ملخص كتاب السلفية وأعلامها في موريتانيا.. أصل السلفية، وأعلامها في بلاد شنقيط، موريتانيا..
لماذا يكرهون المرابطين؟
لم يجدوا ما يطلقون عليه اسم “المرابطون” إلا فريق كرة قدم تافه لا يعرف إلا الهزيمة، بعكسهم! أو قناة تلفزية، سماها صاحبها بقناة المرابطون، فهو إما جاهل أو ساخر، لأنه لا علاقة لها من قريب أو بعيد بهم!
اللعنة على الأحقاد، اللعنة على البدع، بدع التصوف أولا ثم ما تلاها، لقد جعلت أكثر من في هذا البلد من نخبته الفاشلة المتبعة للغرب ديمقراطيا ومذهبيا، تخجل من المرابطين، ولا تحبهم، ولا تتحدث عنهم إلا قليلا، وفي الأياد والمناسبات مجاملة لا أكثر ولا أقل، رغم مفاخرهم الكثيرة التي لو كانت عند غير هؤلاء الأبناء العاقين الديمقراطيين أكلة المال الحرام، لطاروا بها!!
وافقوا المستعمر على إطلاق اسم طائفة رومانية وثنية بائدة تسمى “موريتانيا” أو أطلالها المشؤومة، على البلد، وتركوا “المرابطين”، تركوا “شنقيط” التي عُرف بها قبل مقدم أسيادهم الفرنسيين!
وجاء صاحبهم في 2008، ليقفز على النشيد الوطني المبارك الذي كان يتضمن كلمات توحيد مرابطية “كن للإلاه ناصرا.. وأنكر المناكرا”، وأولها منكر التصوف والديمقراطية، فحذفه، واستبدله بنشيد من الأوبرا المصرية حقنوه في الأطفال حقنا ليربوهم عليه، على الوطنية التافهة بدل الدين ونصرة الإله وإنكار المناكر!
بل لم يعجبه العلم الإسلامي، نجمة وهلال بريئين في مكان صافي أخضر، فأحاطهما بخطين أحمرين قانيين، حفظ الله البلد مما قد يرمزان له وهو الدماء!
ثم جاء صاحبه الآخر، وهو الحالي، هادئ ومسالم، لا شان لنا ولا لأي عامي بذنوبه، فهي تعنيه وحده ما لم تصل لفرض الكفر على المسلمين (طريق أمريكا المعبد الجديد الذي تشيد الآن بمليارات الرشاوي من الدولار والأورو). المخوف على البلد من حكمه هو تحوله إلى حكم صوفي! لم يبق إلا هذه، ولا أعتقد أن بعدها خير لشؤم البدع! وهم اليوم متغولون في السياسة، يحاولون التحكم في متفذ الدولة.
وأكبر دليل على بعدهم عن الزهد والدين والصلاح الذي يدعون كذبا:
ثراؤهم الفاحش! حتى أن البعض يتهم بعضهم الآن بالمتاجرة في المكدرات، فما المنتظر من ساحر عابد للشيطان غير ما هو أسوأ، ولا أسوا من الكفر، ولا خلاف في كفر من ثبت عليه السحر، وقد فعله؟!
إلا أن يكونوا محتالين، فمن المتصوفة من يحتال فقط، ولا قوة له على الأبالسة. فأين الثراء من الزهد والسياحة في الأرض بمرقعة؟ بل أين المكدرات من الدين؟
المتصوفة اليوم أباطرة إقطاعيون مستعبدون للناس مثلما كان يفعل متصوفة الكنيسة. وإذا كان متصوفة الكنيسة يبيعون الناس صكوك الغفران، فكذلك هؤلاء، كم من واحد من شيوخهم الملاعين، زعم أن من رآه أو سلم عليه أو أكل معه، أو رشاه، أو أخذ ورده، يدخل الجنة بغير حساب!
أما زعمهم أنهم من آل البيت، فليست على وجوههم أي علامة على ذلك، ولا في تصرفاتهم، وكيف يكون أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، سحرة محتالون، هذا إن وقع فهو نادر، وهؤلاء لا علاقة لهم بالأمر أصلا.
اكتب لك هذا الكلام الذي لو كان أحد قادة المرابطين حيا اليوم لقاله لك، ولو كانت في يده قوة لضرب ظهورهم بالسياط مثلما كان المرابطون يفعلون بهم في زمنهم (ولهذا يكرهونهم)!
فلا تستغرب، هذه هي حقيقة المرابطون المخفية التي لا يريدونك أن تعرفها، وضحها صاحب هذا الكتاب الطفرة في غفلة من الزمن، فجزاه الله خيرا على ذلك، ولا نزكي على الله أحدا.
لا تضرب رأسك في الحائط حنقا من هذا الكلام، بل اصبر على الرأي الآخر، فقد يكون فيه الحق يا أخي! لا تحكم بغير دليل، فتعبد هواك بذلك وتكون ظالما لمن لم يفعل أكثر من تبيان الحق لك بالكلمة واضحة، حفظنا الله والمسلمين من كل شر.
أصل هذا الكتاب هو رسالة جامعية بعنوان “السلفية وأعلامها في موريتانيا” من تأليف الشيخ الطيب بن عمر بن الحسين، ذكر أنه بذل مجهودا رائعا في جمع مادتها، معرفا بالدعوة السلفية في موريتانيا من عهد دولة المرابطين المباركة إلى وقت تأليفها (التسعينيات)، تلك الدعوة التي تمثل الإسلام الأصيل المرتكز على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيهم بإحسان (ما كان عليه السلف الصالح). ف”معنى سلفي” هو اتباع السلف بالإلتزام بما عُرف عنهم، والأخذ منهم أكثر من الأخذ من النفس أو غيرهم كما هو الحال عند أهل البدع.
و”معني السلف” هم الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، فما عرفه الصحابة هو قطعا ما علمهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بالعمل به من غيره من الخرافات والأهواء، لهذا التزم السلفيون به وتناقلوه بادلته من القرآن والسنة لأنه موجود ومعروف في الدين، في الوقت الذي تجد فيه ما عند خصومهم من أهل البدع بلا دليل لإنعدام وجوده في الدين! فكل بدعهم مبنية على الهوى وقال الشيخ أو المفكر، وما فيهما نبي ولا حتى تابع تابع حفيد تابعي!
والبعض يتهم السلفية بأنها فرقة ضالة، فكيف ومعتمدها القرآن والسنة، بهما تستدل وتضرب أعناق بدع أهل البدع الذين يتهمونها بذلك، حتى جعلوا بعض الجهلة يتساءل عن الفرق بين السلفي والسني! وجوابه أنه لا يوجد فرق بينهما، فالسني هو المتمسك بالسنة، وتلك أبرز ميزة في السلفي.
قال المؤلف في بداية رسالته ذاكرا ما أرتكز عليه في إطلاقه لوصف السلفية على طائفة معينة، وهي الطائفة المكذوب عليها اليوم باتهامها بالتطرف وعدم احتمال الغير، وليست بداعش ولا الإخوان ولا الصوفية ولا الشيعة ولا الأشاعرة ولا الديمقراطيين، بل طائفة تتمسك بما كان عليه السلف الصالح (النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيهم)، لا تحيد عنه إلى غيره من تشريعات الأهواء والشياطين المفضوحة التي ينادي بها أهل البدع، قال:
“ركزت على نقاط اعتبرتها دليلا على سلفية من وُجدت فيه دعوى الإقتداء بالسلف الصالح في عقيدتهم ومنهجهم، وإقامة الدليل على ذلك بالأمور التالية:
1– التمسك بالكتاب والسنة في أصول الدين وفروعه وفي السلوك (وهو ما لا يفعل أهل البدع).
2– وجود أمثلة تدل على صدق هذه الدعوى، وفي الغالب تكون من مبحث الصفات الذي هو من أصعب المباحث العقدية لوقوف الأشاعرة – وهم الغالبية – بالمرصاد لمن خالف مذهبهم.
3– نبذ البدع خاصة بدعتي الكلام والتصوف المنتشرتين في المنطقة.
4– إظهار البراءة من جميع الفرق المنحرفة.
وقد تصرفت في الرسالة بما يعين على اختصارها محاولا عدم الإخلال، والجمع بين النصوص الأصلية وما تضمنته الحاشية دون تطويل.
واختصرت عناوين الأبواب وأضفت إليها ما رأيته مناسبا، فجاء هذا الملف في ما يقارب 80 صفحة نقلتها من الكتاب الأصلي المصور الذي تبلغ صفحاته 590.
غفر الله لنا ولصاحبها، ولجميع المسلمين.
تلخيص: سيد محمد خليل
1- التعريف بموريتانيا وقبائلها
التسمية والقبائل والدين
ذكر الكاتب أن هذه التسمية لاتينية معناها “أرض الرجال السمر”، صدرت في قرار وزاري فرنسي 1899م بتوصية من الضابط الفرنسي كابولاني، إحياء لمملكة رومانية قديمة حكمت جزء من منطقة المغرب العربي قديما.
وقد زار ابن بطوطة مدينة ولاتة في عام 725هـ، وذكر أن القوافل كانت تأتي من الأقطار المجاورة لشراء الملح، وكانوا يتصارفون به، وهو أرخص في ولاته من غيرها فيُجلب منها إلى غيرها ويباع بالضعف.
وقد كانت أكثرية قبائل صنهاجة تدين بالمجوسية، وبعضها باليهودية، وآخر بالنصرانية.
وقد عرفوا بالملثمين، قيل لأن السبب اتقاء الحر والبرد والغبار، وقيل الحياء… إلخ.
وتنتمي صنهاجة إلى قبيلة البرانس الكبرى التي كان كسيلة بن لزم يتزعمها، وتتكون من عدة قبائل تنتشر في المغرب كله، فهنالك صنهاجة الشمال وصنهاجة الجنوب (سكان شنقيط). وكانت النصرانية واليهودية منتشرتين في الشمال لذا يمكن أن يكون الجنوبيين قد تأثروا بهم لما بينهم من روابط قبلية وحركات تجارية.
وصول الإسلام ونشره
وقد وصل الإسلام إلى بلاد المغرب في القرن الأول للهجرة عن طريق الفتوحات، وتقول بعض الروايات أن عقبة بن نافع وصل إلى مدينة “وادان” في أول الفتوحات، ولكن ذلك مستبعد لوجود مناطق كثيرة بينه وبينها لم تكن قد فتحت أنذاك.
لكن من المقبول – وإن لم يكن حاسما – أن يكون عقبة فتح في ولايته الثانية هذه الأطراف، ووصل إلى موريتانيا، واستشهد عائدا من هذه الغزوة بعد أن أرسل معظم جيشه إلى القيروان، وقصد مدينة تهودة لإقتحامها بما معه من جيش قليل، ولكن اعترضه كسيلة والبيزنطيون في جيش كبير، فاستشهد وسيفه في يده في موقعة تهودة.
وترتب على استشهاده انسحاب جيش المسلمين من القيروان إلى طرابلس، وارتداد كثير من قبائل البربر، واستيلاء كسيلة على القيروان.
وقد كان عقبة أول مجاهد حمل الإسلام إلى هذه البلاد، وأول من حمل الملثمين على الإسلام، وفتح الطريق أمام التجار المسلمين الذين تدفقوا على هذه البلاد ونشروا الإسلام حتى أوصلوه إلى أواسط إفريقيا.
وقد شق قبائل السوس عصا الطاعة في عهد هشام بن عبد الملك ما بين 114-123هـ، فسير إليهم حبيب بن عبيدة بن عقبة (بلغ مدينة “أوداغست”، وهي عاصمة مندثرة قديمة للصنهاجيين تقع على مسافة 45 كيلا شمال شرقي مدينة “تامشكط”)، فتجاوزت الحملة السوس الأقصى وبلغت بلاد قبائل لمتونة وجدالة ومسوفة. وقال بعض الباحثون أنه بداية دخول الإسلام في موريتانيا، ولكن الرأي الذي ذكرنا أرجح. ولكنها تعتبر بداية لتوطيد دعائم الإسلام وإرسائه. وما هي إلا واحدة من حملات كثيرة قام بها المسلمون لإخضاع هذه البلاد.
وقد ساهمت القبائل البربرية في نشر الإسلام حيث وحد موسى بن نصير كلمتهم فشاركوا معه في فتح الأندلس.
وبعد استقرار الأدارسة في المغرب الأقصى 172-375هـ عملوا على توحيد المغرب وإقرار الإسلام فيه.
والأدارسة نسبة إلى إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن على بن أبي طالب، لحق بالمغرب عام 170هـ، ونزل على قبيلة أوربة من بربر البرانس، وبايعوه وتزوج منهم. توفي مسموما بيد أحد رجال الرشيد في عام 177هـ.
وانضوى الملثمون تحت لواء الأدارسة، فولوا عليهم الولاة، وخضعوا للحكومة المركزية في “فاس”. وشهد العقد الأول من القرن الثالث الهجري ظهور زعامات محلية كونت تحالفا قويا شمل أهم قبائل صنهاجة الجنوب وهي: لمتونة ومسوفة وجدالة. وكان ذلك بفضل الله تعالى وبالجهود التي بذلها الزعيم اللمتوني تلاكاكين بن تيكلان، وقد أسهم هذا الحلف عن إسهام فعال في الجهاد لنشر الإسلام في القبائل الزنجية في الجنوب، فقد توجهوا في الممالك الزنجية المجاورة، وكانت مملكة غانا أقواها، وصفها ابن خلدون في “العِبر” بقوله: “كانوا أعظم أمة وأضخم ملك”. فانهارت أمام صليل سيوف الملثمين، وتوغلوا في ديارهم وفرضوا عليهم الجزية.
بعدها تفرق هذا الحلف بعد قتل صنهاجة لملكها تميم بن يلتان في عام 306هـ، فتفرقوا شيعا وأحزابا مائة وعشرين عاما.
ثم قام فيهم زعيم يسمى أبو عبد الله بن تيفاوت، ويعرف بتاشرت اللمتوني، فاجتمعوا عليه وأحبوه، وكان من أهل الدين والصلاح والعقل الراجح، وهو أول من أدى فريضة الحج من ملوك لمتونة، فعمل على توحيد قبائل صنهاجة، فأعاد لها دورها في الجهاد ضد الوثنية في الجنوب.
غير أنه استشهد بعد ثلاثة أعوام من تسلمه للحكم، وهو يطارد الوثنيين في إحدى غزواته، فتولى بعده صهره يحي بن إبراهيم الجدالي المتوفي عام 440هـ، والذي يعتبر أحد المؤسسين للدعوة السلفية التي تمخضت عن قيام دولة المرابطين.
مكونات المجتمع الموريتاني
يمكن تقسيم المجتمع الموريتاني إلى قسمين:
البيضان وهم من يتكلم الحسانية، ويمثلون 80 بالمائة، وينقسمون إلى فرعيين أساسيين هما الفرع الصنهاجي والفرع العربي، وقد اختلطت الدماء بينهما إلى حد يستحيل معه تمييز أحدهما عن الآخر، وأما الزنوج فيمثلون أقلية بنسبة 20 بالمائة، وينقسمون إلى فروع لكل واحد منهم لغة خاصة به.
وينتظم الشعب بصفة عامة في قبائل، فيغلب عليه الطابع القبلي الذي فرضته طبيعة البلاد التي تقوم على التنقل والترحال، ويقوم البناء الإجتماعي القبلي على أسس أهمها: وحدة الدم، ووحدة الجماعة.
وينقسم البيضان إلى ثلاثة فئات:
1- الزوايا: وهم في اصطلاحهم القبائل المهتمة بالعلم الشرعي وإقامة شعائر الدين. ودورهم بالغ الأهمية فهم ينشرون العلوم الإسلامية، ويقيمون الشعائر الدينية ويدعون إلى الله، ويقومون بشؤون القضاء والفتيا، ولهم مهارة في الأعمال التجارية، وكذلك السياسة.
2- بنو حسان (العرب): ويتولون القيادة العسكرية، ويمسكون زمام السلطة في الأقاليم. وعاصمتهم تعتبر معسكرا للإمارة يسمى “الجلة”، وينتقل هذا المعسكر من مكان إلى مكان طلبا للماء والكلأ. وفي أوقات الفوضى وضعف الإمارة تتولى كل قبيلة شؤونها في استقلال ذاتي أو تام.
وتمتاز هذه القبائل بالمهارة في الحرب، وشن الغارات فيما بينهم وعلى القبائل الأخرى، ويحاولون دائما فرض السيطرة بالقوة العسكرية ولذا سموا بالمحاربين.
وبعد استقلال الدولة وتشكلها تحولوا إلى الأعمال السلمية كالتجارة وتربية الماشية.
والواقع أنهم والزوايا الذين مارسوا القيادة الدينية، قادوا المجتمع قيادة ثنائية.
3- الأتباع: ويأتون في أدنى السلم الإجتماعي، ويسمون “اللحمة”، ويتكونون من قبائل غارمة لم تُحمَ بسيف ولا قلم، فبسط عليها الطرفان المتقدمان نفوذهما، وسخروها لإغراضهم الخاصة من رعي ماشية وخدمة وغير ذلك.
وتوجد مجموعات أخرى مهمشة تتوارث المهنة، ولا تتكون من قبائل مستقلة، كالصناع التقليديون: وهم من يقوم بصنع الحلي والحدادة.
والمطربون: وهم طبقة المغنيين والموسيقيين.
والصيادون: وهم الذين لا يملكون الماشية، سواء كان الصيد بريا أو بحريا، ويعتبر الصيد أهم مصادر رزقهم.
والحراطين: وهم الموالي المعتوقين من الرق، ويشكلون رصيدا من الأيدي العاملة.
أما طبقة العبيد فقد اختفت تماما، وذاب أفرادها في المجموعات الأخرى، ولم يبق من آثارها إلا الخدم في البادية، ترتبط بأسيادها بصفة إرادية مقابل المسكن والمأكل والملبس (أقول: لاحظ أن كاتب هذه الرسالة كتبها أوائل التسعينات وهذا كلامه عن حقيقة وجود العبودية التي يتغنى بها بعض المشبوهين اليوم سعيا إلى التفرقة بين مكونات المجتمع، وخدمة للغرب الذي لا يريد خيرا لأي بلد من بلدان المسلمين، لا هو ولا ديمقراطيته الخسيسة التي لا حل للمسلمين إلا في نبذها وراء ظهورهم، ورفض ما فيها من أسباب مميعة للدين).
وقد تم إلغاء الرق في موريتانيا عام 1980م.
ولا يمكن لفئة الأتباع بمختلف مجموعاتها الزواج من قبائل الزوايا أو حسان طبقا للعادات والتقاليد الموروثة.
ولكن هذه الصورة للمجتمع بدأت تضمحل خاصة قبل عقدين من الزمن، حيث أصيبت البلاد بجفاف دفع بأهل البوادي إلى النزوح إلى المدن والإستقرار فيها، فتغير نمط الحياة واختفى كثير من التقاليد القديمة.
أما الزنوج فكثير منهم يتكلم العربية رغم تعاملهم بالفرنسية، ويستقرون في جنوب البلاد وأقصى مشرقها، ويعتمدون على الزراعة اعتمادا كبيرا، وينقسمون إلى عشائر لا تختلف كثيرا في تقسيمها الوظيفي عن البيضان، ففيهم المحاربين والمطربين، وقبائل لا يمكن الزواج فيها إلا داخل الطبقة الواحدة.
2- المحاضر
تعريف المحاضر
المحاضر جمع محضرة، وهي مؤسسة تعليمية إسلامية، والإسم مشتق إما من الحضور أو الإحتظار، إذ يقال للمقيم على الماء حاضر. أما الإحتظار فإن طلاب العلم يحتظرون فيحيطون أماكن دراستهم بأسيجة من جذوع الشجر وأغصانه.
وأرى أن الأصل مشتق من الحضور لإلقاء المحاضرات.
وأما من حيث الإصطلاح فالمحضرة جامعة بدوية شعبية متنقلة، تلقينية فردية التعليم طوعية الممارسة.
وعلى كل حال فإن كلمة محضرة ترادف كلمة مدرسة عند مشايخ المحاضر. قال الشيخ أمم بن عبد الحميد في وصفه للمحاضر:
طوبى لمن أقام بالمدارس … يحوي من العلم كل دارس
يظل يرعى في رياض العلم … من بين فتيان كرام شيم
نشأة المحاضر
ويمكن تحديد الزمان والمكان لنشأة أهم لمحاضر كالتالي:
1- رباط عبد الله بن ياسين: ويعتبر النواة الأولى لهذه المؤسسات التعليمية، وإن كانت لم تعرف بتسميتها “المحاضر” إلا في القرن السابع الهجري. نشأ هذا الرباط في سنة 431هـ في جزر التيدرة على بعد 30 كيلا إلى الشمال من نواكشوط.
2- محضرة أبي بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي: توفي 489هـ، تأسست في أزوكي قرب مدينة أطار.
3- محضرة تشيت: أسسها الشريف عبد المؤمن بن صالح الإدريسي في تشيت عام 536هـ، وتبعد تشيت مسافة 250 كيلا إلى الشرق من تجكجكة عاصمة ولاية تكانت.
4- محضرة ودان: أسسها إدولحاج عام 536هـ، وعلى رأسهم الحاج عثمان الأنصاري، جد بطن أولاد الحاج، والحاج يعقوب القرشي جد “إد ياقب”، والحاج علي بن محمد الصنهاجي جد “لتيدات” و”إدويج”، وكان ذلك بعد رحلة إلى الحجاز أدو فيها مناسك الحج.
5- محضرة شنقيط: أسستها قبيلتا “إدو علي” و”الأقلال” بعد بناء مدينة شنقيط 660هـ، وتفرع عنها عدد من المحاضر، الشيء الذي جعلها العاصمة الثقافية للبلاد.
6- محضرة ولاته: أسسها يحيى الكامل جد قبيلة “المحاجيب” في صدر القرن الثامن، وبها ازدهرت الحركة العلمية. وأصبحت المدينة مركزا علميا، ونشأ بها عدد من المحاضر في فترات متفاوتة أبرزها محضرة أهل سيدي عثمان الداودي ومن رجالها المشهورين محمد يحي الولاتي، ومحمد يحي بن سليمة.
ثم بعد ذلك بدأت المحاضر تنتشر في البوادي في القرن العاشر الهجري.
العلماء الوافدين ومدارسهم:
وقد هاجر إلى هذه البلاد علماء جاءوا على فترات متفاوتة وأسسوا مدارس نشرت المعارف العلمية. فمن ذلك مجيء الشريف عبد المؤمن بن صالح الإدريسي مؤسس مدرسة تشيت ومعه الحاج عثمان الأنصاري أحد مؤسسي مدرسة ودان، وهما تلميذا القاضي عياض اليحصبي المتوفي سنة 544هـ، وكانا يسكنان في أغمات (تقع بالقرب من مراكش التي كانت عاصمة للمرابطين، وتشتهر أغمات بوفرة مياهها وبساتينها، وبها قبر المعتمد بن عباد ملك قرطبة).
فانتشر عنهما العلم قرونا في تشيت وودان، وكان قبل ذلك قاصرا على العلوم دون آلاتها.
وبعد عهدهما، نزح خمسة رجال في القرن الثامن من تاردانت (تقع على حدود المغرب الجنوبية) إلى المنطقة الجنوبية “القبلة”، وتحالفوا على التمسك بالكتاب والسنة والصبر وصيانة الكرامة، أطلق عليهم وعلى ذريتهم تشمشة (ومعناها بالصنهاجية الخمسة، وقد انقسمت ذريتهم إلى ثلاث قبائل أثرت الحركة العلمية والدينية في المنطقة الجنوبية الغربية من البلاد، خرجت علماء أجلاء).
وفي القرن العاشر الهجري جاء إلى شنقيط علماء من تلمسان وفاس، وجلبوا كتبا أندلسية لم تكن موجودة في البلاد، وكانوا أول من درس مختصر خليل بن إسحاق المالكي في موريتانيا، وانتشر علمهم في مدينة شنقيط.
وقد كان الحجاج يلتقون العلماء ويأخذون عنهم في البلاد التي يمرون بها، وخاصة مصر، وكثيرا ما يمكثون في المغرب لطلب العلم وهم عائدون من الحج.
ويلاحظ أن التعليم في هذه المحاضر قد انطبع أساسا ولفترة طويلة بطابع مغربي أندلسي، وخاصة في العقيدة.
العلم يزدهر رغم الحروب:
لقد كانت في البلاد قوة إسلامية منظمة متآزرة هدفها إعلاء كلمة الله عز وجل، هي دولة المرابطون، وبعد سقوطها تفككت القبائل وأصبحت تتقاتل فيما بينها لإنعدام وجود سلطة شرعية منظمة تردع الناس وتحقن الدماء.
ومع ذلك فقد كان العلم ينمو ويزدهر في أثناء هذه الحروب رغم الجراح أحيانا. ومن الأمثلة على ذلك:
كانت الحرب في آبير (واحة خصبة قرب شنقيط، كان بها مدينة آهلة بالسكان. وبعد بناء شنقيط اندثرت آبير)، وكان ارتكاب يحيى العلوي جريمة القتل في هذه المدينة سببا مباشرا في عمارة مدينة شنقيط التي تصدرت الساحة العلمية على مدى ثلاثة قرون.
وكان لخراب “تنبكتو” والعواصف التي هبت عليها في عهد السونغاي، أثرا مباشرا في ازدهار مدينة ولاتة العلمي.
وقامت مدينة ودان على أنقاض مدن تحارب أهلها حتى تركوها خرابا.
ودبت النزاعات والحروب أكثر من مرة في صفوف مدينة شنقيط، فنزحت منهم طوائف إلى جهات متفرقة، وأسسوا حواضر علمية جديدة.
وبعد نهاية حرب “شرببة” التي قادها الإمام ناصر الدين، نبع جيل من أيتام هذه الحرب، تفرغوا للعلم في محضرة أحمد بن مود مالك، وتخرجوا كلهم ما بين قارئ مجود، وخطاط مسود، وعالم مفيد، وشاعر مجيد.
نظام المحاضر
ويقوم نظام المحضرة على عالم معين، يؤسسها أو تتأسس عليه، فتعرف به وتنسب إليه، تعيش ما عاش وتموت إذا مات، ولا تكاد تقوم بدونه.
والمحضرة لا ترد طالبا لعدم وجود مقاعد شاغرة.. وربما استعان الشيخ بطلبته المتفوقين ليساعدوه في التدريس إذا كثر الطلاب. والطالب رقيب على نفسه في تحصيله، يختار دراسة ما شاء، ويغيب متى شاء. ولا يجمع بين فنين فأكثر في آن واحد.
وليس للمحظرة مكان محدد، فتارة يكون مقرها حين الإقامة تحت الشجر أو في أعرشة من خشب أو تحت الخيام أو في الهواء الطلق.
أما أثناء الإرتحال فقد يكون مقرها ظهور الإبل، ويشيد العلامة المختار بن بونة المتوفى عام 1220هـ بهذه الميزة حيث يقول:
نحن ركب من الأشراف منتظم … أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
اتخذنا ظهور العيس مدرسة … بها نبين دين الله تبيانا
والمحاظر مدارس خيرية تقوم على أساس من التطوع طلبا للثواب من الله عز وجل في الدار الآخرة.
وليس للقاضي ولا المدرس هناك – كما قال أحمد بن الأمني – أوقاف توقف عليهما، ولا يأخذ أحدهما من الطلبة، بل قد يعطيهم ما بيده.
ومع ما في الحياة المحظرية من كد وشطف عيش، فإنها لم تصل إلى ما كانت عليه الحياة العلمية الإسلامية في عصورها الأولى من صور الكد والعناء، والصبر على الألواء والنصب في طلب العلم ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
ومن الأمثلة على ذلك ما حصل لربيعة الرأي المتوفى عام 136هـ رحمه الله أثناء طلبه العلم، حيث اضطر إلى بيع خشب سقف بيته، وأكل ما يلقى على مزابل المدينة وعصارة التمر.
وقال الإمام مالك بن أنس المتوفى عام 179هـ رحمه الله: “إن هذا الأمر لن يُنال حتى يذاق فيه طعم الفقر”.
وقال الشافعي المتوفى عام 204هـ رحمه الله: “لا يطلب هذا العلم أحد بالمال وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وخدمة العلم أفلح”.
مراحل الدراسة في المحاضر والمقررات
1- المرحلة الأولى: وهي بمثابة التعليم الإبتدائي، وتبدأ من السنة الخامسة وتنتهي ببلوغ الحلم، وفيها يتعلم الطفل الحروف الأبجدية، ثم يحفظ القرآن، ويعرف رسمه وضبطه وتجويده بقراءة نافع بروايتي ورش وقالون، وأشهر المتون التي تدرس في علم التجويد: نظم الدرر اللوامع لإبن بري، وشرحه المسمى “النجوم الطوالع على الدرر اللوامع”، ومقدمة ابن الجزري.
2- المرحلة الثانية: وهي بمثابة التعليم الثانوي، ويسمونها “تعليم فرض العين”، وذلك لحاجة بالغ سن التكليف إلى معرفة أحكام الإسلام التي أصبحت فرض عين عليه، فيتعلم أولويات العلم. فيدرس متونا مختصرة مثل “المرشد المعين على الضروري من علوم الدين” لإبن عاشر في العقيدة والفقه، ومختصر الأخضري في الفقه، والآجرومية في النحو، وبعض دواوين العرب.
3- المرحلة الثالثة: وهي بمثابة المرحلة الجامعية، وأهم المتون التي تدرس فيها: “مقدمة الرسالة” لأبن أبي زيد القيرواني، ومؤلفات السنوسي، وأهمها عقيدته المسماة بالسنوسية الصغرى، وتعرف بأم البراهين، وعقيدته التي تسمى عقيدة أهل التوحيد، وتعرف بالسنوسية الكبرى (وللتوسع في مؤلفاته في العقيدة الأشعرية راجع كتاب المباحث الجليلة في شرح الوسيلة لعبد القادر بن محمد سالم)، و”إضاءة الدجنة في عقيدة أهل السنة” لأحمد المقري التلمساني، و”وسيلة السعادة” للمختار بن بونة الجكني الشنقيطي، و”الواضح المبين” لعبد القادر بن محمد سالم المجلسي الشنقيطي.
وهذا هو النهج العقدي الذي كان سائدا، أما الآن فقد تغير في بعض الحاضر.
أما المواد الأخرى غير العقيدة فالكتب التي تدرس فيها: تفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن كثير، وتفسير الجلالين في مادة التفسير.
وفي الحديث: موطأ مالك، وصحيح البخاري ومسلم، وكتب السنن الأربعة: ابن ماجة، والترمذي، وأبو داود، والنسائي.
وفي الفقه: رسالة ابن أبي زيد لقيرواني، ومختصر خليل بن إسحاق، وتحفة الحكام لإبن عاصم، والكفاف لمحمد مولود بن أحمد فال الشنقيطي.
وفي أصول الفقه: ورقات إمام الحرمين، وجمع الجوامع لتاج الدين السبكي، ومراقي السعود لسيد عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي.
وفي السيرة والأنساب: قرة الأبصار لعبد العزيز اللمطي، وسيرة ابن هشام، وعمود النسب لأحمد البدوي الشنقيطي.
وفي النحو والصرف: ملحة الإعراب للحريري، وألفية ابن مالك، ولامية الأفعال لإبن مالك أيضا، واحمرار الحسن بن زين على اللامية.
وفي اللغة والأدب: المعلقات السبع، ودواوين الشعراء الستة الجاهليين، ولامية العرب للشنفري، وبانت سعاد لكعب بن زهير، وديوان غيلان ذي الرمة، وديوان المعري، ومثلث قطرب، ومثلث ابن مالك، والشمقمقية لإبن وتان، والمقصور والممدود لإبن مالك، والقاموس المحيط للفيروزأبادي، وهو للمطالعة لا الحفظ.
وفي العروض: كتاب الوافي، والخزرجية، ونظم ابن عبدم، ونظم يحيى بن أحمد الشنقيطي.
وفي البلاغة: ألفية السيوطي، عقود الجمان، ونور الأقاح لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي.
وفي المنطق: مختصر السنوسي، والسلم للأخضري، وقواعد المنطق للمغيلي.
هذه جل المتون المدرسة عندهم، وقد يختلف الترتيب من منطقة إلى أخرى، وقد يختار الطالب ويدع ما شاء حسب ميوله ومستواه.
والتعليم في المحاضر يرتكز بصفة أساسية على حفظ المتون، والطلاب لا يعدون علما إلا ما حصل في الصدور ووعته الذاكرة متنا ومعنى.
والمحاضر لا تمنح شهادات علمية معينة، ولكنها ربما منحت لبعض طلابها المتفوقين إجازات في العلوم التي أتقنوها.
من المحضرة إلى العالم
وقد خرجت المحاضر أفواجا من العلماء على مدى تاريخ طويل، حملوا العلم معهم في الحل والترحال، صدورهم خزائن لكل ما طالعوه أو درسوه. وما نالت شنقيط مكانتها العلمية إلا بسبب شهرة علمائها، واتصالهم بعلماء المشرق.
فمثلا صلتهم بمراكز العلم في المغرب ظلت وثيقة، وظهرت شخصيات علمية موريتانية في المغرب لعل من أبرزها الشيخ محمد المصطفى بن الشيخ محمد فاضل الذي اشتهر بلقبه “ماء العينين”، ولد سنة 1246هـ بولاية الحوض الشرقي، وتلقى العلم في محاضر بلاده، وانتصب تعليم الناس، له اليد الطولى في علوم شتى وخاصة علم التفسير والحديث والفقه، وهو صاحب طريقة صوفية قادرية، اتجه إلى المغرب ونال حظوة كبيرة عند عدد من ملوكه، والتف الناس حوله، وكان من أبرز زعماء حركات الجهاد إبان الإستعمار، وأسس مدارس في المغرب والصحراء، وله مؤلفات كثيرة منها بالخزانة الملكية في المغرب مائة كتاب، وقد طبع له ثمانين كتابا. توفي بتزنيت من أرض السوس سنة 1328هـ.
ومن العلماء الذين رحلوا إلى البلاد المشرقية:
الشيخ محمد محمود بن التلاميد علامة عصره في اللغة والأدب والحديث. توطدت الصلة في مصر بينه وبين الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ محمد رضا الذي وصف محمد محمود بالعلامة المحدث الذي انتهى إليه رئاسة اللغة والحديث في مصر..
وفي المدينة صحب أديب الحجاز وعالمه أنذاك الشيخ عبد الجليل براده، ثم شملته نفرة حصلت بين الشنقيطي وعلماء المدينة لأمور جرت بينهم، وقد عكف في مصر على تحقيق ونشر ذخائر التراث العربي، فصحح كتاب الأغاني وحرر القاموس.
وله مؤلفات منها ما هو مطبوع، ومكتبة كبيرة أوصى أن تكون وقفا على طلبة العلم، توفي بمصر سنة 1905م، قبل وفاة الشيخ محمد عبده بقليل، ومات وهو لا يملك شيئا يذكر، وقام بنفقة تجهيزه ودفنه الشيخ محمد عبده.
وفي العراق ظهر الشيخ محمد الأمين الخير، وهو علامة فاضل، زار عدة دول، وتوطدت أواصر الصداقة بينه وبين أمير الكويت أحمد جابر الصباح أمير الكويت، وجاهد البريطانيين وحرض على جهادهم، واستقر به المقام بقرية الزبير من أعمال البصرة.
وفي الحجاز ظهر الشيخ محمد الخضر بن مايابي العلامة المحدث، قدم الحجاز سنة 1330هـ واستقر في المدينة، وتولى الإفتاء بها، واشتهر بنبذ التيجانية، وألف فيها “مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني”، وله عدة مؤلفات مثل “إيضاح مختصر خليل بالمذاهب الأربعة بأصح دليل” (مخطوط).
وفي الحجاز أيضا ظهر الشيخ محمد حبيب الله بن مايابي شقيق الشيخ محمد الخضر، وكان علامة محدثا، حافظا (كان يحفظ الصحيحين بأسانيدهما ومتونهما)، درس بكلية أصول الدين في الأزهر، له مؤلفات كثيرة، توفي 1363هـ.
ومن هؤلاء العلماء البارزين الشيخ أحمد بن الأمين، ولد سنة 1289هـ، رحل إلى المشرق، وأخذ عن بعض علماء الحجاز ثم قام برحلات كثيرة، واستقر به المقام في مصر، وصنف عدة كتب منها “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط”، توفي بالقاهرة سنة 1331هـ.
الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، تألق نجمه في النصف الثاني من القرن 14 الهجري، خرج من بلاده لأداء فريضة الحج (كأغلب الخارجين من العلماء) ثم أقام بالمملكة السعودية في الجوار بالحرمين، وكان من كبار المؤسسين للنهضة العلمية الحديثة بالسعودية، قام بجهود في تقرير عقيدة السلف وبيانها ونصرتها والدفاع عنها، ونال أسلوبه أكبر قبول. والحقيقة أنه يندر وجود مثله علما وصلاحا، وقد أعدت فيه عدة رسائل في المملكة، منها: “جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف” لعبد العزيز بن صالح، وسيأتي الكلام عن الشيخ في فصل خاص به.
أما التأليف في المحاظر فمن أسبابه الإستقرار والهدوء، وتكاد تنعدم، وجل المشايخ مشغول بالتدريس، وإذا وجد وقتا قد لا يؤلف خوفا من الرياء والمباهاة.
ومع ذلك فقد وُجدت تآليف في جميع العلوم، وكان جلها يتمثل في أنظام وشروح للمتون، وقد بلغت هذه المصنفات الآلاف، وأغلبها مخطوط، وقد ضاع منها الكثير نتيجة لعدم همة بعض أفراد عائلات المؤلفين في الحفاظ على المخطوطات أو نتيجة لما حصل بعد جفاف 1969هـ من نزوح، فقد تترك الصناديق العامرة بالكتب خلف النازحين أو في الكهوف، ولسان حالها يقول: أنقذوني من الضياع، أخرجوني من الظلمات إلى النور.
ومن مساهمة الدولة في هذا الإطار إنشاء المعهد الموريتاني للبحث العلمي، وتكليفه بحصر المخطوطات وحفظها، وقد تمكن إلى الآن من اقتناء 3300 مخطوط وغيرها.
وبعض هذه المخطوطات قد وجدت النور فتم طبعها إما في موريتانيا أو في غيرها، وما زال الباقي ينتظر خروجه إلى النور.
3- الإتجاهات الدينية في المجتمع الموريتاني
المذهب الفقهي السائد هو مذهب الإمام مالك بن أنس، وهو السائد في شمال وغرب إفريقيا منذ وصوله إلى المنطقة.
أما العقيدة فقد مرت بمراحل في موريتانيا كغيرها من الأقطار الإسلامية، فكان مذهب السلف هو السائد في عهد المرابطين، ثم بعد سقوطه سادت العقيدة الأشعرية في المنطقة، وغاب الفكر السلفي ردحا من الزمن حتى قام الإمام ناصر الدين المتوفى عام 1085هـ بدعوته السلفية الإصلاحية، فانقسم الناس إلى 3 طوائف:
1- السلفيون
كانوا قلة لا يتجاوزون أفرادا من العلماء، ولكنهم ظلوا موجودين وفي ازدياد مستمر، وقد أصبحوا اليوم كثر، لهم جهود في بيان ونشر العقيدة الصحيحة والرد على المتكلمين والمتصوفة.
2- الأشاعرة
قدر للأشعرية أن تنتشر وتسود في موريتانيا قرونا عديدة، وفي النصف الثاني من القرن 14 الهجري بدأت تنحصر بالتدرج، ومع ذلك ما زالت كثيرة.
وأشاعرة موريتانيا باقون حتى الآن على مذهب أبي الحسن الأشعري الأوسط، ويتعصبون له تعصبا شديدا، ويرون الخروج عنه ضلالة، ويزعمون أنهم أهل السنة والجماعة، ومع ذلك يدافعون عن علم الكلام، ويدخلونه في معتقداتهم، والكثير منهم يصف السلفية بأنهم مجسمة.
3- الصوفية
ظهرت مبكرا في الأندلس على يد ابن مسرة الجبلي (أقدم شخصية صوفية بالأندلس) في أواخر القرن الثالث الهجري، ومنها انتقلت إلى المغرب، ولم يكتمل نموها لقيام الدولة المرابطية التي تصدت لأهلها.
وبعد المرابطين دخلت عدة طرق صوفية البلاد، ونجحت في جذب الكثيرين في موريتانيا وغرب إفريقيا بوجه عام، وأبرزها القادرية والشاذلية والتيجانية.
القادرية: أسسها أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، ولد بجيلان عام 471هـ، وانتقل إلى بغداد لطلب العلم، واشتغل بالوعظ ثم لازم الخلوة والرياضة والمجاهدة والسياحة والمقام في الخراب والصحراء، قال عنه الذهبي إنه “إمام زاهد عارف قدوة شيخ الإسلام ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثر منه، لكن الكثير منها لا يصح، وبالجملة فهو كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه، وبعض ذلك مكذوب عليه” (بتصرف).
والقادرية هي أبرز الطرق الصوفية وأكثرها أهمية وانتشارا في المنطقة، دخلت المغرب على يد أبي مدين شعيب بن حسن الأندلسي البجائي المتوفى عام 594هـ، واتسعت على يد محمد بن عبد الكريم المقيلي التلمساني التواني المتوفى عام 940هـ الذي تنقل للدعوة إليها، وعنه أخذها عمر بن سيد أحمد البكاي الكنتي المشطوفي المتوفى عام 959هـ.
وتفرعت في موريتانيا إلى شعبيتين هما البكائية والفاضلية..
البكائية: أسسها عمر بن سيد أحمد البكاي في القرن العاشر الهجري، وكان على اتصال مستمر بشيخه المغيلي، وحج معه، والتقيا بالسيوطي أثناء هذه الرحلة.
وقد انتشرت هذه الطريقة في الصحراء وغرب إفريقيا، وبلغت أوجها في عهد الشيخ سيدي المختار الكنتي، وأخذها عنه جماعة من مشاهير زمنه منهم: الشيخ سيدي الكبير، الذي ازداد نماؤها وانتشارها على يده. والشيخ سيدي المختار، وهو من أبرز مشايخ التصوف، ولد في عام 1142هـ، وله ما يربو على 300 كتاب في جميع العلوم المتداولة في زمنه، ت 1226هـ.
أما الفاضلية: فتأسست على يد الشيخ محمد فاضل بن مامين القلقمي المتوفى عام 121هـ، وحملها من بعده أولاده الثلاثة: الشيخ سعد أبيه، والشيخ ماء العينين، والشيخ سيد الخير. وانتشرت الطريقة على أيديهم.
واشتهر الشيخ ماء العينين بطول الباع في العلم، وبالكرم، فنشر العلم تدريسا وتصنيفا، وجاهد المستعمر على مدى 30 عاما.
وعلى أي حال فما زال نفوذ الطريقة القادرية قويا في المنطقة، وأبرز شيوخها المعاصرين الذين راجت على أيديهم في النصف الثاني من القرن 14 الهجري، الشيخ أحمد أبو المعالي بن الحضرمي التاقاطي المتوفى عام 1969هـ، وابنه الشيخ محمد المصطفى الذي عهد له بخلافة الزاوية من بعده.
هذا في وسط البلاد البراكنة، أما في المنطقة الغربية (بتلميت وما جاورها) فكان أبرز دعاة القادرية في هذه الفترة الشيخ أحمد بن فتى القروي الحسني المتوفى عام 1409، صاحب كتاب “المبين في التصحيح والتطهير والتوجيه والدفاع عن عقائد المؤمنين”، حيث أكثر فيه من الدفاع عن الصوفية والأشعرية.
أما الشاذلية: فتعتبر من أقدم الطرق وصولا إلى موريتانيا، ومن أقلها انتشارا، دخلت البلاد في القرن التاسع على يد محمد بن سيدي يحي آل الطالب مختار القلقمي الشنقيطي الذي تلقاها عن أبي العباس أحمد بن أحمد الشهير بزروق المتوفى عام 899 هـ.
وكل أسانيد الطريقة في موريتانيا متصلة بمشاهير هذه الطريقة في المغرب.
وقد انحسرت الطريقة الشاذلية بعد ظهور الشيخ سيدي المختار الكنتي الداعي للطريقة القادرية، حيث تصدر على يديه رجال كبار مما زاد في ازدهار طريقته وتوجه الناس إليها.
ولا تزال توجد طائفة شاذلية في البلاد تسمى “الغظفية” نسبة إلى محمد الأغظف الداودي الجعفري المتوفى عام 1218هـ. وعلى كل حال فقد أصبحت ضعيفة وأتباعها قليلون، ونشاطها محدود جدا.
أما التيجانية: فهي أحدث الطرق السائدة في موريتانيا نشأة ووصولا إلى البلاد، وأوسعها انتشارا في إفريقيا الغربية، وقد تلقاها بعض الموريتانيين مباشرة من مؤسسها أبي العباس أحمد بن محمد المختار التيجاني، ومن أشهر هؤلاء وأكثرهم نشرا لها في المنطقة محمد الحافظ بن محمد المختار بن حبيب العلوي المتوفى 1236 هـ، الذي سافر لأداء مناسك الحج وفي عودته أقام بفاس مع أحمد التجاني، وتتلمذ عليه وصحبه حتى أجازه في طريقته، ثم عاد إلى بلاده عام 1220 هـ، ونشر فيها هذه الطريقة، ونشرها أتباعه في عدد من دول إفريقيا، وإليه ترجع أسانيد الطريقة في إفريقيا السوداء.
ومن مشاهير التيجانية الحافظية، التجاني بن باب بن أحمد باب العلوي المتوفى حوالي 1260 هـ. سافر للحج ثم مر بزاوية أحمد التيجاني بمكناسة الزيتون بالمغرب، ولقي بها محمد العربي بن الصالح الرباطي، فتصادقا، وهو الذي أحيا منظومته “منية المريد” بشرحه لها المسمى بغية المستفيد، بدأها بقوله:
قل ابن باب العلوي نسبه … المغربي المالكي مذهبه
الحمد للجاعل الأولياء … ورثة الكمل الأنبياء
والجاعل النبي خير الأنبياء … وشيخنا خير الأولياء
ومن أشهر أتباع محمد الحافظ الذين حملوا سنده ودافعوا عن طريقته، سيدي أحمد الصغير الشريف الشنقيطي المتوفى عام 1272 هـ، الذي ألف في الدفاع عن هذه الطريقة كتاب “الجيش الربيط”.
وفي مطلع القرن 14 الهجري تشكلت في موريتانيا شعبة جديدة من الطريقة التيجانية، وترسخت أقدامها في مناطق واسعة من موريتانيا، وجمهورية مالي المجاورة، وتعرف هذه الشعبة ب”الحموية” نسبة إلى حماه الله بن محمد سيدينا عمر بن حماه الله بن الشريف أحمد التشيتي المتوفى عام 1363هـ، وقد امتد نفوذ هذه الطائفة إلى عدد من دول إفريقيا السوداء.
ونجحت الطريقة في أن يكون لها دور في السياسة في بعض أقطار إفريقيا حيث نجح الحاج عمر الفوتي المتوفى عام 1282هـ، في جهود قام بها لنشر الإسلام بين القبائل الوثنية الزنجية كما جاهد الفرنسيين وهزمهم، واستطاع أن يقيم دولة واسعة الأطراف أصبحت تهدد الإستعمار الفرنسي.
وعلى أي حال فإن المتصوفة اليوم ينتشرون في موريتانيا، وفي غرب إفريقيا عموما، حيث نجح المشايخ الشناقطة، وللأسف، في نشر الطرق الصوفية في بلادهم وفي دول غرب إفريقيا المجاورة.
وقد كشف الشيخ محمد الخضر بن مايابى حقائق هذه الطريقة في كتابه “مشتهى الخارف التجاني”، فذكر أنهم يعتقدون أن ورد أحمد التيجاني ادخره له النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمه احد من أصحابه لعلمه بعدم وجود من يظهره الله على يديه في زمنهم !
كما ذكر عنهم أيضا أن الذاكر لصلاة الفاتح لابد أن يعتقد أنها من كلام الله تعالى، وأنها تعدل 6000 من القرآن الكريم، مع أن هذه الصلاة المخترعة التي يزعمون أنها أفضل من القرآن الكريم، وأن شيخهم تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ترو كاملة مسندة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا في حديث صحيح ولا في حسن ولا ضعيف، ولا في قدسي، ولا في غيره ! فسبحان الله كيف ساغ لهؤلاء أن يفضلوا صلاة مخترعة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم على كلام الله عز وجل “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.
4- السلف والسلفية ومنهجهم في العقيدة
تعريف السلف والسلفية
يطلق لفظ السلف على الماضي، سلف أي مضى. وفي الإصطلاح ينصرف مفهوم السلف إلى أهل القرون الأولى التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون دون من وُصف بالبدعة كالشيعة والخوارج والقدرية… إلخ.
والبدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة كما ذكر الشاطبي في الإعتصام.
وحين دار النزاع في أصول الدين بين الفرق الإسلامية، وحاول الجميع الإنتساب للسلف، أصبح مدلول السلفية اصطلاحا خاصا يطلق على من تمسك بالكتاب والسنة واقتدى بالسلف الصالح في فهم الإسلام وتطبيقه.
وقد حدد القاضي عياض في “ترتيب المدارك” السلف بالصحابة والتابعين. وذهب آخرون إلى أنهم الصحابة والتابعون وتابعيهم. وهذا هو الأرجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس خير؟ قال: “قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم…” (الحديث). ولا بد أن ينضاف إلى هذا التحديد الزمني موافقة الكتاب والسنة في العقيدة والشريعة والسلوك.
أما في كتب الفرق فغالبية أصحابها يعرفون السلفيين ومذهبهم باسم أهل الحديث والسنة، أو باسم “الصفاتية” (أي المثبتون للصفات دون تأويل أو تحريف).
وقد أطلق على السلفية في بعض المراحل بعد اشتهر مذهب الأشعري، اسم “الحنابلة” لأنهم وحدهم الذين بقوا على ما كان عليه أهل السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات.
ومن تتبع المنهج العقدي عند شيوخ المدرسة السلفية يجد ضوابط موضوعية تجمع بين فكر السلفيين في القديم والحديث، منها تمسكهم بفهم الصحابة المنقول بواسطة المحدثين، ومنها تقديم النقل على العقل، ورفض التأويل الكلامي، والإستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والوقوف عند النص”.
وقد ألف الدكتور سعيد رمضان البوطي كتابا بعنوان “السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي”، وقد رد عليه الدكتور صالح بن الفوزان بكتاب سماه “نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية لمحمد سعيد رمضان من الهفوات”، وهو كتاب صغير الحجم يحتوي على ردود قوية.
منهج السلف في العقيدة
قال ابن تيمية رحمه الله: “لقد جرى عمل السلف الصالح في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على إتباع كتاب الله المنزل وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والرجوع إليه في كل ما شجر بينهم، معتصمون بحبل الله، لا يتقدمون بين يدي الله ورسوله، وإذا أراد أحدهم معرفة شيء في الدين والكلام، نظر فيما قاله الله ورسول، فمنه يتعلم، وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل”.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الجدل وصرفهم إلى ما ينفعهم. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : لَقَدْ جَلَسْتُ أَنَا وَأَخِي مَجْلِسًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ ، أَقْبَلْتُ أَنَا وَأَخِي ، وَإِذَا مَشْيَخَةٌ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ عِنْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ ، فَجَلَسْنَا حَجْرَةً ، إِذْ ذَكَرُوا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ ، فَتَمَارَوْا فِيهَا ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا ، قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ، يَرْمِيهِمْ بِالتُّرَابِ ، وَيَقُولُ : ” مَهْلًا يَا قَوْمِ ، بِهَذَا أُهْلِكَتْ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وَضَرْبِهِمْ الْكُتُبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ ، فَاعْمَلُوا بِهِ ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ ، فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ ” (قال الشيخ أحمد شاكر: صحيح. وقد أخرجه البخاري بلفظ آخر: يتدارءون).
وأخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: “ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية “وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ”. صحح الحديث الترمذي.
فالمنهج الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد على الكتاب والسنة، والوقوف عند نصوصهما، والإبتعاد عن الجدل في الدين، وعدم الكلام إلا فيما جاء فيه العلم وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبد البر: “ومن المؤكد أن السلف تناظروا في الفقه وتجادلوا فيه، لأنه علم يحتاج إلى رد الفروع على الأصول، لأن الحوادث في المعاملات متجددة، وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم فيها، وليس الإعتقاد كذلك”.
وقال: “ومن هنا استحبوا المناظرة في المسائل الفقهية، وكرهوا الجدال في مسائل الإعتقاد”.
قال ابن تيمية: “ولم يستوعب الحق إلا من اتبع المهاجرين والأنصار، وآمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجهه”.
وقد أكمل الله تعالى الدين وأتمه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن بين كل ما يحتاج إليه الناس في الدين وبلغه البلاغ المبين، بقول الله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”.
قال ابن عباس في هذه الآية: “أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه ـبدا”.
وجميع المنتسبين للإسلام متفقون على الإستدلال بالقرآن الكريم في العقيدة وغيرها، غير أن المتكلمين يؤولون كثيرا من الآيات القرآنية، وخاصة ما فيه ذكر للصفات إلإلهية.
قال محمد بن أحمد الشنقيطي في “شرح إضاءة الدجنة”: “والنص من القرآن أو الحديث إن أدخل في الوهم معنى غير لائق بالله، فاصرفه عن ظاهره، بإجماع السلف”.
لأن الله تعالى يستحيل أن يصف نفسه أو يصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بما ظاهره غير لائق بجلاله وكماله، قال تعالى “أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ”، كذلك لا أحد اعلم به عز وجل بعده من رسوله.
وذكر ابن تيمية أن “السلف الصالح وأئمة المسلمين لا يرضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا، والله أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه يظهر منه ما هو كفر أو ضلال”.
قال ابن كثير عند قوله تعالى: “ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ”: “إنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح.. وهو إمرارها – أي الصفات – كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، وليس كمثله شيء”.
“وأهل السنة يستدلون بالقرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يردون منه شيئا، ويقبلون في العقائد والأحكام ما صح من السنة النبوية المطهرة بالخبر المتواتر أو خبر الآحاد”. فخبر الواحد إذا صح وتلقته الأمة بالقبول يجب العمل به في العقائد والأحكام، وهو منهج السلف، وقول جمهور العلماء من أصحاب الأئمة الأربعة.
وقد أسرف بعض المتكلمين وعلى رأسهم المعتزلة في تقدير سلطان العقل وتقديمه على النص (النقل)، فاعتمدوا في الإستدلال لإثبات العقائد على القضايا العقلية. وردوا خبر الآحاد في مسائل الإعتقاد، واشترطوا لقبوله موافقته لحجج العقول، وإلا ردوه بتأويل.
وأما أخذ السلفية لأقوال الصحابة وتقديمها على أقوال من جاء بعدهم فلأنهم صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاصروا الوحي فهم خير القرون. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالا ، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ” . فهم أفهم وأعرف بنصوص القرآن والسنة من غيرهم، وهم الجيل المثالي في فهم الإسلام وتطبيقه، بلغوا الذروة في ذلك.
وقد وقف السلف من علم الكلام موقفا معارضا فحرموا الإشتغال به، والخوض فيه، وكرهوا مناظرة أهله، وذموه، وسار على هذا الدرب علماء المدرسة السلفية.
كان مالك يقول: “من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب”.
وأخرج الهروي عن عبد الرحمن بن مهدي أنه دخل على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن، قال: “لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد، لعن الله عمرو بن عبيد فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علما لتكلم به الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام”.
وقال الشافعي: “حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام”.
قال الإمام أحمد بن حنبل: “لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا ترى أحد نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل”.
وقال ابن الجوزي: “وقد تنوعت أحوال المتكلمين، وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك، وببعضهم إلى الإلحاد”.
وقال الشوكاني: “إنهم – أي المتكلمون – لم يقفوا حيث أوقفهم الله، ودخلوا في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، فحاولوا علم شيء استأثر الله بعلمه”.
وقد رجع عن علم الكلام كثيرون، منهم أبو الحسن الأشعري الذي نشأ في حجر أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في عصره، وظل على مذهب المعتزلة 40 عاما حتى تصدر، ثم رجع عن الإعتزال، وأعلن ذلك للناس على منبر جامع البصرة، رجع إلى عقيدة السلف بعد إمعان نظر، ودون عقيدته التي استقر عليها أمره في كتابه “الإبانة”.
وقال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني الذي تعمق في هذا العلم: “لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، كل ذلك طلبا للحق وهربا من التقليد، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي”.
ومن أكثرهم تعمقا في علم الكلام فخر الدين الرازي، قال ابن تيمية إنه “من أعظم الناس طعنا في الأدلة السمعية حتى ابتدع القول بأنها لا تفيد اليقين”.
ومع هذا فقد صرح في مرض موته بما يدل على رجوعه إلى عقيدة السلف حيث قال: “لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا ولا تروي عليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”.
فلا خير في مذهب قد رجع عنه رؤوسه وسجل المتعمقون فيه براءتهم منه في آخر حياتهم.
5- المرابطون
التعريف بالمرابطين
يطلق اسم المرابطين على مجموعة كبيرة من القبائل أبرزها لمتونة وجدالة ومسوفة وجزولة وتندغ ولمطة.
وقد اختلف في أصل هذه القبائل هل هي من العرب أو البربر، واقتصر أحمد البدوي صاحب عمود النسب على القول بأنها من حمير حيث قال:
يوسف العدل بن تاشفينا … الحميري ثم من لمتونا
وقال أحمد بن الأمين في الوسيط: “اختلف المؤرخون في لمتونة، وأكثرهم على أنهم من حمير، دخلوا بلاد المغرب في الجاهلية”.
والجدير بالذكر أن قبائل المرابطين جزء من قبيلة صنهاجة، وهذه القبيلة ذهب جماهير النسابة والمؤرخين العرب إلى أنها تنتمي إلى العرب القحطانيين الحميريين، وممن قال بذلك ابن جرير الطبري، وابن الأثير، وابن خلكان، والفيروز أبادي، وغيرهم.
وذهب ابن حزم وابن خلدون إلى أن صنهاجة من قبائل البربر.
قال الرازي في مختار الصحاح: “الرباط بالكسر ما تشد به الدابة والقربة وغيرهما، والجمع ربط بسكون الباء. والرباط أيضا المرابطة، وهي ملازمة نفر العدو، والرباط أيضا واحد الرباطات المبنية أو رباط الخيل مرابطتها”.
ويظهر من هذا التعريف أن الرباط يشمل المقام في الثغور، كما يشمل الأماكن المبنية لذاتها.
ومن هنا أنشأ عبد الله بن ياسين رباطه للدفاع عن ثغور المسلمين، وللتعليم والعبادة، فوفد عليه كثير من أشراف صنهاجة فكلف على تعليمهم وإعدادهم للجهاد، وسماهم المرابطين لمرابطتهم برباطه.
وذكر ابن أبي زرع في “الأنيس المطرب” أنه في جزيرة في البحر يسهل الخوض في الماء للوصول إليها إذا كان الجزر، وتركب لها الزوارق إذا كان المد.
واختار ابن خلدون أنه في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها ضحضاحا في المصيف، وغمرا في الشتاء فتعود جزرا متقطعة.
قال الباحثون هي إحدى جزر التيدرة شمال رأس تيمرس على بعد 30 كيلا من نواكشوط.
ويرى فريق آخر أن هذا الرباط كان في جزيرة تقع في منحنى النيجر على مقربة من تينبكتو. والذي أراه هو الرأي الأول، وهو الصحيح لمرجحات منها أن الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي هو الذي اختار مكان الرباط، ومضارب قبيلته جدالة في جنوب الصحراء، ومن المستبعد أن يغادر إلى مكان بعيد ويترك جهة الخطر وهي نهر السنغال حيث المماليك الزنجية المجاورة لقبيلة جدالة التي تغير عليها باستمرار. ومنها قلة موارد جزيرة النيجر بعكس هذه الجزر التي قال فيها صاحب الروض: “فيها الحلال المحض الذي لا شك فيه من أشجار البرية وصيد البر وأصناف الطير والوحش والحوت”.
يحيى بن إبراهيم وعبد الله بن ياسين
لقد تولى يحيى بن إبراهيم الجدالي زعامة الملثمين، وكان راجح العقل شديد الحماس للدعوة الإسلامية، أدرك أن أحلاف الملثمين السابقة لم تستطع إسقاط حكام غانة الوثنيين بسبب الجهل بتعاليم الإسلام وضعف الحماس للجهاد، فأراد أن يقيم اتحادهم على تعاليم الإسلام والدعوة إليه، فخلف ابنه إبراهيم بن يحيى عليهم، وتوجه إلى مكة لأداء مناسك الحج.
وفي عودته مر بالقيروان حاضرة المغرب الثقافية، وتتلمذ على أبي عمران القاضي الفاسي إمام المالكية في وقته، وطلب منه أن يبعث معه من يقوم بتعليم الدين الإسلامي للملثمين، فأرسله إلى أحد تلاميذه النابهين وهو وجاج بن زلو اللمطي بالمغرب الأقصى (تتلمذ على أبي عمرو ثم عاد إلى بلاده في السوس الأقصى وبنى بها دارا لطلبة العلم سماها دار المرابطين)، فاختار له فقيها نابها صالحا من تلاميذه الملثمين يعرف لسانهم وطبائعهم وهو عبد الله بن ياسين.
هو أبو محمد عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سير الجزولي، ولد في أحواز مدينة “أوداغست” في قرية تدعى “تيماما دنت”، في أوائل القرن الخامس الهجري، ثم رحل إلى مدن العلم في المغرب وتلقى العلم فيها، ثم غادر إلى الأندلس ولبث فيها سبع سنين حصل خلالها علوما كثيرة، ثم رجع إلى المغرب الأقصى، وجلس في رباط وجاج لطلب العلم.
كان سلفي العقيدة، متمسكا بالكتاب والسنة، متأسيا بالرعيل الأول، بعيدا عن علم الكلام والفلسفة، وغير ذلك من البدع. قامت دعوته على التمسك بالكتاب والسنة، وتطهير العقيدة من شوائب البدع والخرافات، وتطبيق أحكام الإسلام وحدوده وشعائره، وإقامة مجتمع إسلامي متكامل يؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.
وعانى في سبيل ذلك مشقات كبيرة حتى استشهد في الجهاد في سبيل الله عام 451 هـ.
سافر مع الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي لتعليم الملثمين الدين.
أسس دعوة المرابطين
الأساس الأول: التعليم والتربية الإسلامية: فكان أول أهداف الدعوة نشر العلم، وتكوين رجال صالحين يعرفون تعاليم الإسلام والكتاب والسنة. فعلمهم أصول دينهم، وضرورة لجهاد في سبيل الله، والمحافظة على الصلاة بطهارة في أول وقتها مع الجماعة.
ولما وصل الركب إلى ديار الملثمين، أخذ الأمير يحيى بزمام البعير الذي عليه عبد الله ين ياسين تعظيما له، وقدمه إلى الحاضرين قائلا: “هذا عبد الله بن ياسين، محيي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، جاء ليعلمنا أمور ديننا، ويدعونا إلى ما كان عيه الرسول صلى الله عليه وسلم”.
فتلاقهما الناس بالإكرام، وجلس يعلمهم الدين حتى خرجت عليه طائفة من أهل الشر بقيادة الجوهر بن سحيم، ضاقت ذرعا بتعاليم الإسلام. ذكر بن الأثير أنهم قالوا له: “أما ما ذكرت من الصلاة والزكاة فصحيح قريب، وأما قولك من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنى يجلد أو يرجم، فأمر لا نلتزمه، اذهب إلى غيرنا”.
واتفق الجوهر مع أحد الكبراء فعزلوا عبد الله، واعتدوا عليه، فخرج منهم خائفا يترقب. ولحق به الأمير يحيى، وقال له: إنما أتيت بك لأنتفع بعلمك في خاصة نفسي وديني، وما علي فيمن ضل من قومي”. فوافق عبد الله على البقاء معه، ومن هنا بدأ الدور الإيجابي في دعوته حيث أشار عليه يحيى بالخروج إلى جزيرة بالبحر يمكنه فيها اعتزال المشاغبين، ويقيم فيها رباطا يكون مقرا له ولدعوته وحصنا لهم.
فوافق على هذا الرأي وارتاح له، فهو قد تعود على حياة الرباط. ولا ندري كم كانوا عندما دخلوا الجزيرة، فقيل إنه كان يصحبهما سبعة رجال.
فبنوا رباطا، وأقاموا فيه يتعلمون القرآن وأحكام الإسلام، فسمع الناس بأخبارهم، فتوافدوا عليهم، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى اجتمع عليهم عدد كبير من أشراف صنهاجة.
وكانوا أثناء ذلك ينشرون خبر رباطهم في الناس، ويخبرونهم بأنه قائم على الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان، فكان الناس يقبلون عليه ويحبونه ويرضون بأحكامه.
فتمكن من تكوين جيل من الفقهاء السلفيين عرفوا بالتقوى والورع وإنكار الذات، وخلصت نياتهم وزكت نفوسهم. وكون منهم قوة إسلامية سلفية متمسكة بمذهب مالك رحمه الله، يهابها الأعداء. قال بن خلكان: “وكان قد ظهر لأبطال الملثمين في المعارك ضربات بالسيوف تفد الفارس، وطعنات تنظم الكلى، فكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتالهم”.
الأساس الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قامت عليه أيضا دعوة المرابطين، وهو مبدأ إسلامي عظيم مثل نشر العلم، وهو أيضا من النصيحة في الدين. قال ابن حزم متجاهلا قول الرافضة الذين قالوا بعدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا بوجود الإمام الذي ينتظرونه: “اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد فيها”.
وقد كان المالكية في المغرب الإسلامي أهل جرأة في بيان الحق، ومن أكثر الناس أداء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بل كان عامة الناس يقولون كلمة الحق أمام الأمراء لا يخشون في ذلك لومة لائم. حيث تمثلوا قول مالك: “حق على كل مسلم – أو رجل – جعل الله في صدره شيئا من العلم والفقه أن يدخل إلى كل ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر، ويعظه حتى يتبين، لأن العالم إنما يدخل على السلطان بذلك، فإذا كان فهو الفضل الذي ما بعده فضل” (الديباج المذهب لإبن فرحون).
لقد أسس عبد الله بن ياسين دولة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سخرت سيوفها لتقويض صرح الباطل، وتطهير المجتمع من أدرانه ومفاسده.
لقد بدأ عبد الله بتطبيق هذا الأمر مع الأمير نفسه، حيث علم أن له تسع زوجات حرائر، فأخبره أن الإسلام لا يبيح الجمع بين أكثر من أربع حرائر، فاستجاب له، وفعل مثل ذلك بقية أمراء صنهاجة.
وتتابعت مسيرة الإصلاح على هذا المبدأ، فكانت حربا على البدع والفساد والإثم. فسادت التقوى وظهر الصلاح في المجتمع.
كان عبد الله زاهدا في الدنيا، متقيا لله، توفرت فيه صفات الداعية الناجح، وبذلك استطاع تحويل الملثمين إلى دعاة سلفيين متفانين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة السنة، ومحاربة من حاد عن جادتها.
الأساس الثالث: الجهاد في سبيل الله: وهو ركن من أركان الدعوة الإسلامية، وفرضا من فروض الإسلام، قال تعالى: “وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون”.
قال الشوكاني في تفسيره للآية: فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال، وإيجابه على العباد.
لقد كان المسلمون يرابطون في الثغور، ويتسابقون إلى جهاد أعداء الإسلام ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وإعلاء لكلمته، ونشرا لدينه.
لقد كان الجهاد من أهم المبادئ التي تأسست عليها الدولة المرابطية، واستمرت فيه طوال فترة حكمها القصير.
قال الدكتور حسن أحمد محمود: “من الغريب أن دولة المرابطين لم تضع السيف أبدا منذ قيامها حتى قدر لها أن تسقط، فبعد أن تم الجهاد في المغرب انتقل الجهاد إلى الأندلس، فكانت للجهاد، وله عاشت، وذهبت في سبيله”.
ولما بلغ عدد تلاميذ الشيخ عبد الله في الرباط ألف رجل من أشراف الملثمين، وتم إعدادهم واستعدادهم لحمل مسؤولية الجهاد، قام فيهم خطيبا فوعظهم وقال: “يا معشر المرابطين، إنكم جمع كثير، وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى، وهداكم إلى الصراط المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتجاهدوا في سبيل الله حق جهاده”.
فأجابوه قائلين: “أيها الشيخ المبارك: مرنا بما شئت تجدنا سامعين مطيعين، ولو أمرتنا بقتل أبنائنا لفعلنا”.
فقال: “اخرجوا على بركة الله، وأنذروا قومكم، وخوفوهم عقاب الله، فإن تابوا ورجعوا إلى الحق، وأقلعوا عما هم عليه فخلوا سبيلهم، وإن أبوا عن ذلك وتمادوا في غيهم ولجوا في طغيانهم، استعنا بالله تعالى عليهم، وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين”.
فخرجوا بعد كلامه فأنذروا عشائرهم، لكنهم أبوا، وخرج الشيخ نفسه فجمع أشياخ القبائل ورؤسائهم، وقرأ عليهم حجة الله، ودعاهم إلى التوبة فلم يلتفتوا إلى قوله، ولم يزدادوا إلا فسادا وبعدا عن الحق.
فلما يئس منهم قال لأصحابه: قد بلغنا الحجة، وأنذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم، فاغزوهم على بركة الله، وجعل على قيادة الجيش الأمير يحيى بن عمر أمير قبيلة لمتونة (سماه الشيخ عبد الله “أمير الحق”، استشهد في معركة فتح مدينة أوداغست عام 448 هـ).
ولما قتل اختار أخاه أبا بكر بن عمر، وظل هو بمنأى عن مباشرة القيادة، ولكنه يوجه أصحابه التوجيه الإسلامي وفق الشريعة الإسلامية.
فتوجه المرابطون أولا إلى قبيلة جدالة، فهزموها وقتلوا منها عدد كثير، وأسلم الباقون إسلاما صحيحا، وحسن حالهم، وجاءت لمتونة منصاعة إلى الحق، فبايعت على الكتاب والسنة، وأذعنت مسوفة وبايعت على ما بايعت عليه سابقتيها. وهذه القبائل الثلاثة هي أهم قبائل الملثمين.
ثم توجه المرابطون إلى القبائل الأخرى التي تسكن الجبال الموالية للمتونة، وكان كثير منهم على غير دين الإسلام، وقد سبق أن بعث إليهم الشيخ بعوثا لدخول الإسلام فامتنعوا وقتلوا مبعوثه، فأمر بغزوهم، فدارت معارك عنيفة بين الطرفين، وانتصر المرابطون، وقسموا الغنائم (الأموال والسبي) وفق الشريعة الإسلامية، للأمير يحيى بن عمر الخمس، وهكذا.
وبعد استشهاد يحي بن عمر ولى الشيخ أخيه أبي بكر بن عمر بن تلاكاكين اللمتوني ليحل محله في قيادة الجيش. وكان من أوائل الذين صحبوا الشيخ إلى رباطه، صالحا ورعا.
وقد اخذ له الشيخ البيعة فتوجه إلى سجلماسة وأخذها له من أهاليها، قائلا: “اتقوا الله، وارتدوا عما أنتم عليه من فتنتكم، وقدموا على أنفسكم من يؤلفكم، ثم عرض عليهم البيعة لأبي بكر بن عمر بقوله: هذا أمير لمتونة الصحراء أهل الزهد والورع، فوافقوا عليه، وأخذ عليهم العهد والمواثيق بالبيعة له”.
وبعد أن تمت له البيعة ازداد نفوذ المرابطين وقويت شوكتهم لتوحد القبائل تحت لوائهم عن طواعية. وتوالت الإنتصارات حتى تم نشر الإسلام الخالي من البدع والشوائب في المنطقة كلها.
وقضوا على الضلال وأقصوا أهله مثل قبائل غمارة التي كانت الإباحية فيها مطلقة، وقد تنبأ فيهم رجل يعرف بحاميم بن من الله، ويلقب بالمفتري، ووضع لهم شريعة وقرآنا بالبربرية، حتى قضى المرابطون على ضلالاته.
وقبائل برغواطة التي كانت تدين بمذهب لا تمت تعاليمه للإسلام بصلة، أسسه يهودي يدعى صالح بن طريف البرغواطي (نسبة إلى برباط وهو حصن بالأندلس)، وكان عارفا بعلم السحر، أظهر الإسلام والورع واستمال الناس، ثم ادعى النبوة، ووضع لهم تشريعا مناقضا للإسلام، كصيام رجب بدل رمضان، والصلاة عشر صلوات خمس بالليل وخمس بالنهار، ووضع لهم قرآنا زعم أنه وحي منزل عليه.
وقد اشتبك المرابطون معهم، واستمروا في قتالهم حتى قضوا على آخر ملوكهم الحاجب البرغواطي ضياء الدولة صاحب سبتة وطنجة، فأذعنوا بالطاعة واسلموا، ولم يبق لدينهم أثر إلى اليوم.
واستشهد الشيخ عبد الله بن ياسين في المعارك الضارية التي دارت بين المرابطين والبرغواطيين، حيث أصيب بجراح شديدة توفي على أثرها عام 451هـ، ودفن بقرب مدينة الرباط بالمغرب.
وبايع المرابطون بعده لقائدهم أبو بكر بن عمر، فجمع بذلك بين القيادة العسكرية والدينية.
وبعد البرغواطيين توجه المرابطون إلى مدينة تاردانت ببلاد السوس الأقصى لجهاد طائفة من الشيعة الروافض يقال لهم البجلية نسبة إلى عبد الله البجلي الرافضي، قدموا السوس الأقصى في عهد عبيد الله المهدي الإسماعيلي مؤسس الدولة العبيدية في عام 297هـ، ونشروا مذهبهم في المغرب، وتوارثوه جيلا بعد جيل، فدخل المرابطون مدينة تاردانت وقضوا على بدع الروافض.
بعد نجاح المرابطون في القضاء على الفرق الضالة اتجهوا إلى إقامة دولة منظمة لها عاصمة فأمر أبو بكر بن عمر ببناء مدينة مراكش عام 462هـ، ثم تطلع لفتح الممالك الزنجية المجاورة بالجنوب، واستخلف يوسف بن تاشفين اللمتوني على حكم البلاد بعده، وترك له بعض الجيش، وسار بالبعض الآخر نحو الجنوب.
كان يوسف دينا خيرا حازما داهية، مؤثرا للجهاد، قمع النصارى، ورفع راية الإسلام على أرض الأندلس بعدما كادت تسقط، ويعد أول ملك مغربي كون جيشا قويا تتمثل فيه جميع القبائل المغربية.
وبعد عودة أبي بكر وجد أن يوسف بن تاشفين حريص على البقاء في الحكم، فسلم له الأمر حقنا للدماء، وخوفا من عوامل الفرقة، ورفعا لمصلحة الدعوة الإسلامية فوق كل اعتبار. وعاد للمرة الثانية من حيث أتى، وظل يصارع الوثنية وعبادة الأصنام حتى أدرك الشهادة بسهم مسموم طعنه الزنوج به عام 468هـ، ودفن بتكانت – بموريتانيا – بمكان يسمى المقاسم، بعد أن استقام له الأمر في الصحراء كافة، واستولى على نحو تسعين رحلة من بلاد السودان.
لقد باع أبو بكر نفسه لله وصان وحدة المسلمين وسن للمرابطين سنة حسنة، ونفذ وصية شيخه عبد الله بن ياسين التي أوصى بها المرابطين عندما أحس بدنو أجله حيث قال: “يا معشر المرابطين: إني ميت في يومي هذا، وإنكم في بلاد عدوكم فإياكم أن تجبنوا وتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وكونوا أعوانا على الحق، وإخوانا في ذات الله عز وجل، وإياكم والتحاسد على الرياسة، فإن الله يؤتي ملكه من يشاء من خلقه، ويستخلف في أرضه من أراد من عباده”.
وكذلك ظل يوسف بن تاشفين تابعا لأبي بكر على ولاية المغرب، ولم يغير في وحدة كلمة المسلمين، ولم يعتبر نفسه الحاكم الشرعي إلا بعد وفاة أبي بكر بن عمر. وكان ذلك وفاء منه للعهد الذي قطع على نفسه عندما كان يودع أبا بكر في ذهابه الأخير للجهاد في بلاد الزنوج، حيث قال له: “لك علي أن لا أقطع أمرا دونك، ولا استأثر إن شاء الله بشيء عليك”. وظل وثيق الصلة بأبي بكر يمده بالأموال والسلاح.
ويعتبر كثير من الباحثين يوسف بن تاشفين المؤسس الحقيقي لهذه الدولة لأنه هو الذي نظمها ووطد أركانها وأعطاها كيانا دوليا ثابتا.
وقد عمل على إتمام توحيد بلاد المغرب، وإخضاعها للمنهج الإسلامي عقيدة وشريعة، وتابع نشاطه حتى ضم مدينة تلمسان والجزائر، وسارت جيوشه حتى فتحت مدينة سبتة ونواحيها.
وقد استنجد المعتمد بن عباد، وهو أعظم أمراء الأندلس بيوسف بن تاشفين، فرد عليه بقوله: “أنا أول منتدب لنصرة هذا الدين، ولا يتولى هذا الأمر أحد إلا أنا بنفسي”، واستنفر قواده، وجهز جيشا جرارا قاده بنفسه ودخل به بلاد الأندلس من مدينة سبتة.
واشتبك مع النصارى بقيادة الفونسو السادس، وكانت معركة الزلاقة حاسمة، حيث انهزم النصارى تماما وانكسرت شوكتهم، وعز الإسلام وأهله في الأندلس بعد ذل وهوان.
والجدير بالذكر أن جهاد المرابطين كان هدفه نشر العقيدة السلفية ورفع راية الإسلام، ولم يكن غزوا سياسيا يرمي إلى التوسع الإقليمي، ولهذا ظل جهادهم صفحة مشرقة في تاريخ الدعوة الإسلامية في شمال وغرب إفريقيا، وموضع تقدير من علماء المسلمين قديما وحديثا.
وفي مقدمة النشار لكتاب السياسة لأبي بكر بن الحسن المرادي الحضرمي: “وقد ظل انطلاق دولة المرابطين من صحرائهم هو أبرز المآثر التاريخية لموريتانيا حيث شهدت هذه القبائل أبرز دولة إسلامية سلفية في تاريخ المنطقة، امتد سلطانها من السودان جنوبا إلى جبال البرانس شمالا، ومن المحيط الأطلسي غربا إلى حدود تونس شرقا، ويعتبر بعض المؤرخين يوسف بن تاشفين أعظم حكام المسلمين في عصره”.
الأساس الثالث: العدالة الإقتصادية: ظلت الدولة المرابطية طيلة عهدها قائمة على نظام اقتصادي إسلامي خالص، فلم يطلب المرابطون من رعيتهم رسوما ولا مكوسا، ولا معونة ولا خراجا، ولا تقسيطا، ولا غير ذلك من الضرائب الظالمة التي كانت سائدة في المنطقة، بل اقتصرت موارد بيت المال على الزكاة والأعشار وجزية أهل الذمة وأخماس الغنائم.
فكان من أثر هذا النظام الإسلامي أن عم الرخاء، وامتلأت خزانة بيت المال مما جعلها قادرة على تحمل نفقات الجهاد الذي عاشت الدولة عمرها كله فيه.
وقد رغب الناس في المرابطين وأحبوهم، وقد وردت بعض المخاطبات من فقهاء سجلماسة ودرعة يستدعونهم ويطلبون منهم إقامة العدل ورفع ما ارتكبه أمراء زناتة من الظلم والجور (انظر: “المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب لأبن عذارى).
كما أن أمراء الأندلس وفقهاؤها كاتبوهم يستنجدون بهم لإنقاذ المسلمين في الأندلس مما تردوا فيه.
والحقيقة أن المسلمين في شمال إفريقيا والأندلس آمنوا بعدالة المرابطين وإخلاصهم في الدعوة، وأصبحت دعوتهم محل ترحيب في كل بلد حلوا فيه.
منهج المرابطين العقدي والرد على تهم ابن تومرت
لقد تميزت بلاد المغرب قبل المرابطين بطابعها السني السلفي إذا استثنينا الثورات الخارجية – نسبة إلى الخوارج – التي اندلعت في القرن الثاني للهجرة عندما دخلوا شمال إفريقيا، واحتدم الصراع بينهم وبين أهل السنة من ناحية، ومع الروافض من ناحية أخرى، لكن بعد القضاء على ثورة أبي زيد مخلد بن كيراد، وقتله عام 336هـ ضعف شأن الخوارج في المغرب الإسلامي.
كذلك الحركة الإعتزالية التي دخلت إلى بلاد المغرب في أول القرن الثاني، واحتدم الصراع بينها وبين أهل السنة في القيروان.
والدعوة الشيعية الرافضية، وقبائل برغواطة وغمارة، وهذه الحركات مرتبطة بأوضاع سياسية، والرأي السائد أنه لم يكن لها جذور عميقة ممتدة في المجتمع المغربي المسلم.
وقد طبع الفكر الإسلامي بشمال إفريقيا بصفة عامة في عصوره الأولى نتيجة لإتباع المذهب المالكي بطابع الإتباع وعدم الإبتداع. وقد تأسى المالكية بإمامهم في كراهية البدع والمحدثات وإنكارها، يقول العراقي: “اعلم أن الأصحاب متفقون على إنكار البدع، نص على ذلك ابن أبي زيد، وغيره” (انظر: الفروق).
فأهل المغرب المالكيين قبل ظهور دعوة ابن تومرت كان أغلبهم على مذهب السلف في الإعتقاد بظواهر نصوص الكتاب والسنة في الصفات وغيرها، وهو مذهب الإمام مالك الذي تمسك به ودافع عنه.
قال القاضي عياض: “كان مالك أبعد الناس عن مذاهب المتكلمين، وأشدهم بغضا للعراقيين، وألزمهم لسنة السالفين من الصحابة والتابعين”.
فكان الفقهاء المالكية الأقدمون من أشد الناس في مقاومة المعتزلة لما دخل الإعتزال، والرد على بدعهم بالأدلة من الكتاب والسنة، ومن الأمثلة على ذلك ما روي أن أسد بن الفرات كان ذات يوم يقرأ عليه في تفسير المسيب بن شريك: “وجوه يومئذ ناظرة إلى ربها ناضرة”، وسليمان المعتزلي حاضر، فقال: من الإنتظار يا أبا عبد الله؟ فأخذ أسد بتلابيبه، وأخذ بيده الأخرى نعلا، وقال: يا زنديق لتقولنها أو لأبيض بها عينيك، فقال سليمان: نعم تنظره. وقيل ضربه حتى أدماه، وطرده من مجلسه”.
وكان المعتزلة في القيروان في بادئ أمرهم أذلة، ولكنهم تعززوا لما اعتنق حكام القيروان الأغالبة مذهبهم، ولكن ذلك لم يضعف أهل السنة في المغرب كما فعل إخوانهم في المشرق أيام محنة القول بخلق القرآن في بغداد.
لقد حاول الأغالبة إرغام الناس على الإعتزال والقول بخلق القرآن، فلم يجار المالكية بني الأغلب في ذلك.
والأغالبة نسبة إلى إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال التميمي، وكان فقيها وأديبا وشاعرا ذا رأي ونجدة، وصله هارون بإمارة إفريقيا، وتركه العباسيون تابعا لهم بالإسم لرغبتهم في وجود دولة بالمغرب بغرض القضاء على الأدارسة.
وقد نزل الأذى بكثير من المالكية نتيجة لرفضهم القول بخلق القرآن، ولاسيما سحنون بن سعيد التنوخي وتلاميذه، بعد أن أخذ أمير القيروان أحمد بن الأغلب الناس بالقول بخلق القرآن، فجمع قواده وقاضيه ابن أبي الجواد الحنفي، فسأل سحنون ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق، فقال ابن أبي الجواد: كفرَ فاقتله ودمه في عنقي. غير أن الأمير لم يأخذ بهذا الرأي بل حكم عليه بالإقامة الجبرية في منزله ومنعه من الفتوى.
ولما رفض سحنون الصلاة خلف ابن أبي الجواد لقوله بخلق القرآن، سعى به إلى الأمير زيادة الله بن الأغلب، فأمر عامله على القيروان بضرب سحنون 500 سوط، وحلق رأسه ولحيته، ولولا أن الوزير علي بن حميد أقنع الأمير بالعدول عن هذا القرار، لما تخلص سحنون من هذه العقوبة.
وقد فر يحيى بن عمر الكندي تلميذ سحنون إلى سوسة من أمام ابن عبدون القاضي الحنفي بالقيروان لطرده العراقيين من مجلسه، وعدم قوله بخلق القرآن، وبعث ابن عبدون في طلبه، وأمر بأن يؤتى به موثقا إن وجد، ولكنهم لم يتمكنوا منه، وظل مختفيا بسوسة حتى توفي رحمه الله.
وقد ثبت المالكية في وجه المعتزلة حتى لم يبق لها رأي بالقيروان ولا أتباع، ولم يجد الأمراء مفرا من النزول على رأي المالكية.
ولم يثبت عن أحد من طبقات المالكية الأوائل أنه أتباع مذهبا من مذاهب الفرق الضالة كما ذكر القاضي عياض، قال: “فإننا ما سمعنا أن أحدا ممن تقلد مذهبه – أي مالك – قال بشيء من هذه البدع – أي الجهمية، والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة-، فالإستمساك به نجاة إن شاء الله”.
والواقع أنه ظهر من المالكية في منطقة شمل إفريقيا والأندلس علماء أجلاء سلفيين، كان لهم دورا بارزا في بيان عقيدة السلف والدفاع عنها، منهم:
– أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين: ت 378هـ، كان شديد التمسك بالسنة مدافعا عنها، بين مذهب السلف في كتابه: أصول السنة. قال فيه: “فلا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه ولا تمثيل”.
– عبد الله بن أبي زيد القيرواني: ت 386هـ، قال عنه الذهبي: “شيخ المالكية بالمغرب، كان من العلماء العاملين، وكان غاية في علم الأصول، ويلقب بمالك الصغير”. بين العقيدة السلفية الصافية من البدع في مؤلفاته. وبين في مقدمة رسالته منهج السلف في العقيدة من حيث التفويض، والإيمان بظواهر نصوص الكتاب والسنة على الوجه اللائق بالله عز وجل.
و”الرسالة” من أشهر مؤلفاته ومن أكثرها فائدة، وهي من مقررات المحاضر الموريتانية منذ نشأتها وحتى اليوم.
– أبو عمرو الداني: ت 444هـ، وإليه المنتهى في علم القراءات في زمانه مع البراعة في علم الحديث والتفسير والنحو وغير ذلك، له أراجيز في عقيدة السلف منها قوله:
تدري أخي أين طريق الجنة … طريقها القرآن ثم السنة
قال عنه الذهبي : “إنه الإمام الحافظ.. عالم الأندلس، إليه المنتهى في علم القراءات.. بلغت تواليفه مائة وعشرين كتابا”..
– الحافظ ابن عبد البر: الأندلسي، ت 463هـ، الذي ظهرت دعوة المرابطين في عهده، قال عنه الذهبي: “حافظ المغرب، وبحر العلم، ومن أئمة الأثر”. ظلت مؤلفاته محل تقدير من العلماء في موريتانيا، وخاصة “التمهيد” و”الإستذكار”، والإستيعاب”، و”جامع بيان العلم وفضله”.. وقد بين مذهب السلف في مؤلفاته، يقول في التمهيد: “إن أهل السنة والجماعة يجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحددون فيه صفة محصورة”.
وقد ظل أهل المغرب على عقيدة السلف في الصفات حتى ظهر المهدي بن تومرت صاحب الدعوة الموحدية.
إن أبرز ما تميزت به الدولة المرابطية منهجها السلفي القائم على التمسك بنصوص الكتاب والسنة، وإثبات ما ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا على الوجه اللائق بالله عز وجل. ومعاداة علم الكلام والفلسفة والتصوف، وكل بدعة وضلالة.
وتعتبر الدولة المرابطية من أبز الدول الإسلامية التي تأسست على الفكر الإسلامي السلفي الخالص من الشوائب البدعية، وعاشت عمرها القصير في الدفاع عنه والدعوة إليه، ومحاربة المبتدعة وأهل الضلال.
وقد اتخذ المستشرقون من هذا المنهج السلفي مدخلا للإساءة إلى المرابطين، فاتهموهم بالجهل والسذاجة والقضاء على مظاهر التفكير العقلي، وعدم تأويل آيات الصفات التي لا يتناسب فيها المعنى الحرفي، والأخذ بنوع من السلفية الساذجة (انظر كتاب “الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي” لألفرد بل).
لقد كره المستشرقون – وغالبيتهم مسيحيون متعصبون – المرابطون لأنهم دكوا عروش ملوكهم على أرض الأندلس وحفظوها للمسلمين أربعة قرون أخرى.
كانت حياة المرابطين في رباطهم حياة زهد وتعلم على طريقة السلف الصالح، فكانوا يعدون طعامهم بأنفسهم مع الإكتفاء منه بالقليل، وبالخشن من الثياب، آلوا على أنفسهم التوبة والإخلاص لا يبتغون غير الدار الآخرة.
ومع تعودهم على الرباط والزهد فقد أنكروا التصوف الفلسفي واعتبروه من أخطر البدع، وناصبوه العداء، ووقفوا ضده بحزم.
لقد ظهر الصوفية في وقت مبكر في الأندلس، ومنها انتقلت إلى المغرب، ولم يكتمل نموها لقيام الدولة المرابطية التي كبحت جماحها.
قال حسن إبراهيم حسن: “وظل الخلاف يتسع في العهد المرابطين بين المتصوفة وفقهاء المرابطين أصحاب الإسلام السلفي، حتى انتهى الأمر إلى صراع مرير بينهم” (تاريخ الإسلام).
وقد احتدم هذا الصراع وبلغ أوجه، وما حَرْق كتاب الإحياء لأبي حامد الغزالي (ت 505هـ) إلا دليلا على ذلك.
وقد وصل كتاب الإحياء إلى المغرب والأندلس، وقرأه الفقهاء السلفيون، خاصة قاضي الجماعة ابن حمدين، فثارت ثائرتهم، واتفقوا على ضرورة إتلافه لما يتضمنه من الفكر الصوفي الفلسفي، ورفعوا أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فنزل على رأيهم، وأصدر أمره إلى جميع الأقاليم التابعة له بمصادرة الكتاب وحرقه، كما أمر بتفتيش المكتبات العامة والخاصة، وأن يحلف من يشك في أمرهم بالأيمان المغلظة – الطلاق والعتاق – بأنهم لا يملكون الكتاب، كما منع دخول جميع كتب الغزالي إلى المغرب والأندلس، وتوعد من وجد عنده شيء منها.
وقد تم تنفيذ أوامره، فجمعت نسخ الإحياء التي تم العثور عليها، وأشبعت بالزيت، وأحرقت على الباب الغربي من رحبة مسجد قرطبة بحضور جماعة من أعيان قرطبة وعلمائها يتقدمهم القاضي ابن حمدين.
ابن حمدين: هو أبو عبد الله بن علي بن حمدين الأندلسي، روى عنه القاضي عياض، وعظمه. كان ذكيا بارعا في العلم، ولي القضاء في عهد يوسف بن تاشفين، وشغل منصب قاضي الجماعة بقرطبة في عهد علي بن يوسف بن تاشفين، كان وقافا عند حدود الشرع، صارما في الحق، منكرا للبدعة. قال عنه الذهبي: “وكان يحط على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف، وألف في الرد عليه”، ت 508هـ.
وهذه الحادثة – حرق كتاب الإحياء – تمثل موقفا حازما ضد التصوف الفلسفي الذي تضمنه الكتاب (لا يوجد اليوم إلا التصوف الفلسفي، فكل الطرق الصوفية بلا استثناء – جئني بواحدة فقط مخالفة، تتبع ابن عربي فيما قال من فلسفة، وتعظمه وتتمشيخ عليه!).
ذكر الطرطوشي المتوفى عام 520 هـ أن الغزالي في كتابه الإحياء دخل في علوم الخواطر، ومرامز الصوفية، ثم شاب ذلك بآراء الفلاسفة”، وذكر أنه أُحرق خوفا من اعتقاد من لا يعرف، صحة ما فيه – لما فيه -، فقال: “فحرق قياسا على ما أحرقته الصحابة رضي الله عنهم من صحائف المصحف التي تخالف المصحف العثماني”.
وفي هذا النص تصريح بأن سبب إحراق المرابطين له هو كونه كتابا صوفيا فلسفيا. وقال القاضي عياض: “والشيخ أبو حامد.. غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصرة مذهبهم، وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء، بإحراقها والبعد عنه، فأمتثل لذلك” (أنظر سير أعلام النبلاء).
وقد انتصر بعض الفقهاء للغزالي، وتصدى لهم القاضي ابن حمدين بالردود والعزل من القضاء إن كانوا قضاة. وقال بعضهم إن الأيمان المغلظة فيها غير صحيحة، وإن على الحارق دفع الثمن لأنه مال مسلم !
وعلى كل حال استمر الإحراق ومطاردة الإحياء حتى بعد وفاة علي بن يوسف بن تاشفين عام 537هـ، يثبت ذلك رسالة بعث بها تاشفين بن علي في عام 238هـ إلى أهل بلنسية، قال فيها: “ومتى عثرتم على كتاب بدعة، أو صاحب بدعة، وخاصة وفقكم الله، كتب أبي حامد الغزالي، فليتبع أثرها، وليقطع بالحريق المتتابع خبرها، ويبحث عنها، وتغلظ الأيمان على من يتهم بكتمانها”.
يقول مؤلف الكتاب: وهذا العمل المتواصل في مقاومة البدع وأهلها يدل على أن المرابطين كانوا حراس العقيدة السلفية.. وإن كنت أرى أنهم اخذوا من الشدة أكثر من اللازم خاصة في قضية حرق الإحياء، ذلك أن الأولى والأقرب إلى الصواب والحكمة أن يبينوا ما في هذا الكتاب من أخطاء ويردوا على صاحبه بردود علمية تبين الحق وترد الباطل.
تعليق: “بل الحرق أولى وأقطع للبدعة، ولو تصدى المسلمون بمثل هذا الحزم لكل أنواع البدع والضلال لما وُجد فينا اليوم من يعبد شيخا، أو على الأقل كانوا قلة يخجلون من إظزهار أنفسهم بعكس الجرأة الحاصلة الآن، حتى يكاد منتقدهم يصبح هو المبتدع! أما المناقشة العلمية فنتائجها الإيجابية أقل بكثير من نتائج الإستئصال العملي، وكلما أمكن الدولة استخدام القوة لقمع البدع وأهلها، كلما كان القضاء عليها أسرع، وكان ذلك أفضل، لأن هذا أولا شرع، فكما يعاقب العاصي ويؤخذ على يده، المبتدع المتجرئ على شرع الله أولى بالعقاب منه، لكنا الأمة أصبحت ديمقراطية تؤمن بالرأي الآخر الذي أول من يكفر به هم أهله الغربيون، فلا رأي آخر عندهم (تأمل ذلك في من عارض كورونا ولقاحاتهم، ومن يعارض الشذوذ الآن، بل من يكتب كلمة حق في الفيسيوك أو التيكتوك! إلخ)، ولا حق في الحجاب ولا حتى تربية المسلمين لأبنائهم في دولهم، إلى آخر مهازلهم التي تدل على أنهم أحط الأمم وأكثرها تخلفا وهمجية وأذية، وكيدهم للمسلمين مستمر لا راحة عندهم فيه لأن الشيطان يؤزهم عليه، وهم جنده في هذا الزمن، وله في كل عصر دولة وجنود”.
تهم ابن تومرت للمرابطين والرد عليها
قال الذهبي في ابن تومرت: “هو الشيخ الإمام الفقيه الأصولي الزاهد أبو عبد الله محمد بن تومرت، البربري المصمودي، الخارج بالمغرب، المدعي أنه علوي، وانه الإمام المعصوم المهدي”.
وقد زعم ابن تومرت أنه الإمام المنتظر الذي يأتي في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا.
ورحل من السوس الأقصى إلى المشرق، فحج، وحصل أطرافا من العلم، وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، قوي النفس، غاويا في حب الرياسة والظهور، توفي عام 524هـ.
أخذ علم أصول الدين من أبي حامد الغزالي، وذكر ابن أبي زرع أن الغزالي قال عنه: “لابد لهذا البربري من دولة”.
والذي يبدو أن الغزالي كانت تصدر منه عبارات تقوي همة ابن تومرت على الثورة على المرابطين. ومن ذلك أنه لما أخبره الأخير بأنهم أحرقوا كتابه دعا على سلطان المرابطين بقوله: “ليذهبن عن قليل ملكه، وليقتلن ولده، وما أحسب المتولي لذلك الأمر إلا حاضرا مجلسنا”.
وكان ابن تومرت يحدث نفسه بالقيام على المرابطين فقوي طمعه (هذا ذنب آخر ينضاف لذنوب الغزالي، والله أعلم).
وبعد تسع سنين في المشرق عاد إلى المغرب عام 410 وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم اتشح بوشاح المهدية.
وأعلن الحرب على الدولة المرابطية، وظل يؤلب قبائل المصامدة عليها مستغلا في ذلك العصبية القبلية التي كانت قائمة بين قبائل المصامدة الجبلية المتحضرة التي ينتمي إليها، وقبائل الملثمين البدوية التي ينتسب إليها المرابطون.
وقد ذكر عنه كثير من الحكايات التي تدل على زيف دعوته وبعدها عن الحق، واعتمادها على المكر والخداع، منها: أنه واطئ رجلا عالما على إظهار الجنون لتحقيق غاية في نفسه. وكان ماهرا في أساليب المكر والخداع، سفاكا للدماء، ومن ذلك أنه لما اشتدت هزيمة أتباعه الذين يسميهم “الموحدين” في معركة البحيرة أمام المرابطين، وتزلزلت ثقتهم فيه، لجأ إلى أسلوب المكر والخداع، فأدخل بعض أتباعه في قبور لها منافس وأمرهم أن يقولوا عندما يسألهم: “قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا من مضاعفة الثواب على جهاد لمتونة، وعلو الدرجات التي نلناها بالشهادة، فجدوا في قتال عدوكم، فإنما دعاكم إليه المهدي صاحبكم حق”. ثم قام بنقض عهده لهم بإخراجهم، فأغلق المنافس التي ترك لهم فماتوا من حينهم لأنه خاف من أن يفضحوا أمره بعدها.
ومعركة البحيرة هي أعظم المعارك التي وقعت بين الموحدين والمرابطين، قتل فيها قائد جيش الموحدين محمد البشير الونشريشي، وفقد ابن تومرت أكثر أصحابه العشرة، وآلافا من زهرة جنوده، واشتد به المرض فمات بعد الموقعة عام 524هـ.
وقد وصف لفيف من المؤرخين ابن تومرت بالمبتدع وسفاك الدماء، وألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا خاصا في هدم عقيدته ودعوته المنحرفة.
ومن التهم التي اتهم بها ابن تومرت المرابطين:
1- التجسيم: فوصفهم بفساد العقيدة، وبأنهم مجسمين لله تعالى، ومن ثم فهم كفار، وزعم أن من قتل من أصحابه في مواجهتهم فهو شهيد، ومن قتل منهم فهو في النار (تهمة المتصوفة والشيعة اليوم للوهابية أو السلفية التي هي على طريق المرابطين).
وهذه تهمة كاذبة فالمرابطين لم يكونوا مجسمين ولا مشبهين بل كانوا على مذهب السلف الصالح وهو إثبات الصفات لله عز وجل التي وصف بها نفسه في كتابه العزيز أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته، على الوجه اللائق به عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل، ومن غير تجسيم و تشبيه.
وقد اتفق العلماء على تفنيد مزاعم ابن تومرت التي رمى بها المرابطين وعلى رأسهم ابن تيمية حيث يقول عنه: “واستحل دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية الذين كانوا من أهل الكتاب والسنة على مذهب مالك وأهل المدينة.. فزعم أنهم مشبهة مجسمة، ولم يكونوا من أهل هذه المقالة، ولا يعرف عن أحد من أصحاب مالك إظهار القول بالتشبيه والتجسيم” (مجموع الفتاوى 11/478).
وكذلك فعل الذهبي في سير علام النبلاء، ووصف ابن كثير القائد المرابطي أبو بكر بن عمر بقوله: “وكان يسير في الناس سيرة حسنة مع صحة اعتقاده ودينه”. وذكر عنه أنه اتفق له ما لم يتفق لغيره من الملوك، “وكان يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام، ويحوط الدين”، وقال: “زاهدا ورعا تقيا، وحاكما عادلا متفانيا في الإخلاص للدعوة الإسلامية، وهب حياته للجهاد في سبيل الله” (البداية والنهاية).
وهذا الإتهام بالتجسيم والكفر اتهام لأهل السنة والجماعة عموما لأن سببه إثبات الصفات لله عز وجل على الوجه اللائق به تعالى، ونبذ أهل الكلام وأهله (فكرة العرض والجوهر)، وليس ابن تومرت أول المتكلمين الذين افتروا هذه الفرية على أهل السنة والجماعة. فقد كفر المعتزلة من قبل من أجاز رؤية الله بالأبصار بلا تمثيل ولا تكييف. لأن المتكلمين بعد دخول الفلسفة أصبحت سمتهم تقديم العقل على النقل.
2- تعاون الأمراء والعلماء على الظلم والباطل: وهذه تهمة عجيبة لا مبرر لها، إلا بغية الوصول إلى السلطة بأي طريقة. ومن المبادئ التي تأسست عليها هذه دولة المرابطين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان قادتها دعاة صالحين لا يبتغون من الحياة الدنيا سوى الإصلاح.
والحقيقة أن علماء هذه الدولة وقضاتها كانوا راسخين في العلم، من أهل التقوى والصلاح وإتباع الحق.
وقد كان عبد الله بن ياسين يقيم الحدود على الأمراء ويؤدبهم، قال القاضي عياض: “ظلت سيرته معروفة محفوظة، يثابر عليها مشيختهم” (نفس التهمة الموجهة للسلفية في السعودية، حتى أن الإخوان يجعلون أساس دعوة الإسلام كرسي الحاكم! وكذلك أكثر الشباب المثقف، وساعدتهم المعارضة الديمقراطية السخيفة على ذلك، حتى أصبح الواحد لا يسمع من سلفي لمجرد أنه مع الحاكم، ويقول: علماء سلاطين! وما علاقة ذلك بأصل الخلاف بيننا وبينهم وهو التوحيد، دعوة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”؟ حقا إن الشيطان ليدخل أتباعه في متاهات ليضلهم ويبعدهم عن الحق).
قال حسن أحمد محمود: “لقد أعادت دولة المرابطين إلى الأذهان صورة الدولة الإسلامية أيام الخلفاء الراشدين، وكان أمراؤها الذين تولوا الحكم من عهد عبد الله بن ياسين إلى ظهور ابن تومرت قد أخذوا بنصيب وافر من العلم والصلاح والزهد والعبادة” (انظر: “قيام دولة المرابطين”).
وكان علي بن يوسف المتوفى عام 537هـ (أشرقت في عهده الدولة وازدهرت العلوم) الذي ظهر ابن تومرت في عهده يعتبر من الشخصيات النادرة في التاريخ، فهو حاكم قوي، عادل، امتاز بالعلم والدين والورع والإستقامة وحسن الخلق والحزم والنباهة، وكان مثل أبيه معظما للعلماء لا يقطع أمرا دون مشورتهم والأخذ بفتياهم.
وطاعة أمراء الدولة لعلمائها وتقديمهم لهم دليل على صدق النية في الرغبة في العمل بتعاليم الإسلام.
وقد تجاوز عداء الموحدين لفقهاء وأمراء المرابطين إلى العداء الشديد لمذهب مالك، حتى بلغ بهم كرهه إلى إحراق مدونة سحنون !
3- سفور وجه المرأة المرابطية: يعتبر سفور النساء في شمال وغرب إفريقيا أمرا عاديا في القديم والحديث، وقد اتخذ ابن تومرت من هذه العادة ذريعة لمهاجمة المرابطين، فوصف نسائهم بأنهن يتشبهن بالرجال في عدم تغطية الوجه، وأن تشبه النساء بالرجال حرام، حيث قال: “وهؤلاء المجسمون الكفار يتشبه نساؤهم بالرجال في الكشف عن وجوههم بلا تلثم ولا تنقب، والتشبه بهم حرام”.
والواقع أن العلماء اختلفوا قديما وحديثا في كشف وجه المرأة بين مجوز ومحرم، والذي عليه العمل والفتوى في مذهب مالك الذي كان عليه المرابطين أن وجه المرأة غير عورة. يقول ابن عبد البر في التمهيد: “والمرأة عورة ما عدا وجهها وكفيها”.
وقد اختلف العلماء في تحديد الزينة الظاهرة المذكورة في قوله تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها”، فذهب جمهور العلماء إلى أن المقصود بالزينة الظاهرة المذكورة في هذه الآية هو الوجه والكفان، وممن قال بذلك ابن عباس والأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله. فبان أن التهمة باطلة.
6- دخول الأشعرية في المغرب وانتشارها في موريتانيا
لقد درج المؤرخون وعلى رأسهم ابن خلدون على أن الأشعرية لم تكن معروفة في هذه البلاد حتى جاء بها ابن تومرت. وقال ابن خلدون أن ابن تومرت لقي أئمة الأشعرية بالمشرق وأخذ عنهم واستحسن طريقتهم، وذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه، وحمل أهل المغرب على القول بالتأويل، والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن إمامتهم ووجوب تقليدهم.
وقد حذا المقريزي حذو ابن خلدون في أن ابن تومرت هو من أدخل الأشعرية إلى المغرب، ولكن الحقيقة أنها دخلت قبله في وقت مبكر على يد بعض الفقهاء، ولكن ابن تومرت حمل لوائها ومكن لها بالقوة، فأثر على الجماهير.
وبعد أن استتب الأمر لأتباعه عام 542هـ قاموا بتعقب الدولة المرابطية تعقبا لا هوادة فيه ولا رحمة، وقد استأصلوا شأفة أنصارها البارزين، وضربوا على أيدي الفقهاء المالكيين الذين كانت لهم اليد الطولى في عهد المرابطين، واستحلوا دماء أهل السنة، وقتلوا منهم خلائق لا يحصيها إلا خالقها، وفرضوا العقيدة الأشعرية في المغرب بالسيف.
كان هذا عن دخول الأشعرية في بلاد المغرب بوجه عام، أما في بلاد شنقيط، فقد ظلت الأوضاع الدينية والثقافية والسياسية غامضة من نهاية الدولة المرابطية وحتى القرن العاشر الهجري
كما لم تعد موريتانيا والمغرب تشكلان دولة واحدة بعد زوال حكم المرابطين وإن ظلت الصلات العلمية والدينية بينهما مستمرة.
لذا سنحاول الإجابة على السؤال: متى وكيف انتقلت العقيدة الأشعرية إلى بلاد شنقيط؟ (رغم قلة المصادر التي تتحدث عن هذه الحقبة التاريخية من حياة موريتانيا).
إن انقسام المنطقة بعد نهاية حكم المرابطين إلى دولتين: مغربية وصحراوية تعرف ببلاد شنقيط، أدى إلى عزلة هذه الأخيرة، وجهالة ما يجري فيها من أوضاع.
قال ابن بطوطة الذي أقام بمدينة ولاتة خمسين يوما: “وأما هؤلاء فهم مسلمون محافظون على الصلوات وتعلما للفقه وحفظا للقرآن، وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات”. كما تحدث عن نظام التوريث في ولاتة وقال إنه مخالف لأحكام التوريث في الإسلام.
الأشاعرة القادمين من المغرب
وأما العلماء الذين قدموا إلى المنطقة من المغرب، ودرسوا فيها علوم الدين فهم كثيرون، منهم:
1- نور الدين أبو الحسين علي بن أحمد بن محمد عبد الله الأنصاري المتوفى 724هـ، رحل من المغرب إلى بلاد التكرور، وأقرأ بها القرآن..
2- عبد الله بن أحمد بن سعيد بن يحيى بن معاوية الزموري العالم المؤرخ الأديب شارح كتاب “الشفا”، استقر في ولاتة، ودرس بها العلوم الشرعية، وكان حيا في عام 888هـ.
3- أحمد الذهبي، الشريف التلمساني، الفقيه أقام مدة بمدينة شنقيط يدرس علوم الدين، وهو أول من درس مختصر خليل بن إسحاق في موريتانيا، وكان حيا في نهاية القرن العاشر الهجري.
4- الشاب الشاطر، وهو شريف علوي حسني من فاس، ذكره البرزلي باسم “الشريف الشاب”، وقال إنه كان حيا في عام 1045هـ، وأشاد بعلمه، وذكر أنه جمع بين الشريعة والحقيقة.
وذكره أحمد بن الأمين باسم “الشريف الشاطر”، قال: “وبه يعرف في شنقيط والقطر، وهو من العجائب، وجده أهل شنقيط بحرا لا ساحل له، واختار منهم أربعة طلاب أذكياء لتعليمهم، ولما أراد السفر عائدا إلى بلاده قال لهم: تركت فيكم المحمدين والعبدلين”، ويعني بذلك الأربعة الذين كان يعلمهم.
ورغم شحة مصادر الأوضاع الدينية في تلك الحقبة التاريخية، فإننا نجد بعضها تصفها بأنها سيئة، وأهم هذه المصادر رسالة محمد بن محمد بن علي اللمتوني التي أرسلها إلى جلال الدين السيوطي في عام 898هـ، والتي جاء فيها ما يدل على أن بعض أهل تلك البلاد رجعوا إلى الشرك والوثنية بعد عهد المرابطين، حيث يقول صاحبها: “ومنهم من عادته بناء المساجد وتلاوة القرآن والعلوم والمدائح والحج، ومع ذلك يعبدون الأصنام ويذبحون لها، ومنهم من يجحد البعث والحشر والنشر والحساب والثواب والعقاب، وعندهم طلسمات للنكاح والبيع والشراء والمحبة، وغير ذلك” (انظر: الحاوي للفتاوي للسيوطي).
وكذلك ابتعاد للفقهاء عن الكتاب والسنة، قال صاحب الرسالة عن الفقهاء: “عادتهم ترك القرآن والسنة، وأخذ الرسالة والمدونة الصغرى، حتى عادوا من يفسر القرآن، وإذا سمعوا آية تتلى لتفسيرها نفروا عنها نفرة الحمر المستنفرة”.
وعلى كل حال فإن هذه الفترة هي التي انتشرت فيها العقيدة الأشعرية وسادت.
ظهر علماء أشاعرة مشاهير بالمغرب، ونقلت مؤلفاتهم إلى محاضر موريتانيا، واعتمدت جزءا من مناهجها، كما اتجهت أفواج من الطلاب إلى مراكز العلم في المغرب، وتلقوا تعليمهم فيها على أيدي علماء أشاعرة، ثم عادوا ونشروا العلوم التي درسوا.
وكان أهم سبب لإنتشار الأشعرية في المنطقة ظهور السنوسي في المغرب رائدا للمذهب الأشعري. وهو أبو عبد الله محمد بن يوسف الحسن السنوسي العلامة المتكلم شيخ العلماء والزهاد، رأس الأشعرية ورأس المالكية بالمغرب، له تآليف كثيرة خصوصا في العقائد، ومن ذلك الكبرى والوسطى والصغرى وشروحها، وله مختصر في المنطق، توفي بتلمسان عام 895هـ.
وثق الموريتانيون في علمه، وأقبلوا على مؤلفاته في العقيدة الأشعرية، فدرسوها وقاموا بنظمها وشرحها بعد دراستها. كما قال المختار بن بون في وسيلته:
نظما حوى عقائد الشريف … محمد السنوسي الظريف
لخصت فيه ما حوته الصغرى … مع ضمن وسطاه وضمن الكبرى
سميته “وسيلة السعادة” … في نشر ما تضمن الشهادة
وظهر من بعد السنوسي عبد الواحد بن عاشر، وهو أندلسي ثم فاسي، له اليد الطولى في كثير من العلوم، ت 1040هـ. كان لكتبه رواج وتأثير كبير، ولاسيما مقدمته في العقيدة الأشعرية التي بدأ بها نظمه المسمى “المرشد المعين على الضروري من علوم الدين”، الذي يدرس للتلاميذ في المراحل الأولى من الدراسة. قال في نظمه هذا مبينا اتجاهه الديني في العقيدة والفقه والتصوف:
في عقد الأشعري وفقه مالك … وفي طريقة الجنيد السالك
ومن علماء المغرب الأشاعرة الذين اعتنى الموريتانيون بمؤلفاتهم، أحمد المقري، ولد في تلمسان عام 986هـ، كان من أبرز علماء عصره، كثير الترحال، وله مؤلفات كثيرة منها “نفح الطيب عن غصن الأندلس الرطيب”، توفي بمصر عام 1041هـ.
كان لمؤلفاته تأثير عميق في المؤسسات التعليمية (المحاضر)، ولاسيما منظومته “إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة” التي قال عنها العلامة بداه بن البصيري إن عليها الإعتماد في بوادي وحواضر تلك البلاد.
صرح فيها بأنه أشعري، فقال:
يقول أحمد الفقير المقري … المغربي المالكي الأشعري
ومن المعروف أن الأشعرية يقسمون الصفات الإلهية، فيثبتون بالعقل ما يسمونه: الصفات النفسية، السلبية، وصفات المعاني، والصفات المعنوية. ويؤولون الصفات الفعلية.
الأشاعرة الدارسين في المغرب
وكان الموريتانيون يتعلمون العلم أيضا في المغرب في جامع القرويين، والزوايا الصوفية بالمغرب، ومما شجع على استمرار هذه الصلة، وحدة المذهب المالكي، وكون الطرق الصوفية في كلا القطرين واحدة، وسيادة العقيدة الأشعرية في كلا البلدين.
وممن درسوا هنالك وعادوا إلى بلدهم، وتلقاهم الناس بالقبول، وانتشر علمهم في المنطقة:
1- ابن رازكه: عبد الله بن محمد بن الفقيه القاضي، درس في المحاضر ثم رحل إلى المغرب وأخذ عن عدد من علماءه، له اليد الطولى في اللغة العربية، وعلم الكلام، والتفسير والحديث والفقه والأصول، ويعتبر من أبرز علماء وشعراء القرن الثاني عشر الهجري، ت 1143هـ.
يعد من أبرز العلماء الذين رحلوا إلى المغرب ثم عادوا، وأكثرهم نشرا للعقيدة الأشعرية وتعمقا فيها.
ومن تلاميذ ابن رازكه الذين اشتهروا بعده ونشروا العقيدة الأشعرية المختار بن بون حامل لواء الأشعرية في عهده. برع في علم الكلام والنحو. له في العقيدة الأشعرية كتاب “وسيلة السعادة”.
2- محمد بن عبد الله بن أبي بكر، عاد إلى بلاده بعد دراسة القراءات العشر، وهو يحمل خزانة من الكتب. أزال اللحن والتصحيف عن الناس في بلاد شنقيط، وهو الذي أتى بالجيم المشددة، وانتفع به خلق كثير.
3- سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم: وله اليد الطولى في الفقه المالكي وأصوله، ومصطلح الحديث، أطلق عليه في بلاده مجدد العلم في بلاد شنقيط، له عدة مؤلفات من بينها “مراقي السعود في أصول الفقه”.
رحل لأداء مناسك الحج، وفي عودته مكث بالمغرب عدة سنوات، فدرس العقيدة الأشعرية والفقه المالكي على عدد من علماء المغرب، واعتنق الطريقة الشاذلية في هذه الفترة أثناء إقامته بمدينة فاس، ثم عاد إلى بلاده وهو أشعري شاذلي، يحمل معه مكتبة ضخمة.
4- محمد الحافظ بن محمد المختار بن حبيب العلوي المتوفى عام 1236هـ، رحل للحج وفي عودته مكث بالمغرب عدة سنوات، أقام في فاس، ولقي بها أحمد بن محمد المختار التجاني المتوفي عام 1230هـ، وأخذ عنه طريقته، وصحبه ثلاث سنين، ثم عاد إلى بلاده، وهو أشعري تجاني، وانتشر فكره في المنطقة.
هذه نماذج من العلماء الذين رحلوا إلى المغرب ودرسوا فيه وعادوا إلى بلادهم، وكان لهم تأثير فيها, وعلى أي حال فالتأثير المغربي الأندلسي واضح في مناهج المحاظر، ولاسيما في العقيدة.
لقد استحكم في نفوس المغاربة التعصب للعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، ووصل الأمر إلى أن بعض ملوك الدولة في المغرب عرف نفسه بأنه مالكي المذهب أشعري العقيدة (انظر تقريظ الملك المغربي عبد الحفيظ بن الحسن لكتاب زاد المسلم للشيخ محمد حبيب الله بن مايابى الشنقيطي).
وقد انعكس هذا الفكر على المحاضر حيث فشا فيها التقليد والتعصب للعقيدة الأشعرية، حتى اعتبروا من لم يتقنها عرضة للكفر والعياذ بالله تعالى (إذا لم يقدر على معرفة أنواع الصفات وتعيينها بالألفاظ المتداولة عندهم).
7- عودة الفكر السلفي إلى البلاد
دعوة الإمام ناصر الدين وجهاده
ترك غياب الدولة المرابطية فراغا كبيرا في البلاد، وذل أهل السنة والجماعة في تلك الفترة. وتدهورت الأحوال في مجال العقيدة والمجالات الأخرى حيث ابتعدت عن تعاليم الإسلام الصحيحة.
وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته أن أهل مدينة ولاتة لا ينتسبون إلى آبائهم، وأن نظام التوريث عندهم مخالف لأحكام الإسلام، قال: “ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله، ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته، دون بنيه”.
وجاء في رسالة محمد بن علي اللمتوني إلى السيوطي عام 898هـ: “ومنهم من صلاته بالتيمم أبدا، فلا يتوضؤون إلا نادرا، ولا يغتسلون من الجنابة إلا نادرا”. “ومنهم من لا يورث، فما تركه بعده لأبناء إخوته، وأهل القوة والجاه”. “ومنهم قوم لا يعدون الطلاق، فليس عندهم حد، ومنهم من يتزوج المرأة في عدتها”.
كما عرض للمغارم الجائرة والعذاب الذي تلقاه الناس على أيدي أمراء الجور.
وقد ازدادت الأحوال سوء بعد هجرة قبائل بني حسان إلى البلاد حيث نجحوا في السيطرة على القسم الشمالي من موريتانيا خلال القرن الخامس عشر الميلادي. وتمكنوا من إحكام سيطرتهم على كثير من البلاد، فأثخنوا فيها وعاثوا فسادا، وكانت هذه الفترة ذاتها بداية للأطماع الخارجية والوجود الأوربي على سواحل المنطقة.
الإمام ناصر الدين هو الفقيه المجاهد أبو بكر بن أبهم بن الفغ الشمشوي، عاش في القرن الحادي عشر الهجري في وسط قبائل من الزوايا، تسود فيها المثل العليا والمحافظة على شعائر الإسلام، درس في المحاضر حتى أكمل دراسته فيها، وبرز في العلوم الشرعية، واشتهر بالتقوى والورع والفقه ونصرة السنة والجهاد.
كان يحث على إتباع السنة والمواظبة على تحصيل العلم مهما كانت الظروف حتى في أثناء الجهاد. وقد برز في مواجهة النصارى الذين كانوا في ذلك الوقت يتسابقون إلى سواحل المنطقة، ويستعدون لدخول موريتانيا، فقاومهم، وأضر بمصالحهم، وأثار الناس عليهم، ورفض التعامل معهم، ومنعهم من تجارة الرقيق، فضاقوا بذلك ذرعا.
وكان يبعث رسله إلى الأمراء الزنوج في البلاد المجاورة، ويحثهم على مقاومة النصارى، ويحذرهم منهم.
استشهد رحمه الله في جهاد مانعي الزكاة في موقعة ترتلاس عام 1085هـ.
كانت دعوته سلفية، قامت على التمسك بالكتاب والسنة، واقتفاء آثار السلف الصالح، والجهاد في سبيل الله، ونشر العقيدة لإسلامية، ومحاربة البدع والمنكرات، ومحاولة العودة بالمجتمع إلى ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام.
وتحجم المصادر التي وقفت عليها عن الحديث عن عقيدته بالتفصيل، ولكن بعد الإطلاع على الكتابات التي تناولت حياته ودعوته، والمقابلات مع بعض العلماء العارفين بتاريخ الفكر الإسلامي في موريتانيا، يمكن أن نقرر أنه سلفي العقيدة بناء على المعلومات التالية:
1- أن دعوته قامت على العمل بالكتاب والسنة والدعوة إلى تحكيمهما في كل الأمور.
2- أن منهجه تدريس صحيح البخاري، ومعلوم أن البخاري رحمه الله وضع في صحيحه كتاب الإيمان، وكتاب التوحيد، لتوضيح عقيدة السلف.
3- أن المراجع تذكر أنه أراد إحياء منهج المرابطين السلفي.
4- أن الشيخ المختار بن حامد، وهو عالم سلفي، مؤرخ من القبائل الشمشوية التي ينتمي إليها الإمام ناصر الدين، أكد ذلك بقوله: “إن الإمام ناصر الدين كان داعيا إلى عقيدة السلف ومنهجهم، لا يتجاوز ما جاء في الكتاب والسنة، وما ثبت عن السلف الصالح، رضي الله عنهم، ويرفض الخوض في علم الكلام والفلسفة” (حدثني المختار بذلك في مقابلة أجريتها معه بالمدينة المنورة).
لقد كان من أهم المبادئ التي قامت عليها دعوته مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان يبعث البعوث إلى السنغال، وغيره من البلاد المجاوزة، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعظون الناس، ويحذرونهم من مغبة الظلم والمعاصي.
أما الجهاد فقد كان من أولى الخطوات التي قام بها إعلان الجهاد لنشر الإسلام في غرب إفريقيا، وإرسال الجيوش المتتالية لتخليص الناس من الشرك والوثنية.
وكان يدعو إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في كافة المجالات، ورفع الظلم، وإقامة العدل.
وقد جلس في السنين الثلاث الأولى من دعوته لتعليم أصحابه وإرشادهم، وإعدادهم لحمل مسؤولية الدعوة والجهاد. وأقبل الناس بإخلاص على دعوته حتى سميت هذه المرحلة بسنين التوبة.
ولقيت دعوته أيضا قبولا في بلاد الزنوج المجاورة.
ويصف الباحثون هذه الدعوة بأنها وريثة الدعوة المرابطية، يقول عبد الله بن حميده مبينا ذلك: “إنها حركة سياسية تأصيلية سلفية وريثة الإسلام السني المرابطي الصحراوي، قامت في المنطقة الجنوبية الغربية من البلاد، ونمت في أحضان حلف قبلي يعرف ب “تشمشه” بزعامة أحد أبنائه المؤهلين للزعامة، الإمام ناصر الدين”.
لقد نسج هذا الإمام دعوته على منوال المرابطين، فبدأ نشاطه بالدعوة للإسلام، وأشعل ثورة الجهاد ضد الزنوج الوثنيين وبني حسان، ولا غرو فهو ينتمي إلى قبيلة لمتونة المعروفة بجهادها، والتي ساهمت بدور كبير في قيام حركة المرابطين.
وقد نجح الإمام في إقناع المجموعات القبلية بضرورة تحكيم الشريعة الإسلامية، وتمكن من تأسيس دولة إسلامية قائمة على هدى الكتاب والسنة، مطابقة للعهد الراشدي.
واستطاع إقامة سلطة مركزية، وهيكلا من الحكم يعتمد على مجالس الشورى، مستمدا بكامله من التعاليم الإسلامية، وقضى على الظلم والمفاسد المنتشرة، وأقام مجتمعا يشبه المجتمع الإسلامي الأول.
وكون قوة إسلامية سلفية استطاعت الإطاحة بعروش الأمراء الوثنيين في السنغال وفوتا.
وكان يعين محل كل أمير وثني يسقط أميرا مسلما من أبناء البلد، واستطاع أن يعمم الإسلام على مساحة واسعة في غرب إفريقيا.
لقد أغضبت دعوته الفرنسيين في السنغال، وقال “دي شانبونو” مدير الشركة التجارية ب”أندر” (مدينة سان لويس بالسنغال) إنه “ما رأى الناس قط مرابطا أو راهبا، وهو الذي يجب أن يكون ترك الدنيا وانقطع لله، وأن يكون تواضعه عميقا وزهده متصلا، وأن لا يهتم بثورات الدول.. يغادر وطنه، ويذهب إلى بلد بعيد ليدفع سكانه إلى الثورة، ويجعلهم يقتلون أو يطردون ملوكهم بحجة الدين”.
كما أقدمت قبائل بني حسان على تحدي السلطة المركزية التي يتزعمها الإمام، فارتكبت ثلاث جرائم كانت سببا في حرب دامت ثلاثين عاما، وهي: الحرابة، والبغي، ومنع الزكاة. وكان السبب المباشر في اشتعال الحرب هو منع الزكاة..
وقبل الدخول في الحرب وجه خطابا لهذه القبائل، قال فيه: “اتركونا نحيي السنة، ونقيم حدود الله، ونخدم العلم، ونعمر البلاد، ونعدل فيها”. غير أن هذا الخطاب لم يجد آذانا صاغية من بني حسان الذين يقف وراءهم الفرنسيون إبان ذلك، واندلعت الحرب وعرفت ب “شرببة”.
وقد تولى قيادة جيشه بنفسه، وتوالت انتصاراته عليهم في بادئ الأمر، ولكن الحركة أصيبت بنكسة كبيرة عندما استشهد قائدها الإمام ناصر الدين في موقعة “ترتلاس” عام 1085هـ، وإن كان جيشه قد انتصر في المعركة، ودبت الخلافات في صفوف الجماعة.
وقد انتهت الحرب بعد 30 عام من اندلاعها بهزيمة حركة الإمام ناصر الدين في موقعة “تنيفظاظ”.
وقد كان لهذه الحركة أعداء في الداخل ممثلين في قبائل بني حسان الذين يخشون من قيام دولة إسلامية منظمة ذات سلطة مركزية تحد من نفوذهم وتصرفاتهم، وأعداء في الخارج ممثلين في الفرنسيين. ويؤكد الباحثون أن سبب هزيمة الحركة هو اصطدامها بجبهتين كلاهما تعادي قيام دولة إسلامية، هما فرنسا في السنغال وغرب إفريقيا، وبني حسان في داخل موريتانيا.
ورغم الهزيمة العسكرية في الحرب فقد ظللت آثار الحركة قوية في موريتانيا والسنغال، فحدث الكثير من الإصلاحات الدينية بعدها، كما أقبل الزوايا على العلم بقوة، وعرفوا لأهلها فضلهم ونشرهم للإسلام. وازدهرت المنطقة علميا وثقافيا بعد الحرب، ونتج عن ذلك ثلاثة اتجاهات فكرية ممثلة في مدارس تحملها وتدافع عنها، وهي:
1- اتجاه سلفي نصي يعادي علم الكلام، وتمثله مدرسة المجيدري بن حبيب الله اليعقوبي، المتوفى عام 1220هـ.
2- اتجاه أشعري عقلاني يؤمن بالمنطق اليوناني وعلم الكلام المنطقي، وتمثله مدرسة المختار بن بون الجكني المتوفى عام 1220هـ.
3- إتجاه صوفي، وأبرزه الإتجاه القادري، وتمثله مدرسة الشيخ سيدي المختار الكنتي المتوفى عام 1226هـ.
مدرسة المجيدري بن حبيب الله
نشأت عندما عاد من رحلة علمية زار فيها عددا من الأقطار الإسلامية، وأدى مناسك الحج، وعاد متأثرا بالفكر السلفي وداعية إليه.
ومن المفترض أن يكون قد تأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي كانت قائمة حينئذ في نجد وما حولها، فقد قاد محمد بن عبد الوهاب التميمي عام 1206هـ دعوته السلفية الإصلاحية القائمة على التمسك بالكتاب والسنة، وتصحيح العقيدة وتطهيرها ما علق بها من أدران الشرك والبدع والخرافات. وقد أطلق أعداء هذه الحركة عليها “الوهابية” وهو لقب لم يطلقه أصحابها على أنفسهم ولم يقبلوا بإطلاقه عليهم، لتنفير الناس منهم. وذلك لإيهام السامع أن الحركة مذهب يخالف المذاهب الإسلامية الأربعة. واللقب الذي يرضاه أصحاب الحركة لأنفسهم ويتسمون به هو “السلفيون” أو “أهل السنة والجماعة”. وهم جديرون بهذين اللقبين، يقول الشيخ محمد رشيد رضا: “وقد كان مما استعمل الله تعالى به الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد الدين في نجد وما حولها، أن أحيا مدرسة السنة النبوية فيها للإهتداء بها.. فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة”.
فأسس المجيدري مدرسته السلفية فور عودته، وجعلها قائمة على المبادئ التالية:
– الإعتماد على الكتاب والسنة في كل مناهجها.
– نبذ البدع ومحاربتها، وخاصة بدعة الكلام.
– نبذ التعصب المذهبي والتقليد المذموم.
اشتهر كمال الدين محمد بن حبيب الله بلقبه المجيدري الذي لقب به وهو صغير، ولد في عام 1165هـ، من عائلة متعلمة ومتدينة من قبيلة اليعقوبيين الشمشوية المهتمة بالعلم والمثل العليا.
فقد والديه في صغره فرباه خاله محمد آب بن المختار فأحسن تربيته وأشرف بنفسه على تعليمه، وبعد إكمال المرحلة الأولى من تعليمه انتقل إلى مدرسة المختار بن بون، ولازمه، وكان أعظم تلاميذه من اليعقوبيين، اشتهر بالحفظ النادر والذكاء المفرط. وهناك مقولة اتفقت عليها المصادر التي وقفت عليها، تقول إن علماء القطر الشنقيطي في ذلك العهد أربعة، لم يبلغ أحد مبلغهم، عرفهم العام والخاص، وهم ابن رازكه، ومحمد سعيد اليدالي الديماني، والمجيدري بن حبيب الله، وسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم.
وبعد أن برز في العلوم المتداولة في بلده قام برحلة طويلة زار فيها عدد من الأقطار الإسلامية حيث زار المغرب ومصر ثم الحجاز وأدى مناسك الحج، ثم عاد ليشتغل بالعلم قراءة وتدريسا وتصنيفا، ونادى بضرورة التمسك بالكتاب والسنة والإبتعاد عن التأويل وعلم الكلام.
وأنكر عليه بعض العلماء، ولا سيما شيخه المختار بن بون الذي نسبه للبدعة والضلال، وانتصر له بعض العلماء من تلاميذه، وتلاميذ المختار أيضا، ودافعوا عنه وعن نهجه. ومن أشهرهم المأمون بن محمد المجاور اليعقوبي، ومولود بن أحمد الجواد.
وقد دارت بين الطائفتين الأشعرية بقيادة المختار، والسلفية بقيادة المجيدري، مناظرات آلت إلى صراع ساخن، تواصل هذا الصراع حتى بعد وفاة المجيدري، ذلك أنه لما بلغ المختار بن بون نعيه هجاه للأسف بقصيدة هذا مطلعها:
أودى الضلال ألا فليفرح الجذلا … من عاش بعد مضل شاقق الرسلا
فرد عليه مولود بن أحمد الجواد بقصيدة مطلعها:
أودى الكمال ألا فليفرح الجذلا … من لا يموت ومن لا ينقضي أجلا
موقفه من التصوف:
كان الزهد والرغبة عن الدنيا إلى الآخرة هو سلوك السلف الصالح من صحابة وتابعيهم وغيرهم، وعلى هذا المنهج سار المجيدري، فجاهد نفسه مجاهدة قائمة على ما أثر عن السلف.
وقد مر المجيدري عندما زار المغرب بالتازي الفقيه الصوفي، وتتلمذ عليه، لكن لم يبين التازي هل كان ذلك في العلم أم في التصوف، فذهب بعض المعاصرين إلى أن المجيدري كان سلفيا صوفيا، وتقول رواية إنه تلقى الطريقة الشاذلية على يد أحمد محمود بن أشفغ الخطاط.
والحقيقة أنه لم يتوفر خلاف ما نرجحه من سلفيته المطلقة، فالتصوف يخالف منهجه العلمي والعملي لأنه صرخ في وجه التقليد، وتمسك بالكتاب والسنة. والصوفية يقلد المريد فيهم شيخه حتى كأنه الميت بين يدي غاسله لا اختيار له ولا إرادة.
وأقوى خصوم المجيدري المعارضين له هو المختار بن بون، وقد اشتهر بعدائه للتصوف، وكان يشدد النكير على أبرز رجال التصوف المعاصرين له في قطره، وهو الشيخ سيدي المختار الكنتي، فلو كان المجيدري، وهو خصمه الأول، صوفيا لكان أنكر عليه هذا الجانب، ولم ينقل عنه ذلك.
وادعاء المتصوفة أن المجيدري أخذ عن بعض مشايخهم لا غرابة فيه، فهم دائما يحاولون أن يكثروا من أعلامهم بنسبة شخصيات مهمة إلى طريقتهم، وإن لم تكن لها علاقة بهم (تأمل في قول المعاصرين منهم إن ابن تيمية وابن القيم صوفيين !).
أيضا لم يأخذ تلاميذ المجيدري عنه التصوف بل العلوم الشرعية.
توفي المجيدري بعد حياة حافلة بالنشاط العلمي والدعوة إلى عقيدة السلف الصالح ومنهجهم، في عام 1204هـ في بلاده بموضع يقال له بئر أيكن، ويوجد قبره اليوم بمدينة أكجوجت عاصمة ولاية إينشيري.
حاملا لواء مدرسة المجيدري من بعده:
حمل لواء مدرسة المجيدري بعد وفاته تلميذاه اللذان ناصراه ضد المدرسة الأشعرية، وهما:
أولا: المأمون بن محمد اليعقوبي:
ويعتبر من أبرز علماء البلاد وشعرائها، وقد نافح عن العقيدة السلفية بقوة، وتولى حمل العبء الأكبر من مسؤولية مدرسة المجيدري من بعده، وقد تقلى العلوم على المختار بن بون والمجيدري، وغيرهما، وبرع في اللغة وصناعة الشعر. ولما نشب الخلاف بين شيخه المختار والمجيدري، وقف مع الأخير ضد المختار، وساجله شعرا، وكان يرد عليه بشدة. ووجه إليه الإتهام بتوهين الدين والإبتداع فيه، والعدول عن الكتاب والسنة إلى المنطق الأرسطاليسي.
توفي المأمون بن محمد في عام 1238 هـ.
ثانيا: مولود بن أحمد الجواد:
وقف مع شيخه المجيدري ضد المدرسة الأشعرية، وحمل لواء مدرسته من بعد زميله المأمون بن محمد. ويعتبر مولود من أعيان البلاد وعلمائها، تلقى العلم عن عدد من العلماء منهم المختار بن بون و المجيدري، وتبحر في العلوم المتداولة في أيامه. كان موهوب الجناب، مشهورا بسرعة الجواب، أيد المجيدري على المختار، وكان الأخير بارعا في علم الكلام فكان يلقي عليهم أسئلة من الألغاز الكلامية في مسائل العقيدة، وخاصة في مسألة كلام الله تعالى، فيتصدى مولود للرد عليها، متجنبا الخوض في المباحث الكلامية التي لا تدخل ضمن المنهج السلفي قدوة بالسلف الصالح، الذين كانوا يسكتون عن الخوض والجدال في المباحث الكلامية لا جهلا ولا عجزا بل عن علم وخشية الله تعالى. فعلم الكلام بدعة والبدعة لا تُرد ببدعة.
توفي مولود رحمه الله في عام 1243 هـ.
منهج مدرسة المجيدري في العقيدة:
يقول المجيدري: “اعلم يا مكلف أن الله أوجب عليك أن توحده فتعتقد يقينا بدليل الكتاب أو السنة، أو هما معا، أن الله موجود لا شبه له مع غيره في ذات، ولا صفة، ولا اسم، ولا حكم، ولا غير ذلك، فهو واحد لا يقبل الشرك في شيء”.
وتتجلى أبرز سمات المنهج السلفي في هذا النص، فقوله “بدليل الكتاب والسنة”، فيه تركيز على النقل منهما في جانب العقيدة أما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود.
كما بين المجيدري أن صفات الله تعالى يجب الإيمان بها على الحقيقة، حيث قال: “وصفاته تعالى على الحقيقة، فحياته وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه واستواؤه على عرشه، وكل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فصفه بها على الوجه اللائق بجلاله وكماله، ولا تؤول”.
وبين أن أصل الضلال هو قياس الغائب على الشاهد، وتحكيم العقل فيما لا يدركه.
وفي مسألة القدر بين المجيدري رحمه الله معتقده وهو معتقد السلف حيث قال: “واجب عليك الإيمان بالقدر خيره وشره”. وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك”.
وأورد قول الله عز وجل: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ”. وقال: “ومعنى الحديث وهو موافق للآية: “أن تعتقد أنما أراد الله أن يقع بك ولو تسبب في دفعه كل أحد لا ينجيك منه شيء، فلا تخف، فالخوف لا ينفع فيه، وينقص مرتبتك عند الله تعالى، وأن ما لم يرد ولو تسبب في وقوعه كل أحد لا يقع بك، إلا أن الله عز وجل أمر عباده بالأخذ بالأسباب رحمة بهم فصار تركها بدعة” (انظر “مبين الصراط المستقيم” رسالة في جامعة نواكشوط للآمنة بنت عبد الوهاب، كذلك يوجد من الرسائل الجامعية ما هو معنون بأسماء تلاميذه / في كلية الآداب).
وبالجملة فمنهج مدرسة المجيدري هو التمسك بالكتاب والسنة واقتفاء أثر السلف الصالح، حيث يقول:
أي الكتاب وأخبار النبي وما … جاء الثقات به عن صالح السلف
ما اعتاض عنها سوى أعمى البصيرة عن … نهج الحنيفية البيضاء ذو جنف
رين على القلب يكسوه السواد كما … يكسو المداد سواد أبيض الصحف
فالمصطفى حثنا عند اختلافهم … على التمسك بالقرآن ذي الشرف
وبالذي سن أو سنت صحابته … طرا وحذرنا من بدعة الخلف
مرجمات ظنون غير مجدية … شيئا عن الحق بل تفضي إلى التلف
فالحق إياك أن تعدل سواه به … لا يعدل اللؤلؤ المكنون بالخزف
موقف مدرسته من علم الكلام:
جاءت ثورة المجيدري في وقت سادت فيه العقيدة الأشعرية، وبلغت الصياغة الكلامية أوجها عمقا وانتشارا، وصارت العلوم الإسلامية منظومات تحفظ. لذا اشتهر مؤلفه المعروف ب”الأسئلة” على صغره، في الرد على المتكلمين وبيان تناقضهم، ولاقى جفاء كبيرا من المتكلمين الأشاعرة.
ولم تلق دعوته صدى إيجابيا في حينها، ولكنها أثرت الساحة فكريا فيما بعد، وتزايد مناصروها.
ويبين كتابه “الأسئلة” موقفه من علم الكلام، فقد رفض إقحام العقل بمفرده في مسائل الإعتقاد، كما بين أن العقول تختلف، والنتائج التي تتوصل إليها تختلف، فلا يمكن الإعتماد على حكمها وحدها. وهي أيضا عاجزة عن إدراك الغيبيات فلابد لها من الإعتماد على النقل.
وقد ناصب المختار بن بون – قائد المدرسة الأشعرية في عصره، والمعول على رأيه عند أشاعرة بلاده – العداء للمجيدري، واعتبر أسئلته تحديا وتعجيزا، ومحاولة للتقدم عليه، حيث يقول:
على رسلك أربع يا بن حبّل إنما … يقدم هذي الناس منا المتقدما
ومنها أبيات تحمل معنى السخط، كالبيتين التاليين:
وأهدى إلي العاب والشتم جازيا . . . وليس جزائي أن أعاب وأشتما
ألا قبح الله ابن حبّل إنه … جزاني سنمارا وما كان أظلما
وقد ألف محنض باب بن أعبيد الديماني رسالة في الرد على المجيدري نسبه فيها إلى البدعة والضلال.
وقد رد المجيدري على خصومه الأشاعرة في اتهامهم له بالإبتداع والضلال بقوله:
قال عبيد ربه المنتصر … من ظلمه محمد المجيدر
وفقه الإله في الأقوال … لصالح النية والأعمال
لو كنت بدعيا لما كان الصواب … عندي الأحاديث الصحاح والكتاب
ويظهر من هذه الأبيات تمسكه بالكتاب والسنة وعدم الرد عليهم بالكلام، وهذه سمة المدرسة السلفية عموما، يقول الإمام مالك: “إن المتكلمين لا يحارَبون بالجدال” (انظر “ترتيب المدارك” للقاضي عياض).
فلم تكن المدرسة تجيب على الألغاز الكلامية التي كان المختار يوجهها إليها كقوله موجها كلامه إلى مولود بن أحمد الجواد:
أحاجيك هذا النور قل ما وجوده … بقلب الذي يتلو ويقرأ بالفم
أينمي لما ينمي له وهو قائم … بذات العلي العالم المتكلم
أتجعله إذ ذاك وصفا محله … ذوات الورى أم ذو الجلال المعظم
في شرح قصيدة المختار لسيدي محمد فال بن محمد الديماني (مخطوط): حاصل معنى هذه الأبيات أنه سأله عن وجود النور الذي هو القرآن العظيم بقلب القارئ له ولسانه، من أي الموجودات، وذلك أن لكل موجود أربعة وجودات: وجود خارجي، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، ثم إنه سأله في بيته الأول عن وجود القرآن بقلب قارئه، وبلسانه، من أي الموجودات هو؟، ثم سأله في البيت الثاني: أينمي أي ينسب لما ينسب له من قيامه بقلب القارئ ولسانه، وهو مع ذلك قائم بذات الله عز وجل، وذلك لا يصح عقلا لأن فيه قيام صفة وحدة بمحلين: قديم، وحادث. ثم قال أتجعله وصفا.. إلخ (فلسفة ونظريات وظنون، وكلام فيما لا يدركه الإنسان، والإقتصار فيه على النقل خير).
هذه الأبيات من قصيدة طويلة وجهها المختار إلى مولود، وتدور كلها حول مسألة كلام الله تعالى، وهي مسألة تشعبت فيها أقوال الفرق الإسلامية.
قال الذهبي: “مسألة الكلام غامضة، ويكفي المسلم أن يؤمن بالقرآن العظيم جل منزله أنه كلام الله غير مخلوق، وأنه عين ما تكلم به منشيه ومبديه عز وجل..”.
وعلى طريقة السلف لم يدخل مولود مع المختار في الجدل والألغاز الكلامية. وجاء الرد على لسان المأمون بن محمد المجاور اليعقوبي الذي اتهم المختار بتوهين الدين والإبتداع فيه والعدول عن الكتاب والسنة إلى المنطق الأرسطاليسي، وفي ذلك يقول:
قد جرت معتسفا يا هادي الطّرقِ … وإنه البحر لا يقتلك بالغَرَقِ
أكثرتَ حزّكَ لوْ دَرَيْتَ مَفْصِلهُ … فادْرِ المَفاصِلَ قبلَ الحزّ واسْتفق
ما الدينُ إلا الذي تسعى لتُوهنهُ … آي النبيّ وآثارُ الهدى العتقِ
لا كلُّ خبْطٍ عنِ اليونانِ مبتدعٍ … قدْ سُنَّ بين أصولِ الدين مُختلقِ
تحمْي قوعدَ رَسطاليس تحسبُها … دِيناً لك الويلُ نبّهناك فاستفقِ
إنْ قلْتَ ساغتْ لمنْ تمت قريحتُهُ … أو أن تخلص لنا منْ مُسلم تَلقِ
ردَّا بأنّ أبا حفص قد أوْرَدَها … وردّها المصطفى منه على تأقِ
كما البخاريُّ في التوحيد أخرجه … والحبر أحمد والبزار في طرق
(التأقة: محركة، شدة الغضب والسرعة)
(وفي “الوسيط”: كان المأمون يهاجم المختار بن بون، وكان يؤلمه أكثر من غيره من شعراء قومه، روى أن المختار قال: لم يضيعني إلا أبو لفريرات – أي الساقط الأسنان -، يعني المأمون).
8- الشيخ باب ومنهجه في العقيدة
هو العلامة المحدث سِيدِيَّ بن سيدي محمد، اشتهر بلقبه “بَابَ” بن الشيخ سيدي، ويقال له الشيخ سيدي باب جمعا بين الإسم واللقب، وتميزا له عن جده الشيخ سيدي الكبير، وكنيته أبو محمد، ويرجع نسبه إلى قبيلة تَنْدْغَ، إحدى قبائل المرابطين.
ولد في عام 1277هـ في مدينة بُتِلِمِيتْ، في بلاده، من عائلة ذات شهرة دينية وعلمية، لها مكانة في المجتمع لا تكاد تظفر بها عائلة أخرى في البلاد. كان أبوه الشيخ سيدي محمد علامة لغوي وشاعر مجيد، له اليد الطولى في النحو والآداب والتاريخ، وغير ذلك.
واشتهر جده الشيخ سيدي الكبير بالعلم والكرم وحسن الخلق، حتى اتفق أهل زمانه على أنه لم يظهر مثله في بلاده.
توفي جده وهو في السابعة من عمره، وتوفي أبوه بعد ذلك بسنة واحدة، ورغم ذلك حفظ القرآن قبل بلوغه العاشرة من عمره، واشتغل بتحصيل العلم على كبار علماء بلاده مثل الشيخ أحمد بن ازوين، الذي يقول طلاب الشيخ سيدي الكبير أنه هو الذي ملآ الفراغ بعد الأخير.
ولما ناهز العشرين من عمره تاقت نفسه إلى معرفة الحق من منبعه، فعكف على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واستجلب الكتب من الآفاق بالأثمان الغالية، وكان إذا استعار كتابا أو استنسخه لا يضعه مع كتبه حتى يتصفحه ورقة ورقة ويعلق على ما فيه من غوامض وأخطاء.
وجعل السنة أساس سائر الأمور كالعقيدة ولشريعة والسلوك، كلها تدور عليها، وكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يبالي بما يصيبه في سبيله، فأقبل الناس عليه، وقاد دعوة سلفية تهدف إلى العودة بالإسلام إلى ينابيعه الصافية الأولى: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ الجمود والتقليد الأعمى.
ولما كان جل أهل القطر في المعتقد على مذهب أبي الحسن الأشعري الأوسط، وفي الفروع على رواية ابن القاسم عن مالك، وفي التصوف منقسمين شيعا وأحزابا.
بين لهم أن الصواب في المسألة الأولى: هو مذهب أهل القرون الثلاثة المفضلة، وهو رفض التأويل الكلامي، وإمرار ظاهر الكتاب والسنة من غير تشبيه ولا تكييف، ومن غير تأويل، ولا تحريف، ولا تعطيل، وعلى الوجه اللائق بالله عز وجل.
وفي المسألة الثانية بين لهم أن الواجب على العلماء أن يعرضوا آراء الفقهاء على الكتاب والسنة فما كان موافقا لهما أخذ، وما كان بخلاف ذلك ترك، لأن التقليد غير معصوم.
وكان لا يتعصب لإمام دون الآخر، ويثني عليهم جميعا، ويأخذ بما وافق الدليل من مسائلهم.
وفي المسألة الثالثة، وهي من أكثر المسائل تعقيدا في الحياة الموريتانية، بين للمتصوفة أن السلامة والفوز في إتباع الكتاب والسنة وما ثبت عن السلف الصالح، والإبتعاد عن المحدثات والبدع في الدين.
وعلى الرغم من أن أباه وجده كانا صوفيين، فإنه نبذ التصوف وأنكره، وانتقده نقدا علميا موضوعيا.
قال عنه صاحبه الفقيه الأديب المؤرخ المختار بن حامد: “هو العالم الذي أحيا السنة وعلومها، وقام بنشاط ملحوظ في نشر الدعوة إلى منهجه السني السلفي، وساعده على ذلك ما يتمتع به من جاه كبير، مع الإحاطة بما في الكتب التي في بلده”.
وقال عنه الشيخ أحمد بن أحمد المختار إنه: “العلامة المحقق الموحد، العالم المتبحر، سيف الله المسلول على المبتدعين والمعطلين، وأهل الخرافة أجمعين”.
توفي رحمه الله في بلاده في عام 1342 هـ، عن عمر بلغ أربعة وستين عاما.
دعوته المباركة
لقد دعا الشيخ باب إلى إمرار ظواهر الكتاب والسنة كما جاءت على الوجه اللائق بالله عز وجل، ونبذ التأويل، وحرم علم الكلام، وحذر من إدخاله في المعتقد، تبعا لأئمة السلف. وله منظومة في ذلك، قال بعدها: “وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة من الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار الذين ساروا على هذا المنهج كالإمام مالك، والشافعي، والسفيانين، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من الأئمة المتمسكين بهذا المذهب”.
ثم قال: “فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة.. ثم إنه من المحال أن يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل إليه من ربه، وينزل عليه “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ”، ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما تجوز نسبته إليه مما لا تجوز”.
والقارئ لهذا الكلام يلمس تقاربا بينه وبين كرم شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث يقول: “وكيف يتوهم من في قلبه أدنى مشكاة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام، ثم إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين”.
كذلك كان الشيخ باب في مجال التوسل متبعا للمنهج السلفي كغيره من مباحث العقيدة، وهو الوسيلة إليه تعالى بالعمل الصالح وأسمائه وصفاته، جل شأنه. وله منظومة من تسعة وتسعين بيتا، يتوسل في كل بيت منها باسم من أسماء الله الحسنى. منها:
يا الله قربني إليك قربى … وأكرمني بالمقام الأربى
فالوسيلة المشروعة هي الوسيلة إليه تعالى بالعمل الصالح وأسمائه وصفاته، وبدعاء الأنبياء والصالحين في حياتهم، أما المزاعم بأن المراد بالوسيلة مشايخ الطرق الصوفية الذين يكونون واسطة بين الناس وربهم، فهذا باطل.
وقد ذكر الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، أن الوسيلة المشروعة تكون بإتباع الرسل والنور الذي جاءوا به، وأما الأنبياء والصالحين فليس من المشروع التوسل بذواتهم ولا جاههم ولا حرمتهم، وإنما يشرع التوسل بدعائهم في حياتهم مثل ما فعله المسلمون في زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده، كما يشرع التوسل إليه جل وعلا بأسمائه وصفاته”.
أما موقفه من التصوف، فقد نبذ التصوف ولفظه، واعتبره من المحدثات والبدع في الدين، فقال في منظومته:
كن للإله نــــــــــــاصرا … وأنكر المناكـــــــــرا
وكن مع الحق الـــــذي … يرضاه منك دائـــــرا
ولا تعدّ نافعــــــــــــــا … سواءه أو ضائــــــرا
واسلك سبيل المصطفى … ومت عليه سائـــــــرا
فما كفى أولنـــــــــــــا … أليس يكفي الآخـــــرا؟
وكن لقوم أحدثــــــــوا … في أمره مهاجـــــــرا
قد موهوا بشبــــــــــه … واعتذروا معــــــاذرا
وزعموا مزاعمـــــــــا … وسودوا دفاتـــــــــرا
واحتنكوا أهل الفـــــلا … واحتنكوا الحواضــرا
وأورثت أكابــــــــــــر … بدعتها أصاغــــــــرا
وإن دعا مجـــــــــادل … في أمرهم إلى مــــرا
فلا تمار فيهــــــــــم … إلا مراء ظــــــاهـــرا
(أقول: وهذا هو النشيد الوطني للبلد الذي استمر نشيدا لها من 1960 حتى 2017 تقريبا، حتى غيره رئيس انقلاب 2008.. تركوا الفساد المستشري، والرواتب الضعيفة، والبنى التحتية الهشة والفقر الخانق، والتصوف المجرم الذي ينهب اموال الناس بالباطل ويضلهم، وقفزوا على نشيد يتضمن التوحيد و”كن للإله ناصرا وانكر المناكرا (وهي البدع والديمقراطية)”، لتضمنه للحل الوحيد المعيد إلى المحجة البيضاء، وهو انكار ذلك، والتمسك بالكتاب والسنة! وكما أغلقوا المعهد السعودي الذي كان يعلم الناس التوحيد، حذفوا النشيد السلفي المتبقي من رائحة السلف الصالح).
وقال أيضا:
آمِنْ أُخَيِّ وَاسْتَقِمْ … وَنَهْجَ أحْمَدَ الْتَزِمْ
وَاجْتَنِبِ السُّبُلَ، لَا … تَغْرُرْكَ أضْغَاثُ الْحُلُمْ
لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَدَى … خَيْرِ الْقُرُونِ قَدْ عُدِمْ
أحْدَثَهُ مَن لَمْ يَرِدْ … قَطْعًا بِأنَّهُ عُصِمْ
مِن بَعْدِ مَا قَدُ أُنزِلَتْ … “الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ”
وَبَعْدَ مَا صَحَّ لَدَى … جَمْعٍ عَلَى غَدِيرِ خُمْ
وَادْعُ إلَى سَبِيلِهِ … وَخُصَّ فِي النَّاسِ وَعُمْ
وَاذْكُرْ إذَا مَا أعْرَضُوا … “عَلَيْكُمُ أنفُسَكُمْ”
ووصف المتصوفة بأنهم مبتدعة يأكلون أموال الناس بالباطل، حيث قال:
آكِلُ مَالِ الناسِ بالبَاطلِ … مُزَخْرِفُ الْقَوْلِ بِلَا طَائِلِ
مُمِيلُهُمْ عَن سُنَّةِ الْمُصْطَفَى … إلَى طَرِيقِ الْبِدْعَةِ الْمَائِلِ
مُحَصِّلُ الْمَالِ بِلَا فَتْرَةٍ … فِي جَمْعِهِ، الْمَانِعُ لِلْحَاصِلِ
عَجْلَانُ فِي حَظٍّ لَهُ عَاجِلٍ … كَسْلَانُ فِي مَنفَعَةِ الْآجِلِ
فَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْوَرَى … فِي عَصْرِنَا بِالْعَارِفِ الْكَامِلِ
يَصْبُو إلَى زُخْرُفِهِ عَاقِلٌ … كَأَنَّهُ مَن لَيْسَ بِالْعَاقِلِ
وَوَقْعَةُ الْعَالِمِ فِي فَخِّهِ … شَبِيهَةٌ بِوَقْعَةِ الْغَافِلِ
اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى رَاقِعٍ … وَاخْتَلطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ
هَذَا وَذُو التَّوْحِيدِ عِنْوَانُهُ … إسْنَادُهُ الْفِعْلَ إلَى الْفَاعِلِ
من أبزر تلاميذه الذين تخرجوا من مدرسته، وحملوا فكره السلفي:
1- الشيخ محمد لمهابة بن سيدي محمود: ولد في ضواحي مدينة “مقطع لحجار” عام 1306هـ، برع في الفقه واللغة والحديث، رحل من مسقط رأسه بولاية لبراكنة إلى الشيخ سيدي باب في مدينة بتلميت، وأخذ عنه العقيدة السلفية. وبعد وفاته رحل إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، والتقي بالشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، وحصل على مكتبة سلفية كبيرة، وبعد عودته أبدى إعجابه بما شاهده من نصوع الحق على أيدي دعاة السلفية في المملكة العربية السعودية. وتصدى للرد على المبتدعة من متكلمين ومتصوفة وغيرهم، وفند آرائهم الواهية بالأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، واشتهر بالرد على أهل البدع حتى لقب ب”ابن تيمية الصغير”.
كان شيخ محظرة تعج بطلاب العلم، تخرج منها عدد من العلماء منهم: محمد بن عمر بن محمد بلال الجملي، وسيدي محمد بن تكدي اللمتوني، ومحمد الشيباني التجمري، وغيرهم.
ويشهد كتابه “مذهب السلف في التفويض في آيات الصفات وأحاديثها” بسلفيته، حيث ذكر أنه ألفه ليبين للأشعرية في بلاده منهج السلف الصالح، وقد زكى العلماء هذا الكتاب، ومنهم الشيخ بداه بن البصيري.
2- الشيخ محمد بن أبي مدين: ولد في نواحي مدينة بتلميت في عام 1322هـ، وتربى في حجر جده لأمه الشيخ سيدي باب الذي تولى تدريسه بنفسه حتى تفقه في الدين. وكان الشيخ يقول له: “اسأل عن كل ما عرض لك من إشكال فإن العلم إذا كشفته سترك، وإذا سترته فضحك”.
وأخذ أيضا عن والده وعن مشاهر علماء البلد حتى أصبح من أبرز علمائه في عصره.
وعاد إلى مكتبة جده ببتلميت، وانهمك في التدريس، واجتمع عليه طلاب العلم من مختلف أنحاء البلد. وفي عام 1941 م انتسب إلى سلك التعليم النظامي، وعين مدرسا في أول مدرسة ابتدائية تأسست في مدينة بتلميت، وظل فيها حتى فتح المعهد الإسلامي عام 1959م ببتلميت (أسسته جمعية ترق الثقافة برئاسة عبد الله بن باب بن الشيخ سيدي المتوفى عام 1384هـ)، فاختير للتدريس فيه، فدرس مادة الحديث، وظل يدرسها حتى توفي رحمه الله.
ألف عدة مؤلفات في مجالات العلم المختلفة منها “الصوارم والأسنة في الذب عن السنة”، و”شن الغارات على أهل وحدة الوجود وأهل معية الذات”، و”تحريم علم الفلسفة والمنطق”. لم يطبع منها إلا الكتاب الأول.
كان كثير الترحال في الأقطار الإسلامية، فاستجلب الكتب، وألقى المحاضرات، وكانت دروسه غالبا في بيان عقيدة السلف، والرد على أهل البدعة، في الحديث النبوي وعلومه.
وقد نال سمعة طيبة في نشاطه في الدعوة السلفية، ولا سيما في المغرب، فكان يزوره بين الحين والآخر ويلقي المحاضرات..
وكانت الحكومة الموريتانية تبعثه في مهام كثيرة إلى الخارج، فكان داعية سلفيا نشطا.
قال الشيخ المؤرخ المختار بن حامد: “وقد سافرت معه للمشاركة في ندوة الحسن الثاني بالمغرب، وألقى محاضرات ودروس إسلامية على نهج السلف، وناظر العلماء، ودعا إلى التمسك بالكتاب والسنة، وإتباع ما كان عليه السلف، وانتقد التصوف، ورد على أهله”.
وقال تلميذه الشيخ محمد محمود بن أحمد يور: “هو من أبرز الدعاة السلفيين في عصره، ومن أقواهم ردودا على المبدعة وأهل الضلال، وهو سبط الشيخ سيدي باب، وخريج مدرسته، وقد نهج نهجه في إتباع السنة، كما أنه تأثر بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وبكتب ابن قيم الجوزية، وبالعقيدة الطحاوية، وشرحها لإبن أبي العز الحنفي، وكان له نشاط بارز في الدعوة السلفية في عدد من الأقطار الإسلامية”.
ومن كتبه كتابه الصغير الحجم الكثير الفائدة الذي تناول فيه حياة جده، وهو “حياة باب بن الشيخ سيدي وعقيدته”، حيث بين فيه – وفي غيره من مؤلفاته – أنه على العقيدة السلفية.
وقد تميز في حياته بنصرة السنة والذب عنها، ومحاربة البدعة وأهلها. فرد في كتابه “شن الغارات” على أهل معية الذات (قول الجهمية إن الله في كل مكان)، وعلى أهل وحدة الوجود، وعلى الزنادقة ممن يقولون إن قصة موسى عليه السلام والخضر تدل على أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم… فنقل أقوال العلماء في كفر أصحاب هذه المسألة، وقال:
ومن يقل من مدعي ولاية … أن له من ربه عناية
دون إتباع المصطفي خير البشر … في باطن وظاهر فقد كفر
3- عبد الودود بن عبد الملك: ولد بضواحي بتلميت، حفظ القرآن في صغره قبل البلوغ، ورحل لطلب العلم على العلماء، ثم عاد إلى بتلميت ولازم الشيخ سيدي باب رحمه الله، وأكمل دراسته عليه، وتأثر بعقيدته السلفية، ثم جلس للتدريس وأصبح شيخ محظرة تعج بطلبة العلم، اشتهرت بالتركيز على تدريس القرآن الكريم والعقيدة السلفية.
ألف عدة مؤلفات جلها في علوم القرآن، وما تزال كلها مخطوطة، اشتهر بتلاوة القرآن والعبادة والزهد، وبنبذ التصوف وانتقاده، ورد على المتصوفة بردود علمية وهادئة.
ومن الفقهاء الذين تأثروا بالشيخ سيدي باب:
1- الشيخ المختار بن حامد الديماني: الفقيه والمؤرخ والشاعر، ولد سنة 1315هـ في منطقة الترارزة في الجنوب الغربي من موريتانيا، من أسرة عريقة في العلم، أخذ عن والده وعدد من علماء المنطقة، لقي الشيخ سيدي باب، وقرأ كتبه، وتأثر بسلفيته.
اشتهر بالتبحر في علم التاريخ حتى لقب بابن خلدون الثاني، له كتاب “موسوعة جغرافية موريتانيا، وقد ترجمه المعهد الفرنسي إلى الفرنسة، وكتاب “حياة موريتانيا” أتم منه 12 مجلدا.
يقول: “كنت ألتقي بالشيخ سيدي باب وأقرأ كتبه، فتأثرت باتجاهه في العقيدة السلفية، واعتنقتها، فوقفت عند ظاهر نصوص الكتاب والسنة، وتركت التأويل” (قال هذا في لقاء مع الباحث جرى بالمدينة المنورة).
واقترب في موقفه من التصوف من موقف شيح الإسلام ابن تيمية، فهو لا يحكم عليه بحكم واحد بل يفصل فيه حيث يقول: “إذا كان المراد بالتصوف مقام الإحسان، ولا يخالف صاحبه ما جاء في الكتاب وثبت في السنة، وما كان عليه السلف الصالح، فهذا شيء حسن. وإذا كان المراد به ما عليه المتصوفة الدجاجلة الذين همهم تسخير الناس لمصالحهم، وأكل أموالهم بالباطل، فهذا ليس من الحق في شيء، وهو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن – يقول المختار – ننكر ونرجو الله لأصحابه الهدى” (اللقاء السابق).
2- الشيخ سيد المختار بن عبد المالك: أحد مشاهير الفقهاء السلفيين الذين عاصروا الشيخ سيدي باب، وتبنوا منهجه، وقد عاش في منطقة تكانت والرقيبة حيث تسود العقيدة الأشعرية، والعقيدة السلفية شبه منعدمة، ولا توجد إلا في غرب موريتانيا عند باب بن الشيخ سيدي وتلاميذه.
كان شيخ محظرة درس فيها المنهج السلفي، وعاش في الفترة ما بين 1316هـ – 1375هـ.
ولا أدري هل تم اللقاء بين الشيخين، ولكن لإنعدام دعوة أخرى سلفية غير دعوة باب، نرجح أنه تأثر بها من خلال كتبه أو التقى به، فقد عاش الرجلان في فترة واحدة. والمهم أنه كان سلفيا سواء أخذ ذلك عن باب أم لم يأخذه.
وقد منع تلاميذه من دراسة العقيدة الأشعرية، وألزمهم بحفظ مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان إذا عرض له أثناء تدريس متن شيء من الكلام يقول لمن يدرسه: “هذا مذهب كلامي لا حاجة لك به فأرم به عُرض الحائط”. وكان يذم أهل الكلام، وينكر على المتصوفة ولا يقبل شهادتهم، ولا يصلي خلفهم.
3- الشيخ محمد الشيباني بن محمد النجمري: عالم وشاعر وأديب، ولد في حدود 1344هـ، في ضواحي مقطع لحجار، درس على عدة علماء من أبرزهم محمد لمهابة بن سيدي محمد الذي لفت نظره إلى ضرورة الأخذ بالدليل والرجوع إلى الكتاب والسنة في العقيدة والشريعة والسلوك.
لم يدرك الشيخ سيدي باب، ولكنه تأثر بمنهجه السلفي فقد درس على الشيخ محمد لمهابة وهو من أبرز تلاميذ الشيخ.
يقول في التصوف:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه … ولا بكاؤك إن غنى المغنونا
ولا صياح ولا رقص ولا لعب … ولا مجون كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر …وتتبع الحق والقرآن والدينا
وأن تُرَى عابدا لله محتسبا … على ذنوبك طول الدهر محزونا
9- الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي
يعتبر من أبرز العلماء الذين رحلوا إلى المشرق، بل هو أبرزهم، بل أبرز علماء القرن الرابع عشر الهجري.
هو محمد الأمين الملقب “آب”، بمد الهمزة وتشديد الباء، ابن محمد المختار، الملقب “اخطور” اختصارا للمختار، الجكني، يرجع نسبه إلى قبيلة لمتونة.
ولد في موريتانيا عند ماء يقال له “تنبه” من أعمال مديرية كيفة، سنة 1325هـ، ونشأ يتيما. وسكن مع أخواله (أمه بنت عم أبيه)، وحفظ القرآن على خاله عبد الله بن محمد المختار.
وأخذ عن زوجة خاله مبادئ النحو كالآجرومية، وتمرينات في أنساب العرب وأيامهم، والسيرة النبوية..
قال تلميذه الشيخ عطية محمد سالم أن الشيخ الأمين قاله: “لا توجد في القرآن آية من كتاب الله إلا درستها على حدة”، وقال: “كل آية قال فيها الأقدمون شيئا فهو عندي”.
كانت له في بلده محظرة يدرس فيها القرآن والعقيدة السلفية من الكتاب والسنة، قال الدكتور محمد ولد سيدي الحبيب: “تلقيت عن الشيخ محمد الأمين في البلاد سنة سفره عام 1367هـ، بعض العقائد، إملاءات في التوحيد، حيث كنت أحضر حلقاته وأنا صغير جدا، ووعيت عنه فيها”.
وقد تولى الفتيا والقضاء، واشتهر بالفراسة في القضاء، ونال فيه ثقة عظيمة عند الناس، فكانوا يفدون إليه من أماكن بعيدة.
وكان يقضي في كل القضايا التي تعرض لديه إلا الدماء والحدود، حيث كان قضاؤها الخاص بها في أنظمة السلطة الفرنسية، تنظر فيها محاكمها فإذا انتهى الحكم إلى الإعدام عرضته السلطة المختصة على لجنة الدماء، وهي مؤلفة عادة من اثنين من كبار علماء الشريعة، وعلى موافقة هذه اللجنة يتوقف نفاذ الحكم. وكان الشيخ أحد هؤلاء المعتمدين لأعوام طويلة.
وفي أثناء رحلته إلى بيت الله للحج ظل يدرس فدرس في أكثر من عشرة أماكن في أقطار مختلفة. وكان ينوي العودة بعد أداء مناسك الحج، لكنه نوى الإقامة في الحرمين الشريفين، وسبب ذلك أنه مر عن غير قصد في يوم عرفة بقرب مسجد نمرة على خيمة فيها الأميران تركي السديري أمير “أبها”، وخالد السديري أخوه، أمير “تبوك”، قال الشيخ: “فجلسنا قليلا في ظل الضحى من خيمتهم ننتظر رفقتنا، فآوونا وأكرمونا غاية الإكرام، وأظهروا السرور بالمعارفة معنا، وتذاكرنا معهم مذاكرة أدبية”.
فأعجبوا بعلمه، وأوصوه إن هو قدم المدينة أن يلتقي بالشيخ عب العزيز الزاحم، والشيخ عبد العزيز بن صالح، فالتقى بهما، ودارت بينه وبينهما مناقشة، وقدم له الأخير كتاب “المغني” لإبن قدامة كأصل للمذهب الحنبلي، وبعض كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فقرأها، وتعددت اللقاءات والجلسات، فوجد الشيخ مذهبا معلوما لإمام جليل هو أحمد، ووجد منهجا سليما لعقيدة السلف يعتمد على الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فذهب زيف الدعايات الباطلة، وتوطدت العلاقات بين الطرفين، وتجددت رغبة متبادلة في بقائه لإفادة المسلمين، ورغب في الجوار والمقام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنظر ترجمة الشيخ لعطية محمد سالم).
وتم تعينه مدرسا في المسجد النبوي، بأمر الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله، وقد ختم لقرآن في تفسيره بالمسجد النبوي مرتين، ومات قبل أن يكمل الثالثة. وكان الدرس في بداية أمره سنة 69- 1370هـ، يوميا على مدار العام، ثم صار مقتصرا على الإجازة الصيفية من عام 1371هـ، حيث انتقل إلى الرياض لتدريس التفسير والأصول بالمعهد العلمي وكليتي الشريعة واللغة.
وبقي بالرياض عشر سنين، يعود إلى المدينة صيف كل عام، حتى فتحت الجامعة الإسلامية عام 1381هـ فعاد إلى المدينة، واستمر يدرس بالجامعة عضوا في مجلسها.
وأكثر مؤلفاته في موريتانيا منظومات لأن المجتمع هنالك يميل إلى النظم، ولا يعد علما إلا ما حفظ في الصدور، والنظم أسهل حفظا من النثر. أما بعد قدومه إلى المملكة فقد ألف جل مؤلفاته، رغم أنه ليس من المكثرين في التأليف، ربما لكثرة المشاغل في التدريس.
وأهم مصنفاته كتابه “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن”، وقد توفي قبل إتمامه، وهو أحسن ما أُلف في مجاله.
توفي رحمه الله يوم الخميس 17/12/1393 هـ بمكة وهو عائد من الحج، فصلى عليه الشيخ عبد العزيز بن باز في الحرم المكي بعد صلاة الظهر، ودفن بمقبرة المعلاة. وفي ليلة الأحد أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبوي وصلى عليه الشيخ عبد العزيز بن صالح.
عقيدته السلفية، ورحلته الدعوية إلى بلده
تميز الشيخ رحمه الله بعقيدته السلفية التي تابع فيها رجال خير القرون على الرغم من أنه نشأ في بيئة علمية تغلب عليها العقيدة الأشعرية وعلم الكلام إلا أنه كان من القلة الذين وقفوا عند نصوص الكتاب والسنة ولفظوا علم الكلام.
والواقع أنه كان سلفيا قبل قدومه إلى المملكة، يدل على ذلك جواب له في أثناء رحلته – الأولى للحج – عندما سئل في مدينة النعمة عن مذهب أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها، فأجاب بأن المذهب الذي يسلم صاحبه من ورطتي التعطيل والتشبيه هو مذهب سلف الأمة من الصحابة، فمجانبة التعطل أن تثبت لله جل وعلا كل وصف أثبته لنفسه وأثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم، ومجانبة التشبيه أن تعلم أن ذلك ثابت على الوجه البالغ من كمال العلو والرفعة والشرف ما يقطع علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين..
وبعد قدومه إلى المملكة توسع في العلوم عموما، وفي العقيدة السلفية خصوصا، وذلك بسبب وفرة المصادر الإسلامية، والنهضة العلمية التي تزامنت مع قدومه على هذه البلاد.
وكتب الشيخ ومحاضراته مليئة بالدفاع عن مذهب السلف وإثبات أنه الحق في مجال الصفات، والقضاء والقدر، وغيرها من المسائل.
كما رد على المتصوفة في كتابه أضواء البيان عند تفسيره للآية ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ “، والآية “فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا”، والآية “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ”.
وقد تأثر كثير من سلفيي موريتانيا به رحمه الله، وقد ظل رحمه الله على اتصال بالموريتانيين القادمين إلى السعودية، وتوج ذلك برحلة قام بها للدعوة في عشر دول إفريقية منها موريتانيا، وجرت بينه وبين العلماء مناقشات علمية كان من نتائجها رجوع بعض المخالفين له في العقيدة عن موقفهم، من هؤلاء الشيخ أحمد الأفرم بن محمد رحمه الله المتوفى 1388هـ، تولى القضاء، وكان رئيسا لقبيلته. وكان ابنه الشيخ محمد الأمين بن الشيخ أحمد إمام وخطيب الجامع في مدينة كيفة يحذر الناس من آراء الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الإعتقادية، ولما لقيه واجتمع به، قال قصيدة تدل على اقتناعه واستحسانه لما سمعه منه في مجالسته ومحاضراته.
ويذكر تلميذه الشيخ محمد الخضر الناجي، وهو أكثر تلاميذه اندفاعا في سبيل الدعوة السلفية، وخاصة في موريتانيا، أن مشايخ الأشاعرة في موريتانيا لما التقوا بالشيخ الأمين رحمه الله، ورأوا شخصيته العلمية لم يستطيعوا الوقوف أمامه.
وقد كانت رحلة الشيخ الدعوة في إطار بعثة الجامعة الإسلامية ورابطة العالم الإسلامي إلى عدد من دول إفريقيا وكان لها صدى في موريتانيا التي شغلت حيزا كبير في مدتها ونشاطها، وتأثر كثير من أهلها بالشيخ محمد الأمين الذي زار إحدى عشرة مدينة، فكانت ساحة نزول هذه البعثة عبارة عن مدرسة دائمة تلقى فيه المحاضرات والكلمات.. وكان الإمام السابق في مدينة كيفة يحذر من هذه البعثة فلما سمع من الشيخ اقتنع ومدحه بقصيرة هو والبعثة ولازمه حتى ودعه بقصيدة أخرى..
وأكثر المدن ارتياحا لهذه البعثة هم أهالي بتلميت، وخاصة أهل الشيخ سيدي لإتفاقهم مع الشيخ الأمين في العقيدة السلفية.
سبق أن ذكرنا أن غالبية الموريتانيين في عهد الشيخ أشاعرة، وجميعهم مالكيون في الفروع، لا يرون الخروج عن مذهب مالك رحمه الله. لذا ما أن وصل كتاب الشيخ “أضواء البيان” إلى موريتانيا وقرأه مشايخ الأشاعرة المالكيين، ووقفوا على منهج صاحبه البعيد عن تأويل المتكلمين، والتعصب لآراء الفقهاء حتى قامت حوله ضجة، ودار جدال مرير في المحاضر ما بين مؤيد وناقد، وكان السبب في نقده هو ما فيه من إثبات كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة لا مجازا.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن استقلالية مؤلفه في الرأي عند عرض آراء الفقهاء على الأدلة الشرعية، وترجيحه أحيانا لما يخالف المذهب المالكي، كان سببا في نقده.
وكان غالبية الفقهاء في البلاد يرون الخروج عن مذهب الأشاعرة ضلالة، ويسمون من يثبت الصفات حقيقة حشوية ومجسمة.
وقد وصل الأمر ببعض الفقهاء إلى وصفه بالخروج عن السنة وحذروا منه ومن كتبه. ويقولون: “الرجل عنده من العلم ما يستميل به القارئ، فالحذر الحذر”.
والذين تكلموا فيه بما أرادوا أقل ممن سكت ولم يتكلم، ومنهم ابن عمه الشيخ محمد الحسن بن الطيب اليعقوبي الجكني رحمه الله، فكان عند ظهور الشيخ يظهر خلافه ويحذر منه ومن كتبه، ويقول إنه خرج عن منهج أهل السنة وابتدع في كتبه.
وقد ألف بعض العلماء في الرد عليه في بعض المسائل، ومن هؤلاء الشيخ محمد عبد الله بن لإمام الذي ألف رسالة في إثبات المجاز في القرآن الكريم، للرد على الشيخ في منعه المجاز في القرآن.
هذه ردة فعل بعض الفقهاء على كتبه عند وصولها إليهم، أما بعد وصول مؤلف هذه الكتب إلى موريتانيا بعد ذلك سنة 1385هـ، فقد أعاد بعض الفقهاء النظر في مواقفهم منه ومن مؤلفاته، وأصبح “أضواء البيان” الذي كان بالأمس منبوذا يلقى إقبالا واسع النطاق في الأوساط العلمية هناك.
ويتفق كل من لقيتهم من العلماء في أن لكتبه رحمه الله تأثير في اتجاه العقيدة السلفية في تلك البلاد.
يقول ابنه الدكتور عبد الله: “لقد أثرت كتب الشيخ الوالد محمد الأمين رحمه الله كثيرا في القطر الموريتاني، والذي يزور موريتانيا حاليا يرى أن العقيدة السلفية أصبح كثير من الدارسين يعتنقها، ولكن هذا التأثير لم يكن ملموسا إلا بعد زيارة الشيخ محمد الأمين رحمه الله لموريتانيا سنة 1385هـ، وبعد انتشار أشرطته، ورجوع تلاميذه الشناقطة إلى وطنهم بعد نهاية دراستهم عليه”.
والواقع أن المتأثرين بكتب الشيخ الأمين رحمه الله الراضين عنها وعن منهجها كثيرون في موريتانيا اليوم (المقصود أوائل التسعينات)، وفي الوقت نفسه فإن المعادين لها، والناقمين عليها من متكلمين ومتصوفة كثيرون أيضا. والذي يظهر أن أعدائها – على الرغم من أنهم يتناقصون – ما زالوا أكثر من أنصارها، والله أعلم.
نشاط تلاميذه في الدعوة السلفية في موريتانيا
كان للشيخ تلاميذ كثر في المملكة من أهل بلاده، عاملهم معاملة الوالد، ودرسهم ورباهم، وقد تزايد عددهم بعد افتتاح الجامعة الإسلامية التي كان هدفها تعليم أبناء المسلمين بغض النظر عن جنسياتهم، وقد كان الشيخ يسكن بعضهم في حجرات بيته وينفق عليهم من ماله الخاص.
يقول الشيخ عطية سالم عن الشيخ محمد الأمين رحمه الله إنه ربى أفواجا متلاحقة تعد بالآلاف من خريجي كليات ومعاهد الإدارة العامة بالرياض، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ما مات إلا بعد أن أصبح له في كل دائرة من دوائر الحكومة في أنحاء البلاد ابنا من أبنائه، وفي كل قطر إسلامي بعثة من البعثات الإسلامية لمنح الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
فمن تلاميذ الشيخ الذين برزوا في الدعوة:
1- الشيخ أحمد بن أحمد المختار: ولد في موريتانيا 1344هـ، ودرس الفرنسية أيام الإستعمار، ورحل إلى المملكة لأخذ العلم على الشيخ محمد الأمين، وعمل مدرسا في الحرم المكي سنين عديدة حتى أحيل إلى التقاعد عام 1408هـ، وبعد ذلك استقر في موريتانيا.
يعتبر من أبرز الدعاة السلفيين المعاصرين علما ونشاطا، ومن أشدهم انتقادا للبدع، ولا سيما بدع المتصوفة، وكتاباه “إكمال تحفة الألباب شرح الأنساب”، و”مواهب الجليل على مختصر خليل” شاهدان على ذلك.
وقد قابلته في بيته في كيفة أثناء الرحلة العلمية، وحدثني عن نشاطه في الدعوة السلفية، وما لقيه من المشقة والأذى في سبيل ذلك. وحدثني عن مذهب السلف في إثبات الصفات على الوجه اللائق بالله عز وجل، وعن كون أفعال العباد مخلوقة لقوله تعالى: “والله خلقكم وما تعملون”.
وقال إن التعصب المذهبي أضر بكثير من طلبة العلم في هذه البلاد، وأنه بين لهم في دروسه أن المسلم عليه أن يلتزم بالكتاب والسنة، ولا يعنيه قول من خالفهما كائنا من كان، وأن التعصب لقول معين بدون دليل لا ينبغي أن يفعله من له مسكة علم، وأنه لا يجب على أحد تقليد مجتهد بعينه..
وقال إنه لاقى الأمرين في سبيل الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة وإتباع منهج السلف الصالح في العقيدة، وفي غيرها من أمور الدين، وتقوّل عليه بعض الناس أقاويل في الإعتقاد، وفي غيره من المسائل الدينية، “وقاطع كثير منهم الصلاة في مسجدنا خوفا مما يسمونه الوهابية”.
وقال إن المتصوفة أخذوا منه جهدا في الدعوة أكثر مما أخذ المتكلمون، وأصحاب التعصب المذهبي. فرد عليهم الشيخ في الكتابين المذكورين سابقا ردودا وافية. فرد الزعم بأن للشريعة باطنا يعلمه الخواص وظاهرا بعلمه أهل الظاهر، وقال إن هذا الزعم خرافة لا يقرها الواقع.
كما أنكر عليهم قولهم إن المريد لا ينبغي له أن ينكر على شيخه بقلبه ولو رآه مخالفا لظاهر الشرع لئلا يحبط عمله ! فرد عليهم بأن هذا مخالفا لما جاء في الحديث الصحيح “من رأى منكم منكرا فليغيره” الحديث.
وانتقد نظام الخلافة عندهم، والذي منه توليتهم الحلقة دائما “ابن الشيخ”، وإن كان أجهل وأفسق من حمار أبيه، وقد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم وفي حلقته أهل قرابته، فعدل المسلمون عن هؤلاء ابتغاء مرضاة الله، وسعيا في مصلحة المسلمين رجل من تيم بن مرة، فبايعوا لأبي بكر رضي الله عنه.
فما بال هذه الحلقات والزوايا التي يدعي أصحابها أنها يُبتغى بها وجه الله والدار الآخرة، أن لا تجري خلافتها على هذا النمط؟ ولكن الجواب الذي يفرض نفسه هو أنها مؤسسات تجارية قام أصحابها بتأسيسها ابتزازا لأموال الناس، وتسخيرا للأيدي العاملة لمصالحها الدنيوية ليس إلا (انظر تحفة الألباب)..
2- الشيخ محمد عبد الله بن الصديق: من مشاهير علماء موريتانيا المعاصرين، ولد في ضواحي كيفة، ودرس على عدد من مشاهير علماء بلده، وسافر للحج والتقي بالشيخ محمد الأمين فكان يحضر دروسه في المسجد النبوي الشريف، ثم سافر إلى السودان ودرس في المعهد العلمي بأم درمان، ثم عاد إلى بلده في عام 1964م، وظل يدرس العلم في بيته وفي وزارة التعليم طيلة ثلاث عشر سنة، قضى منها ست سنين مدرسا بمعهد بتلميت، ثم انتدب ضمن بعثة من خيرة علماء بلده للعمل في القضاء والفتيا في دولة الإمارات.
وقد وصفه شيخه محمد الأمين بن محمد المختار بأنه أفهم طلابه الموريتانيين للمنطق وأصول الفقه، وقال عنه الشيخ بداه البصيري “إنه السني السني، علامة زمانه، وسيد أوانه”.
يمتاز بالحكمة في الدعوة، ويحظى بثقة غالبية العلماء وطلاب العلم في بلاده. ولذلك لقيت دعوته قبولا وتأثيرا، وترتكز على التمسك بالكتاب والسنة وإتباع سلف الأمة في فهم الإسلام وتطبيقه.
وقد خصص جزء من بيته في الإمارات للتدريس، وجعل فيه مكتبة ضخمة، فانتفع به كثير من أبناء بلده وغيرهم.
3- الشيخ محمد المختار بن سيدي محمد: ولد في موريتانيا سنة 1943م، ورحل إلى المملكة السعودية في عام 1958م، وأدى مناسك الحج، ثم أقام بالمدينة، واتصل بالشيخ محمد الأمين والشيخ حماد الأنصاري، ودرس عليهما. والتحق بالجامعة الإسلامية ودرس بها حتى تخرج بالإجازة العالية (الليسانس) عام 1971م، وعاد إلى بلاده فعين رئيسا للمحكمة الإقليمية في مدينة أطار، ثم شغل نفس الوظيفة في مدن أخرى.
يعتبر من أبرز دعاة السلفية المعاصرين في المنطقة، قال شيخه حماد الأنصاري عنه: “كان محمد المختار بن سيدي محمد طالبا عندي في المدينة المنورة، وقد حدثني أنه كان يكره السلفيين، وبعد الدراسة والبحث، تبين له أنهم على الحق، وقد طلب مني أن أملي عليه أسماء كتب السلف في العقيدة، وبعد ذلك صار يبحث عنها، ويبالغ في جمعها وشرائها، وما توجه إلى موريتانيا إلا وهو يحمل مذهب السلف في صدره بالإضافة إلى المكتب السلفية الكبيرة التي حصل عليها في هذه البلاد”.
قال عن طريقة المتكلمين إنها مبعدة عن الكتاب والسنة، وتشحن الذهن بمقدمات ونتائج تؤدي إلى الحيرة والضلال.
وقال لي إنه لاقى صعوبات في دعوته إلى السلفية بعد عودته، وقاطع كثير من الناس دروسه في بداية الأمر خوفا من التأثر بما يسمونه الوهابية التي كانوا يسيئون فهمها يومئذ، لأنه خريج الجامعة الإسلامية وشيخه محمد الأمين الذي حكم عليه كثير من أهل هذه البلاد بأنه وهابي، هو وطلبته..
وقال إنه تعامل مع هذه الصعوبات بمرونة وكان يتجنب دائما ذكر أسماء الفرق المنحرفة، ويركز على بيان الحق بدليله من الكتاب والسنة.
وقال إن الشيخ ابن باز ساعده بإمداده بالكتب السلفية، وخاصة “الإبانة عن أصول الديانة” لإبي موسى الأشعري، و”الأنوار الرحمانية في هداية الفرقة التيجانية” لعبد الرحيم بن يوسف الإفريقي، فقام بتقسيم هذه الكتب على الناس، وكان ذلك سببا في هداية بعضهم. وقال إنه خلال العشرين سنة التي قضاها في الدعوة التي قام بها في عدد من مدن البلاد، لاحظ تأثيرا متزايدا في اتجاه العقيدة السلفية.
4- الدكتور محمد بن ماديك: ولد في بلده في عام 1940م، درس مبادئ العلوم في المحاظر، ثم التحق بالجامعة الإسلامية وحصل منها على الإجازة العالية، وفي هذه الفترة لازم الشيخ محمد الأمين ودرس عليه. كما درس العقيدة أيضا على الشيخ عبد العزيز بن باز، ودرس أيضا بالأزهر، ثم عاد إلى السعودية، وعينته الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد مديرا لمركز الدعوة السعودي في موريتانيا، ولما تولى إدارة هذا المركز قام بنشاط في الدعوة أثار عليه فرق المتصوفة فحاربوه محاربة لا هوادة فيها، واستخدموا في ذلك المكر والسياسة، فاستدعته الرئاسة العامة للعمل في داخل المملكة ففضل الإستقالة وأسس المعهد الإسلامي السلفي في كيفة.
استخدم في دعوته السلفية وسائل عديدة، مثل الحاضرات الكثيرة التي نشرت في وسائل الإعلام، وفتح المعهد الإسلامي السلفي في مدينة كيفة، وألف كتابا جيدا بين فيه عقيدة السلف، ورد على المخالفين لهم، سماه: “رسالة المعهد الإسلامي السلفي في التوحيد”.
قام بنشاط كبير في بيان عقيدة السلف منذ سنة 1971م، فرد على شبه المتكلمين، وأبطل مزاعم المتصوفة وخرافاتهم، وذلك في المحاضرات الكثيرة التي نشرت في الصحف، وأذيعت في برامج الإذاعة الوطنية في نواكشوط.
وقال إنه لاقى الأذى في سبيل ذلك من طوائف المبتدعة، وخصوصا المتصوفة، وقد استفاد منه كثير من الناس.
5- الدكتور محمد الخضر الناجي ضيف الله: ولد في بلده بولاية تكانت ودرس مبادئ العلوم، ثم سافر إلى المملكة السعودية لأداء مناسك الحج وطلب العلم، وكان قد قرأ في كتاب “أضواء البيان” قبل سفره، وعزم على التعلم على مؤلفه، والتقى به في عام 1385هـ، ولازمه حتى توفي 1393هـ، وأخذ عنه بعض العلوم. وهو من أخص تلاميذه، وأنشطهم في الدعوة لسلفية، كان كاتبا له في أضواء البيان فترة من الزمن، وبسبب ذلك قرأ عليه الجزء الخامس والسادس وشيئا من السابع، وهو الآن أستاذ بقسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى (المقصود أوائل التسعينات).
قام بعدة زيارات لموريتانيا، ومارس الدعوة السلفية في كثير من مدنها وقراها، ولقي في سبيل ذلك الكثير من المتاعب والمضايقات من الأشاعرة والمتصوفة على حد سواء، وهُدد بالضرب من أتباع الطريقة القادرية.
قال لي إنه قضى سبع سنين يطلب العلم على الشيخ محمد الأمين وغيره، وفي الجامعة الإسلامية، ثم سافر إلى موريتانيا لزيارة أهله والدعوة إلى الله عز وجل، فدخل على شيخه عندما عزم على السفر طالبا منه أن يوصيه، فأوصه بتقوى الله تاليا الآية “وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ”. ثم قال له: “أوصيك يا ولدي إذا جلست في مجلس فانظر حال أهله، فإن رأيت إصغاء ولمست استفادة، فتلكم، وإلا فاترك”.
وشد عزمه عندما أبدى له تخوفه من مواجهة الفقهاء الكبار، فقال: “يا بني لا تخف، سوف لن يقف أحد أمامك إن شاء الله لأن الذي عندك مبني على أدلة من الوحي، وهم على خلاف ذلك”. فاستفاد من الوصيتين.
قال إنه كان ينتهز فرصة المجالس الخاصة مع أهله وأقرانه فيتكلم بما عنده، ويحاول جهده ألا يدع مجالا للنقاش خوف ضياع الوقت.
كما كان ينتهز فرص التجمعات الكبيرة في المساجد يوم الجمعة، وكانت أول محاضرة له يوم الجمعة بالجامع الكبير بالعاصمة نواكشوط الذي يؤمه العلامة بداه بن البصيري، ويحضره العلماء وكبار الدولة (عام 1391هـ)، وركز فيها على الحث على إقامة حدود الله على أرض الله، ونبه على أن رئيس الدولة مسلم والشعب مسلم، فما المانع من تطبيق شرع الله ؟
كما ركز فيها على الحث على العودة إلى الكتاب والسنة، والتحذير من البدع، وبين أن الطرق الصوفية الموجودة في البلاد كلها بدعية.
وتتابعت المحاضرات بعد ذلك في مساجد نواكشوط، ثم زار بعض المدن الأخرى وألقى محاضرات فيها، ثم سافر إلى قرية “بلحراث” التابعة لمديرية كيفة، ومكث فيها عشرين يوما، وقام فيها بمناقشات في مسجد الحي، وألقى الضوء على بعض المسائل العقدية المهمة، وكان في الحي طوائف من أهل الطرق الصوفية، فلم يستطع الكلام في الجامع بطريقة صريحة معلنة خوفا من الفتنة بين الأحياء. واستفاد منه أناس، ثم سافر إلى مدينتين هما أكبر مدن تلك المنطقة وغالبية الناس فيهما أشاعرة، والبعض من الأشاعرة فيهما متصوفة، وهما “كيفة”، و”قرو”، وكثف النشاط في الدعوة فيهما على مدى أسابيع، حذر فيها من البدع والمذاهب الفكرية المعادية للإسلام كالشيوعية والعلمانية والقومية، وكان ذلك على مدى زيارات يقوم بها للبلد من حين لآخر قادما من السعودية.
وكان تركيزه كما قال لي، على الأشاعرة المتكلمين، والمتصوفة أصحاب الطريقة القادرية، ومحاولة إقناعهم بالرجوع إلى الحق لما لهما من وجود وتأثير كبير في البلد.
فبين للمتكلمين أن الصواب ما كان عليه السلف الصالح أصحاب القرون الثلاثة المزكاة، وأن العقل تابع للنقل وليس العكس. أما المتصوفة أصحاب الطريقة القادرية فشرح لهم سلوك السلف الصالح وزهدهم، وبين لهم أن التصوف بدعة، وأن نظام الزوايا مخالف للسنة، وركز النقاش معهم على انحرافاتهم في العقيدة، وخاصة توحيد العبادة، حيث أن المتصوفة يسيطر عليهم الغلو في مشايخهم الأحياء والأموات إلى حد أن كثير نهم ينادونهم ويستغيثون بهم ويطلبون منهم ما هو من خصائص الرب جل وعلا مثل الحصول على الولد وشفاء المريض وتفريج الكربات، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، والتي هي من خصائص الله سبحانه وتعالى. فبين لهم أن الدعاء مخ العبادة فلا يجوز صرفه لغير الله عز وجل، وأن المخلوقين ليس بأيديهم شيء، ولا يستطيعون إعطاء هذه المطالب..
وقال إن كثير من الناس تأثروا بهذه الدعوة السلفية، غير أن الناس يتفاوتون، فالدارسون للعقيدة الأشعرية وأتباع الطرق الصوفية تأثرهم محدود، وغير هؤلاء تأثر الكثير، وخاصة الشباب، كما قال..
6- الدكتور محمد بن سيدي الحبيب: ولد في موريتانيا سنة 1357هـ، ودرس على عدد من مشايخ بلده، ثم قدم على مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، وطلب العلم هنالك، فدرس على الشيخ محمد الأمين، والتحق بالجامعة الإسلامية وحصل منها على الدكتوراه، وشارك الشيخ عطية محمد سالم في كتابة تتمة أضواء البيان”، وهو الآن أستاذ في قسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى (المقصود أوائل التسعينات).
يعتبر واحدا من أبرز تلاميذ الشيخ محمد الأمين، وخاصة من الناحية العلمية، والإعتدال في الآراء، وقد درس على الشيخ محمد الأمين بموريتانيا قبل خروجه منها، وهو الذي يقدمه طلاب الشيخ محمد الأمين الشناقطة لمناظرة مشايخ الأشاعرة الذين يفدون من موريتانيا على السعودية.
وقد سافر إلى موريتانيا للدعوة ضمن وفد رفيع المستوى يضم أربعة من خيرة طلاب الشيخ محمد الأمين رحمه الله.
قال لي إنه ركز في هذه الزيارة في محاضراته ودروسه ومناقشاته على بيان عقيدة السلف والدعوة إليها، والتحذير من البدع في العقيدة وفي غيرها من أمور الدين، ولاحظ تأثر الكثيرين ممن سمعوا منه، كما لاحظ أن ابتعاد الناس عن عقيدة السلف ونفور بعضهم منها كان ناجما عن الجهل بها ، وعدم توفر كتبها..
7- الشيخ الحسين بن عبد الرحمن: ولد في بلده سنة 1345هـ، في بلدة من أعمال مدينة كيفة، وعاش يتيما في بيت أخواله، درس مبادئ العلوم في بلده ثم رحل مع والدته إلى المملكة لأداء مناسك الحج عام 1371هـ، ودرس على الشيخ محمد الأمين ولازمه إلى وفاته، كما درس على غيره كدراسته العقيدة على الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والفقه على الشيخ ابن باز.
ويعتبر من أبرز مجموعة الشناقطة الأولى التي درست على الشيخ محمد الأمين، قال عن نفسه أنه زار موريتانيا عدة مرات، وجاب أطرافها، ودعا إلى العمل بالكتاب والسنة، وبين منهج السلف الصالح. وركز في مناقشاته على توحيد العبادة، حيث أن الكثيرين ينادون المخلوقين من أحياء وأموات، ويستغيثون بهم، ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل. فبين لهم أن الدعاء مخ العبادة، والمسلم يجب عليه إفراد الله تعالى وحده بجميع أنواع العبادة على الوجه الذي شرعه الله عز وجل على سان خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم، وأن صرف شيئا من العبادة لغير الله تعالى شرك، فالله وحده هو الذي بيده النفع والضر، وهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه (الآيات 106-107 من سورة يونس، و186 من سورة البقرة).
والشروط التي لا يقبل الله عز وجل عمل عبده بدونها هي:
1- أن يكون موحدا لله على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، لأن غير الموحد لا يقبل الله عز وجل منه (الآية 17 من التوبة، و23 من الفرقان، و65 من الزمر).
2- أن يكون العمل خالصا لوجه الله عز وجل، فلا بد من ذلك مع التوحيد، وإلا لم يقبل العمل (الآية 3 من سورة الزمر، والآية 5 من البينة).
3- أن يكون الإنسان في عمله متابعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان العبد موحدا وعمله خالصا لوجه الله، ولكنه غير متابع في عمله لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقبل منه ذلك العمل، ولا يرفع إلى الله عز وجل، وبرهان ذلك قوله تعالى: “قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”. وقوله تعالى: “وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”.
والحديث الصحيح الذي لا مخصص له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”.
فركز الشيخ على شرح هذه القاعدة التي تجمع بين التوحيد والإخلاص والمتابعة، وبيان أدلتها من الكتاب والسنة، وذكر بأن المسلم الراجي لجنة ربه حري به أن يأخذ في عين الإعتبار هذه الشروط التي لا يقبل الله عمل عبده بدونها.
وكان يستضيف القادمين إلى المملكة من علماء وساسة وغيرهم في بيته ويوضح لهم، ويهديهم الكتب حسب المقام. وقد كون مكتبة ضخمة تزيد على ألف كتاب، تضم كثيرا من المصادر والمراجع المعتبرة عند أهل لسنة والجماعة في جميع مجالات العلوم الإسلامية، وأرسلها إلى مدينة “قرو”، وأوقفها على طلبة العلم هناك وذلك بمساعدة زميله ابن خاله وابن عمه الشيخ محمد الأمين بن الحسين..
8- الشيخ محمد الأمين بن الحسين: ولد في بلده عام 1944م، ودرس مبادئ العلوم في بلده، ثم سافر للحج في عام 1379هـ، وأقام بجزار الحرمين الشريفين، واستفاد من علم الشيخ محمد الأمين ولازمه، وكان من طلبته الذين كتبوا “أضواء البيان” وبيضوه، التحق بالجامعة الإسلامية وحصل منها على الإجازة العالية من كلية الشريعة، وهو الآن مدرس لمادة التفسير بالجامعة الإسلامية (المقصود أوائل التسعينات).
قال الدكتور عبد الله ابن الشيخ محمد الأمين، إنه أخص طلبة والده، وكان الوالد يرتاح له أكثر من أي طالب آخر من طلابه.
قال إنه زار موريتانيا عدة مرات، وناقش العلماء وغيرهم، وكان يركز على مسألتين:
الأولى: الدعوة إلى عقيدة السلف وبيانها والتحذير من مخالفتها، والرد على الشبه والمزاعم التي توجه إليها.
الثانية: محاولة إصلاح ذات البين بين فئات المجتمع.
وكان يلتقي بالكثير من الضيوف القادمين إلى السعودية، ويدعوهم لزيارة بيته ويكرمهم، ويركز في مناقشته معهم على إصلاح المنهج العقدي في كافة المؤسسات التعليمية وتنقيته من شوائب البدعة.
وقد ذكرنا أنه كون مع الشيخ الحسين بن عبد الرحمن مكتبة ضخمة، وأرسلاها إلى مدينة “قرو” وقفا على طلبة العلم هناك.
9- الدكتور محمد عمر بن حويه: ولد في موريتانيا في عام 1953م، ودرس العلوم وبعض كتب الشيخ محمد الأمين في بلده، ثم سافر لأداء مناسك الحج وطلب العلم، واتصل بالشيخ محمد الأمين ودرس عليه بعض العلوم، والتحق بالجامعة الإسلامية وحصل منها على الإجازة العالية، ثم التحق بمكة ودرس في جامعة أم القرى.
امتاز بالحكمة في الدعوة، ومعالجة القضايا بالأسلوب العلمي الهادئ، والإكتفاء ببيان الحق بدليله، وتجنب جرح المشاعر، وحظي بثقة غالبية الموريتانيين الذين عرفوه حتى أعداء السلفية من متكلمين ومتصوفة.
قال لي إنه زار موريتانيا في سنتي 1974م و1977م، وتنقل بين عدد من المناطق داخل البلاد، ودعا إلى التمسك بالكتاب والسنة وإتباع عقيدة السلف وشرحها.
وقال إن أصعب المسائل العقدية في البلاد أنذاك هي مسألة إثبات الصفات جميعا لله تعالى بلا تأويل، لوقوف الأشاعرة بالمرصاد لمن يقول بذلك، واتهامه تارة بالتجسيم، وتارة بالتشبيه..
وأوضح للناس الزيارة الشرعية للقبور، وقال أخيرا إن موريتانيا اليوم أصبح فيها دعاة إلى الفكر السلفي، وحركة علمية في الإتجاه الصحيح، وخاصة في مدينة نواكشوط، ومن العلماء البارزين في هذا الموضوع: العلامة محمد بداه بن البصيري، وتلميذه الشيخ محمد الأمين بن الحسن، والشيخ محمد فاضل بن محمد الأمين (قال ذلك في مقابلة مع المؤلف في عام 1412هـ).
10- الدكتور سيد محمد ساداتي: ولد في تكانت بموريتانيا عام 1361هـ، وقدم به أهله إلى المملكة وهو صغير، والتحق بعدما شب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قسم الإعلام، حصل على الدكتوراه.
وهو حافظ للقرآن بالقراءات السبع، ومن خيرة طلاب الشيخ محمد الأمين الذين أخذوا عنه العلم في بيته، وهو الآن أستاذ مشارك في كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض (المقصود أوائل التسعينات).
ويعد من أبز طلبة الشيخ الداعين إلى العقيدة السلفية بالقطر الموريتاني، ومن أبز الدعاة السلفيين المعاصرين. وقد زار أماكن مختلفة من موريتانيا، وألقى فيها المحاضرات والدروس، واتصل بعدد من الدعاة..
وقد ركز – كما قال لي – في محاضرات ودروسه على بيان عقيدة السلف وشرحها وترسيخها لأن الغاية الأولى من الدعوة إلى الله هي ترسيخ الإيمان في النفوس على أساس سليم من البدع. كما بين خطر البدعة، وكشف حقيقة البدع المتفشية في البلاد، ولا سيما بدعة التصوف، بوصفه أخطر شيء يهدد الدعوة السلفية لأن هذا الفكر يقوم على ربط الناس بغير الله عز وجل، ونجم عن ذلك صور من الشرك الأكبر عند كثير من المتصوفة حيث يعظمون مشايخهم إلى درجة مناداتهم والإستغاثة بهم وطلب الحوائج التي من خصائص الرب جل وعلا منهم.
كما بين مسألة إثبات الصفات جميعا لله تعالى بلا تأويل، أما في مسألة التعصب المذهبي فقد حث على إلتزام المسلم بما في الكتاب وصحيح السنة، ولا يعنيه قول من خالفهما، لأن الله عز وجل يقول: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ”.
كما حذر من اغترار الشباب بفتنة الخميني الرافضي، وبين زيف وباطل ما يسمى بالثورة الإسلامية، وأن التشيع يشتهر بالإنحراف عن المحجة البيضاء والعداء للسنة وأهلها. فهو الذي عششت فيه البدع وباضت وفرخت، وهو الذي مزق وحدة الكيان الإسلامي على مدى التاريخ ولا يزال.
11- الدكتور عبد الله بن الشيخ محمد الأمين: ولد في موريتانيا سنة 1368هـ، وتلقى مبادئ العلوم، وبعد أن التحق بوالده بالمملكة درس عليه، والتحق بالمدارس النظامية بالمدينة المنورة ثم الجامعة الإسلامية التي حصل منها على الدكتوراه في التفسير عام 1400هـ، وبعد ذلك عين رئيسا لقسم التفسير ثم عميدا لكلية القرآن الكريم بنفس الجامعة، ولا يزال يشغل هذا المنصب حتى الآن (المقصود أوائل التسعينات).
اختارته الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ليكون على رأس بعثة للدعوة في موريتانيا سنة 1401هـ، كما اختارت والده من قبل للغرض نفسه، فزار كثيرا من المدن الموريتانية، وألقى المحاضرات التي دارت حول منهج السلف والتحذير من البدع والتيارات الفكرية المعادية للإسلام، وكان لها أثر طيب في تلك المناطق.
كما سافر إلى موريتانيا في سنة 1412هـ، للقيام بالدعوة السلفية أيضا، واقتصر في هذه الزيارة على الحوار والمناقشات مع العلماء وطلاب العلم في عدد من مدن البلاد، وقال إنه لاحظ تقدما ملموسا في نجاح الدعوة السلفية في موريتانيا.
12- الدكتور محمد بن عمر: ولد سنة 1365هـ، ونشأ في المملكة، ودرس فيها حتى حصل على شهادة الدكتوراه في أصول الفقه، وهو الآن وكيل عميد كلية القرآن بنفس الجامعة (المقصود أوائل التسعينات).
ذكر أنه زار موريتانيا عدة مرات، وقام بدروس ومحاضرات وتوجيهات في أماكن مختلفة، وقال إنه كان دائما يراعي حال المخاطَبين.
وذكر أنه قد تكون بينه وبين الآخرين مشادات في مسألة إثبات الصفات، ولكن قد يستفيد البعض، أما مسألة انحراف غلاة الصوفية فلا تقل صعوبة عن سابقتها، وقد استفاد المجتمع منه ومن غيره.. يقول: “فأصبحوا لا يرون في الدعوة السلفية إلا الخير، عكس ما كانوا يتصورونه عنها في السابق”.
13- الدكتور محمود محمد الأمين باب: ولد سنة 1369هـ، ونشأ في المملكة، وحصل على الإجازة العالية من الجامعة الإسلامية، والماجستير في الإعلام من جامعة الإمام محمد بن سعود، والدكتوراه في الإعلام بعد ذلك من الجامعة الإسلامية سنة 1406.
له نشاطات في الدعوة السلفية في عدد من دول العالم، وسافر إلى موريتانيا مرتين الأولى في 1410هـ، والثانية في 1412هـ، وركز على ثلاث قضايا، الأولى إقناع الأشاعرة بترك التأويل في الصفات الإلهية، وقد تأثر به بعض المشايخ، وقال بعضهم له: “يظهر لنا أنك لست وهابيا”، مما يدل – يقول الدكتور – أن البعض ما زال يسيء فهم دعوة الشيخ محمد بن عب الوهاب الإصلاحية، لذا ركز على تصحيح هذا المفهوم الخاطئ، وبين أن هذه الدعوة قامت على التمسك بالكتاب والسنة وما ثبت عن السلف الصالح.
14- الدكتور محمد يعقوب الطالب عبيدي: ولد في عام 1372هـ، ونشأ في المملكة، وحصل على الدكتوراه من قسم الفقه بالجامعة الإسلامية. وكان أثناء دراسته النظامية يأخذ عن الشيخ محمد الأمين في بيته وفي الحرم المدني حيث كان يحضر دروسه في التفسير. وهو الآن وكيل عميد المكتبات بالجامعة الإسلامية (المقصود أوائل التسعينات).
ظل الدكتور على اتصال وثيق بالجالية الموريتانية التي تزور المملكة، وقد زرته في بيته مرات عديدة، وفي كل مرة أجد في بيته ضيوفا موريتانيين يناقش معهم مسائل من أمور الدين في العقيدة وغيرها.
وقد حدثني أنه قام بنشاط في الدعوة إلى العقيدة السلفية في عدد من دول العالم، وزار موريتانيا ومارس فيها الدعوة إلى العقيدة السلفية من خلال لقاءاته ومناقشاته وتوجيهاته.
وقد بين للأشاعرة في الصفات أن التفويض الذي كان عله السلف هو الأسلم، وأن الأشاعرة يسلمون بذلك، فقد نص أحمد المقري في إضاءته التي ظل عليها المعول في العقيدة في موريتانيا، منذ عهد بعيد على أن طريقة السلف أسلم حيث قال:
وما له محامل الرأي اختلف … فيه وبالتفويض قد قال السلف
من بعد تنزيه وهذا أسلم … والله بالمراد منها أعلم
لذاك قال مالك إذا سئلا … في الإستوا والكيف منه جهلا
كما أن العبارة المشهورة عند المتكلمين تنص أيضا على أن مذهب السلف أسلم، وهي قولهم: “مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم”.
هذه العبارة مع ما فيها من كذب تقر بأن مذهب السلف أسلم، ونحن نقول إن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، فينبغي للمسلم أن يختاره لنفسه لأن الإتفاق حاصل على أنه هو الأسلم، ولا يعرض نفسه للخطر.
وبين للمتصوفة أنه لا علاقة للزهد الذي كان عليه السلف والزهد الذي عليه المتصوفة، والذي نشاهده الآن، فالتصوف أصبحت فيه أمور كثيرة لا تقرها الشريعة الإسلامية، ومن ذلك على سبيل المثال: أن شيخ الطريقة يأتيه المريد تاركا والديه وزوجته وأولاده الذين تجب عليه نفقتهم، فيجلس عنده ليخدمه.
ومن ذلك ما يسميه المتصوفة بصلاة أهل الأحوال، حيث قرر بعض مشايخ هذه الطرق أن المريد في فترة الأحوال عليه، لا تبطل صلاته بالأقوال والأفعال المنافية للصلاة !.
ومن ذلك أن الورد لا يجوز أن يعطيه للمريد إلا من أذن له الشيخ في إعطاء الورد، والورد – يقول الدكتور – لا يخلو من أمرين: إما أنه من الدين أو ليس من الدين، فإن كان من الدين فهذا مخالف لسنة التبليغ، وإن لم يكن من الدين فلا يجوز إعطاؤه أصلا، لا من الشيخ، ولا ممن أذن له الشيخ.
15- الشيخ محمد أحمد دادح بن الشيخ: ولد في موريتانيا سنة 1940م، ودرس فيها مبادئ العلوم، ثم سافر للحج وطلب العلم، وأقام بالحرمين الشريفين، ودرس على الشيخ محمد الأمين وواظب على حضور دروسه في التفسير في المسجد النبوي الشريف. ثم التحق بالجامعة الإسلامية، ثم اشتغل في التدريس بوزارة المعارف، وظل يدرس بمدارس المدينة المنورة حتى أحيل إلى التقاعد عام 1405هـ.
اشتهر بالدعوة إلى العمل بالكتاب والسنة وإتباع منهج السلف الصالح. وقد سافر إلى موريتانيا ضمن وفد رفيع المستوى لغرض الدعوة والإصلاح، وقد حدثني عن نفسه أنه دعا إلى الله في أكثر مساجد نواكشوط، وفي ولاية تكانت حيث أقام فيها سبعة أيام، كما قام بالدعوة لمدة شهر في قبيلة إدوعيش، وهي أعظم قبيلة في ولايتي العصابة وتكانت، فبين لأمرائها منهج السلف الصالح، وحذرهم من البدع والمحدثات. وقد لقيت دعوته إقبالا واسع النطاق في هذه القبيلة، ويرجع ذلك إلى صداقة لها جذور بعيدة ظلت تربطه بهؤلاء الأمراء.
كما سافر إلى مدينة “قرو”، ويذكر أنه لما قدم على البلاد في رحلة الدعة عام 1409هـ، نظم الأبيات التالية:
إلى الله أشكو من تقاليد دونت … وعمت بها البلوى ودانت بها الأمم
وأضحى عباد الله في كل منزل … يرومون أشتاتا من الرأي في الظلم
رضوه بديلا عن كتاب وسنة … فيا لبديل شابه عور وذم
أيرغب عن نص محاط بعصمة … ويتبع مخلوق من الناس ما عصم
فيا أيها المغرور بادر برجعة … إلى الحق قبل الموت تنجو من الألم
تدبر كتاب الله وألزم بيانه … بما سنه الرسول في الحل والحرم
16- الشيخ محمد أحيد بن عمر: ولد في عام 1363هـ، ونشأ في المملكة، وحصل على الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وهو الآن مدير مالية شرطة المدينة المنورة (المقصود أوائل التسعينات).
قال لي إن السلفية في موريتانيا في ازدياد وتحسن، وأنه زار البلاد كثيرا ودعا إلى إتباع منهج السلف الصالح، وحذر من الإستعانة بغير الله في الأمور التي لا يقدر عليها غير الله عز وجل.
17- الشيخ إبراهيم بن عثمان: ولد في بلده عام 1338هـ، وتلقى مبادئ العلوم، ثم سافر لأداء مناسك الحج وطلب العلم، درس على الشيخ محمد الأمين، والتحق بالجامعة الإسلامية، وحصل منها على الإجازة العالية، وعمل مدرسا في مدارس المدينة المنورة.
حدثني أنه سافر إلى موريتانيا في الدعوة إلى الله تعالى عدة مرات، ودعا إلى العقيدة السلفية، وركز على العودة إلى الكتاب والسنة والتمسك بهما، وإثبات الصفات، وعرض آراء الفقهاء على الكتاب والسنة فما كان موافقا لهما أخذ، وما كان بخلاف ذلك ترك.
وقال إنه ناقش في مناسبات عديدة المتكلمين الأشاعرة، وبعض فقهاء المالكية المتعصبين، وبعض أصحاب الطرق الصوفية في انحرافاتهم العقدية والسلوكية.
وذكر أن بعض الناس اقتنع بالفكر السلفي وقرر التمسك بالكتاب والسنة والوقوف عند نصوصهما، وبالذات في أخطر المسائل هناك، وهي مسألة إثبات جميع الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به دون تأويل، وعرفوا أن ذلك لا ينافي التنزيه على أساس قول الله عز وجل: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”.
18- الشيخ التلميد بن محمود: ولد في موريتانيا عام 1939م، ودرس في بلاده ثم رحل إلى المملكة لأداء مناسك الحج وطلب العلم، وواصل تعليمه على الشيخ محمد الأمين، والتحق بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وحصل منها على الإجازة العالية، ثم اشتغل بالتدريس في مدارس المدينة المنورة.
يعتبر داعيا سلفيا نشيطا لا يخشى في بيان الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لومة لائم.
وقد ذكر أنه زار موريتانيا مرات عديدة، وناقش الفقهاء وأصحاب الإتجاهات المختلفة، وبين للناس أن السلامة في إتباع الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ، وحذر من خطورة البدع.
19- الشيخ محفوظ بن سيدات: ولد في موريتانيا عام 1944م، ودرس مبادئ العلوم، ودرس بعدها في المدرسة النظامية في المملكة حتى حصل على الإجازة من الجامعة الإسلامية، وأثناء ذلك درس على الشيخ محمد الأمين، ثم اشتغل بالتدريس في وزارة المعارف، ودرّس في مدارس المدينة المنورة.
زار موريتانيا عامي 1384-1385هـ، والتقى ببعض مشايخ الأشاعرة والمتصوفة، ونصحهم. وقال إن مناقشته مع المتصوفة كانت أكثر حدة حيث أن بعضهم يرى أن مشايخهم يدبرون الكون مع الله عز وجل، ويسمونهم بالأقطاب، فبين لهم أن الأقطاب والأبدال إن صحت أحاديثهم – مع أنه حسب علمه لم يصح منها شيء – فإنهم لا يصلون إلى درجة المشاركة مع الله تعالى في إدارة الكون، وأن هذا يعتبر شركا أكبر..
كما زار النيجر التي تسكنها جالية موريتانية كبيرة لها مكانة دينية في تلك البلاد، وركز على بيان عقيدة أهل السنة والجماعة.
20- الشيخ محمد عبد الله بن أحمد مزيد: ولد في موريتانيا سنة 1339هـ، وأخذ مبادئ العلوم، ثم ارتحل لأداء مناسك الحج، واستقر به المقام في المملكة، ودرس على الشيخ محمد الأمين ، وقام بالتدريس في وزارة المعارف في المملكة، ثم مديرا لعدة مدارس، ثم اشتغل في وزارة الإعلام محاسب ومراقبا حتى عام 1388هـ.
يعتبر من أبرز تلاميذ الشيخ الشناقطة الذين استقروا في المملكة وكان لهم نشاط بارز في الدعوة السلفية في موريتانيا.
حدثني أنه سافر إلى موريتانيا عدة مرات، وتجول في طولها وعرضها داعيا إلى الله عز وجل، مركزا على:
1- التمسك بالكتب والسنة وترك البدع.
2- توحيد العبادة لله عز وجل، وعدم صرف ما هو من خصائص الرب كالدعاء والذبح والنذر والإستغاثة، للمخلوقين وأصحاب القبور، فهذا من الشرك الأكبر المحبط لجميع الأعمال
3- رفض إدخال علم الكلام في المعتقد.
4- تنبيه الفقهاء على أن التعصب لقول عالم معين بدون دليل خطأ، والصواب هو عرض آراء العلماء على الكتاب والسنة فما وافقهما قبلناه، وما خالفهما طرحناه.
10- الشيخ بداه بن البصيري
هو محمد بن البصيري، وقد اشتهر بلقبه “بداه”، ويقال له محمد بداه جمعا بين الإسم واللقب، ويعد من أبرز العلماء السلفيين المعاصرين، شغل منصب المفتي العام في موريتانيا، وإمام جامع الملك فيصل في نواكشوط.
ولد في عام 1338هـ، وقبيلته تندغ، إحدى قبائل المرابطين. اشتهرت بالمواظبة على طلب العلم، ولزوم الطريق المستقيم، والدعوة إلى ذلك.
حفظ القرآن وهو ابن سبع وأخذ فيه سندا في قراءة الإمام نافع، وقراءة ابن كثير. وحصل العلم على مشاهير علماء بلاده، كالشيخ محمد سالم بن ألما، وهو عالم صوفي شاذلي له اليد الطولى في علم الفقه والنحو، توفي 1383هـ. والشيخ محمد بن المحبوب. والشيخ المختار بن ابلول، وهو عالم سلفي جليل من دعاة الإصلاح، قال في قضية التفويض:
مذهبنا التفويض في التوحيد … لله والتنزيه والتجويد
وما لنا من ذاك من محيد … بإذن ربنا ولا تقييد
وقد نادى بالنهوض ضد الإستعمار، وحرم التعليم في المدارس الفرنسية، توفي 1398هـ.
كما أخذ عن الشيخ محمد عال بن عبد الودود المباركي، فقيه ولغوي، اشتهر بالمهارة في علم النحو، وكان في أيامه هو المدرس الأعلى في المعهد الإسلامي ببتلميت، توفي 1387هـ.
كان بداه في أول الأمر يميل إلى التقليد والجمود على أقوال الفقهاء، ثم تحول عن هذا الإتجاه، وقرر التمسك بالكتاب والسنة، وكان السبب قراءته لكتاب “سبل السلام” لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، فأعجب بمنهجه في عرض آراء الفقهاء على الكتاب والسنة، والترجيح بينها بمقتضى الدليل، وعندها حصل له انقلاب فكري فأصبح لا يؤمن بشيء من معلوماته إلا ما قام عليه الدليل، وأقبل على دراسة كتب التفسير والحديث، وجمع مكتبة قيمة، واعتنى بمؤلفات الشوكاني.
وبعد هذا الإنقلاب الفكري وفقه الله تعالى لنصرة السنة وعداء البدعة، والرد على المبتدعين، وظل يحرس العقيدة السلفية في بلاده معتصما بالكتاب والسنة، داعيا إلى التمسك بمنهج السلف الصالح وعقيدتهم.
فبين لنفاة الصفاة أن الحق في إتباع ما كان عليه أهل القرون الثلاثة المفضلة.
وبين للمقلدين أن تقليد غير المعصوم في كل ما قال من غير الرجوع إلى الدليل خطأ، ودعا إلى عرض آراء الفقهاء على الكتاب والسنة والترجيح بينها بمقتضى الدليل، وانتقد المتأخرين من فقهاء المالكية في شدة تعصبهم للمذهب حيث قال: “وقد بلغ التعصب بالمتأخرين من فقهاء المالكية مبلغا لا حد له، فقالوا إن قول مالك في المدونة مقدم على قول غيره فيها، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث قالوا إن مجرد وجود القول في المدونة مرجح له حتى ولو خالف الكتاب والسنة، إلى آخر ما أصلوه..”.
فأبطل هذه المزاعم، وبين أن الدليل المطلوب الذي يترجح به القول إنما هو من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، على خلاف فيه لا مجرد الرأي.
قال عنه العلامة المختار بن ابلول في تقريظه لكتابه “أسنى المسالك”: “إنه الإمام المتقن، ناصر السنة، وقامع البدعة”..
ألف الشيخ بداه عدة كتب منها: “تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر”، وهو كتاب قيم في العقيدة وافق فيه نهج السلف.
وكتابه “أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك”، بين فيه مسألة التقليد. ومثله كتابه “القول المفيد في ذم فادح الإتباع وفادح التقليد”. وكتابه “القول المبين في الرد على من قال بالتزام مذهب معين”. وكتابه “تنبيه المغتر في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وكتابه “الكتائب الشرعية في صد هجوم القوانين الوضعية”، وكتب أخرى كثيرة..
جلس الشيخ بداه للتدريس في عام 1958م، وتوافد عليه طلاب العلم من جميع أنحاء البلاد. وتعتبر مدرسته هي الأصل للحركة العلمية الحديثة التي ظهرت في نواكشوط في العقدين الماضيين (قبل التسعينات) حيث تخرج منها عدد من العلماء وتفرعت عنها مدارس، وكان لها دور بارز في نشر العلم، والدعوة إلى العقيدة السلفية.
وقد سألته عن المواد التي يدرسها لطلابه فأجاب بقوله: ليس عندنا منهج محدد على عادة المحاضر المعروفة، وأهم المواد التي ندرسها: مادة العقيدة، والكتب المعتمدة فيها: مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وشرح العقيدة الطحاوية لإبن أبي العز الحنفي، والدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد، وتنبيه الخلف الحاضر، والكتابين الأخيرين لبداه.
وأما مادة التفسير فالكتب المعتمدة فيها هي: تفسير ابن جرير الطبري، وجامع البيان عن تأويل القرآن، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير، وفتح القدير للشوكاني.
وفي مادة الحديث: موطأ مالك بشرح الزرقاني، وصحيح البخاري بشرح العسقلاني، وفتح الباري، وصحيح مسلم بشرح الأبي، ونيل الأوطار للشوكاني، وسبل السلام للصنعاني.
وفي مصطلح الحديث: ألفية العراقي، وطلعة الأنوار لسيد عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي.
وفي الفقه: مختصر خليل، وشراحه، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، وشراحها، ومختصر الأخضري، والمرشد المعين على الضروري من علوم الدين لإبن عاشر.
وفي أصول الفقه: الورقات للجويني، وجمع الجوامع لتاج الدين السبكي، ومراقي السعود لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم.
وفي النحو والصرف والبلاغة: ألفية ابن مالك، وشراحها، والمثلث والمقصور والممدود، كلاهما لإبن مالك، وألفية السيوطي في البلاغة: عقود الجمان.
أسندت إمامة الجامع العتيق بمدينة نواكشوط إلى الشيخ بداه، مع التدريس والفتيا به، حين تأسست العاصمة نواكشوط بعد استقلال البلاد عن فرنسا مباشرة (1960م)، فدأب من حينها على بيان الحق ودحض الباطل.
وبعد قيام السعودية ببناء جامع الملك فيصل في وسط المدينة، حول إليه من الجامع العتيق، وأصبح إماما ومدرسا ومفتيا به.
كان في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبادر عند تولي أي رئيس للرئاسة إلى الإجتماع به ويأمره بالخير ويحثه على تحكيم الشريعة الإسلامية، ويحذره من تحكيم القوانين الوضعية، ويحثه على أن تكون حرية الكلمة معطاة دائما للأئمة على المنابر.
وكذلك يفعل مع عامة الناس حيث يقول عن نفسه: “نحن نبين الحق للناس، وندعو إلى التمسك بالكتاب والسنة، وإتباع طريق السلف الصالح رضي الله عنهم، ونحذر من كل ما يخالف ذلك دون التعريض بطائفة معينة، لأن ذكر طوائف المبتدعة بأسمائها يؤدي إلى جرح مشاعر البعض من دون جدوى” (أخبرني بذلك في المقابلة التي أجريتها معه).
وقد انتصر الشيخ بداه للسلفيين، ودافع عنهم، وذلك ملاحظ في مؤلفاته، فأثبت رجوع أبي الحسن الأشعري عن مذاهب المتكلمين إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وصحة نسبة كتاب الإبانة إليه. كما دافع عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ونفى التهم التي وجهها إليه أعداؤه. فقال في كتابه “تنبيه الخلف الحاضر”، بعد أن بين مذهب السلف: “فمن طعن على شيخ الإسلام في هذا فليطعن على أئمة الإسلام، والسلف الصالح قبله جميعا، ولا يجعل شيخ الإسلام حائطا قصيرا يتخطاه القوي والضعيف، جراء إشاعات من أعدائه لا أصل لها ولا فرع في الحقيقة، فلو كان ما يقول الطاعنون الجاهلون بحياته ومستواه في العلم حقا لما سمي شيخ الإسلام من طرف خمسة وثمانين عالما كما بيناه في ترجمته في “القول المفيد في ذم فادح الإتباع وفادح التقليد”.
ومن المعروف أن شيخ الإسلام ابن تيمية وقف يدافع عن السنة بلسانه وقلمه، وحاول تنقية الإسلام مما علق به من بدع، وتصدى لمناهضة الآراء التي تخالف الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، وأدى به ذلك إلى الإصطدام بالطوائف المنتسبة إلى الإسلام السائدة في عصره من المتكلمين والمتصوفة والفقهاء المتعصبين وغيرهم، وكانت الغلبة والسطوة حينذاك لتلك الطائف، فقاموا بإلحاق الأذى به وتشويه دعوته، وتحمل المعاناة في سبيل إحقاق الحق ودحض الباطل، وتوالت عليه المحن حتى توفي رحمه الله في سجن قلعة دمشق عام 728هـ، على أيدي الظلمة المنحرفين وأعوانهم من أصحاب الهوى والتعصب، وقاموا بإلحاق الأذى بتلاميذه من بعده تارة بالتعزير، وتارة بالحبس، وخاصة حامل اللواء من بعده ابن القيم، رحم الله الجميع.
وقد وجدت هذه الإتهامات المزعومة – وللأسف – آذانا صاغية وقبولا من عدد من علماء الشناقطة مما أدى بكثير من الناس إلى رفض القراءة والمطالعة في كتبه حتى لا يتأثروا بهذه الكتب التي ما زال بعضهم إلى الآن يصفها بأنها تحمل البدع المضلة.
حدثني مدير مدرسة الهدى لتحفيظ القرآن الكريم في مدينة “قرو” أنه سمع بعض المنتسبين للعلم يحذر الناس من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية قائلا: “انتبهوا لعقيدتكم فقد رأيت مجموع الفتاوى لإبن تيمية وصل إلى كامور” (منطقة في شرق البلاد).
لذلك كله قام الشيخ بداه بتوضيح الحقيقة في هذا الموضوع في مباحث متفرقة من كتبه، مؤكدا أن ما رُمي به شيخ الإسلام ابن تيمية لا يعدو إشاعات من أعدائه لا أصل لها في الحقيقة.
ولما افتتحت الجامعة الإسلامية وكان الناس يرمونها بالبدعة قام بزيارتها في عام 1974م بدعوة من الشيخ ابن باز نائب رئيس هذه الجامعة أنذاك، وتعرف على منهجها وزكاها ومدحها في قصيدة طويلة قال فيها:
لجامعة الإسلام في القلب موقع … أليس بها نور المدينة يسطع
وقد رامها أبناء بجدتها على … قيادة بن باز الرفيع المرفع
وقال فيها:
هُداها هدى الله العزيز وهَديها … دواما كما يهدي الشفيع المشفع
إلى أن قال:
فبورك في أعضائها ودروسها … وفي ملكها لهو الشجاع المقنع
أما موقفه من علم الكلام فمعروف، فهو من أشد العلماء السلفيين عداء لعلم الكلام، والمطالع في مؤلفاته يلاحظ ذلك جليا، وقد ألف في الرد على المتكلمين كتابه : “الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد”، ونص فيه على تحريم علم الكلام، وبين بدع طوائف المتكلمين ورد عليها، وبين أقوال العلماء فيهم، ومن ذلك قول الإمام مالك: “لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء”، ويقصد بذلك أهل الكلام على أي مذهب كانوا، كما بينه أصحابه. وقول الإمام أحمد: “علماء الكلام زنادقة”..
أما موقفه من التصوف، فقد اعتنق بداه التصوف في أيام شبابه، فقد أخذ الطريقة الشاذلية على الشيخ محمد سالم بن ألما أثناء دراسته عليه، ولكنه ترك التصوف، ونبذه وراء ظهره بعد الإنقلاب الفكري الذي حصل له، وواظب على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأذكار والأدعية الواردة عنه.
ويلاحظ انه في دفاعه عن العقيدة أشد انتقادا للمتكلمين من المتصوفة على الرغم من أنه لفظ التصوف ونبذه، وقد سألته عن سبب ذلك، فرد بقوله: “إن مصلحة الدعوة السلفية تحتم علينا أن نتحاشا المصادمة مع أصحاب الطرق الصوفية الذين هم أكثرية أهل هذه البلاد، وذلك رغبة في اجتذاب الناس إلى منهج السلف وعقيدتهم، دون الدخول في مشادات كلامية لا جدوى من ورائها، لذلك فإننا نركز على بيان المنهج الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، والتابعون لهم بإحسان، ونحذر من كل ما يخالف ذلك دون أن نذكر أسماء الطرق الصوفية أو مشايخها”.
المدارس التي تفرعت عن مدرسة الشيخ بداه
وقد تفرعت عن مدرسة الشيخ بداه رحمه الله أربع مدارس سلفية، وهي:
الأولى: مدرسة العون للتعاليم الإسلامية: هي أولها نشأة، تأسست على يد الشيخ محمد الأمين بن الحسين عام 1393هـ، في نواكشوط، وقد درس الشيخ محمد لمين على عدة مشايخ، وفي آخر دراسته لازم الشيخ بداه، ودرس عليه أيضا، وكان يساعده في تدريس الطلاب.
يقول إن المدرسة قامت بدور ريادي في تدريس العلوم الشرعية، وتزويد المعاهد والجامعات الإسلامية بالطلاب المؤهلين تأهيلا علميا يمكنهم من مزاحمة العلمانيين في الجامعات والأماكن الحيوية الأخرى، وتكوين الدعاة القادرين على ممارسة الدعوة بجدارة. وتعتني بالتدريس وفقا للمنهج السلفي النقي.
يقول مديرها إنها تأسست لتعليم الناس العلوم الإسلامية الصحيحة سواء في العقيدة أو في السلوك أو في التشريع، وتعاليمها قائمة على الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح ونبذ البدع والخرافات، لا تخوض في علم الكلام، ولا تدخله في المعتقد لأن مقدمات ونتائج المناطقة إن أخطأت كان ذلك خطيرا، وعلم الكلام في حد ذاته بدعة، فمن تلقى منه عقيدته فقد أخطأ وإن وافق الحق في النتيجة. وليس هناك حاجة للإعتماد على العقل في معرفة الحقيقة الدينية فهي موجودة في الكتاب والسنة.
وأكد لي – وهو مديرها – أنها مصممة العزم على الإلتزام بإتباع الكتاب والسنة، والإبتعاد عن البدع وأهلها، سواء في ذلك المتكلمون أو المتصوفة..
الثانية: معهد الفاروق: تأسس في نواكشوط سنة 1400هـ على يد مديره الحالي الشيخ محمد عبد الرحمن بن محمد محمود (المقصود أوائل التسعينات)، ودرس على عدة مشايخ، ثم لازم الشيخ بداه ودرس عليه، واعتنق العقيدة السلفية.
من أهداف المعهد الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وتكوين شباب راسخ الإيمان بالله تعالى، محصن ضد جميع الأمراض العقائدية، يستطيع النهوض بالمجتمع طبقا لتعاليم الإسلام الصحيحة.
وقد اشتهر المعهد بالقيام بالدعوة السلفية وحمل مسؤوليتها، يقول مديره: “إن المعهد يحمل على عاتقه نشر الإسلام وعقيدته السلفية في ربوع موريتانيا وغيرها بواسطة الذين يتخرجون برصيد إسلامي مهم من المعرفة”.
ويمتاز المعهد بانطلاقه من المرحلة الثانوية وشموله المرحلة الجامعية، ويتكون منهجه من المواد الشرعية واللغة العربية بإضافة إلى مواد أخرى علمية وثقافية.
يقول المدير إن المعهد يتبع في العقيدة طريقة السلف الصالح، فهو يقف عند نصوص الكتاب والسنة، وما ثبت عن السلف الصالح لا يتجاوز ذلك. وبالنسبة للسلوك يقول: “فإننا نرى أن في الكتاب والسنة من السلوك المثالي ما يكفي المسلم عن غيره، وتسمية التصوف لا أصل لها في الإسلام، والمتصوفة بعد الإطلاع على أحوالهم يظهر أن الصوفية أصبحت مهنة معيشية قائمة على الدجل وضياع أوقات المسلمين، وبدعة ووسيلة إلى الضلال. أما بالنسبة للتشريع فنسير مع الدليل، ونعمل بمقتضاه أيا كان، وحيث كان القائل به”.
الثالثة: مدرسة أحمد بن المرابط: أسسها أخص تلاميذ الشيخ بداه، وهو ابن عمه، وزوج ابنته، الشيخ أحمد بن المرابط، في مدينة نواكشوط عام 1403هـ، وقد ولد في الجانب الغربي من موريتانيا عام 1370هـ، وتنقل في طلب العلم بين عدد من علماء بلاده، ولازم الشيخ بداه، ودرس عليه، وهو فقيه ولغوي وشاعر، له مؤلفات عديدة تشهد بمكانته العلمية أكثرها لا يزال مخطوط، وله نشاط في عدد من مساجد نواكشوط، وكذلك في مركز الدعوة والإرشاد التابع للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض.
ظل يزاول التدريس في مدرسته بنفسه متفرغا لها إلى سنة 1409هـ، حيث أضاف إلى ذلك مهمة التدريس في معهد العلوم الإسلامية والعربية في نواكشوط التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وقد سألته عن المواد التي يدرسها في مدرسته، فقال إنها لا تختلف كثيرا عن مدرسة شيخه بداه، ومن الكتب التي تدرس في مدرسته بكثافة: كتب مادة العقيدة، ومنها رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، الحموية الكبرى والرسالة التدمرية والعقيدة الواسطية، والعقيدة الطحوية وشرحها لأبن أبي العز، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشرحه المسمى قرة عيون الموحدين، وكتاب الشيخ ابن عثيمين الفوائد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، وكتاب الشيخ عبد العزيز بن باز عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتاب الشيخ بداه تنبيه الخلف الحاضر.
والشيخ أحمد بن المرابط هو الذي يدرس طلابه هذه المواد جميعا، ويوجههم دائما إلى تعلم الكتاب والسنة والتمسك بهما في أصول الدين وفروعه، وله في هذا المعنى منظومات كثيرة، كما له منظومات في كثير من العلوم.
الرابعة: مدرسة محمد محمود بن أحمد يور: ولد في بادية بتلميت، وتنقل بين عدد من مشاهير علماء بلاده، ورحل إلى الفقيه المحدث محمد بن أبي مدين ودرس عليه مصطلح الحديث، ثم رحل إلى الشيخ بداه فدرس عليه القرآن وعلومه.
أسس مدرسته في عام 1407هـ، وجعل مقرها جامع الملك فيصل في وسط مدينة نواكشوط (حيث كان نائبا لإمامه)، ويجري التعليم فيها على طريقة المحاضر القديمة، وتركز – كما قال – على حفظ القرآن الكريم وإتقان رسمه وضبطه وتجويده بقراءة الإمام نافع بروايتي قالون وورش، وقراءة الإمام عاصم بروايتي حفص وشعبة.
وفي العقيدة مقدمة ابن أبي زيد القيرواني، والعقيدة الواسطية لإبن تيمية بشرح محمد خليل هراس، وشرح العقيدة الطحاوية لإبن أبي العز الحنفي، وفي التفسير يتم البدء بأول القرآن حتى يتم ختمه، ثم تتم العودة إلى بدايته مجددا، وهكذا. مع التركيز على بيان منهج السلف عند المرور بآيات العقيدة وأحاديثها..
هذه هي المدارس التي تفرعت عن مدرسة الشيخ بداه رحمه الله، وهناك مدارس أخرى سلفية قائمة الآن في موريتانيا (المقصود أوائل التسعينات).
11- مؤسسات سلفية ذات طابع مختلف
ازدهرت المحاضر الإسلامية بعد معركة “شرببة”، ولكن العقيدة الأشعرية ظلت هي السائدة في هذه المؤسسات التعليمية، وانحصر وجود العقيدة السلفية في أفراد من العلماء، وفي النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، بدأ هذا الوضع يتغير شيئا فشيئا بسبب الإتصال بين الموريتانيين وعدد من الدول الإسلامية ومؤسساتها التعليمية، وخاصة المملكة العربية السعودية التي فسحت المجال للطلاب الموريتانيين في جامعاتها ومعاهدها. وقد عاد كثير منهم وهو يحمل العقيدة السلفية، ودافع عنها وبذل مجهودات كبيرة في سبيل نشرها وخدمتها. وأسس بعضهم معاهد ومدارس سلفية إما بمفرده، وإما بالتعاون مع الحكومة الموريتانية أو مع غيرها من الجهات الأخرى، كما أن المملكة العربية السعودية قامت أيضا بفتح معهد العلوم الإسلامية والعربية، ومركز الدعوة في مدينة نواكشوط عام 1399هـ.
مدرسة الفلاح
هي أقدم مدرسة سلفية نظامية في موريتانيا، تأسست عام 1360هـ، في قرية جول (قريبا من مدينة كيهيدي) على يد الحاج محمود باه وذلك بعد رحلة قام بها إلى مكة المكرمة، وهو داعية سلفي نشط، اشتهر بمحاربة البدع وأهلها، ويعتبر من كبار المؤسسين للحركة الثقافية الإسلامية في غرب إفريقيا، ولد في عام 1908م في قرية جول، وهو من أسرة فلانية محافظة، طلب العلم في بلاده ثم سافر إلى مكة لأداء مناسك الحج، ثم عاد إبان الحرب العالمية الثانية، وأسس المدرسة، توفي 1978م.
ومنذ تأسيسها قامت هذه المدرسة بجهود في نشر العقيدة السلفية من الكتاب والسنة في موريتانيا وغيرها من الدول الإفريقية رغم ضعف إمكانياتها، حتى أصبح لها فروع عديدة داخل موريتانيا وخارجها، وأصبح يلتحق بها في الداخل والخارج ما يناهز خمسة آلاف تلميذ سنويا.
قال لي مديرها الحالي محمد غالي بن الحاج محمود باه (المقصود أوائل التسعينات) إن والده قام منذ تأسيسه للمدرسة بنشر العقيدة السلفية الخالية من البدع والشوائب، وحارب البدعة وأهلها، وأسلم علي يديه عشرات الآلاف في غرب إفريقيا. وقال إنهم يرون أن التصوف بدعة، وعامل أساسي من عوامل الضعف والإنحطاط في الأمة الإسلامية، وقد اشتهر الحاج محمود باه رحمه الله بحب الإتباع وكراهية الإبتداع ومحاربته، وقد وقف مشايخ الصوفية ضده، وضد مدرسته منذ عودته من المملكة السعودية وتأسيسه للمدرسة، ودعوته إلى التمسك بالكتاب والسنة، ونبذ كل ما يخالفهما. فحاربوه وحاولوا تشويهه وتشويه دعوته، واتهموه بما يسمونه الوهابية التي أسيء فهمها يومئذ في البلاد.
ومن الكتب المقررة في المدرسة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ورسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، وغيرها، وتهتم المدرسة بالمرحلة الإبتدائية والمتوسطة مع السعي في ترتيب وسائل إكمال الدراسة لطلابها.
جمعية الدعوة السنية السلفية لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي
أسسها الشيخ “حسن دَنْبَ” في نواكشوط عام 1390هـ، ولد في الجنوب في عام 1934م، وكان والده “دنب صو” أمير قبيلته، التحق بمدرسة الحاج محمود باه، وابتعثته المدرسة مع عدد من زملائه إلى الجامع الأزهر..
أنشئت هذه المدرسة من أجل تعليم الدين الإسلامي ولغة القرآن، ومحاربة دعاة الكفر والضلال من نصارى وشيوعيين وعلمانيين، وأصحاب الهوى والبدع، وحصلت على ترخيص من الوزارة لمزاولة مهنة التدريس في عام 1974م، وركزت جهودها على المناطق الجنوبية من البلاد حيث أن غالبية سكانها من غير الناطقين باللغة العربية، وحيث يتسابق إليها دعاة التنصير، وأصحاب المذاهب الفكرية.
وكانت أهدافها الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة، ومحاربة البدع والتقاليد الفاسدة، ومحاربة المذاهب الفكرية المعادية للإسلام مثل الشيوعية والقومية وغيرها.
قال لي مؤسسها ومديرها الشيخ حسن دنب إن القائمين عليها يرون أن بدعة التصوف أضرت بالمسلمين، وانحرفت بكثير منهم عن المنهج الإسلامي القويم، وفرقتهم شيعا وأحزابا، خاصة بعد أن ظهر التصوف الفلسفي ممثلا في مذهبي الحلول ووحدة الوجود. كما أن التصوف كان من أهم العوامل التي أدت إلى الجمود الفكري وجمود التقدم الحضاري في الأمة الإسلامية.
ومن الكتب المقررة في هذه المدرسة كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، وكتاب العقيدة الواسطية لإبن تيمية (وأنعم بها من كتب لا يزيغ عنها إلا أعمى بصيرة مبغض للوهابية).
والعربية في موريتانيا
تأسس في نواكشوط عام 1399هـ، بناء على اتفاقية بين السعودية وموريتانيا، وهو تابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وكان من أهدافه نشر العقيدة السلفية الخالصة.
قال فيه الشيخ أحمد بن المرابط المدرس بشعبة الشريعة بالمعهد نفسه، قصيدة، هذا مطلعها:
علوم الشرع طالعة السعود … بجو المعهد العلمي السعودي
فموريتانيا تبدي ارتياحا … لما يوليه من بذل الجهود
هنالك سيرة الرضي قد … عيد نشاطها بعد الركود
فثم عقيدة مجموعة من … أحاديث وقرآن مجيد
ومما نقله فاش صحيح … عن الأسلاف من رأي سديد
(أغلقه الرئيس معاوية بعد ظهور كذبة الإرهاب الإسلامي الأمريكية، وتوغل قاعدتها وداعشها في الدول، فاتهم المركز بأنه يحض على التطرف لأن القاعدة الكاذبة المدسوسة كانت تتكلم باسم السلفية بامر أمريكا وتخطيطها حربا على الحق وأهله، وما علاقة السلفية وابن تيمية بالقاعدة وداعشها، وهما ضد الحاكم، يكفرانه، ويكفران معه كل المسلمين، والسلفية وعلى رأسها ابن تيمية مع الحاكم، فكيف يجتمعان؟ لكنه مكر تزول منه الجبال، عندما تسمع مفتي القاعدة وداعش يتحدث عن ابن تيمية، وهو يعلم أنه ضده، تحس ان في البشر شياطين في ثياب بشر، وأم الشياطين اليوم هي الدويلة اليهودية ودابتها أمريكا التي تحرك بلا هوادة، وهؤلاء الدواعش ما بين أتباع لهم أصلا، مثل الجاسوس الذي تم الإمساك به في ليبيا وهو بلحية طويلة متبع للسنة! يصلي بالناس! أو شباب جاهل مستغفل من طرفهم، ينضهم إليهم ليفجروه حيث يشاؤون، وهو لا يعلم أنهم تابعون للمخابرات اليهودية الأمريكية، وحرب على الإسلام من الأساس، فكيف ينصرونه؟! عجبا لهم لم نسمع يوما أنهم استهدفوا الدويلة اليهودية، ولا حاولوا اغتيال كلب مجرم مثل بوش الذي دمر العراق، وغيره، محاولات الإغتيال والإستهداف، موجودة فقط في دول المسلمين، ضد الشعوب الإسلامية وحكامها فقط! أو أحيانا يقتلون بعض الأبرياء في فرنسا أو بريطانيا ليستصدروا قوانين من البرلمان لإرسال البارجات الحربية إلى دول المسلمين وضربها).
مركز الدعوة السعودي في موريتانيا
تأسس في نواكشوط سنة 1399هـ، فنشر العقيدة السلفية الخالية من شوائب البدعة، ورد بأسلوب حكيم على الشبه والمزاعم والإشاعات التي يوجهها المبتدعة إلى السلفيين ومنهجهم، وفتح مكتبة غنية بالكتب السلفية أمام الناس، مع توزيع الكتب السلفية والأشرطة.
وقد سألت مدير المركز صالح السبيعي عن الأسلوب الذي يتخذه في التعامل مع الطوائف المنحرفة عن السنة، فقال لي إنهم اتخذوا أسلوب الحكمة وعدم الطعن في الطوائف المبتدعة، والإكتفاء ببيان الحق بدليله، لأن ذلك أدعى إلى القبول، وقال إنه جمع ما استطاع جمعه من كبار التيجانية، وقرأ عليهم رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى أهل القصيم، وتأثروا بما سمعوا، وأثنوا على الرسالة خيرا، وقالوا: “كنا نظن أن الشيخ يكفر الناس وهم غير كفار، وسبب ذلك عدم قراءة كتبه، والآن تبين لنا أنه على المنهج السليم، واقتنعنا بصحة ما في هذه الرسالة”.
ويذكر الشيخ أحمد بن المرابط أن مركز الدعوة السعودي في نواكشوط يعتبر من أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار الدعوة السلفية في موريتانيا.
المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية
أسسته الدولة عام 1933هـ، وأسندت إدارته إلى الشيخ إسلم بن سيد المصطفى، وورد ضمن أهدافه أنه يسعى إلى الدعوة إلى الله تعالى، وتعليم العقيدة من الكتاب والسنة، على طريقة السلف الصالح…
قال لي مديره إنهم يدرسون وفق منهج السلف الصالح في العقيدة، والمقرر فيه عقيدة ابن أبي زيد القيرواني، وأنهم يسندون مادة العقيدة لأساتذة سلفيين يثقون في عقيدتهم..
ولد إسلم ولد سيد المصطف في موريتانيا عام 1948م، وأخذ مبادئ العلوم، ثم التحق في عام 1966م بالمعهد الإسلامي ببتلميت، ثم عين مدرسا بوزارة التعليم ببلاده، ثم ابتعث للدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وحصل على الثانوية العامة ثم التحق بكلية الشريعة في مكة المكرمة التابعة أنذاك لجامعة الملك عبد العزيز بجدة والتي صارت فيما بعد النواة الأولى لجامعة أم القرى.
معهد ابن عباس
تأسس في نواكشوط عام 1404هـ، أنشأته جماعة من المحسنين، وأسندت إدارته إلى الداعية السلفي الشيخ محمد فاضل بن محمد الأمين الذي ولد في موريتانيا عام 1954م من عائلة علمية، ودرس العلوم الشرعية، ثم شارك في امتحان معهد بتلميت وحصل على الشهادة المتوسطة منه، والتحق بمدرسة تكوين المعلمين وتخرج منها معلما، ثم انتسب في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وحصل على الإجازة العالية (الليسانس).
أهم أهداف المعهد الدعوة إلى الله تعالى، ونشر العقيدة السلفية، وتعليم أحكام الإسلام.
يقول مديره الشيخ محمد فاضل في مقابلتي معه: إن التعليم فيه يقوم على الكتاب والسنة، وما كان عليه الرعيل الأول من هذه الأمة في جميع المجالات. فيرفض التأويل الكلامي في آيات الصفات، ولا يدخل المنطق وعلم الكلام في المعتقد، ونبذ البدع بجميع صورها، وخاصة بدعة التصوف.
وقال: “والتصوف بدعة والآية الكريمة تنطبق على المتصوفة حسبما يظهر لي، وهي قوله تعلى “وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ”.
أما في فروع الدين فيميل المعهد إلى الأخذ بالدليل أيا كان القائل به، ويرى السلامة في ذلك.
مدرسة الهدى لتحفيظ القرآن الكريم
أسسها الشيخ محمد الأمين بن الإمام، الذي ولد في نواكشوط 1960م، ودرس العلوم الشرعية. والده الشيخ محمد عبد الله بن الإمام من أبرز علماء بلاده، ولد في تكانت عام 1349هـ، وطلب العلم على مشاهير علماء بلاده.
وقد اعتمدت هذه المدرسة منهج المحظرة المعروف في البلاد، وهي المدارس التي تركز على القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله.
وقال مديرها لي إنها أسست لنشر عقيدة أهل السنة وتحفيظ كتاب الله عز وجل. ومواجهة تيارين خطيرين أحدهما ينتسب للإسلام وهو الفكر الصوفي، والثاني هو البعثات النصرانية التي تنشط تحت ستار المساعدات الطبية والتعاونيات الزراعية وغير ذلك.
المعهد الإسلامي السلفي في كيفة
أسسه الدكتور محمد بن ماديك في مدينة كيفة عام 1404هـ، وهو أحد تلاميذ الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار رحمه الله، وقد تقدم التعريف به. وقد نص على أن المعهد قام بنشاط في الدعوة إلى الله، ونشر تعاليم الإسلام وعقيدته الصافية اقتداء بالسلف الصالح.
وقد ألف الدكتور “رسالة المعهد الإسلامي السلفي في التوحيد”، وبين فيها عقيدة السلف، ورد على الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة من المتكلمين والمتصوفة… وجعل هذا الكتاب ضمن المناهج المقررة في المعهد في مادة العقيدة.
أقول:
لاحظ الأسماء، مثل “معهد”، “مركز”، وغيرها، تدل على حقيقة السلفية، وهي أنها الحق الذي يستعرض أدلته، ويواجه كل البدع والتوجهات بالدليل، وبالكلمة الحسنة، لا يخشى إلا الله، اما أهل البدع فسوقهم خاوي كما يقول إخوتنا المغاربة، دعوتهم مخفية لضلالها بحجة الخوف من إنكار البسطاء لها، لعدم استيعابهم لها، وما هي إلا حيلة للإختفاء بالذنب مثل كل المذنبين. لا تجد أحدا منهم يقف في السوق يدعو للتيجانية أو القادرية، لأنه يخشى من وجود من يفهم وإقامة الحجة عليه، فأي دعوة هذه التي لا تتم مشاركتها مع المسلمين، ألا يذكرك هذا بدين اليهود الذي اقتصروه على أنفسهم؟!
ولا دليل عندهم غير قال الشيخ، ورأيت في المنام، وأعتقد وأحب وأهوى، وغير ذلك من الأباطيل التي لا يقوم بها دليل إلا وقع، والتي تدل على اتباعهم لمشايخ بشر غير معصومين، وللهوى. لهذا يواجهون السلفية بالإفتراء عليها، مثل فرية التجسيم المذكورة سابقا، ونبزها بالألقاب والسب والشتم، وصب الكراهية والأحقاد عليها كأن للواحد منهم ثأر معها! لا طريق إلى تنفير طيورهم – عوامهم، منها إلا ذلك، وعلى ذلك دلهم شيطانهم الرجيم.
كبارهم شياطين، وعوامهم مستغفلون يحلبهم أولئك الشيطان ويغتصبون بناتهم بكل ذريعة حتى العلاج من المس! لا كثر الله من أمثالهم.
فقهاء ومثقفون سلفيون
هم أفراد يعتقدون عقيدة السلف، ويدعون إليها، ويدافعون عنها، فمنهم:
1- الشيخ محمد يحي بن عمر
ولد في موريتانيا 1930م، ودرس مبادئ العلم، وتورع عن العمل في الحكومة.
يعتبر من الفقهاء الملتزمين بمنهج السلف، قال لي: “إن الطريق الوحيد إلى العقيدة الإسلامية هو الطريق الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، والتابعون وأئمة المذاهب وعامة أهل الحديث”.
ويقول عن بدع الطرق الصوفية المنتشرة في البلاد: “قد عصمنا الله تعالى منها ولله الحمد، فلم تكن لنا علاقة بالصوفية، لأن الدين الإسلامي موجود في الكتاب والسنة كاملا، والقدوة الصالحة التي ينبغي للمسلم أن يترسم خطاها هي سلف هذه الأمة أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير، وعلماء المسلمين الذين اتبعوهم بإحسان، وتمسكوا بالسنة على مر العصور”.
2- الشيخ محمد بن مود
ولد في موريتانيا عام 1356هـ، ودرس مبادئ العلم، وتولى القضاء في عدد من مدن بلاده، واستقدمته الجامعة الإسلامية بالمدينة في عام 1400-1400هـ، كأستاذ زائر، ودرس مادة التفسير.
يعتبر من مشاهير الفقهاء السلفيين في بلاده، قال عنه الشيخ بداه: “إنه العالم السني السني”. وقال عن نفسه: “إن العقيدة التي ندين الله عز وجل بها هي عقيدة السلف الصالح المستمدة من الكتاب والسنة”.
وقال إنه تأثر بكتب الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار رحمه الله في اتجاه عقيدة السلف ومنهجهم، خاصة كتابه “أضواء البيان”، وكتابه “آداب البحث والمناظرة”، ومحاضرته “منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات”.
وقال إنه اعتنق التصوف من قبل، وبعد أن تبين له أنه مخالف للسنة تركه، يقول: “كنت قد أخذت التصوف في فترة ماضية، وبعد أن ظهر لي أنه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم تركته، ورجعت إلى الكتاب والسنة، وتعلمت منهما علم السلوك، وتبين لي أن تعلمه منهما أولى وأسهل من تعلمه من مشايخ الصوفية وكتبها”.
3- الشيخ محمد يسلم بن أح
ولد في موريتانيا 1938م، ودرس مبادئ العلم، ورحل لطلبه إلى عدد من الفقهاء في المنطقة من أبرزهم الحاج بن السالك بن فَحْفُ المسومي (وهو عالم أشعري العقيدة، من أبرز العلماء المعاصرين في بلاده، ومن أكثرهم شهرة، اشتهر بالتقوى والورع والزهد والإنكار على المتصوفة، وقد درست عليه منظومة ابن بري، وراجعت عليه نص القرآن الكريم عدة مرات بروايتي قالون وورش عن نافع).
ثم دخل سلك التعليم في عام 1961م، وعين مدرسا، وظل فيه حتى عام 1988م حيث تفرغ للإمامة والتدريس في جامع سقطار بكيفة.
وهو فقيه سلفي، قال لي إن المذهب الذي يتبناه هو مذهب السلف الصالح، أهل القرون الثلاثة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون، وهو إمرار ظواهر الكتاب والسنة كما جاءت مع كمال تنزيه الله عز وجل عن مشابهة شيء من ذوات المخلوقين أو صفاتهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
وقال إن بدع المتصوفة كثيرة حيث أن نظام الزوايا الصوفية يقوم على مخالفة السنة في الغالب، ومن الأمثلة على ذلك – والأمثلة كثيرة – ما نقل عن بعض مشايخ الطرق الصوفية من أنه قال: إن المريد إذا وجد شيخه يرتكب المعصية فلا يجوز له أن ينكر عليه ولو بقلبه. وهذا يهدم المبدأ الإسلامي العظيم مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- الشيخ الناجي بن محمد عبد الله
ولد في موريتانيا عام 1939م، ودرس مبادئ العلم، ورحل في طلبه إلى عدد من مشاهير الفقهاء في المنطقة، ثم عين نائب وكيل الجمهورية في النيابة العامة، وعمل بوزارة العدل.
يعتبر من أبرز طلاب المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية الذين تخرجوا منه، وشغلوا مناصب عالية في الدولة ساعدتهم على القيام بالدعوة.
قال لي إن العقيدة التي يعتنقها ويدعو إليها هي عقيدة السلف الصالح المأخوذة من الكتاب والسنة وما كان عليه أهل القرون الثلاثة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون.
وذكر تأثره بالشيخ محمد الأمين بن محمد المختار. وقال إنه اعتنق الطريقة القادرية في بداية شبابه، وبعد التبصر والبحث تبين له أن التصوف فيه مخاطر، فتركه طلبا للسلامة.
5- الشيخ محمد بن محمد الأمين بن محمد بن دحان
ولد في لعصابة ببلده عام 1951م، ودرس مبادئ العلم، وتنقل في طلبه بين المشايخ، ثم وقف على بعض مؤلفات الشيخ محمد الأمين وتأثر بها، وسافر للحج والتحق بدار الحديث الخيرية في مكة، وفي فترة دراسته بها اقتنع قناعة كاملة بأن مذهب السلف هو المنجي عند الله عز وجل، وأن مذهب الخلف فيه مخاطر، وبعد تخرجه عاد إلى بلده ثم سافر إلى الإمارات..
يعتبر من أبرز الدعاة السلفيين وأكثرهم نشاطا وتأثيرا، وحرصا على استفادة الناس، قال إنه كان على العقيدة الأشعرية، ورجع إلى عقيدة السلف بعد أن ظهر له أن مذهب السلف هو الحق، وأن حجج الخلف واهية ومخالفة للكتاب والسنة.
6- الشيخ المختار بن عمر
ولد بولاية تكانت عام 1376هـ، ودرس مبادئ العلم، ووقف على بعض كتب الشيخ محمد الأمين وأعجب بفكر مؤلفها ومنهجه السلفي، والتحق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وحصل منها على الإجازة العالية عام 1407هـ، وعمل مرشدا في الجيش بدولة الإمارات.
يعتبر من أبرز الدعاة السلفيين المعاصرين، يقول إن السلوك الإسلامي موجود في الكتاب والسنة، وتعلمه منهما أولى وأسهل من تعلمه من غيرهما، ولا شك أن الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في خلقه وعبادته وزهده وتطبيق سنته هو السلوك الإسلامي السليم، وأن الصحابة كانوا علماء وزهاد، وقد تحول الزهد السني في العالم الإسلامي إلى ما يسمى بالتصوف، وكان التصوف في بداية أمره غير مخالف لتعاليم الإسلام، ولكنه سرعان ما تأثر بالفلسفات الإلحادية، وصار غالبية دعاته مبتدعة يتظاهرون بالدين ليضلوا المسلمين، ويأكلوا أموالهم بالباطل، وليتخذوا منهم أنصارا وأتباعا، بالإضافة إلى ذلك كله فإن التصوف يعتبر واحدا من عوامل الضعف الذي أصيب به المسلمون في عصورهم المتأخرة.
7- الشيخ جمال بن الشيخ أحمد
ولد في موريتانيا عام 1954م، ودرس مبادئ العلم، ورحل إلى الشيخ الحاج بن فحف، ثم التحق بمعهد القرآن الكريم في نواكشوط التابع لرابطة العالم الإسلامي، وحصل على الإجازة العالية من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية عام 1977م.
قابلته في 12/01/1992م، وقال لي إن منهجه هو العمل بما جاء في الكتاب والسنة وإتباع الصحابة والتابعين لهم بإحسان في فهم الإسلام وتطبيقه سواء فيما يتعلق بالمعتقد أو السلوك أو مسائل فروع الدين.
8- الشيخ محمد بن مولاي الشريف
ولد بالعصابة عام 1955م، وأخذ مبادئ العلوم، ثم شارك في مسابقة وعين قاضيا في مدينة ولاتة، ثم قدم استقالته والتحق بمعهد رابطة العالم الإسلامي لتحفيظ القرآن في نواكشوط، ثم انتسب في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وحصل منه على الإجازة العالية، ودرس بهذا المعهد نفسه.
قال لي إن الطريق السليم إلى معرفة العقيدة الإسلامية هو طريق السلف الصالح ومنهجهم المتمثل في أخذ العقيدة من الكتاب والسنة، وعدم الخوض في التأويل وعلم الكلام والفلسفة.
وذكر أن أهم أسباب الإنحراف عن النهج السلفي في البلاد تعود إلى ثلاثة أمور، هي: علم الكلام، والطرق الصوفية، والتعصب المذهبي.
9- الشيخ أحمد فال بن صالح
ولد في موريتانيا عام 1985م، وأخذ مبادئ العلوم، ثم التحق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم عمل في هيئة الإغاثة العالمية في موريتانيا.
كان زميلي في الدراسة، أخبرني أن عقيدته هي إخلاص التوحيد لله عز وجل، وهو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر به ودعا إليه، وجاء الأمر به في مواضع كثيرة من القرآن الكريم منها قوله تعالى “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا”.
وذكر أنه أعد بحثا عن التصوف خلاصته أن التصوف إذا كان هو ما في الكتاب والسنة فلا حاجة إلى هذه التسمية المبتدعة، وإن كان غير ذلك فهو بدعة مردودة على صاحبها كغيرها من البدع.
10- الشيخ يعقوب بن محمد بن بوب
ولد في موريتانيا عام 1960م، وأخذ مبادئ العلوم، ووقف على بعض مؤلفات الشيخ محمد الأمين ومحاضراته، فرجع إلى عقيدة السلف بعد أن كان درس “إضاءة الدجنة” لأحمد المقري في العقيدة الأشعرية.
يعتبر من أبرز الدعاة السلفيين المعاصرين في بلاده، ومن أشدهم عداء لأهل البدع.
قال لي عن التصوف إنه لا حاجة لهذه التسمية إن كان موافقا لما في الكتاب والسنة، وأن الحكم على الصوفية كلها بالضلال أمر لا ينبغي لأن من مشايخها من هو من أهل العمل بالكتاب والسنة والإقتداء بالسلف كالشيخ الجنيد بن محمد، والشيخ عبد القادر الجيلاني، وأمثالهما، إلا أن التصوف امتزج بالفلسفات ولم يتقيد غالبية أصحابه بالقيود الشرعية، هذا بغض النظر عن التصوف الفلسفي الإلحادي الذي صرح أصحابه بالكفر البواح مثل مذهب الحلول عند الحسين بن منصور الحلاج، ومذهب وحدة الوجود عن محمد بن علي بن عربي الطائي الأندلسي، ومن سار على منوالهما.
11- الشيخ محمد محمود بن المصطفى
ولد في عام 1964م بولاية العصابة، وأخذ مبادئ العلوم، ثم تنقل بين عدد من المشايخ، والتحق بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية وحصل منه على الإجازة العالية في سنة 1986م، وعمل في الشؤون الدينية بالإمارات.
قال لي إن الذي يراه أن الطريق الوحيد إلى فهم الإسلام فهما صحيحا هو طريق السلف ومنهجهم، لأنه لا سبيل إلى فهم الإسلام فهما صحيحا إلا من خلال الكتاب والسنة، ونبذ ما يخالفهما، والإبتعاد عن البدع والمحدثات سواء في أصول الدين (العقيدة)، أو فروعه، أو في السلوك.
وقال إن السلفيين في موريتانيا الآن كثيرون، وهم على قسمين: قسم يتجنب الكلام في العقيدة، ويغلق الباب عن المناقشة فيها، ويرى أن السلامة في ذلك، وأن السلف حذروا من كثرة الكلام والخوض في المسائل الإعتقادية.
وقسم آخر يحاول دائما إثارة الكلام في العقيدة، وقصدهم من ذلك تصحيح المفاهيم العقدية، وتوضيح مذهب السلف، والرد على الإشاعات والمزاعم والشبه التي توجه إلى السلفيين من طرف خصومهم المتكلمين والصوفية.
13- الخاتمة
يقدر الشيخ محمد الأمين بن الإمام أصحاب الإتجاه السلفي (بداية التسعينات) في طلاب العلوم الشرعية من الشباب بحوالي 43 بالمائة، بينما يقدر أصحاب هذا الإتجاه بين المشايخ كبار السن من فقهاء المحاضر بحوالي 6 بالمائة.
أما الشيخ أحمد بن المرابط فيقول إن حاضر هذه البلاد يشهد تقدما متزايدا نحو الإتجاه السلفي، ويقدرهم ب 40 في المائة في الشباب، و5 في المائة في فقهاء المحاضر لأن أغلب الفقهاء الأقدمون أشاعرة متعصبون.
أما الشيخ بداه بن البصيري فيرى أن السلفيين موجودون، ولكن ليسوا على كثرة، يقول: “وفي نظري أن مستقبل السلفية في هذه البلاد جيد إذا وجدت دعما ومؤازرة”.
وأقول إن الإتجاه السلفي قوي يزداد يوما بعد يوم في هذا القطر، ولاسيما في المنطقة الغربية من البلاد وخاصة مدينتي نواكشوط وبتلميت.
وفي النهاية أنبه إلى أن عوام المسلمين الأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف، فكل من لم تلقنه المبتدعة بدعتهم، ويدرسوه كتبهم، فليس من حق أي فرقة أن تدعيه إلا أهل السنة والجماعة.
وقد عشت ثلاث سنوات في البحث عن عقيدة السلف والأعلام الذين تمسكوا بها في القطر الموريتاني على مدى تاريخ الإسلام في المنطقة.
ونظرا لأن الكثير من الناس حتى من طلبة العلم والباحثين يظنون أن جميع الموريتانيين أشاعرة، وليس لمذهب السلف وجود فيهم، فإني أوصي طلاب العلم والباحثين بتناول موضوع السلفية في موريتانيا في البحوث والمحاضرات والندوات، حتى يتم تصحيح هذا المفهوم الذي يخطئ الكثير فيه.
وأوصي القائمين على أمر المؤسسات السلفية، وخاصة في المملكة السعودية بتشجيع الدعاة السلفيين ومؤازرتهم حتى يتمكنوا من السير في الدعوة السلفية بنجاح.
كذلك المساعدة في نفض الغبار عن المخطوطات السلفية وإخراجها إلى النور. ودعم المعهد الموريتاني للبحث العلمي فهو يبذل جهدا لا بأس به رغم ضعف وسائله.
كذلك المحافظة على المحاضر، وتنقية مناهجها من كل ما يخالف منهج السلف وعقيدتهم.
تم الملخص بحمد الله
أقول بعد حمد الله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، لقد أصبح الحس السلفي اليوم في هذا البلد خافتا بالكاد يسمع، لا تكاد تجد من العلماء والدعاة من يشتهر بالتوجه السلفي الظاهر في التحذير من أهل البدع، بدون مجاملة، لا يخشى في الله لومة لائم، لأن من لا يحذر من البدع لا يمكنه أن يكون سلفيا، لا على طريقة الأنبياء والرسل، ولا على طريقة الصحابة وتابعيهم بإحسان، لذا نجد أكذرهم مختلط، فمثلا الشيخ ولد الددو بان تصوفه، أو لنقل رضاه عن المتصوفة ودعمه الواضح لهم عقديا ومعنويا، وكذلك رضاه عن الإخوان الديمقراطيين الذين يتهمه البعض بهم، وعن الشاعرة والديمقراطيين، وعن كل ساقطة!
والشيخ ولد سيدي يحي في رضا تام عن إيران رغم مذهبها العقدي الذي يتهم أم المؤمنين كل المؤمنين بالفسق والزنا، والعياذ بالله، أما مشكلته مع الدولة كأنه من الإخوان فلم تكن تخفى على أحد.. أما البقية فلا وصف لهم ولا معالم، أكثرهم غما محايد تماا، لا في العير ولا في النفير، لا يتكلم أبدا عن العقيدة، ولا يوليها ادنى اهتما رغم أنها ركيزة الإسلام وأول أركانه، وأساس دعوته، بها كان الأنبياء بلهجون محذرين من الشرك، وفي سبيلها ابتلوا، وعانوا من الناس، لكن لم يسايسوا، ولم يجاملوا، ولم يقدموا بشرا على رب العالمين..
تجد من علمائنا من يثني على شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى السلفية معه – قلة، لكنه ليس على منهجهما! مخالف لهما تماما، مستسخفا لصراحتهما في وصف البدعة بالبدعة جهارا نهارا – وهو ما تستحق، وتحذير الناس منها خوفا عليهم من النار، لكن ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الرسل، صرحاء في ذلك؟ هل جاملوا أحدا رغم ما تعرضوا له من ابتلاء؟ تخيل أحد هؤلاء وهو يخير بين وضع الشمس بيمينه والقمر بشماله، اترك الشمس والقمر، ضع في يمينه أقبح امرأة وفي شماله صرة من أرخس النقود (فكة)، وسيبيع الإسلام كله..
يريد أن يرضى عنه كل الناس، خاصة أهل البدع لينال حظوة عنهم، ويشاركهم في نصيبهم من الإستحواذ على الناس، حرصا على الدنيا وتقديما لها، يكذب على نفسه ب”الأدب الزائف” و”معالي الأخلاق” التي تحولت إلى أحط الأخلاق بسبب مجاملته لأهل البدع..
خلاصة القول أن المعهد السعودي الذي كان مجاورا لنا، كان له أكبر الأثر في نشر العقيدة السلفية في التسعينات، لكن أغلقه المتصوفة والأشاعرة بعد اختراع أمريكا اللعينة لذريعة الإرهاب، التي غيرت بها دعوة افسلام، حتى لم يعد أحد قادرا على وصف الكفار واليهود بحقيقتهم، فخدعن كل دول العالم بها، حتى الدول الإسلامية صدقتها، وقد ثبت اليوم بما لا شك فيه أن القاعدة وداعش المجرمة صناعتان أمريكيتان يهوديتان لا علاقة لهما بالإسلام والمسلمين، أحرى بالسلفية والتوحيد، لكن ما زال بعض المغرضين يتهم السلفية بهما حتى اليوم جهلا أو حقدا وحسدا.
وتعجب إذا رأيت في بلد كالسودان دعاة سلفيون شباب يبثون مقاطع دعوتهم السلفية على اليوتيوب، يظهرون في الشوارع والأزقة محاطون بالجماهير، ناصحين ومحذرين من التصوف والتأخون والتأشعر ، متحدين شيوخها إلى المناظرة، ولا ترى أمثال أولئك عندنا، في بلدنا الذي يقال عنه بلد العلم والعلماء.. مع العلم أن أغلب علمائه يعلمون الفرق بين البدعة والصواب، لكن تجدهم إما متلبسين بها أو ساكتين عنها إلى يومنا هذا، والله المستعان.
لذا أرى – والله أعلم – أن منحنى السلفية في هذا البلد في تناقص، لكن لن ينقرض أهل الحق ولن يُعدموا في أي مكان. وأكبر خطر يهدد المسلمين اليوم هو بدعة الديمقراطية التي غزت المسلمين باسم الرقي والتحضر والعلم الخبيث وأهله المرجمين التي تكفى أفعالهم الصارخة في الدلالة على بعدهم عن أي تحضر وعقل، فاللغة أصبحت لغتهم، وكذلك السياسة والقوانين والتعليم.
والأمر الخطير هو أن التصوف يعد ان كان محيدا منزويا بضحاياه وضلالاته، يتحد اليوم مع الديمقراطية باسم دعم الإنتخابات والمشاركة السياسية ليحكم معها، والرئيس قد يكون من أهله، وهذه سابقة! فإذا ثبت ذلك قد تستصدر قوانين برلمانية جديدة تحرم مجرد الإعتراض عليه، لأن دور الديمقراطية الأساسي هو استصدار قوانين الشياطين التي تخدم مسعاه وتنهك الناس، ثم الزعم بأنها من الشعب وإليه، بل قد يصدر قانون بسجن كل سلفي حقيقي موالي للحاكم محذر من البدع وأهلها، هذا هو ما ستأتي به الديمقراطية إن تمكن أهل البدع غير العلمانين من رقبتها، وهم في طريقهم إلى ذلك عندنا بما يغدقون من أموال بتهمهم البعض بأبشع التهم في ما يتعلق بتحصيلها، وذلك غير مستبعد، والله المستعان.
رابط تحميل الملخص بصيغة PDF هنا.