الجميلة والكزرة

“الكزرة”: اسم يطلق عندنا على الحي الشعبي، وأصله من كلمة “اكْزَرْ” العامية (الكاف معقودة مثل الجيم المصرية)، وتعني: احتل أرضًا. هذه الأحياء، التي لا تزال موجودة إلى الآن، وهي عشوائيات قائمة على البداوة بين الكثبان الرملية، تجد مجموعة من الأعرشة، والخيام، وبعض البيوت الإسمنتية البسيطة غير المكتملة.
ورغم ما يُقال عن فساد الطباع فيها، أجدها أبسط وأجمل من المدينة المتخلفة.
القصة لعابث مستهتر. هل تنجح البساطة في إعادته إلى جادة الصواب، أم لا؟

الجميلة والكزرة

الجميلة والكزرة

يقال إن الفقر يكبل صاحب الفطرة السليمة، ويدفعه إلى الانزواء بعيدًا عن الأنظار، يمنعه حتى من الاعتراض على حاله بالكلام أو الشكوى. يجلس القرفصاء تحت عريشه أو خيمته المهترئة، صامتًا كأنه غير موجود. يشبع أحيانًا ويجوع أحيانًا أكثر، يتأرجح بين السعادة والحزن مثل تأرجح الليل والنهار.

تنهمر دموع القهر من عينيه كلما كبت العوز حاجة ملحة في نفسه، فتختلط البساطة بالألم في صراع دائم، يصرعها فيه أو تصرعه.

تراهم في “كَزْرَاتِهِمْ” المتهالكة، يصارعون الجوع والعطش، الحر والبرد، في انتظار أمل خارق ينتشلهم من العناء. ورغم قسوة حياتهم وتقلبها بهم، يعيشون ببساطة وراحة بال يحسدهم عليها أغنى الأغنياء.

كانت ليلة صيفية مظلمة لم يتوقع أن تعصف فيها الرياح فجأة، متبوعة بمطر غزير غمر الأرض وملأ الأجواء بعبق التربة المبتلة. غادر منزله في حي “تفرغ زين” الراقي، باحثًا عما يشبع به نزواته، مرددًا جملته المعتادة كلما قاد سيارته الفارهة عبر الطريق الطويل:
“في مكان ما من هذه العاصمة القبيحة، توجد فتاة جميلة تنتظرني”.

كان في الأربعينات من عمره، أمضى شبابه يتتبع الضحكات الماجنة واللمسات العابثة التي لا تشبع نهم البحث عن الحرام.
بينما الغيوم تتجمع مهددة بعاصفة وشيكة، أدار محرك سيارته الفارهة، الهدية المميزة من والدته التي لم تمل من تدليله رغم كبر سنه. انطلق كعادته في جولة تمتد من المغرب حتى ما بعد منتصف الليل، بحثًا عن مغامرة جديدة تسد جوع عبثه وتروي ظمأ روحه.

لم يكن محظوظًا تلك الليلة. لم تستجب أي فتاة لمغازلاته المبتذلة وضحكاته المصطنعة المتملقة. ومر الوقت سريعًا، دون أن تثمر محاولاته المضنية المتكررة عن أي صيد.
قادته عجلات سيارته بلا وجهة إلى ‘كَزْرَة’ نائية، تناثرت أعرشتها فوق الكثبان الرملية في مشهد عجيب يفيض بالعبث.

أوقف سيارته على حافة الطريق المعبد، وترجل وهو يتمتم: “لقد مللت من هذه الآلة. ربما حان الوقت لتجربة السير على قدمي”.
استعاد كلمات صديقٍ ساخر طالما ضاق ذرعًا بسيارته الفارهة، قائلاً: “دعنا من هذا الصندوق الحديدي، لننزل ونتمشى. المشي أفضل من المظاهر الكاذبة، وأقرب إلى قلوب الفتيات”.

رش على نفسه ما تبقى من زجاجة عطر ثمين، وتقدم بخطوات متبخترة نحو الكزرة المترامية أمامه. كانت الأرض تحت قدميه وكأنها تنبض اعتراضًا على ذلك الفرح الزائد.

لاح أمامه مشهد فوضوي من أبنية وأكواخ وأعرشة متراصة، لا تمت إلى الحضارة بصلة. شق طريقه بينها بصعوبة، مضطرًا أحيانًا إلى التوغل في بعضها بسبب انعدام الطريق. لم يكن غريبًا أن يمر بجانب أسرة تتناول طعامها في كزرتها. كان السلام كافيًا لتجاوز الإحراج.

في النهاية، وجد نفسه تحت شجرة نائية في الظلام، حيث لم يكن يسمع سوى صوت الرياح التي تعصف بها وبالكزرة بأكملها.

تعالى صوت أذان صلاة العشاء، متزامنًا مع وميض البرق الذي أضاء الظلام من حوله. وقف متأملًا الشجرة العارية التي تحتمي أغصانها به، فأحس بقشعريرة تسري في جسده رهبة.

تعوذ من الشياطين وهتف في قرارة نفسه: “كالعادة… أضيع وقتي في مطاردة الشهوات بحثًا عن التافهات”!
تذكر المثل القائل: “من تتبع الفاسدات بات في الشارع”، فتعوذ مجددًا من الشيطان الرجيم، واستغفر ذنبه بقلب أثقله الندم – في تلك اللحظة.

دوى الرعد بقوة، كأنه يحذر الأرض مما هو قادم. وبدأت بوادر العاصفة تعبث بما حوله، فشعر بغصة من تأنيب الضمير تخنقه. تمتم بصوت مرتجف:
“يتغير الحال فجأة… في أي لحظة… وبدون مقدمات. فإلى متى أركض في طريق الشيطان المظلم الذي لا نهاية له؟!”.

صاح دون أن يشعر:
“أقسم… انها آخر مرة!”

رفع يديه المرتجفتين إلى السماء، ودعا بصدق في تلك اللحظة:
“يا رب، ارزقني التوبة والاستقرار… ارزقني طريق مرضاتك عني”.

هبت العاصفة بعنف، تعصف بكل ما تجده في طريقها، فاختلط الحابل بالنابل. أدار نظره في كل اتجاه، بحثًا عن مأوى يحتمي به، هاربًا من أي شيء قد يسقط على رأسه: خشب متطاير، أو سقف منهار، أو حتى إنسان مترنح تحت سطوة الريح.

لاح له طيف امرأة تحاول تثبيت سياج كزرتها المتهالك. اندفع نحوها بلا وعي، ليجدها تصارع الرياح العاتية بضعف وإصرار. ألقى عليها التحية، وانحنى ليساعدها، فأتمّ المهمة في ثوانٍ معدودة. لأول مرة، شعر بأنه قادر على تقديم شيء نافع للآخرين.

بدأ المطر ينهمر بغزارة. أسرعت المرأة إلى داخل الكوخ. همّ بالعودة إلى شجرته الوحيدة، لكنها نادته بحياء:
“ادخل عن المطر.”

لم يتردد. هرول نحو الكوخ، ودخل يحتمي من المطر الغزير الذي كان يتدفق كالسيل.

تأمل محتويات الكوخ المنهك الذي أرهقته الحياة. أثاث متواضع أكل عليه الدهر وشرب، وصحون متناثرة تحيط بقِدر متسخ، تحكي عن أيام طويلة من الكفاح. وسط هذا المشهد البائس، كانت ثلاث بنات كالبدور يضيئن المكان بجمالهن العفوي، أكبرهن لم تتجاوز العاشرة من عمرها.

كان الكوخ والسياج، إلى جانب “بنطرة” – دكان صغير من الصفيح لا يتجاوز عرضه مترين، كل ما تملك تلك الأسرة الصغيرة في هذا الركن المجهول.

جلس متربعًا في وسط الكوخ، يبتسم للأعين البريئة التي تحدق فيه بفضول. شعر بأن رائحة عطره النفاذة، التي كانت مصدر فخره دائمًا، قد طغت على المكان، فأحس بالحرج منها لأول مرة في حياته.

نظر بعطف إلى الصغيرات، ثم إلى صاحبتهن التي تحدت المطر واندفعت نحو البنطرة، لتعود بمعدات شاي بسيطة. أعدت له كأسًا لم يتذوق مثل حلاوته من قبل. تأملها باحثًا عن ملامح وجهها، غير أن الظلام كان كثيفًا، ولم تستطع الشمعة المحتضرة تبديده.

كانت مطرقة طوال الوقت. قطع الصمت بسؤالها:

  • أليس معكن رجل؟

أجابت الصغيرة بدلًا عنها، بصوت بريء:

  • نحن أيتام، أختنا هي التي تعيلنا.
    وأشارت إليها.

التفت نحوها بإشفاق وسأل:

  • هل تعملين؟

أجابته بحياء، وهي تنظر إلى الأرض:

  • أنا عاطلة عن العمل. لكن في “البنطرة” خير، هي وسيلتنا.

هتف بحنق:

  • اللعنة على حكومة “رئيس الفقراء”، وعلى التي قبلها، وعلى التي ستليها!

دقق النظر فيها مطولًا، ولأول مرة وجد نفسه يفكر بجدية في شيء ينفعه… إحصان نفسه بالزواج.

بدأ المطر ينحسر، وهب نسيم منعش أعاد إلى الوجوه بشاشتها، وإلى النفوس طمأنينتها. سألها بفضول، دون تفكير:

  • هل أنتِ متزوجة؟

كان السؤال مباغتًا إلى درجة أنها رفعت عينيها إليه لأول مرة. وحين التقت نظراتهما، اجتاحه شعور غريب، وكأنه وجد صاحبته التي كان يبحث عنها طوال حياته.

سمع ضحكات خافتة، فالتفت نحو مصدرها. رأى السعادة تتلألأ على وجوه الصغيرات فرحا باللحظات الجميلة المبهجة التي تعقب المطر المبارك. ابتسم لهن بلطف، ثم عاد ببصره إليها، لكنها أطرقت بحياء، متجنبة عينيه.

أعاد عليها السؤال، فقاطعته الصغيرة ممازحة:

  • لن تجيبك… فهي بلا شخصية.

صاحت فيها، وقد احمر وجهها خجلاً:

  • اصمتي أيتها الوقحة.

كان المطر قد توقف تمامًا، وارتفع صوت الإقامة منذرًا بقرب صلاة العشاء. هب واقفًا وشكر الفتاة بامتنان على المأوى الذي وفرته له، ووعدها بابتسامة صادقة بالعودة قريبًا للاطمئنان على أحوالهم.
وفي طريقه إلى المسجد ليدرك الصلاة. شعر لأول مرة، في قراره بـأهمية الحلال والاستقرار.
كان الضباب الذي يلف السماء يتبدد تدريجيًا، تمامًا كالغشاوة التي تحجب عنه إدراك قيمة التقوى والحلال.
برز البدر من بين الغيوم، ينير الليل الهادئ من حوله، ومعه برز وجهها الجميل في مخيلته، كأنه يضيء له طريق الحياة.

التفت إلى الكزرة، فرآها واقفة عند مدخلها، والصغيرات متشبثات بها كأنها ملاذهن الأخير، ينظرن إليه مودعات. كانت نظراتهن تحمل دفء الألفة التي نشأت سريعًا بينه وبينهن، كأنها وعود غير منطوقة بالأمان.
لوح لهن بيده مبتسمًا بإشفاق، ثم خطا نحو المسجد القصديري الصغير. في تلك اللحظة، قرر أن يتجاوز كل العراقيل التي يضعها الشيطان في طريقه، وأن يلتزم بما هو صواب من الآن فصاعدًا.

بعد يومين من النوم والراحة، شوهد في حي آخر، متبخترًا بسيارته، يطارد نزواته وقد نسي تماما وعده الأخير لنفسه. كانت نظراته شاردة، مثقلا بشيطانه الرجيم. وفي أعماقه تردد صوت خافت يهمس باللوم:
هل هذه هي البداية الجديدة يا مغرور؟

بعد يومين من النوم والراحة، شوهد في حي آخر، متبخترًا بسيارته، يطارد نزواته كأن وعده الأخير لم يكن. كانت نظراته شاردة، محملة بثقل شيطانه الرجيم، بينما صوت خافت في أعماقه يهمس بلوم قاسٍ:
‘هل هذه هي البداية الجديدة يا مغرور؟’
لكنه، كعادته، اختار أن يُسكت ذلك الصوت، مفضّلًا الهروب في طريق بلا نهاية… على الأقل حتى إشعار جديد.

محب التوحيد

سيدي محمد الشنقيطي. أعتز بالسير على نهج السلف، متمسكًا بالكتاب والسنة. أستلهم من الصحابة لأنهم منارات الهدى. لا أرى مجاملة أهل البدع، وفي نفس الوقت لا أرى الغلظة مع المخالفين. أكتب للعقول وأغرس حب التوحيد في القلوب، طامعًا في أن تكون كلماتي نورًا يهدي الباحثين عن الحق. وفقني الله وإياكم لكل خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!