتان في ذلك، ولا ريب أنّ الحكم لله وقد حكم الله باتّباع رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النّساء: 59) . وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الآحزاب: 36) . وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النّساء:80) . وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النّساء: 64) . فظهر من هذه الآيات أنّ القوم إنّما فيهم كيد الإسلام وكراهته، وجعله شيئاً آخر يوافق أهواءهم العليلة،
كناطح صخرة يوماً ليوهنها … فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ.
الشبهة الخامسة: قولهم إن نسبة السنة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليست يقينية
لأنها أولاً: تأخر تدوينها ولا يوثق بناقليها.
وثانياً: رويت بالمعنى، مع عدم كفالة الله بحفظها كالقرآن، وكثرة ما غزاها من الأحاديث الموضوعة.
أما الشق الأول: فيقول عبد الله جكرالوي: “لم تدون السنة أيام حياته عليه الصلاة والسلام، وتناقلت سماعاً إلى القرن الثالث الهجري، وإذا كان سامعونا لا يستطيعون ذكر ما تحدثنا عنه في خطبة الجمعة الماضية فكيف بسماع مائة سنة وصحة بيانه”.
وأكد حشمت علي هذا المعنى فقال: “إن الصحاح الستة التي يُفْتَخَرُ بها والتي يقال بحاجة القرآن إليها، كل تلك الكتب جُمعت ودونت في القرن الثالث حسب إقرار المحدثين”.
ويضيف عبد الله جكرالوي قائلاً: “بالإضافة إلى هذا التأخر في تدوين السنة كان المجتمع المدني يضم كثيراً من المنافقين في صفوفه، وقد استحالت معرفتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فخاطبه ربه بقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (التوبة: 101) ، فهذه الآية وشبيهاتها تنفي معرفة الرسول بهم، وأي شخص أكثر معرفة منه عليه الصلاة والسلام بهؤلاء “.
ووسع من هذا المفهوم في موضع آخر فقال: “ليس في وسع المرء أن يطلع على حقيقة رواة الحديث صدقاً وكذباً؛ لأنهما من الأمور الباطنية التي لا يطلع عليها إلا العليم بذات الصدور” .
ويقول الحافظ أسلم: “قد كان للعواطف البشرية يد في تصحيح السنة وتضعيفها، وإنا لنرى توثيق الرواة لم ينحصر في الصدق فحسب، بل تجاوزه إلى التلمذة والتشيخ والمشاركة الفكرية والعواطف والميول الوجدانية”.
الرد على الفرية الأولى: وهي تأخر تدوين الحديث:
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يُعْنَوْنَ بتدوين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته بإذن منه صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري بسنده عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: “ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من حديث عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب”.
وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة … فقام أبو شاه – رجل من أهل اليمن – فقال: اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اكتبوا لأبي شاه”.
وأخرج البخاري بسنده عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر .
وروى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك من حديث أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتاباً، قال: فقال عبد الله: بينا نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مدينة هرقل تفتح أولاً يعني قسطنطينية”.
ففي هذه الأحاديث وغيرها كثير دليل صريح على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتبون الأحاديث النبوية، وقد كانت لبعضهم صحائف مثل صحيفة عبد الله بن عمرو وصحيفة جابر بن عبد الله.
هذا وقد أحصى الدكتور محمد مصطفى الأعظمي الصحابة الذين كانوا يكتبون أو كانت لهم صحف فبلغ عددهم اثنين وخمسين صحابيا.
هذا جيل الصحابة فإذا جئنا إلى جيل التابعين نجد أن الكتابة انتشرت أكثر من جيل الصحابة فقد أوصل محمد مصطفى الأعظمي التابعين الذين كانت لهم صحائف ورسائل إلى أكثر من اثنين وخمسين ومائة تابعي.
ولعل مرد ذلك إلى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فقد روى أبو نعيم أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق: “انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه “.
وأصدر أمره إلى أبي بكر بن حزم أن “انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء “.
وأما جيل تابعي التابعين فقد أخذت كتابة الأحاديث النبوية منحى آخر إذ أضيف إليها آثار الصحابة والتابعين وصُنفت على حسب الكتب والأبواب الفقهية.
وما من حاضرة من حواضر العالم الإسلامي إلا وقام علماؤها بتدوين هذه الكتب وتصنيفها، وكانت هذه الكتب مادة أساسية للكتب الستة.
قال الحافظ ابن حجر: “ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم، وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسنداً، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسنداً، وصنف أسد بن موسى الأموي مسنداً، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنداً، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معاً، كأبي بكر بن أبي شيبة”.
فسقط بذلك قول جكرالوي وبطلت دعواه أن تدوين الحديث تأخر إلى القرن الثالث.
أما قول حشمت علي: إن الصحاح الستة تأخر تدوينها إلى القرن الثالث فنقول: نعم، دونت في القرن الثالث فكان ماذا؟
لقد تبين آنفاً أن أصولها كانت مدونة مكتوبة، ويظهر من مجموع كلام الرجلين أنهما ضلا في مفهوم السنة وأنهما يظنان أن السنة هي الكتب الستة.
أما تشبث جكرالوي بقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (التوبة: 101) .
فالجواب عنه في ثلاثة مقامات:
المقام الأول: عدم معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأعيان بعض المنافقين لا يقتضي الشك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المنافقين كانوا معروفين بصفاتهم فكان الصحابة يأخذون حذرهم منهم، ففي الصحيحين من حديث عتبان بن مالك لما صلى له النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فاجتمع إليه نفر من أهل الحي فقال قائل منهم: أين مالك الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل له ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟ قال: قالوا: الله ورسوله أعلم، أما نحن فو الله لا نرى ودّه وحديثه إلا إلى المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله “.
فظهر من هذا الحديث أن الصحابة كانوا في غاية الصرامة في شأن المنافقين بحيث اتهموا من جالسهم وخالطهم وإن لم يبلغ به الأمر إلى الكفر الباطني كما شهد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لمالك بن الدخشن ، أفتراهم يأخذون الأحاديث من المنافقين بعد ذلك؟ أو ترى المنافقين يجرؤون على اختلاق الأحاديث وبثها في الناس مع أنهم معزولون عن المجتمع المؤمن ومنبوذون فيهم؟
وليس عند جكرالوي شبهة دليل على أن المنافقين كانوا يتصدون لبث الأحاديث المختلقة وروايتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مماته.
المقام الثاني: أن في الآية التي استدل بها ما يرد دعواه إذ أوعدهم الله عذابين في الدنيا قبل العذاب الشديد في الآخرة.
قال بعض المفسرين: أحد العذابين هو فضيحتهم بكشف أمورهم وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في قول الله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ث} (التوبة:101) . قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج من المسجد ناسا منهم ففضحهم “.
المقام الثالث: الاعتماد على الثقة في نقل الأخبار ضرورة دينية ودنيوية وأن وجود بعض الكذبة في المجتمع لا يسد عليهم باب نقل الأخبار وتلقيها من الثقات.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات:6) ، ففي هذه الآية لم يأمر الله برد خبر الفاسق وتكذيبه جملة وإنما أمر بالتبين فدل ذلك على أنه يقبل خبر العدل ولا يُتبين فيه.
وإذا رُد خبر الفاسق والعدل جملة على السواء لوجود بعض الكذبة ومن لا يوثق بخبره في المجتمع بطلت الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة، وتعطلت حقوق الناس واختلت حياتهم واضطربت معيشتهم، وهذا فاسد ضرورة، وما أدى إليه – أعني فهمهم لآية سورة التوبة – فهو مثله.
أما ما ذهب إليه جكرالوي من أنه: “ليس في وسع المرء أن يطلع على حقيقة رواة الحديث صدقا أو كذبا؛ لأنهما من الأمور الباطنية التي لا يطلع عليها إلا العليم بذات الصدور “، وحاصله أنه أغلق باب معرفة عدالة النقلة وصدقهم من كذبهم.
فأقول: إن الله تعالى رد عليه فريته وأفسد عليه مزاعمه إذ قال:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (الطلاق:2) ، وقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (البقرة:282) .
وقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (المائدة: 95) .
ففي هذه الآيات أناط الله الشهادة والحكم بالشاهدين العدلين فدل ذلك على أن مناط العدالة يمكن الوقوف عليه والحكم بمقتضاه، فلو لم يمكن معرفة مناط العدالة لكان الله أمرنا بالمحالات والممتنعات، وهذا فاسد وما أدى إليه فهو فاسد مثله.
وأما قول الحافظ أسلم إنه كان للعواطف البشريّة يد في تصحيح السنّة وتضعيفها، ولم ينحصر التوثيق في الصدق بل تجاوزه إلى التلمذة والتشيّخ والمشاركة الفكرية.
فالجواب أن يقال: إنّ العدالة التي تشترط لراوي الحديث تشترط أيضا للمتصدّي للجرح والتعديل، فإذا كان يوثّق ويضعّف حسب الأهواء والميول فإنّه يسقط في ميزان المحدّثين ولا يحابون بهذا أحداً، فقد وُجد منهم الطعن في آبائهم وأبنائهم لأجل الاحتياط للرّواية، أفتراهم بعد ذلك يعدّلون من انتمى إلى مذهبهم وشاركهم فكريّاً إن كان لا يستحقُّ ذلك؟
سُئل علي بن المديني عن أبيه فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق ثمّ رفع رأسه وقال: “هذا هو الدّين، أبي ضعيف”.
ورُوي عن أبي داود صاحب السنن أنه كذّب ابنه عبد الله، وإ ن كان لهذه الكلمة تأويلٌ مقبول، إلاّ أنّ المقصود هنا إثبات أنّهم كانوا لا يحابون أباً ولا ابناً إذا تعلّق الأمر بالدّين.
الشق الثاني من شبهتهم: وهو كون السنة ليست يقينية بسبب روايتها بالمعنى مع عدم كفالة الله بحفظها، وكثرة ما غزاها من الأحاديث الموضوعة.
يقول الحافظ أسلم:”كل الروايات التي نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاءت بالمعنى ولم تأت بألفاظه عليه الصلاة والسلام والمعروف أن تغيير اللفظ موجب لتغيير المعنى ولو يسيرا”.
ويقول برويز: “اعلم أن الله عز وجل لم يتكفل بحفظ شيء سوى القرآن، فلذا لم يجمع الله الأحاديث كما أنه لم يأمر بجمعها ولا تكفل بحفظها”.
ويقول عبد الله جكرالوي: ” بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمئآت السنين نحت بعض النّاس هذه الهزليات من عند أنفسهم ثم نسبوها إلى محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وهو منها براء “.
الرد:
إن النبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على أن ينقلوا عنه سنته ويُعْنَوْا بها ويبلِّغوها كما سمعوها منه فقال:” نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع”.
ولا شك أن أداء لفظ الحديث كما سمع هو الأولى والأجدر الذي يتحقق به دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لسامعه إلا أن المعنى هو المقصود الأول من الأحاديث واللفظ وسيلة، فإذا روى الراوي الحديث وأصاب المعنى قبل منه ذلك.
وقد وضع أهل العلم لرواية الحديث بالمعنى ضوابط تكفل صونه من تغيير المعنى.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: “قال جمهور الفقهاء: يجوز للعالم بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ رواية الحديث على المعنى، وليس بين أهل العلم خلاف في أن ذلك لا يجوز للجاهل بمعنى الكلام وموقع الخطاب، والمحتمل منه وغير المحتمل، فأما الدليل على أنه ليس للجاهل بمواقع الخطاب، وبالمتفق معناه والمختلف من الألفاظ فهو أنه لا يؤمن عليه إبدال اللفظ بخلافه بل هو الغالب من أمره.
وأما الدليل على جواز ذلك للعالم بمعناه. فهو اتفاق الأمة على أن للعالم بمعنى خبر النبي صلى الله عليه وسلم وللسامع بقوله أن ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية، وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين.. وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه وامتثال موجبه، دون إيراد نفس لفظه وصورته.
وعلى هذا الوجه لزم العجم وغيرهم من سائر الأمم دعوة الرسول إلى دينه والعلم بأحكامه.
ويدل على ذلك أنه إنما ينكر الكذب والتحريف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيير معنى اللفظ، فإذا سلم راوي الحديث على المعنى من ذلك كان مخبرا بالمعنى المقصود من اللفظ، وصادقا على الرسول صلى الله عليه وسلم”.
قال المعلمي: “ولو قلت لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك، فذهب وقال له: والدي – أو الوالد – يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعا صادقاً، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه قد عصى أو كذب، وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك، وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيرا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم؛ لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر، فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب.
واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة، ومنها ما أصله قولي، ولكن الصحابي لا يذكر القول، بل يقول: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا، وأشباه هذا وهذا كثير أيضا.
وهذان الضربان ليسا محل نزاع، والكلام فيما يقول الصحابي فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، أو نحو ذلك.
ومن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذ حكوا قوله صلى الله عليه وسلم يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير، أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك.
ومع هذا فقد عرف جماعة من الصحابة كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما أتاهم.
فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك؛ لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم”.
أما قول برويز إن الله لم يتكفل بحفظ السنة فنقول: إن الله تكفل بحفظ الذكر، وهو يشمل القرآن والسنة لأنها بيان له لا تنفك عنه، ومظاهر حفظ الله للسنة النبوية بادية أمامنا، إذ لم تخل العصور الإسلامية من حفاظ الحديث الذين شمّروا عن ساعد الجدّ لحفظه في صدورهم وتتبعه من أفواه الرجال وقطع المفاوز والفيافي للقاء من سبقهم من الحفاظ، واشتد حرص كثير منهم في كتابة ما سمعوه فاجتمع لهم الضبطان: ضبط الصدر وضبط الكتاب، ثم كانوا إذا أرادوا أن يرووا عن رجل سألوا عنه وفحصوا حاله حتى كان يقال لبعضهم: أتريدون أن تزوجّوه، كل ذلك احتياطاً للسنة، ونشأ عن ذلك علمٌ قائم بنفسه هو علم الرجال، بحيث لا يخفى على المعنيّ بأمر الحديث حال الرواة جرحاً وتعديلاً، وهو علمٌ لا يوجد عند الأمم غير الإسلامية، فمن عرف اجتهاد المحدثين ونصحهم للأمة علم مدى عناية الله سبحانه بحفظ السنة النبوية.
أما إلغاء حجية السنة بسبب وجود أحاديث موضوعة فسيأتي في الجواب عن الشبهة الثامنة الكلام عن وجود الغش في النفائس عموماً، وأن هذا لم يصدَّ الناس عن أخذ الصحيح وترك المغشوش، هذا في الأمور الدنيوية فكيف يتركهم الله عُمياً فاقدي البصائر فيما يتعلق بدينهم؟ هذا بعيد عن حكمة الله.
ثم إن العلماء وضعوا لمعرفة الحديث الموضوع ضوابط تعين على إدراكه ليُعرف فيحذرَ، منها:
1- اشتمال الحديث على مجازفات لا يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث “من صلى الضحى كذا وكذا ركعة أعطي ثواب سبعين نبياً”، قال ابن قيم الجوزية: ” وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صلى عمر نوح عليه السلام لم يعط ثواب نبي واحد “.
2- تكذيب الحس له.
3- سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه كحديث “لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً، ما أكله جائع إلا أشبعه”.
4- مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة المتواترة مناقضة بينة، فكل حديث يشتمل على فساد أو ظلم أو عبث أو مدح باطل أو ذم حق، أو نحو ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء.
5- أن يُدّعى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه كما يزعم الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب بمحضر من الصحابة كلهم، وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع ثم قال: “هذا وصيّي وأخي والخليفة من بعدي”.
6- أن يكون الحديث باطلاً في نفسه كحديث “المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش”.
7- أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء، ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحي يوحى كحديث “النظر إلى الوجه الجميل عبادة “.
8- ومنها أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله: “إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت”.
9- أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق.
10- أن يكون الحديث مما تقوم به الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج بن عنق الطويل، ففي حديثه أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلثاً، مع أنه صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طول آدم ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن”.
11- مخالفة الحديث صريح القرآن كحديث مقدار الدنيا وأنها سبعة آلاف سنة، قال ابن قيم الجوزية: “وهذا من أبين الكذب، لأنه لو كان صحيحاً لكان كل أحد عالماً أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وإحدى وخمسون سنة. قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} (الأعراف:187).
12- أن تكون ألفاظ الحديث أو معانيه ركيكة يمجها السمع ويدفعها الطبع ويسمج معناها للفطن كحديث “إن لله ملكاً من حجارة يقال له: عمارة ينزل على حمار من حجارة كل يوم فيسعر الأسعار ثم يعرج”.
13- ما يقترن بالحديث من القرائن التي يُعلم بها أنه باطل مثل حديث وضع الجزية عن أهل خيبر، قال ابن قيم الجوزية، “وهذا كذب من عدة وجوه: أحدها أن فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعد قد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق. ثانيها: أن فيه ((وكتب معاوية بن أبي سفيان)) هكذا، ومعاوية إنما أسلم زمن الفتح، وكان من الطلقاء “، إلى آخر الوجوه التي أوصلها إلى عشرة.
ولم يكتفوا ببيان تلك الضوابط، بل أفردوا الموضوعات بكتب نُشر أكثرها، من أعظمها ” الموضوعات ” لابن الجوزي واشتمل على نحو خمسين كتاباً على ترتيب الكتب المصنفة في الفقه.
كما أن كتب العلل تذكر كثيراً من الحديث الموضوع، فهي السباقة لتنبيه الناس إلى الأحاديث الموضوعة، ولم يقتصروا على ذلك بل ألّفوا كتباً لبيان الضعفاء والمتروكين والوضاعين وأحاديثهم كالضعفاء للعقيلي والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي، وكتاباهما جامعان لما سبقهما من الكتب المؤلفة في الضعفاء كالضعفاء لعلي بن المديني والضعفاء للبخاري والشجرة في أحوال الرجال للجوزجاني والضعفاء والمتروكين للنسائي.
فكيف يحاول رجال بعد ذلك نزع الثقة بالسنة لوجود الأحاديث الموضوعة التي ميّزها أهل العلم وأُمن اختلاطها بالصحيح؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “الواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام”.
يتبع مع الشبهة السادسة.