رواية مدينة العواصف – بقلمي

سلفية وصوفية وشيعة في عالم مستقبلي

جيش الصقيع

لا أعرف من أين أبدأ رسالتي هذه.. إنها بداية قرن جديد من الظلام. جيوش الكفر تكتسح البلدان الإسلامية، كرياح عاتية تقتلع جذور الأشجار. الحرب بيننا وبينهم على قدم وساق، المدن تتهاوى تحت أقدامهم واحدة تلو الأخرى. والزحف الغاشم يستهدف كعبتنا في الشمال، والخراب يمتد على الأرض كما تمتد الظلال على وجه الصحراء في ليلة خلت من النجوم.

صيحات الاستغاثة تتردد كطبول الحرب، تدق الأبواب بقوة لا ترحم. مبرر الحرب هذه المرة غريب وعجيب.. إنه الاحتفال بنهاية العالم! وأين؟ على أرضنا المقدسة، أرض الرسالات الطاهرة والنبوات العظيمة.

كان لثورات المسلمين المقيمين في بلاد الصقيع عظيم الأثر في انطلاق الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل هذه الحرب وهذا الهجوم. وساهمت التغيرات المناخية العاصفة التي هزّت الأرض في تعجيلهم بالنهاية، وكأنهم يسابقون الزمن لتحقيق نبوءة “آرماجدون” التي يؤمنون بها. تلك الخرافة المنسوجة بخيوط الشيطان، حول ملحمة نهائية تجمع جيوش الكفر والإيمان في صراعٍ محتدم على أرضنا المقدسة، ينتهي – كما يزعمون – بانتصار الباطل على الحق في عقر داره.

محاطًا بالرمال والآمال، وفي مدينة تتصارع فيها العواصف ليل نهار بلا توقف، أقف على كثيب ذهبي شاهق، في أقصى جنوب مملكة الشمال، أتأمل انكسار الشمس وهي تنحدر نحو الغروب. أدوّن في هذه الرسالة قصة حربنا مع العدو الغاشم، ذلك الزحف الرهيب الذي لا يعرف التوقف نحو الشمال.
انطلقت شرارة الحرب من القدس، مدينة الأنبياء والمقدسات، حينما رضي اليهود بالعيش في كنف المسلمين مرة أخرى، لم يلبثوا، وكما عهدناهم عبر التاريخ، أن استدعوا قدرهم المتشرد بقلة صبرهم على الخير والأمان، لتتسع دائرة الخراب من جديد بسببهم.

كنا نسير بخطى ثابتة نحو الوحدة، مستندين إلى التطور العلمي الذي أصبحنا أسياده في هذا الزمن. نجحنا في إزالة العراقيل التي حالت بيننا وبين تلك الوحدة العظيمة التي كنا عليها في أيام الإسلام الأولى. فتوحدنا في ثلاث ممالك، لكل منها حدودها وفكرها ومميزاتها.
كانت الأولى هي “مملكة الجنوب”، مملكة التصوف والخيال، حيث الأضرحة والقباب والقصص الغريبة التي شكلت أساس فكرها.
تليها “مملكة الشرق”، مملكة الأحزان والثارات، حيث التشيع المتشح بالأحقاد والذكريات المؤلمة المبكية، وبغض أهل السنة الذين لا دور لهم في ظلم آل البيت المزعوم.
وأخيرًا، ‘مملكة الشمال’، مملكتنا، مملكة البيت العتيق، التي يطلق عليها البعض اسم ‘مملكة السلفية’ أو ‘الوهابية’. نحن لا نطلق على أنفسنا غير لقب ‘أهل السنة والجماعة’، وإن كان تعبير ‘السلفية’ قريبًا إلى قلوبنا.

تعلمنا مع مرور الزمن وازدياد الأعداء، أن الأخوة في الإسلام هي الركيزة الأهم، رغم الحدود التي تفصل بيننا. أدركنا أن الهداية بيد رب العالمين وحده، فانحصرت مهامنا في تبادل النصح والدعاء. حطمنا جذور التعصب التي كانت تحول دون الحوار. وأقررنا بأن الخلاف بيننا قدر محتوم، كاختلافنا في الأجناس والألوان والأعمار والحظوظ.
عرفنا أن الحق ثمين، يستحق البحث عنه بصبر وتجرد. فقبلنا بالنظر في أفكار المخالفين، وحاورناهم بقلوب سليمة، فاستفدنا مما لديهم من حق، وقدمنا لهم ما عندنا. أدركنا أن الانفتاح على الآخر خيرٌ من الإعراض عنه بالكبر والأحقاد وسد الآذان، فإما أن نُهدى إلى الحق، أو نهدي إليه إذا صفت القلوب. أما الأحقاد والعداوة لمجرد اختلاف الفكر، فغباء قبل أن يكون خسران، لا يُثمر إلا للشيطان، الذي يحول الحوار الفكري إلى معارك شخصية تبعدنا عن الحق.
تعلمنا أن حسن إدارة الخلاف أمر ممكن، وسهل لمن سهّله الله عليه. وأن الرأي، مهما علا شأنه، مجرد نسمة في عقل صاحبه، إما أن تكون طيبة أو لا تكون. ولا ينبغي لهذه النسمة أن تتجاوز حدودها إلى التعصب والمعاداة. من واجب كل مسلم أن ينصح أخاه، لا أن يجامله بالسكوت عنه حتى يتردى في مهاوي البدع والظلمات. تعلمنا أن ننظر إلى المخالف بعين الأم المشفقة التي لا تريد إلا الخير، وأن نقبل الحق منه، ولو كان مجرد ابتسامة.

وفي أواخر القرن السابع من الألفية الثانية، نجح اليهود في إقناع العدو الصليبي القابع خلف البحار بالتحرك للقضاء على المسلمين، تمهيدًا للنهاية التي كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر. جاء هذا التحالف بعد أن انتشر الإسلام في أرضهم انتشار النار في الهشيم، مستندًا إلى قوة برهانه ووضوح حجته.
تحركت جيوش الصقيع مستعينة بوثنيي الشمال والشرق من البوذيين والهندوس وغيرهم من الأعداء، بهدف اجتثاث الإسلام وأهله من جذورهم في حملة رهيبة بدت كإعصار يجتاح الأرض كلها بلا هوادة.

وفي الأيام الأولى للحرب، ماتت الآلة! أو هكذا اصطلحنا على تسمية ذلك الحدث العظيم الذي قلب موازين القوى، وأعاد البشرية إلى نمط حياتها الأول. تهاوت الصناعات، وتوقفت الكهرباء عن العمل، كأن العالم بأسره انطفأ فجأة وعاد إلى الظلام.
وقيل حينها إن بعض الدقائق المعيبة أوقفت جميع المحركات، وأرغمت الناس على التخلي عن الآلة، وأرجعتهم إلى عهد السيوف، يدافعون بها عن أنفسهم ضد بعضهم البعض.
لكن ذلك لم يمنع الكفار من مواصلة حصد المزيد من الأرواح. سقطت مملكتي الشرق والجنوب الإسلاميتين في يد العدو الزاحف بلا رحمة نحو الشمال، وأشرفت خيوله على “مدينة العواصف”، أولى مدن مملكة الشمال الجنوبية. ومن هنا، أكتب لكم هذه الكلمات بصفتي القائد الأعلى للجيش الإسلامي المرابط فيها.

***

أشرقت الشمس على أجمل مدينة في العالم وأكثرها رقياً وأماناً وجمالا، بشوارعها المظللة بالأشجار ونوافذها التي تعكس ضوء الصباح.. “شروق” عاصمة مملكة الشمال.. المدينة الوحيدة في العالم التي تخلو من الأشرار نتيجة التطبيق العملي للشرع وسيادة التوحيد..
كانت بداية رائعة ليوم خريفي صحو أسعد طيورها المسبحة بحمد ربها بقدر ما أسعد ساكنتها الشاكرة لأنعمه التي لا تعد ولا تحصى..

تثاءبت حنان في سريرها، ورسمت ابتسامة على شفتيها، وهي تردد بصوت خافت مليء بالرضا:
– الحمد لله الذي يسر لنا الصلاة في هذه اللحظات الرائعة الفاصلة بين الليل والنهار.
هتفت عاتكة بسعادة وهي تعيد ضبط حجابها، وقد ارتسمت على وجهها ملامح النشاط:
– ما أروع السكينة والطمأنينة المرافقة لصلاة الفجر وبعدها.

استدارت نحو النافذة، حيث النسيم البارد يعبث بستائر الغرفة بهدوء، وأردفت بحماس:
كم أحب نسيم الصباح الممتزج بارتفاع صوت المساجد بآيات القرآن.
التفتت إلى حنان التي لا تزال في سريرها، وقالت بحزم ممزوج بالمرح:
هيا.. غادري سريرك، أمامنا يوم حافل مليء بالأعمال الشاقة. علينا تجهيز المؤن المغادرة إلى الجيش في الجنوب.
هزت حنان رأسها بأسف، وتمتمت وهي تشد الغطاء نحوها:
كم أتمنى أن تنتهي هذه الحرب بسلام.

اقتربت عاتكة بخطوات هادئة، وهمست بصوت منخفض، وكأنها تخشى أن يسمعها أحد:
– من المؤسف أن همجية البشر وأنانيتهم تأبى إلا أن ترغم أنف التعايش السلمي، وتقضي على كل أشكال التحضر.
تبادلت الفتاتان نظرات حزينة، ثم أردفت حنان، وكأنها تحدث نفسها:
– لن يتغير الإنسان أبدًا.. هذا هو حال الدنيا. حقيقتها أنها دار ابتلاء. ذلك المخلوق الأناني العجيب “العابد لهواه” هو أول وأخطر ابتلاءاتها.

تنهدت عاتكة وقالت بإصرار:
– ولكننا لم نعتد على أحد!
ردت حنان بنبرة غاضبة:
– يقولون إن إسلامنا قد فعل!
ابتسمت عاتكة ابتسامة خافتة، وعلقت بثقة:
– يظلموننا كعادتهم.

وضعت يدها برقة على كتف حنان، وقالت بصوت واثق وهادئ:
– اطمئني، لن ينتصر الباطل على الحق أبدا.

كانتا من المتطوعين لتموين الجيش المجاهد المرابط في الجنوب.
هتفت حنان وهي تغادر سريرها بحيوية:
– سمعت أن بعض فرسان الشرق والجنوب قد انضموا إلى جيشنا.
كانت عاتكة تعرف مدى بغض حنان للمخالفين الذين تعتبرهم من أهل البدع. ابتسمت وهي تمتم بصوت هادئ:
– لا تنسي أنهم مسلمون مثلنا.
قاطعتها حنان، والغضب يتصاعد في صوتها ووجهها المقطب:
– مسلمون؟ ربما، ولكن ليسوا مثلنا.. إنهم مبتدعة.
ضحكت عاتكة بخفة وقالت ممازحة وهي تلتقط وشاحها:
– لا تتحاملي عليهم، فقد تغرمي بأحدهم.
ندت عن حنان صيحة دهشة، وهتفت بسخط، وهي تشير بيدها في الهواء:
– أنا، بمبتدع؟ مستحيل!

ضحكت عاتكة مجددًا، وتأملتها بحنان وهي تعدل موضع حجابها، وقالت بصوت مفعم بالهدوء:
– كل ما علينا فعله هو بذل النصيحة، أما الهداية فبيد الرب وحده.
أشاحت حنان بوجهها نحو النافذة، وقالت بضيق، وهي تعقد حاجبيها:
– ليتهم ظلوا بعيدًا عنا، حتى لا يصيبنا شؤم بدعهم. ما أسقط ممالكهم إلا هي.
ردت عاتكة بنبرة واثقة:
– لا أحد يسلم من الخطأ يا عزيزتي. وواجب أهل الحق هو فتح قلوبهم وأبوابهم لكل الراغبين في الهداية والأمان.
تأملت حنان كلماتها للحظة، ثم أومأت برأسها موافقة، وقالت بصوت خافت، وكأنها تتحدث لنفسها:
– من يدري؟ قد تساعد هذه الحرب في إعادتهم إلى جادة الصواب.
ابتسمت عاتكة، وقالت، وعيناها تلمعان بالأمل:
– أنت محقة، ففي طيات كل محنة منحة، والعاقبة للمتقين الصابرين.
أردفت وهي تضع اللمسات الأخيرة على حجابها، وتحمل حقيبتها الصغيرة:
– هيا بنا، فقد تأخرنا.

***

في مكان ما من الصحراء الشاسعة التي تفصل بين مملكتي الشرق والشمال، كان فارسان يشقان طريقهما عبر القفار بجد، وملامح التعب واضحة على وجهيهما المتربّين. الرمال تمتد بلا نهاية، تراقصها الرياح التي تعصف بهبات متقطعة، تاركة أثرها على عباءتي الفارسين المتطايرتين خلفهما. الفرسين، وقد أنهكهما السير، يرفضان الانصياع بسهولة لكل ركلة تصدر عن راكبيهما، بينما ترفع أقدامهما الرمل في سحب صغيرة ترافقهما كظل غبارٍ متصل.
الشمس تقترب من الأفق، ترسم خيوطًا ذهبية على قمم الكثبان الرملية، وكأنها تخفي وجهها الباهت تحت عباءة الليل.
هتف حسين، وهو يلهث من فرط الإعياء، بينما يمسح عرقه بكمّه:

– أسرع يا أحمد، لا يزال أمامنا فرسخ قبل الوصول، والشمس على وشك الغياب في الأفق.
رد عليه أحمد، بصوت مثقل بالإرهاق، وهو يربت على عنق حصانه بحركة تنم عن الاعتذار:
– يبدو أن هذا الحصان البطيء قد تربى في العز بعيدًا عن هذه الصحراء.

أجابه حسين ضاحكًا:
– لا جديد، أيها المتصوفة، دائمًا تجدون شيئًا لتحملوه وزر إخفاقاتكم… ولو كان حصانًا!
ضحك أحمد وقال:
هدئ من روعك أيها الشيعي، لا تملأ الصحراء بندبك الآن!
اختلطت ضحكاتهما بصوت ركض الفرسين، وهما يثيران سحبًا صغيرة من الغبار في الهواء.

كانا عينا على جيش العدو الزاحف نحو الشمال، يسابقان الزمن في طريق عودتهما بعد إنجاز مهمتهما الخطرة.
الرمال تتماوج تحت أقدام الفرسين، كأنها تشاركهما ثقل المهمة التي يحملانها على عاتقيهما.
غمغم أحمد بأسى، وعيناه شاخصتان نحو الأفق المظلم، وصوته يكاد يضيع في أنفاس الصحراء الواسعة:
– لا أصدق أن مملكتينا قد سقطتا بمثل هذه السهولة في يد العدو.
رد زميله، وهو يحفز حصانه الذي بدا مثقلاً بالتعب:
– لا تنس أن عالم الضلال يحاربنا بكل جيوشه.
هز أحمد رأسه بحسرة، وقال بصوت يملؤه الندم:
– ونحن حاربنا أنفسنا قبله، بالتشتت والتشرذم.
رفع زميله يده نحو الشمال، حيث تمتد الرمال بلا نهاية، وقال بثقة ممزوجة بالأمل:
– أملنا كبير في إخوتنا الشماليين.
أحنى أحمد رأسه موافقًا، ثم أردف:
– السلفيون.. نعم، مصابنا ومصابهم واحد.
تنهد وقال بصوت خافت، وكأنما يحدث نفسه:
كم أتمنى أن نعود إلى سقف الأمة الواحدة.. الأمة التي لا تقهر، ولا تختلف.

جذب أحمد لجام فرسه، وهتف مستبشرًا وهو ينظر نحو الأفق المتوهج بخيوط الشفق الأخيرة:
– أعتقد أن وقت صلاة المغرب قد حان.
ابتسم حسين، وهو يربت على عنق حصانه ليهدئ من حركته، وقال بصوت هادئ يفيض وقارًا:
– الصلاة عماد الدين، من ضيعها ضيع الدين. هي أول ما يُسأل عنه العبد في قبره، فإن قُبلت قُبل كل ما سواها، وإن رُدت رُد كل ما سواها.
رد أحمد، وهو يترجل عن فرسه:
– نحن مطالبون بأدائها حتى في لحظات العجز. فما أروعها من فريضة، وما أجدر المهتمين بها بالفوز بالتقى والجنان.
هز حسين رأسه موافقًا، ثم أضاف بصوت يملؤه التدبر:
– عجبا لمن لا تنهاه صلاته عن الفحشاء. كيف تجتمع الصلاة مع الفحشاء؟ لابد من وجود خلل حينها.

اختارا مكانًا منبسطًا بين الكثبان الرملية المتلاحمة، حيث النسيم يحمل رائحة الصحراء النقية. أقاما صلاتهما بخشوع، وألسنتهما تلهج بالدعاء، كأنما يسابقان الرياح بكلماتهما المنطلقة نحو أبواب السماء.

اختارا مكانًا منبسطًا بين الكثبان الرملية المتلاحمة، حيث النسيم يحمل رائحة الصحراء النقية، ممتزجًا بعبق الرمال الدافئة التي تختزن حرارة النهار. الأفق يكتسي ظلمة متزايدة، متهيأ لاستقبال الليل، والسماء تتزين بأولى النجوم التي راحت تلمع بخجل، وكأنها تشهد على صلاتهما.
نظفا مكانًا منبسطًا من الرمال الناعمة بأيديهما، وأقاما الصلاة بخشوع، وجباههما تنحني في سجود طويل. بدا كأن صلاتهما تمتزج بصمت الصحراء، تعانقه وتشاركه هدوءه، وصوت الرياح الخافتة يمر كهمس خافت، يتناغم مع كلمات الذكر والدعاء.
كانت ألسنتهما تلهج بالدعاء للمسلمين، كأنها تسابق الرياح في الوصول إلى السماء. تحملها نسائم الصحراء العليلة، كرسائل أمل إلى أبواب الرحمة.

* * *

اجتمع حبيبان على أضواء الشموع المتراقصة في خيمة نائية من خيام جيش الصقيع، المخيم على الأطراف الشمالية لمملكة الشرق الشيعية المحتلة. كان الليل هادئًا إلا من صوت الرياح الباردة التي تعصف بالخيام، تضرب جوانبها بقوة كأنها تحذر من عاصفة وشيكة. الشموع المشتعلة ألقت بظلال راقصة على جدران الخيمة القماشية، تشكل لوحات متداخلة من الضوء والظلام، تعكس ترددًا خفيًا يوحي بالسكينة والأمان.
على الأرض، كانت هناك سجادة بسيطة تكسوها رائحة العشب اليابس، وإلى جانبها طاولة خشبية صغيرة تحمل بعض بقايا الطعام وأكواب الشراب التي ملأت الهواء برائحة نفاذة. كان الحبيبان يجلسان قريبين من بعضهما البعض، يتشاركان هموم الحرب التي تطوقهما من كل جانب.

كاترين، الفتاة المدللة الجميلة، التي اختارت أن ترافق حبيبها الفارس ليوناردو في هذه الحرب الكبيرة، رغم أنها لم تكن عالمها المعتاد.
همست لليوناردو بكل حب ودلال، وهي تنظر إلى عينيه بعشق لا حدود له:
لا أصدق أنني تركت عالمي الآمن لأرافقك في هذه الرحلة الغارقة في الدماء.
تأمل وجهها الصغير الذي أضاءته ألسنة الشموع الراقصة، وهمس بابتسامة واثقة:
لا تعجبي من سلطان الحب، فهو وحده القادر على قيادة العقول والقلوب.

انفرجت أساريرها عن ابتسامة أنارت الخيمة، وقالت، وهي تمسك بيده بلطف:
– لولا أنك وعدتني بالزواج في مدينة “شروق” بعد سقوطها في أيدينا، لما رافقتك في هذه الحرب المقدسة.
ضحك وهو يمد يده نحو وجهها بحنان، ويمسح على شعرها الناعم بيد أخرى:
– لا أفهم سر إصرارك على الزواج يا حبيبتي. ألا يكفي أننا نمرح كزوجين؟!
قالت بنبرة جادة، وهي تعقد حاجبيها:
– لكن الإنجيل يحثنا على الزواج، ذلك خير من هذا العبث.
ازدادت ضحكته عمقًا، وقال بتهكم:
– لن تكوني أكثر علمًا من القساوسة. الأمر لم يعد بتلك الأهمية حتى عندهم.
غمغمت بصوت خافت، وكأنها تحدث نفسها:
– أحيانًا أعتقد أن المسلمين قد يكونون أفضل منا في هذه النقطة.
هتف بحنق، وهو يشيح بوجهه بعيدًا، ويداه تضربان الطاولة بشدة:
– لا تذكريني بأولئك الرعاع! ستثبت لك الأيام أنهم لا شيء.

كان ليوناردو قائدًا للكتيبة الخامسة في جيش الصقيع، فتيًا ذو حضور قوي وشخصية متفردة تجمع بين الحزم والقسوة. نشأ في بيئة معادية للإسلام، مما أضفى على ملامحه صلابة لا تخطئها العين، وجعلت منه شابًا حازمًا وعنيفًا في قراراته.
رغم صغر سنه، تمكن ليوناردو بفضل اجتهاده وإصراره من الوصول إلى مرتبة قيادة كتيبة في جيش الصقيع، متجاوزًا الكثير من أقرانه الذين سبقوه في العمر والخبرة. كان تفانيه في التدريب، وذكاؤه الحاد، وقسوته في المعارك، عوامل أساسية في صعوده السريع إلى القمة، ليصبح قائدًا يحظى بالاحترام والخوف معًا بين رجاله.
لم يكن كرهه للمسلمين مجرد موقف عابر، بل كان شعورًا متجذرًا في أعماق قلبه منذ طفولته، يوم رأى والديه يُقتلان بوحشية على يد خارجي تفجيري مجنون، أمام عينيه الصغيرتين. كان ذلك الحدث أشبه بجرح لا يندمل، يلهب روحه بغضب لا يهدأ على كل ما له صلة بالإسلام والمسلمين.
بالنسبة له، كان الإسلام كتلة واحدة من الظلم والدمار، وهو ما دفعه إلى الانضمام إلى جيش الصقيع بحنقٍ وعزيمة لا تعرف الرحمة، ساعيًا للانتقام من كل ما هو إسلامي. مؤمنًا بأن القوة وحدها هي السبيل للقضاء على ما يعتبره تهديدًا دائمًا.

تمتمت كاترين، وهي تنظر إلى ليوناردو بعينين مليئتين بالفضول:
– سمعت أن بعض صوفية الجنوب قد انضموا إلى جيش الشمال.
ضحك ليوناردو بسخرية، وهو يميل برأسه قليلاً وقال:
– انضم بعضهم أيضًا إلى جيشنا.
هتفت مستغربة، ورفعت حاجبيها بدهشة:
– لا أصدق أنهم يحاربون إلى جانبنا؟!
ابتسم ليوناردو بسخرية أعمق، وقال:
– الاعتراض على مشيئة الرب عندهم خطيئة. والاحتلال عندهم إرادة إلهية يؤمنون بالرضوخ لها والتسليم دون اعتراض، إضافة إلى بغضهم الشديد للسلفيين، الذي هو أصل جميع مشاكلهم.
قالت كاترين بنبرة جادة، وهي تحاول استيعاب الأمر:
– ولكن دينهم يحثهم على الحرص على الجهاد بطريقة فريدة، غير موجودة في جميع الأديان؟
ضحك ليوناردو مجددًا، وقال بتهكم:
– الصوفية؟ لا يعرفون الجهاد بتاتًا… هؤلاء لا يجاهدون إلا أنفسهم، وبالكلام فقط! قلوبهم معلقة بالدنيا أكثر من الآخرة، وألسنتهم تلهج كذبًا بالزهد. الشيخ منهم يعيش كالملك في زاويته، محاطًا بخدمه وممتلكاته، بينما يدّعي الترفع عن الدنيا.
صمت قليلاً، ثم أضاف بنبرة واثقة:
– يؤمنون بمقولة ‘كن مع الواقف لا الجالس’. ونحن الواقفون اليوم بالنسبة لهم، بل نحن أقرب إلى قلوبهم من السلفيين أنفسهم!
تمتمت كاترين باستغراب، وعيناها تضيقان في تساؤل:
– لكنها تبريرات مفضوحة.
رد بحدة وهو يشيح بيده:
– كلهم هكذا، حتى السلفيين. لو كان فيهم خير، لما تفرقوا إلى كل هذه الطوائف المتباغضة التي لا يحتمل بعضها بعضا.

تمتمت كاترين في حيرة، وهي تستحضر الصورة المشرقة المرتسمة في ذهنها للإسلام والمسلمين:
– ولكن.. ألم تسمع بقوانين مدينة “شروق” العجيبة التي جعلتها كالجنة على الأرض؟! إنها المدينة الوحيدة في العالم التي يعيش أهلها كملائكة، بلا أدنى مشاكل!
توقفت للحظة، وكأنها تجمع أفكارها، ثم تابعت:
– رغم قوتها العلمية والعسكرية الضاربة، لم يفكر أهلها يومًا في الاعتداء علينا، مثلما نفعل نحن اليوم، مستغلين موت الآلة، وتفوقنا العددي، وأحقادنا التي أفاقت من سباتها العميق أخيرا لتذبح الإنسانية، وتدمر كل ما تبقى من قيمها النبيلة.

أشاح بوجهه عنها، وقال بنبرة واثقة:
– ورغم ذلك، يقاتلون إلى جانبنا طمعًا في الدنيا!
أطرقت برأسها، وتمتمت بحيرة:
– هذا ما يحيرني… ألا يرون ما يفعلونه بأنفسهم؟
ابتسم وهو يتأملها برقة، وقال:
– المثل يقول “فرق تسد”، وهؤلاء متفرقون أصلاً، وذلك في صالحنا.
رفعت عينيها إليه بنظرة متسائلة، ثم تمتمت وكأنها تتحدث لنفسها:
– وما أدراك أننا لسنا متفرقين أكثر منهم؟
ابتسم وهو ينظر إليها بنظرة حانية، وقال بصوت يفيض دفئًا:
– المهم أنني وإياك متفقان… أليس كذلك؟

ضحكت بسعادة، محاولة تبديد غيمة سوداء بدأت تلوح في أفق عقلها. مجاهدة لإزاحة ذلك الخاطر المرعب الذي يتسلل إلى أفكارها في كل ليلة عندما تأوي إلى فراشها وتسلم نفسها للنوم.
تلك الصورة الدامية المخيفة، التي تطاردها كلما أغمضت عينيها، باتت كظل ثقيل لا يفارقها. مشهدٌ يتكرر بوضوح مؤلم، ينتظرها هنالك، خلف ذلك الكثيب الأبيض العالي الذي بدا وكأنه حاجز بين عالمها الحاضر وكابوسٍ مجهول يتربص بها.
كانت الرؤيا نافذة تُطل منها على مصير لا مفر منه؛ صراخ وأنين، ورمال تتشرب الدماء، ووجوه لا تزال غامضة لكنها تحمل الشقاء. كانت تلك الصورة تنغص عليها كل لحظة من رحلتها، تسرق سكينتها وتزرع بذور القلق في قلبها الصغير المحب.

***

تسلل أفراد من مقاومة الشرق تحت جناح الظلام، كالأشباح التي تذوب في عتمة الليل، أعينهم تحدق في الأفق المظلم وقلوبهم مفعمة بالإيمان. الرياح المقدسية الباردة محملة بعبق التاريخ وأصوات النضال، تداعب وجوههم، وكأنها تشاركهم تلك اللحظة المصيرية.
هتف قائد المجموعة، مصطفى، بصوت خافت لكنه مليء بالحزم:
– لن نسمح لهؤلاء المجرمين بالاستمرار في تدنيس قدسنا!
همست نائلة، وهي تضم يديها إلى صدرها كأنها تحاول تهدئة غضبها الداخلي:
– عجبًا لهم… لا يتورعون عن الفجور كلما كانت الغلبة لهم.
غمغم محمود بحسرة، وعيناه تحدقان في الرمال الممتدة أمامه:
– كانوا في منتهى الوداعة عندما كانوا مستضعفين… لم أتخيل أبدًا أنهم بمثل هذه البشاعة والشراسة.
ضغط مصطفى على أسنانه من الغيظ، وكأن الكلمات تُثقل صدره، ثم هتف بصوت مكتوم:
– صدق من قال: “اتق شر من أحسنت إليه”.
رفعت نائلة عينيها إليه، وهمست بنبرة متأملة:
– حمدا للرب على أننا لسننا مثلهم. ديننا يعلمنا أن لا نظلم أحدًا بدافع من الكراهية أبدا…

هتف القائد بغضب، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الحنق، بينما اشتدت الرياح كأنها تعكس اضطرابه الداخلي:
– ما الذي تتوقعونه من قوم شق لهم نبيهم البحر بمعجزة، فقالوا ولما تجف أقدامهم من البلل بعد: اجعل لنا آلهة كآلهتهم؟! ما الذي تنتظرونه من قوم تركهم نبيهم أيامًا ليعود ويجدهم عاكفين على عجل يعبدونه من دون خالقهم؟! ما الذي تتوقعونه من قوم اختار نبيهم سبعين كبيرًا منهم ليعتذروا إلى ربهم، فاشترطوا رؤيته ليتوبوا؟! ما الذي تنتظرونه من قوم أمرهم نبيهم بقتال عدوهم، فطلبوا منه أن يقاتل هو وربه وحدهما؟!
قاطعه محمود، وقد بدا وكأنه يسترجع الأحداث بمرارة:
– وعندما أحسوا بالهوان، طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم ملكًا لينتصروا به، فاختار لهم رجلا متواضعًا منهم، فاعترضوا عليه، ولم يرضوا به إلا بعد تدخل الملائكة بمعجزة! يا إلهي… كم يحملون من كفر وعناد!
هتفت نائلة، وقد بدت مشاعر الغضب تغمر كلماتها:
– وخاتمة كفرهم وتبطرهم، قتلهم لأنبيائهم، وجرأتهم على خاتم النبيين!

أشرفت الجماعة على شرذمة من فرسان العدو، تغط في نوم عميق، غير مدركين للخطر الداهم الذي يقترب منهم تحت جناح الظلام. كان القمر قد توارى خلف السحب الداكنة، وكأن الطبيعة نفسها تساعد المقاومة، مغطية على حركتهم الحذرة نحو الهدف.
اقترب الفرسان بصمت، خطواتهم محسوبة وكأنها تزن الزمن نفسه. وعندما وصلوا إلى المكان المناسب، أشار القائد بإشارة خاطفة، لتنطلق المجموعة كالعاصفة، وسط لمعان السيوف في ذلك الظلام. وضاعت صرخات الأعداء المكتومة في النقع، الذي تصاعد بغزارة، مخفيًا تفاصيل المعركة، لكنه يرويها بوقعه الثقيل الذي لا ينسى.
لم تمض سوى دقائق، بدت كالأبد، حتى انتهى المشهد الدموي. باتت الأرض التي كانت تغفو تحت سماء هادئة، شاهدة على معركة خاطفة. واصطبغت رمالها بدماء المعتدين، راسمة علامة احتجاج أخرى على الظلم والعدوان.
أصوات السيوف التي اصطدمت للحظات تلاشت تدريجيًا، تاركة الصمت يبتلع المكان. أنفاس الفرسان اللاهثة ونظراتهم المتناقضة بين النصر والحزن كانت شاهدة على لحظة أخرى من صراع يبدو أنه لا ينتهي.

***

أنا القائد نور الدين، قائد الجيش السابع من جيوش الشمال، الرابض في مدينة العواصف. المدينة الصامدة في وجه الريح والغزاة، الواقعة في أطراف مملكة الشمال الجنوبية. رباط الجهاد وحصن الأمة الأول في مواجهة الأعداء.
نحن اليوم في جهاد دفاعا عن المملكة ضد عدو غاشم لا يعرف الرحمة ولا العدل. لم تفاجئنا هذه الحرب؛ فقد كنا نتوقعها بعد موت الآلة، فالعدو لن يضيع أي فرصة للقضاء علينا!
رأينا سقوط مملكتي الشرق والجنوب الإسلاميتين المجاورتين، فاستعددنا للقاء بما نملك من قوة وعتاد، وقلوب لا تعرف الخوف من القضاء.
تعلمنا عبر الأجيال بناء مجتمع إسلامي قوي، قادر على مواجهة كل التحديات. وضعنا نظمًا اجتماعية ودفاعية فعالة، ارتكزت على الدين والعلم فحملنا لواء الحضارة، وأثبتنا للعالم كله أننا أمة لا تموت ما دام فيها التوحيد. رفعنا رايات الأجداد الذين سادوا الأمم في الماضي دون عدوان.
والآن، يدفعوننا إلى قلب العاصفة، لكننا مستعدون… نعلم أن مسؤوليتنا ليست فقط الدفاع عن مدينتنا، بل عن البشرية كلها.

استأذن أحدهم للدخول، فوضع القائد نور الدين قلمه جانبًا، واستقبل الداخل بوجه طلق بشوش، قائلاً بصوت واثق:
– مرحبًا بالقائد عماد…
دخل شاب في مقتبل العمر، وسيم الملامح، تبدو البسالة على محياه، وعيناه تشعان بالحيوية والتصميم. كان خطوُه هادئًا ومتزنًا، يوحي بثقة القائد المتأهب. هتف ببشاشة:
– السلام عليك أيها القائد.
رد القائد بابتسامة وهو يشير له بالجلوس:
– وعليك السلام، ما الجديد؟
أجاب بنبرة تحمل الأمل والتحدي، مع مسحة من الهدوء المتزن:
– كل خير، رغم أن موت الآلة قد غير كل الحسابات، وأعادنا إلى زمن السيوف.
هز القائد رأسه، وقال:
– ذلك قدر الجميع.

صمت قليلاً ثم أضاف، وعيناه تركزان على الخريطة المفتوحة أمامه:
– هل عاد الأخوان من مهمتهما الاستطلاعية؟
هز عماد رأسه نفيًا، وقال:
– ليس بعد يا سيدي.
قال القائد بصوت جاد مليء بالثقة:
– احرص على أن يكون لهم دور فعال في هذه الحرب… إنها حربهم مثلما هي حربنا.
ابتسم عماد وهز رأسه موافقًا، وقال بحماس:
– سأفعل يا سيدي.
ابتسم القائد وهو ينظر إلى الأفق من فتحة صغيرة في الخيمة، وقال بصوت عميق، وعيناه تلمعان بإيمان لا يتزعزع:
– سننتصر، بعون ربنا.

غادر الشاب الخيمة بخطى واثقة، تاركًا خلفه أثرًا من الحماس والإصرار. أمسك القائد نور الدين بقلمه مجددًا، وعيناه تتأملان الخريطة للحظة قبل أن يخط كلماته على الورق:
“بلغنا درجة من الرقي جعلتنا نتجاوز الأمم قوة وتحضراً وعدلا، ولولا موت الآلة المفاجئ، لما تجرأ أحد على مهاجمتنا. ورغم قوتنا وعتادنا، عشنا في سلام مع الجميع. لم نفكر يوماً في أذية أحد أو الاعتداء عليه، وكنا قادرين على ذلك، لكن ديننا كان يمنعنا؛ فربنا لا يحب المعتدين”.

توقف قليلاً، وكأن الكلمات تثقل قلمه، ثم تابع:
“كان همنا الأول القضاء على البدع والدعوة إلى الدين من خلال النصح والإرشاد، فآمن الكثيرون في بلاد الصقيع وغيرها بالإسلام، واتبع الكثير من أهل البدع طريق التوحيد. لكن موت الآلة قلب الموازين، وأعادنا إلى نقطة الصفر.
اتحد صليبيو الصقيع، والوثنيين، وعبدة البقر والأصنام، والخارجين على القوانين الإلهية والبشرية، ضدنا، وسعوا جهدهم لإطفاء نور الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، فجهزوا جيشا لا قبل لأحد بعدده، وها هي جحافلهم المرعبة اليوم تأبى إلا اقتلاعنا من أرضنا ومن كل الأراضي”.

رفع عينيه نحو الأفق، حيث امتزج ضوء القمر برمال الصحراء الجميلة الصامتة، ثم كتب:
“جيوش العدو المتنافرة التي اجتمعت رغم تباين المشارب والعقائد، تحت راية الشيطان والبطش والكراهية، تقترب الآن من حدودنا. لم يعد يفصلها عن ‘مدينة العواصف’، أول الثغور، إلا بضعة أيام… لقد أصبحت الحرب وشيكة. فهل يا ترى ينقشع غبارها عن نصر جديد للمسلمين؟”.

رفع عينيه نحو الأفق، حيث امتزج ضوء القمر برمال الصحراء الجميلة الصامتة، ثم كتب:
“جيوش العدو المتنافرة التي اجتمعت رغم تباين المشارب والعقائد، تحت راية الشيطان والبطش والكراهية، تقترب الآن من حدودنا. لم يعد يفصلها عن ‘مدينة العواصف’، أول الثغور، إلا بضعة أيام… لقد أصبحت الحرب وشيكة. فهل يا ترى ينقشع غبارها عن نصر جديد للمسلمين؟”

***

خيم التوتر على أحد البيوت اليهودية القابعة في أحد أرقى أحياء القدس المحتلة، بيت يطل على المدينة العتيقة بجلالها، روحه مثقلة بتاريخ طويل من النزاع. الجدران مغطاة بصور الشخصيات الصهيونية الشهيرة، والأثاث يعكس مزيجًا من الثراء والتقليدية. كانت الأجواء متوترة كأنها تحمل في طياتها عبق الغضب والاختلاف، وصدى الأصوات المرتفعة يملأ الأرجاء.
الأب، رجل في منتصف العمر، بوجه قاسٍ وعينين تلمعان بالحزم، كان يتمتع بحضور قوي لا يقبل النقاش بسهولة. أما الأم، التي جلست على أريكة صغيرة قرب النافذة، فكانت تراقب بصمت، ملامحها جامدة كأنها تتجنب الانحياز لأي طرف.
على الجانب الآخر، كان الابن يقف متوتراً، شاب في مقتبل العمر، بعينين تحملان مزيجاً من البراءة والغضب، يرفع صوته أحيانًا ثم يخفضه كأنه يحاول ضبط انفعالاته. بجانبه الأخت الصغرى، تجلس على كرسي خشبي صغير، تراقب النقاش المحتدم بين الأب والابن، ووجهها يعكس قلقاً صامتاً.

هتف الأب، وهو يضرب بكفه على الطاولة بقوة تعكس استياءه:
– لا أفهم يا شاليط سر تعاطفك مع هؤلاء المسلمين…
رد شاليط بصوت هادئ، لكنه مشحون بالتحدي والإصرار:
– لا تنس أنهم بشر مثلنا، من حقهم علينا الاحترام على الأقل كآدميين.
كان جنديًا في خيالة جيش الاحتلال، شابًا يمتاز بذكاء حاد ووعي متناقض مع نشأته في التطرف.
أردف الأب متذمرًا، وهو يرفع حاجبيه بسخرية:
– لا أجد مبررًا لتعاطفك معهم إلا أن تكون واقعا في حب إحدى فتياتهم الخبيثات…
رمقه شاليط بنظرة غاضبة، وقال متسائلًا:
– أترى ذلك مستحيلًا؟
صاح الأب بحدة، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الصدمة والاحتقار:
– نحن شعب الرب المختار أيها العاق، لن أسمح لك بالانحطاط إلى ذلك المستوى المتدني!
رد شاليط بلا اكتراث، وهو يجلس على الكرسي وينظر مباشرة إلى عيني أبيه:
– لو كنا شعبًا مختارًا، لكنا في جنة بعيدة عن مشاكل هذه الأرض التي أعيانا الاستقرار عليها.
صاح الأب بغضب، وقد ارتفع صوته بشكل جعل الأم ترفع رأسها من كرسيها القريب، بينما بقيت الابنة متجمدة في مكانها كأنها تمثال من الرخام، تتحاشى النظر لأي منهما:
– نحن في الجنة بالفعل يا شاليط! كل ما حولنا مسخر لنا نتصرف فيه كما نشاء، وأول ذلك أصحابك المسلمين.
تقدم شاليط قليلًا إلى الأمام، وقال بصوت حازم، يفيض بالتحدي:
– إذن كيف تبرر الخوف الذي يسكننا أكثر مما نسكن “جنتك المزعومة”؟
تراجع الأب قليلًا، وقد بدا عليه التردد للحظة قبل أن يجيب بصوت منخفض لكنه غاضب:
– إنها مشيئة الرب.
ابتسم شاليط بسخرية مريرة، وقال:
– إذن، دعك من الأوهام، واعلم أن أقل الناس في هذا الكوكب يتمتع بما لا نتمتع به، وهو الأمن والاستقرار.

أشاح الأب بوجهه بعيدًا، موجهًا نظره إلى النافذة حيث كانت الأضواء الخافتة للقدس المحتلة تلمع في الأفق، وقال بصوت مشحون:
– المهم أن حروب النهاية قد بدأت…
ضحك الابن بسخرية، وهو يهز رأسه كمن يعلق على أمر عبثي:
– سنستمتع إذن بيومين بعد النصر، ثم نغادر الدنيا إلى غير رجعة، هذا إن لم تطردنا سيوف المسلمين منها قبل ذلك.
استدار الأب نحوه بغضب، وأشعله بنظرة حارقة كأنها سهم يخترق الصمت، وقال بصوت متهدج:
– أي نوع من اليهود أنت أيها اللعين؟
تدخلت الأم، وهي تلعب بخاتمها بحركة عصبية، محاولة تهدئة الموقف:
– منذ أن وقعت القدس في أيدينا، وهؤلاء الهمجيون يفرضون علينا جحيما لا هوادة فيه من العمليات الجهادية الانتقامية…
غمغم الأب، وهو يعقد ذراعيه وكأنه يضع حائطًا بينه وبين كلام الابن:
– الأغبياء يرمون بأنفسهم إلى الموت طمعًا في الجنة!
رفع الابن حاجبيه ساخرًا، وهتف بحماسة:
– من حقهم أن يدافعوا عن أرضهم ودينهم…
رد عليه الأب بحدة، وهو يشير بيده وكأنه يحاول قطع النقاش:
– لا تنس أنها أرضنا قبل أن تكون أرضهم!
تقدم الابن قليلًا نحو الطاولة، وعيناه تتقدان بنار التحدي، وقال بصوت حازم:
– بل أرض الرب وحده، هو الذي يهبها لمن يشاء متى شاء، وهي لمن كان عليها، لا لمن قفز عليها من العدم هادما بيوت سكانها.

تقلبت الابنة “ليا” في مكانها، وصوتها يخرج ناعماً، لكنه يحمل في طياته قلقًا عميقًا:
– لا تنسَ يا أبي حسن جوارهم لنا يوم كنا أضعف منهم وتحت سيطرتهم. لا ينبغي أن نقابل ذلك بالإساءة الآن. الرب لا يأمر بها!
هتف الأب بعصبية، وضرب الطاولة بكفه مرة أخرى، وعيناه تشتعلان بالغضب:
– ألا تفهمان أيها البغلان؟ هؤلاء مسخرون لنا ككل ما في الدنيا، نفعل بهم ما نشاء.
خفضت “ليا” عينيها نحو الأرض، وتمتمت بصوت حزين:
– كم نظلمهم بهذه العنصرية يا أبي…
ترددت الأم للحظة، وهي تنظر إلى وجه زوجها المشحون بالغضب، ثم قالت بنبرة هادئة وكأنها تبرر:
– الرب هو الذي أمر بتطهير الأرض منهم، لا نحن…
انتفض شاليط واقفاً، ونبرته تعكس اعتراضه، ويداه تتشابكان أمامه كأنه يقيد انفعالاته:
– الرب لا يأمر بالظلم والعدوان، ولا بالعنصرية…
كانت الأم تعد سفرة العشاء على الطاولة القريبة، وقد بدا أنها تحاول تهدئة الأجواء. رفعت صوتها محاولة تغيير دفة الحديث:
– لقد قُتل أبا محمود اليوم على يد بعض جنودنا…

ندت عن “ليا” شهقة خافتة، وترقرقت الدموع في عينيها وهي تقول بصوت مبحوح، بالكاد خرج من حلقها:
– المسكين… كان خير جار لنا.
هز الأب كتفيه بلا مبالاة، وكأن الحديث لا يعنيه، ثم تمتم ببرود:
– يستحقون أكثر من القتل.
هتفت “ليا”، وقد ارتجف صوتها من الغضب والألم:
– ولكنه كان صديقك المفضل!
رفع الأب نظره إليها بجمود، وقال بصوت قطعي لا يقبل النقاش:
– لا صديق لي غير الكتاب المقدس.

نظرت “ليا” إلى شقيقها مستنجدة. رمقهما الأب بنظرة قاسية جعلتهما يتبادلان النظرات بصمت. انسحبا من القاعة بخطوات ثقيلة دون أن ينبسا ببنت شفة، بينما ظل الأب جالسًا، يراقب انسحابهما بحنق متزايد.
صاح بصوت عالٍ وهو يضرب الطاولة بقبضته:
– ستثبت لكما الأيام أنني على صواب!
في الممر المؤدي إلى غرفتهما، همس شاليط لأخته، بنبرة حملت مزيجًا من التهكم والأسى:
– ربما، أيها المجنون…

في تلك اللحظة، كان صوت الرياح القادمة من النوافذ المفتوحة يعبث بالستائر، وكأنه يعكس فوضى المشاعر التي خيمت على البيت. لم تكن تلك مجرد عاصفة خارجية، بل عاصفة داخلية اجتاحت أرواحهم جميعًا، تاركة سؤالًا عالقًا في الهواء: من سيبقى واقفًا وسط هذا الخراب؟

* * *

شق ذلك الفارس الجنوبي طريقه وسط الصحراء القاحلة، قاصدًا أرض المعركة بعزيمة وإيمان لا يلين. كان في العقد الرابع من عمره، قوي البنية، وسيم الملامح، يحمل هيبة تليق بروحه وشخصيته.
يسافر ليلاً مستعينًا بالنجوم المتلألئة التي بدت وكأنها ترشده نحو طريقه المقدس. وفي النهار، كان يختبئ عن أعين الرقباء، مستريحًا تحت ظلال الأشجار القليلة والصخور الشاهقة، محتميًا من لهيب الشمس الحارقة.
لم تكن رحلته مجرد سفر عادي، بل كانت هجرة روح تسعى إلى التطهر من أعباء الذنوب المثقلة. على صهوة حصانه الوفي، الذي كان يسير بخطوات واثقة كأنه يشارك صاحبه إيمانه بالمهمة المقدسة، طوى الفارس القفار معتمدا على كرم سكان الصحراء الذين يمدونه بالزاد والماء، والنظرات المحبة الداعمة والكلمات المشجعة لتكون زادًا إضافيًا يغذي يقينه بأن طريق الجهاد الذي اختاره هو طريق الخلاص.
كانت نفسه المضطربة، التي أنهكها الصراع مع الشيطان والشهوات المحرمة، تبحث عن الراحة والصفاء. فوجدت في الصحراء ملاذًا، حيث الامتداد اللامتناهي للرمال الرائعة، والوحدة الهادئة كانا يمنحانه شعورًا بالسكينة. تحت أديم السماء الصافية المزينة بالكواكب اللامعة، شعر أن الكون بأسره يشاركه رحلته، يذكّره بحجمه الضئيل أمام عظمة الخالق.
كل خطوة في تلك الصحراء المترامية كانت تقربه من غايته السامية، وكل نسمة هواء باردة في الليل تحمل وعدًا جديدًا بأن الشهادة ستطهره يومًا، وتعيد له النقاء الذي لطالما سعى إليه.

لكز جواده بكعبه مستحثا.. لم يبق إلا القليل ويصل إلى مملكة الشرق ومنها إلى مدينة العواصف حيث المعركة الطاحنة بين الحق والباطل..
همس لنفسه:
ما أصاب الإنسان من مكروه فبما كسبت يداه، الرب لا يظلم الإنسان..
غمغم في حزن:
تغير النفس هو مفتاح كل تغيير..

بدأ الظلام يبتلع الأفق الممتد أمامه، حيث انسحبت خيوط الضوء الأخيرة من السماء، تاركة الصحراء تسبح في سكون مهيب. همس بصوت خافت، وكأنه يخاطب قلبه:
كم أتمنى أن تكون هذه الطريق طريقًا إلى الجنة…
صمت للحظة، وعيناه تتأملان النجوم التي بدأت تلمع بخجل، ثم تمتم بحسرة، كأنه يعاتب نفسه:
لا أصدق أني أضعت وقت ثمينا من عمري، في العبث باللذات العابرة المحرمة، وهي لا تغني من جوع، ولا تساوي شيئًا أمام القناعة بالحلال.
عاد ذهنه يرتد إلى ماضٍ بعيد، حيث تردد في أذنه صدى إحدى الضحكات الماجنة التي تطارد روحه كلما حاول الهروب من ذكرياته.
غمغم بصوت متحسر، وكأنه يعاتب شبحا يسكن ماضيه:
ليتني وليتها، أدركنا حينها أن الحياة الباقية أولى بالاهتمام من العبث…

تأمل النجوم البراقة التي تزين السماء كحبات لؤلؤ متناثرة في بحر من السواد. شعر وكأنها تحكي قصة الكون بصمتها الساحر. تمتم، وكأنما يخاطب نفسه في ندم:
كم كنت أحمقًا جاهلًا… لم ينهنا ربنا إلا عن ما يضرنا ويثقل علينا.
انحدرت دمعة ساخنة على خده، مسحها بلطف بأنامله المرتجفة، بينما كانت عيناه تتأملان الصحراء الممتدة بلا حدود. خيل إليه أن نجوم السماء اللامعة تكاد تلامس رأسه من سواد الليل وصفاء المكان. تنهد بعمق، وهتف بشعور يفيض بالإجلال:
ما أعظم خلق ربنا، وما أجمله… وما أجمل الصحراء ليلاً.

مرت نسمة باردة على جسده، كأنها يد الطبيعة تربت عليه، فمسح منكبيه بيديه، يبحث عن دفء يقاوم به البرد القارس الذي بدأ يعبث بعظامه. تمتم بصوت خافت مفعم بالرجاء:
كم أنت قريب سل ربي ومجيب، اغفر لي وارزقني الطمأنينة.

كان الليل في أواخره، وتباشير الصباح ترتفع على الأفق كأنها وعود جديدة تُهدى لكل حي يعمل عملا صالحا. أخذ نفسًا عميقًا، وكأن الصحراء نفسها تزوده بشيء من قوتها، ثم همس:
كأن الحياة تلد نفسها مجددًا في كل صباح، معلنة عهدًا جديدًا لمن يريد أن يبدأ من جديد.

فتح خريطته وتأملها بعناية، قبل أن يهمس لنفسه:
توجد قرية صغيرة على بعد أميال من هنا، سأتزود منها بما يلزمني لعبور الصحراء…
لاح له جبل شامخ من بعيد، يبرز كأنه حارس الصحراء الصامت، فتمتم:
كم أنت مغرور أيها الإنسان… نتق ربك الجبل من فوقك كأنه ظلة، فما زادك ذلك إلا طغيانًا وضلالًا.
همس في تأمل وخشوع، وعيناه تراقبان الأفق الممتد بلا نهاية:
هذه الحياة لا تساوي شيئًا مقارنة بالحياة الباقية في الجنة. كيف يفضل العاقل حياة مليئة بالمنغصات والتقلبات كأنها على كف عفريت، على حياة خالدة في النعيم؟

بينما كان يتأمل في خيالاته، لاحت له دوحة وارفة من بعيد، بدت كجزيرة صغيرة وسط بحر الرمال، فقصدها بخطوات متثاقلة، وهو يتمتم:
حان وقت النوم…

أصلح الأرضية بعناية، كأنه يعدها لاحتضان جسده المتعب، ثم وقف يصلي صلاة الفجر في تلك البقعة الطاهرة. رفع صوته بالأذان، فتردد صداه في أرجاء الصحراء، كأنه نداء يوقظ الحياة من سباتها.
جلس بعد الصلاة مستغفرًا ربه، وقرأ أوراده الصوفية الطويلة، مستحضرًا متعة الاختلاء بنفسه وجمال الصحراء لحظة انبلاج ضوء النهار الذي يشرح الصدر ويمسح الأثقال.

شعر وكأن نور الفجر يهمس له بوعد جديد، بأن اليوم سيكون خطوة أخرى نحو النقاء الذي يبحث عنه. جلس مستندًا إلى جذع الشجرة العظيم، وعيناه تغمضان ببطء، لكن قلبه ظل يقظًا يتأمل عظمة خلق الله وهو يتمتم بإرهاق:
في سكينة الصحراء والسجود على رملها المبارك، أجد المعنى الذي طالما افتقدته…
كانت الرياح تداعب الأوراق القليلة للدوحة، كأنها أنامل خفية تلحن له مقطوعة أبدية من الطمأنينة والسلام. شعر بأن الصحراء بكل اتساعها تشاركه هذه اللحظة، وكأنها تحتضنه كأم حنون تحنو على ابنها العائد إلى سفر بعيد.
أسلم نفسه للنوم ببطء، بينما ظلت النجوم تراقبه من بعيد، وكأنها تبارك خطواته نحو المجهول. كانت الصحراء تمتد أمامه ككتاب مفتوح، يحمل في طياته أسرار الكون وإجابات لطالما راوغت العقل البشري، تعده بفجر جديد، أكثر إشراقًا وأقرب إلى السمو والإرتفاع.

محب التوحيد

محب التوحيد

سيدي محمد الشنقيطي. أعتز بالسير على نهج السلف، متمسكًا بالكتاب والسنة. أستلهم من الصحابة لأنهم منارات الهدى. لا أرى مجاملة أهل البدع، وفي نفس الوقت لا أرى الغلظة مع المخالفين. أكتب للعقول وأغرس حب التوحيد في القلوب، طامعًا في أن تكون كلماتي نورًا يهدي الباحثين عن الحق. وفقني الله وإياكم لكل خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!