المجنون
شق طريقه بخطوات مثقلة بين حقول الزيتون، يقتلع قدميه من الوحل الذي يعانده مثل كل شيء.. فاجأته بالقفز أمامه، وبادرته بالسؤال:
- ألست بطل المقاومة؟
رد في ارتباك:
- ماذا؟
قلت بحماس:
- بطل المقاومة المشهور الذي لا يهاب الموت..
تأملني في فتور، وغمغم:
- دعني وشأني..
قلت بلهفة:
- ولكنك البطل الذي طالما أرعب اليهود..
أشاح بوجهه بعيدا وغمغم:
- أنا.. أنا مجرد خيال أنهكته السنون.. الرجل الذي تتحدث عنه أجهزت عليه الخلافات.. إنه..
أغلق فمه وهو يرتجف كعصفور عبث به البرد في يوم مطير، فقلت مخففا:
- هون عليك.. الفرج قادم فلا تبتئس..
غمغم بصوت مبحوح:
- ربنا على كل شيء قدير..
- أريد سماع القصة منك..
غمغم:
- قصة ماذا ؟
- قصة المقاومة.. قصة الوحدة والبطولات.. قصتك..
ألقى علي نظرة زائغة، فهتفت محاولا إخراج ما في جعبته من أسرار:
- كم كنا أعزاء يوم كنا أمة واحدة مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر.. القوة في في اتباع العقيدة الصحيحة والجماعة، وإلا تحولنا إلى لقمة سائغة للأعداء..
تهللت أساريره عن ابتسامة صدئة وهو يستحضر مغامراته الدفينة.. وردد بلهفة:
- كانت أياما لا تنسى..
داعبتني قشعريرة خفية وأنا أتأمل أساريره المنفرجة وعقدة لسانه المنحلة شيئا فشيئا..
تتهلل وجهه وهو يحاول استخراج أصداف النصر المتلألئة في أعماقه..
كان على مقربة منا خربة متداعية، فجذبته إليها.. كانت الشمس على وشك المغيب فألقت بظلالها الذهبية الناعسة على الحقول الخضراء المبتهجة..
وصلنا إلى الخربة.. كان الظلام قد شرع في إضفاء ستاره على الدنيا التي حولنا، فقلت ممازحا:
- دعنا نتحدث في هذا المكان المرعب.. أريد سماع قصتك بالكامل فقد عانيت الكثير من أجل الوصول إليك.. أريد معرفة سبب إطلاق لقب “الأسطورة” عليك؟
خيل إلي أن شبح ابتسامة باهت تراقص على شفتيه المتقلصتين فرحا بالسؤال.. تمتم:
- كان أول ما فعلناه هو تصحيح العقيدة، فنبذنا كل البدع.. اتحدنا على ذلك وقاتلنا بعزيمة لأجل النصر أو الشهادة، إحدى الحسنين..
خطا إلى داخل الخربة بثقة العارف.. كان منزلا قديما دكته القنابل والسنون.. قادني إلى بقايا حجرة جُهزت لتكون مأوى للمتشردين.. أخرج عود ثقاب من جيبه ومرره على الحائط قبل أن يمسح به فتيل شمعة مرمية في ركن أوشكت على الاندثار، فانبعث متراقصة تصارع الهواء البارد بصورة غير طبيعية، والذي جعلني أحس أن في المكان أقوام آخرون معنا..
لقد جذبته إلى عشه.. هتفت محاولا تبديد وحشة المكان:
- لا يمكنك تخيل المشقة التي تكبدتها في سبيل الوصول إليك..
ازداد صمتا حتى خلته حجرا من أحجار المكان.. قلت محاولا إطلاق لسانه المعقود:
- ما كان ينبغي لك التوارى عن الناس..
ازداد غوصا في صمته الرهيب، فأردفت:
- إنهم يتهمونك بالجنون !
ألقى علي نظرة شاردة دون أن ينبس ببنت شفة..
كان واضحا أن ما يبعث فيه الروح هو الحديث عن المقاومة وحده، فهتفت:
- كيف انتصرتم وأنتم بلا عتاد أو معين ؟
هتف بحماس:
- بل كان لنا أعظم معين، وهو رب العالمين.. لقد طلبنا الجنة بهمة وسعي، ففر منا كلاب الدنيا من طلابها..
داعبت سحنة من الطمأنينة وجهه وهو يواصل قائلا بسعادة:
- وقفنا وقفة رجل واحد في وجه اليهود فتلاشى جبروتهم الكاذب في لحظات..
ابتسمت ابتسامة طفل أطربته حكاية جدته، فواصل:
- أرغمناهم على الانسحاب.. أرغمناهم على احترام حقنا في أرضنا بقوة الإيمان والعزيمة..
سرح بي الخيال في الماضي.. كانت أيام نصر لم تدم طويلا.. تذكرت انتصارهم على العدو على قلتهم وقلة عتادهم، ورغم قوته ودعم كل دول عالم الكفر له بالسلاح والرجال دون أدنى خجل أو حياء..
بدد الواقع المر أحلامي فجأة، فتمتمت متحسرا:
- متى عرف الوهن طريقه إليكم؟
شخص ببصره في الفراغ حتى خيل إلي أنه يستغيث بشبح في الأعلى.. ردد كالحالم:
- يوم عميت بصائرنا فأعمت أبصارنا.. يوم تهافتنا على الدنيا وتركنا الآخرة..
كنت أعلم أن له قصة مع الشقاق مثلنا جميعا، فهمست محاولا تجنب نكأ جرحه القديم:
- وماذا عن صغيرتك.. ماذا عن ابنتك؟
انحدرت دمعة ساخنة على خده، فغمغم بمرارة:
- لم أتوقع أن تأتي الضربة القاصمة من المقربين..
ألقيت عليه نظرة مشفقة، فغمغم:
- كانت بريئة وسعيدة.. كانت مبتهجة بالحياة ككل أطفال الدنيا.. فجأة دوى الانفجار، وتلاشت الأحلام، وتلاشت معها الآمال..
أحسست بغصة وأنا أحاول التخفيف عنه:
- هل كان السبب أحد صواريخ اليهود..
غمغم بمرارة وهو يهز رأسه نفيا:
- بل أحد صواريخنا..
خيل إلي أنه يبكي في صمت، فقلت مواسيا:
- لا تفقد الأمل يا بطل..
تجلت الهمة على وجهه الحزين وهو يعتصر الهواء بقبضته رافعا عينيه الملبدتين نحوي، قائلا:
- المهم أن لا نسمح بضياع المسجد الأقصى..
قلت مشجعا:
- لا تحمل هما، سينتصر الحق في نهاية المطاف..
ابتسم ابتسامة طفل حصل أخيرا على مبتغاه.. كان النعاس يداعب جفنيه بعد يوم شاق، فتمدد على لوح خشبي مغطى بورق الجرائد المهترئ، وغمغم:
- لننصر ربنا وسينصرنا، علينا أولا اتباع العقيدة الصحيحة، ومحاربة كل البدع.. عليا الإتحاد كما كنا.. و…
استسلم للنوم كطفل مثلما استسلم للضياع..
ألقيت عليه نظرة مودعة وأنا أغادر المكان في صمت..
خيل إلي أني أسمع صوتا ينادي:
- ابتعد عن البدع يا أخي..
ألهذه الدرجة؟
يبدو أنه عليّ التحقق من ذلك بنفسي، فلا شيخ ولا إمام ولا زعيم سيقوم بذلك بدلاً مني.
عما قريب سيصبح المسكين نسيا منسيا ككل شيء في هذه الدنيا.. لكنه، على الأقل، فهم سبب وجوده، وجاهد في سبيل دينه وأرضه.. أما ما عدى ذلك فمجرد أقدار وابتلاءات، لن يخلد أحد في هذه الدنيا لا في شر مطلق ولا في خير مطلق..
هذه القصة أو الخاطرة، إهداء للفلسطينين الذين يبادون أمام أنظار حكومات العالم الكافرة الظالمة، ولا ذنب بعد الكفر
ويا أخي الكريم إن كنت متلبسا ببعض البدع، راجع نفسك الآن، اسأل شات جيبيتي: ما هو الحق ؟! يمكنك أيضا مطالعة بعض ردوده هنا