هذه خاطرة ساخرة من جزئين مستلهمة من انقلاب 2008 في وقتها، ومن جاء بهم من الصغار الذين يحكم بعضهم البلد اليوم بأفعال وأقوال أصغر منه، وقدرة محدودة على السيطرة على الحشرات السامة الداعية للعنصرية والتفرقة وأمثالها.
إضافة لتبني نهج الظلم بطريقة غير مسبوقة في البلد، الناس اليوم تنتزع منهم أراضيهم جهارا نهارا، وتهدم بيوتهم حتى إن كانت منتجعات سياحية أو قصورا، بحجة الإصلاح، وأي إصلاح يأتي به هؤلاء البوابون؟
ملاحظة: لا أقصد رئيس الجمهورية وفقه الله، فعلى الأقل كلامه ليس كثير، وذلك أفضل. أما الحاشية فنعوذ بالله منها. أصبحنا في دولة تدار من قبل الجبائيين من المدنيين قبل العسكريين..
ولا يحسبن بعض الإخوة العرب في الدول التي يحكمها حكامها بالقوة، أن الحرية الديمقراطية نعمة، بل هي نقمة، وخير منها الخوف من الحاكم، على الأقل لديهم بذلك الفرصة في الإهتمام بشؤونهم الخاصة، برعيتهم الصغيرة التي قد لا تتجاوز حدود بيوتهم ودكاكينهم، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
مستريحون من العبث السياسي الذي لا يتحدث المثقفون عندنا إلا فيه حتى إن كانوا أبعد الناس عن السياسة الخبيثة. لذا قد تضجر عندما تدخل التيكتوك، وهو أقرب ما يسمى بالمواقع الإجتماعية إلى الإجتماعية لما يتيح من فرص اجتماعية كالتواصل المباشر بيسر.
تستغرب من أن أصحابنا فيه بين أمرين: إما الحديث في السياسة المملة، كل واحد منهم يحسب أنه السياسي أو الحقوقي الأوحد، أو الحديث في التفاهات التي هي مادة التيكتوك الأولى وركيزته التي عليها يقوم بنيانه.
أما الحديث فيما ينفع كالدين وغيره فقليل.
أما عند الإخوة العرب فمبتلون بتدخل كل من هب ودب في الدين – تعطيهم حكوماتهم الحرية في ذلك، فيظهر الملحدون واليهود والنصارى في ثياب إسلامية – وهي تعرف ذلك، ليفسدوا الصغار وضعاف الدين، كشبهة القرآنيون التي تعتبر خطرا على الأجيال الحالية لتربيتها البعيدة عن الثوابت والدين.
بواب الثكنة
كان بوابا لثكنته، يقضي أيامه ولياليه بين أبوابها مقارنا نجوم السماء اللامعة بنجوم الضباط الصدئة، يعد الشاي للأسياد من الجنرالات والمقربين من الجنود البسطاء.. لم تكن له في الثكنة فائدة غير تحضير الشاي، فرغم كونه حارسا من حراسها إلا أن الجيش ككل تحرسه هيبته، ويخشاه الجميع..
كان في أواخر الخمسينات من عمره، عاصر جميع الانقلابات التي عصفت بالبلد، وعايش صراع الضباط على السلطة الذي طالما شبهه بصراع الديكة أو الفجار على دودة..
كان رئيس الجمهورية الأول أسدا يرتعب منه الجميع.. كانت أوامره طقوس يتعبد بها المنافقون في محاريب المصالح الأنانية، وكان رضاه مبتغى المنافقين والسياسيين والإعلاميين والمثقفين ثم الفنانين.. أما بعد دخول الملعونة “الديمقراطية” إلى البلد، تغيرت المفاهيم، وتحول الرئيس إلى شخص عادي يؤخذ من كلامه ويرد ككل الناس، حتى أصبح بعض الفساوسة – من الفيسبوك، السياسيين من الشباب العاطل عن العمل – مثلي، يعتقدون أنهم أعلى منه درجة..
ورغم الديمقراطية الوليدة التي يقر الجميع بقداستها، ويتعبدون في محاريبها – البرلمان والمقار الحزبية والشوارع، ويصلون لشيطانها.. لم ينس الضباط عادة أسلافهم في الإنقلاب، فاستمرت متتالية حسابية بهدف تخليص الوطن من المزعجين، عن طريق الإزعاج..
كان الواحد منهم يعتلي دبابة صدئة، ويشهر مدفعه في وجه ولي نعمته عاضا اليد التي امتدت له يوما وانتشلته من الفقر والضياع، متنكر لكل جميل، في سبيل كرسي زائل لا دوام له، ضاربا ولي نعمته برصاصة غادرة، حتى اتفقوا على عدم قتل بعضهم بعضا، فاصبح النفي والحبس بديلين لذلك، قبل إطلاق سراح المخلوع بعد استتباب الحكم للخالع ليعود إلى حياة البسطاء واللاشيء، التي نسيها يوما..
أما المواطن المقهور فيعلن للحاكم الجديد الولاء فورا، رغبة ورهبة، ومعه كل الحق في ذلك، لكنه يتنكر لكل أمجاد الرئيس السابق كما لو لم تكن، وهل كانت فعلا؟ وتغتابه الألسنة التي كانت تتراقص على أنغام الثناء عليه، وتمتد الأيادي التي طالما احتضنته بالحب والوفاء، إلى قفاه عند بسط خلاف في الشارع..
كان معدل استمتاع رئيس الجمهورية بدجاج القصر الرئاسي المحمر لا يتجاوز سنة في المتوسط، ففي كل سنة يحدث انقلاب، ويتسلط عسكري آخر على البلد معلنا عن برنامج إصلاح جديد..
جلس البواب على العتبة مفكرا في حال البلد المنكوب.. كانت الهمسات تنفلت من صدره أحيانا، فيسمعها من حوله دون قصد منه.. وكانت الانقلابات المتعاقبة تقلق راحته، فتمتم بسخط وهو ينكت الأرض بمدفعه الرشاش:
– من كان يتصور أن هذا الضويبط التافه ضعيف شخصية الذي كان يحييني في كل صباح بخجل كالعذراء، يصبح بين عشية وضحاها رئيسا للجمهورية؟ وأنا كامل الشخصية والأوصاف قابع هنا مثل الكلب أحرس الثكنة؟!
من يصدق للحظة أن ذلك الجبان الرعديد الذي بالكاد يرفع عينيه في وجه محدثه، يصبح رئيسا للجمهورية؟
تبا للجمهورية التي تقبل به زوجا!
كان البلد قد شهد الليلة الماضية انقلابا جديدا ألقى بالرئيس السابق في مزابل النسيان..
صاح البواب دون وعي:
– أعترض على رئاسة ذلك الخسيس الجبان..
من سوء حظه أن العقيد المسئول عن الثكنة كان مارا بالجوار، فالتقطت أذنه البوليسية تلك العبارة الخطيرة، فأشار إليه مناديا:
– أقبل..
فأقبل عليه مهرولا، فصفعه صفعة مدوية وهتف:
– من تقصد بقولك هذا أيها الحقير؟
هتف متوسلا:
– ليس أنت.. الرحمة.. أقسم أنه ليس أنت..
صاح فيه العقيد بغضب:
– من تقصد أيها الكلب الوضيع.. لا يوجد في الثكنة من الأسياد غيري؟
أسقط في يده وعلم أن لا مفر من قول الحقيقة، ولعل وعسى، وذلك شبه مستحيل، يتفهم العقيد ولو لمرة في حياته.. غمغم:
– كنت أهذي فخرجت الكلمات مني دون وعي أو حساب..
– لقد سألتك من تقصد بكلماتك، فأجبني قبل أن أعلقك في هذه الساحة مثل الكلب الأجرب..
أسقط في يده، فتلعثم قائلا:
– رئيس الجمهورية الجديد..
حدجه القائد بنظرة نارية، ثم انفجر في وجهه مثل البركان:
– من؟ أيها الوضيع الحقير الخسيس اللئيم النذل الرذل الجبان الرديء المجنون الكلب الحمار، عديم التربية الأخلاقية والعسكرية.. أبلغت بك الجرأة التطاول على أسياد أسياد أسيادك؟
أكمل قوله بالمناداة على أربعة من الجنود قائلا:
– ألقوا بهذا الكلب في صندوق القمامة، وسدوا عليه جيدا، لا أريد لوجهه أن يرى النور قبل ثلاثة أيام.. وصبوا القمامة فوق رأسه صبا..
همّ الضباط بجره، فصاح فيهم العقيد:
– مهلا.. ليس قبل أن أحطم رِجله..
صاح فيه المسكين متوسلا:
– لا.. لا.. أرجوك.. كل شيء إلا تحطيم رجلي بحوافرك الضخمة..
وطئ القائد قدمه بحذائه العسكري الحديدي، فدوت في الثكنة صرخة ألم صعق منها المارة بجوارها..
بعد ثلاثة أيام، في مزبلة الثكنة، كان البواب يحدث نفسه كعادته:
– ما أخبث هؤلاء الضباط الجهلة العنجهيون، كأنهم من بقايا عاد وثمود، ما أثقلهم وأغلظ أكبادهم وأصلب حوافرهم، خصوصا الثور المتحكم في ثكنتنا، الجاهل الغبي اللئيم الدميم، أعجب لأنثى تقبل به، هذا لا تقبل به إلا حمارة.. لكن مهلا سأجعله يدفع الثمن عندما أخرج من هذه المزبلة وأقوم بالإنقلاب الميمون..
سمع وقع خطوات ثقيلة تضرب الأرض مقتربة، فتمتم:
– أقسم بآبائي وأجدادي انها حوافر ذلك الثور..
كان العقيد يسأل من حوله من الجنود:
– كيف حال المجنون، هل أكرمتموه بصب القمامة وبقايا الشاي على رأسه.. سنرى هل تعلم صون لسانه أم لا.. أخرجوه.. هيا.. أسرعوا أيها الأوباش..
بعد أن أصبح أمامه، صاح فيه بلهجة عسكرية صارمة:
– هل استوعبت الدرس أيها الحمار..
رد:
– نعم سيدي.. تحياتي..
– كن حذرا من أحلام اليقظة في المرة القادمة لن أرحمك..
هتف وهو ينطلق إلى مكتبه مخاطبا الجنود:
– هيا.. ضعوا هذا الكلب على عتبة الثكنة، وأعطوه سلاحه.. لم يعد الواحد يعرف في هذه الأيام هل يخاف على بناته أم على جنوده..
كان المسكين في أمس الحاجة إلى قسط من الراحة، ولكن الجنود وضعوه على عتبة الثكنة كالطوبة، وأعطوه مدفع الحراسة وهم يعتذرون قائلين “إنها أوامر العقيد.. لا تحرمنا من الشاي اللذيذ الذي تعده”.. همس في نفسه:
– المنافقون، لا يهمهم غير الشاي أما أنا ومصلحة البلد فلا..
جلس في مكانه وهو يكاد ينفجر غيظا:
– سأسجنك أيها العقيد الثور المجنون.. سأسجن البلد المنافق كله.. أقسم أن أصبح رئيسا للجمهورية رغم أنوفكم جميعا، وأعذبكم جميعا شر عذاب..
كان الإرهاق سبب انفلات جملته الأخيرة، وصادف ذلك لسوء حظه، مرور العقيد!
زعق فيه زعقة مارد منكرة، قائلا:
– ماذا.. تسجن البلد والعقيد الثور المجنون؟! أقبل..
هذه المرة لم يتمكن من الإقبال عليه، فقد وقع مغشيا عليه من هول الصدمة والإرهاق حتى ظنه الحضور ميتا، واضطروا إلى نقله إلى المستشفى في سيارة إسعاف..
وفي داخلها كان يهذي بكلماته التي لا يملك زمامها، فكانت تخرج من فمه كالرصاص الطائش:
– يسقط رئيس الجمهورية.. يسقط ثور الثكنة.. تسقط المزبلة.. يسقط الجنود المنافقون.. يسقط المواطنون.. تسقط الديمقراطية.. يسقط البلد.. تسقط الأمم المتحدة.. سأصبح رئيسا للجمهورية رغما عن أنوفكم جميعا..
همس سائق سيارة الإسعاف لمساعده:
– ما الذي يهذي به هذا الحمار..
– يبدو أنه يطمع في الرئاسة كغيره..
– ما رأيك في أن نرميه في أقرب مزبلة ونعود أدراجنا، توفيرا للوقود على الأقل..
– لولا منظمات حقوق الحيوان المنتشرة في البلد في هذه الأيام لما ترددت في ذلك، لكن ما العمل، إنها ضريبة الديمقراطية اللعينة التي سنها الرئيس المخبول السابق.. تخيل أنه كان يريد إجراء انتخابات نزيهة وهو أبعد مخلوق على وجه الأرض عن النزاهة؟!
رد الآخر:
– لا أرى لهذه الديمقراطية اللعينة من فائدة غير تلميع اللئام الوسخين المنافقين.. البلد بخير في ظل الدكتاتورية التي لا تسمح لكلب منهم بإخراج لسانه.. وكلما تبطر أحد الرؤساء وظن أنه خلد في الحكم نتفه منه أقرب المقربين إليه نتفا..
صاح حارس الثكنة بدون وعي:
– يسقط الحماران السائق ومساعده.. تسقط الديمقراطية الملعونة.. يسقط الإنقلابيون والمجتمع.. تسقط المرأة وجميع الأطفال..
يتبع في الجزء الثاني: “جمهورية المجانين”