قصص بقلمي

الجميلة والكزرة

“الكزرة”: اسم يطلق عندنا على الحي الشعبي، وأصله من كلمة “اكْزَرْ” العامية (الكاف معقودة مثل الجيم المصرية)، وتعني: احتل أرضًا. هذه الأحياء، لا تزال موجودة إلى الآن، وهي عشوائيات قائمة بين الكثبان الرملية وغيرها. مجموعة من الأعرشة، والخيام، وبعض البيوت الإسمنتية البسيطة غير المكتملة متراصة على بعضها البعض.
ورغم ما يُقال عن فساد الأخلاق بعض ساكنتها نتيجة الفقر والطمع فيما عند الغير – كما يشاع، أجدها أبسط وأجمل من المدينة المتخلفة التي لا هي مدينة ولا هي بادية – في القرن الواحد والعشرين!
القصة لعابث مستهتر. ستنجح البساطة في إعادته إلى جادة الصواب، أو لا تنجح؟ 

الصورة لكرزة

الجميلة والكزرة

الجميلة والكزرة

يقال إن الفقر يكبل أصحاب الفطر السليمة، ويدفعهم إلى الانزواء بعيدًا عن الأنظار، يمنعهم حتى من الاعتراض على حالهم بالكلام أو الشكوى. فيجلسون القرفصاء تحت أعرشتهم أو خيامهم المهترئة، صامتين كأنهم غير موجودين. يشبعون أحيانًا ويجوعون أحيانًا أكثر، يتأرجحون بين السعادة والحزن كتأرجح الليل والنهار.

تنهمر دموع القهر من أعينيهم كلما كبت العوز حاجة ملحة في نفوسهم، فتختلط البساطة بالألم في صراع دائم، يصرعها فيه أو تصرعه.

تراهم في “كَزْرَاتِهِمْ” المتهالكة، يصارعون الجوع والعطش، الحر والبرد، في انتظار أمل ينتشلهم من ذلك العناء. ورغم قسوة حياتهم وتقلبها بهم، يعيشون ببساطة وراحة بال يحسدهم عليها أغنى الأغنياء.

كانت ليلة صيفية مظلمة لم يتوقع أن تعصف فيها تلك الرياح الشديد المتبوعة بالمطر الغزير. غادر منزله في حي “تفرغ زين” الراقي، باحثًا عما يشبع به نزواته التي لا تعرف الحدود، مرددًا جملته المعتادة كلما قاد سيارته الفارهة على الطريق الأسود الطويل: “في مكان ما من هذه العاصمة القبيحة، توجد جميلة تنتظرني”.

كان في الأربعينات من عمره، أمضى شبابه متتبعا الضحكات الماجنة واللمسات العابثة التي لا تشبع من جوع.
بينما الغيوم تتجمع مهددة بالعاصفة، أدار محرك سيارته الفارهة، الهدية التي قدمت له والدته على كبره. وانطلق كعادته في جولة طويلة تمتد من المغرب حتى ما بعد منتصف الليل، بحثًا عن مغامرة جديدة تنعش روحه التواقة للسعادة، وتسد ثغرة في جدار الجوع الذي لا يشبعه إلا الحلال.

لم يكن محظوظًا تلك الليلة، فلم تستجب لمغازلاته المبتذلة وضحكاته المصطنعة أي فتاة. مر الوقت سريعًا، دون أن تثمر محاولاته المضنية عن صيد.
قادته عجلات سيارته بلا وجهة إلى ان أوصلته إلى ‘كَزْرَة’ نائية في أطراف المدينة، تناثرت أعرشتها على الكثبان الرملية في مشهد عبثي عجيب.

أوقف سيارته على حافة الطريق المعبد، وترجل منها وهو يتمتم: “لقد مللت من هذه الآلة. ربما حان الوقت لتجربة الصيد على القدمين”.
استعاد كلمات صديقٍ ساخر طالما ضاق ذرعًا بالسيارة الفارهة: “دعنا من هذه البطة – الصندوق، لننزل ونتمشى. المشي أفضل من هذه المظاهر الكاذبة، وأقرب إلى الفتيات الخجولات”.

رش على نفسه ما تبقى من زجاجة عطر ثمين، وتقدم بخطوات متبخترة نحو الكزرة المترامية أمامه. كانت الأرض تحت قدميه وكأنها تنبض اعتراضًا على فرحه الزائد. كان رغم ترعرعه بعيدا عن لكزر، من هواتها، يحب بساطتها ورمالها الذهبية النظيفة اللامعة.

لاح أمامه مشهد فوضوي من الأبنية المتناثرة، لا تمت إلى الحضارة بصلة. شق طريقه بينها بصعوبة، مضطرًا أحيانًا إلى التوغل داخل بعضها بسبب انعدام الطرق. لم يكن غريبًا أن يعبر من فوق صحن أسرة تتناول طعامها؛ فقد كان ذلك أمرًا مألوفًا في تلك الأماكن الخارجة عن قوانين البناء، حيث يكفي إلقاء السلام لتجاوز ذلك الإحراج.

وجد نفسه في النهاية تحت شجرة نائية، في ظلام دامس، بينما كانت الرياح تعصف بها وبالكزرة بأكملها.

تعالى صوت أذان العشاء، متزامنًا مع وميض البرق الذي مزق عتمة السماء. وقف متأملًا الشجرة العارية التي احتمى بجذعها، وأحس بقشعريرة تسري في جسده رهبة، فتعوذ من الشياطين. هتف في قرارة نفسه: ‘ها أنا ذا كالعادة… أضيع وقتي في مطاردة الشهوات! حقًا: من تتبع الفاسدات بات في الشارع’.

دوى الرعد بقوة، كأنه يحذر الأرض مما هو قادم. وبدأت بوادر العاصفة تعبث بما حوله، فشعر بغصة من تأنيب الضمير تخنقه. تمتم بصوت خاشع: “يتغير الحال فجأة… في أي لحظة… وبدون مقدمات. فإلى متى أركض في طريق الشيطان الذي لا نهاية له؟!”.
صاح دون أن يشعر:
“أقسم… انها آخر مرة!”

رفع يديه المرتجفتين إلى السماء، ودعا بصدق: “رب ارزقني التوبة والاستقرار… ارزقني الطريق إلى مرضاتك، وابعدني عن طريق سخطك”.

هبت العاصفة بعنف في تلك اللحظة، فاختلط الحابل بالنابل. أدار هره للرياح باحثا عن مأوى يحتمي به هربًا من أي شيء قد يقع على رأسه: خشب متطاير، أو سقف منهار، أو حتى إنسان مترنح تحت سطوة الريح.

لاح له طيف امرأة تحاول تثبيت سياج كزرتها المتهالك باستماتة. اندفع نحوها بلا وعي، ليجدها تصارع الرياح العاتية بضعف وإصرار لا يلينان. ألقى عليها التحية بخفوت، ثم انحنى بجانبها، يثبت السياج بيدين مرتجفتين لكن بعزم. أتمّ المهمة في ثوانٍ معدودة.  ولأول مرة، شعر بأنه ذا قيمة. تساءل في نفسه، وهو يراقبها تكافح وسط الرياح: هل تدفعنا المرأة في الظروف الطبيعية، إلى إظهار أعظم ما فينا؟

بدأ المطر ينهمر بغزارة. أسرعت إلى داخل الكوخ. همّ بالعودة إلى شجرته المخيفة، لكنها نادته بحياء:
“ادخل عن المطر”.

لم يتردد. هرول نحو الكوخ، ودخل محتميا به من المطر الغزير الذي بدأ يتدفق من أفواه القرب.

تأمل محتويات الكوخ المتهالك الذي يحمل عبء الحياة. أثاث متواضع أكل عليه الدهر وشرب، وصحون متناثرة تحيط بقِدر متسخ، تحكي عن أيام طويلة من الكفاح. وسط هذا المشهد البائس، كانت ثلاث بنات كالبدور يضئن المكان بجمال عفوي جذاب، أكبرهن لم تتجاوز العاشرة من عمرها.

كان الكوخ والسياج، إلى جانب “بنطرة” – دكان صغير من الصفيح، كل ما تملك تلك الأسرة الصغيرة في ذلك الركن المجهول.

جلس متربعًا في وسط الكوخ، يبتسم للأعين البريئة التي تحدق فيه بفضول. شعر بأن رائحة عطره النفاذة، مصدر فخره، قد طغت على المكان، فأحس بالحرج منها لأول مرة في حياته.

نظر بعطف إلى الصغيرات، ثم إلى صاحبتهن التي تحدت المطر واندفعت إلى البنطرة، لتعود بمعدات شاي بسيطة. أعدت له بها كأس شاي صحراوي لم يتذوق مثل حلاوته. تأملها باحثًا عن ملامح وجهها، غير أن الظلام كان كثيفًا، لم تستطع الشمعة المتهالكة تبديده.

كانت مطرقة طوال الوقت. قطع صمتها بسؤالها:

  • أليس معكن رجل؟

أجابته الصغيرة بصوت رخيم بريء:

  • نحن أيتام، هي التي تعيلنا.

التفت نحوها بإشفاق، ثم عاد وسأل:

  • هل تعملين؟

أجابت بحياء، وهي تنظر إلى الأرض حياء:

  • أنا عاطلة عن العمل. لكن في “البنطرة” خير.

هتف بحنق:

  • اللعنة على حكومة “رئيس الفقراء”، وعلى التي قبلها، والتي بعدها!

دقق النظر فيها مطولًا، ولأول مرة وجد نفسه يفكر في ما ينفعه… الزواج.

بدأ المطر ينحسر، وهب نسيم منعش أعاد البشاشة إلى الوجوه والطمأنينة إلى النفوس. سألها بفضول، دون تفكير:

  • هل أنتِ متزوجة؟

كان السؤال مباغتًا إلى حد جعلها ترفع عينيها إليه لأول مرة. وعندما التقت نظراتهما، اجتاحه شعور غريب، كأنه أخيرًا وجد صاحبته التي طالما بحث عنها.

سمع ضحكات خافتة، فالتفت نحو مصدرها. رأى السعادة تتلألأ على وجوه الصغيرات فرحا باللحظات الجميلة التي تعقب المطر المبارك. ابتسم لهن بلطف، ثم عاد ببصره إليها، لكنها أطرقت بحياء، متجنبة النظر في عينيه.

أعاد عليها السؤال، فقاطعته الصغيرة ممازحة:

  • لن تجيبك… فهي بلا شخصية.

صاحت فيها، وقد احمر وجهها خجلاً:

  • اصمتي أيتها الوقحة.

كان المطر قد توقف تمامًا، وارتفع صوت الإقامة منذرًا بقرب صلاة العشاء. هب واقفًا وشكرها بامتنان على المأوى الذي وفرت له، ووعدها بابتسامة صادقة بالعودة قريبًا للاطمئنان على الأحوال.
وفي طريقه إلى المسجد ليدرك الصلاة. شعر لأول مرة في قراره بـأهمية الحلال والاستقرار والتوبة.

كانت الغيوم التي في السماء تتبدد كالغشاوة التي تحجب نور الحلال عنه. برز البدر من بين بينها جميلا ينير الليل الهادئ أسفله، ومعه برز وجهها المضيء في خياله منيرا طريق الحياة.

التفت إلى الكزرة التي ترك خلفه، فرآها واقفة عند مدخلها، والصغيرات متشبثات بها، ينظرن إليه مودعات على أمل لقاء قريب. كانت نظراتهن تحمل دفء الألفة التي نشأت سريعًا بينه وبينهن، كأنها وعود غير منطوقة بالفلاح والأمان.
لوح لهن بيده مبتسمًا بإشفاق، ثم خطا نحو المسجد القصديري الصغير. في تلك اللحظة، قرر أن يتجاوز كل العراقيل التي يبث الشيطان في طريقه، وأن يلتزم من الآن فصاعدًا بما هو صواب، وفقط.

بعد يومين من الراحة والنوم حتى المساء، شوهد في حي آخر، متبخترًا بسيارته، يطارد نزواته، وقد نسي تمامًا وعده الأخير. كانت نظراته شاردة، مثقلة بثقل شيطان شهوته. وفي أعماقه، تردد صوت خافت يهمس بلوم:
‘هل هذه هي البداية الجديدة التي قطعتها على نفسك يا مغرور؟’
لكنه، كالعادة، اختار إسكاته، مستسلما لدوامة الهروب إلى الأمام، بلا نهاية واضحة أو قريبة.

محب التوحيد

محب التوحيد الشنقيطي. أسير على نهج السلف، متمسكًا بالكتاب والسنة. أستلهم من الصحابة وحدهم فهم منارات الهدى. لا أرى مجاملة أهل البدع، ولا أرى أيضا الغلظة معهم أو مع أي أحد. وأرى أن السكوت عنهم مداهنة في الدين. أكتب للعقول المتفتحة، وأغرس حب التوحيد في القلوب المزهرة، طمعًا في أن تكون كلماتي نورًا يهدي الباحثين إلى الحق. وفقنا الله وإياكم للخير والفضيلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!