ملخص كتاب طوق الحمامة لابن حزم

ملخص كتاب طوق الحمامة لإبن حزم
الكلام في ماهية الحب
الحب – أعزك الله – أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل..
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع.. والله عز وجل يقول: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها) ، فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأنقص من الصورة. ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيداً لقلبه عنه. ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه. فعلمنا أنه شيء في ذات النفس وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها. فمن ودك لأمر ولى مع انقضائه.
ومما يؤكد هذا القول أننا علمنا أن المحبة ضروب. فأفضلها محبة المتحابين في الله عز وجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النحلة والمذهب، وإما لفضل علم يمنحه الإنسان ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ للذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس، فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها فاترة ببعدها. حاشى محبة العشق الصحيح الممكن من النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت.
وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه. وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا واعتاده الطرب واهتاج له الحنين. ولا يعرض في شيء من هذه الأجناس المذكورة، من شغل البال والخبل والوسواس وتبدل الغرائز المركبة واستحالة السجايا المطبوعة والنحول والزفير وسائر دلائل الشجا ما يعرض في العشق، فصح بذاك أنه استحسان روحاني وامتزاج نفساني..
ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق الصفات الطبيعية لا بد من هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة فانظر هذا تراه عياناً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) ، وقول مروى عن أحد الصالحين: أرواح المؤمنين تتعارف. ولهذا ما اغتم أبقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان يحبه، فقيل له في ذلك، فقال: ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه.
وذكر أفلاطون أن بعض الملوك سجنه ظلماً، فلم يزل يحتج عن نفسه حتى اظهر براءته، وعلم الملك أنه له ظالم، فقال له وزيره الذي كان يتولى إيصال كلامه إليه: أيها الملك، قد استبان لك أنه بريء فمالك وله؟ فقال الملك: لعمري مالي إليه سبيل، غير أني أجد لنفسي استثقالاً لا أدري ما هو. فأدى ذلك إلى أفلاطون. قال: فاحتجت أن أفتش في نفسي وأخلاقي أجد شيئاً أقابل به نفسه وأخلاقهما مما يشبهها، فنظرت في أخلاقه فإذا هو محب للعدل كاره للظلم، فميزت هذا الطبع في، فما هو إلا أن حركته هذه الموافقة وقابلت نفسه بهذا الطبع الذي بنفسي فأمر بإطلاقي وقال لوزيره: قد انحل كل ما أجد في نفسي له.
وأما العلة التي توقع الحب أبداً في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس حسنة وتولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المنقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئاً من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئاً من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة..
وذكر عن بعض القافة أنه أتى بابن أسود لأبيضين، فنظر إلى أعلامه فرآه لهما غير شك. فرغب أن يوقف على الموضع الذي اجتمعا عليه. فأدخل البيت الذي كان فيه مضجعهما، فرأى فيما يوازي نظر المرأة صورة أسود في الحائط، فقال لأبيه: من قبل هذه الصورة أتيت في إبنك..
وهذا بعينه موجود في البغضة، ترى الشخصين يتباغضان لا لمعنى، ولا علة، ويستثقل بعضها بعضاً بلا سبب. والحب أعزك الله داء عياء وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقام مستلذ، وعلة مشهاة لا يود سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة. يزين للمرء ما كان يأنف منه، ويسهل عليه ما كان يصعب عنده حتى يحيل الطبائع المركبة والجبلة المخلوقة. وسيأتي كل ذلك ملخصاً في بابه إن شاء الله.
خبر: ولقد علمت فتى من بعض معار في قد وحل من الحب وتورط في حبائله، وأضربه الوجد، وأنضحه الدنف، وما كانت نفسه تطيب بالدعاء إلى الله عز وجل في كشف ما به ولا ينطق به لسانه، وما كان دعاؤه إلا بالوصل والتمكن ممن يحب، على عظيم بلائه وطويل همه، فما الظن بسقيم لا يريد فقد سقمه ولقد جالسته يوماً فرأيت من إكبابه وسوء حاله وإطراقه ما ساءني فقلت له في بعض قولي: “فرج الله عنك” فلقد رأيت أثر الكراهية في وجهه..
وهذه الصفات مخالفة لما أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم بن محمد القرشي. المعروف بالشلشي، من ولد الإمام هشام بن عبد الرحمن بن معاوية أنه لم يحب أحداً قط، ولا أسف على إلف بان منه، ولا تجاوز حد الصحبة والألفة إلى حد الحب والعشق منذ خلق.
علامات الحب
وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس..
ومنها الإقبال بالحديث. فما يكاد يقبل على سوى محبوبه ولو تعمد ذلك، وإن التكلف ليستبين لمن يرمقه فيه، والإنصات لحديثه إذا حدّث، واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال وخرق العادات، وتصديقه وإن كذب، وموافقته وإن ظلم، والشهادة له وإن جار، واتباعه كيف سلك وأي وجه من وجوه القول تناول.
ومنها الاسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمد للقعود بقربه والدنو منه، واطراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى مفارقته، والتباطؤ في الشيء عند القيام عنه..
ومنها بهت يقع وروعة تبدو على المحب عند رؤية من يحب فجأة وطلوعه بغته.
ومنها اضطراب يبدو على المحب عند رؤية من يشبه محبوبه أو عند سماع إسمه فجأة..
ومنها أن يجود المرء ببذل كل ما كان يقدر عليه مما كان ممتنعاً به قبل ذلك، كأنه هو الموهوب له والمسعي في حظه، كل ذلك ليبدي محاسنه ويرغب في نفسه. فكم بخيل جاد، وقطوب تطلق، وجبان تشجع، وغليظ الطبع تطرب، وجاهل تأدب، وتفل تزين، وفقير تجمل. وذي سن تفتى، وناسك تفتك، ومصون تبذل.
وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجج حريقه وتوقد شعله واستطارة لهبه. فأما إذا تمكن وأخذ مأخذه فحينئذ ترى الحديث سراراً، والإعراض عن كل ما حضر إلا عن المحبوب جهاراً..
ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكل ذي بصر الإنبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، والميل بالإتكاء، والتعمد لمس اليد عند المحادثة، ولمس ما أمكن من الأعضاء الظاهرة. وشرب فضلة ما أبقى المحبوب في الإناء، وتحري المكان الذي يقابله فيه.
ومنها علامات متضادة.. والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام، فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فَعل فِعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكداً شديداً أكثر بهما جدهما بغير معنى، وتضادهما في القول تعمداً، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها، كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه. والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومخارجة التشاجر سرعة الرضى، فإنك بينما ترى المحبين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا يقدر يصلح عند الساكن النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل ولا ينجبر عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مراراً. وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك شك ولا يدخلنك ريب البتة ولا تتمارى في أن بينهما سراً من الحب دفينا..
ومن علاماته أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها ولا ينهه عن ذلك تخوف أن يفطن السامع ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم.. ويعرض للصادق المودة أن يبتدئ في الطعام وهو له مشته فما هو إلا وقت، ما تهتاج له من ذكر من يحب صار الطعام غصة في الحلق وشجى في المرء. وهكذا في الماء وفي الحديث فإنه يفاتحكه متبهجاً فتعرض له خطرة من خطرات الفكر فيمن يحب فتستبين الحوالة في منطقه والتقصير في حديثه، وآية ذلك الوجوم والإطراق وشدة الانفلاق، فبينما هو طلق الوجه خفيف الحركات صار منطبقاً متثاقلاً حائر النفس جامد الحركة يبرم من الكلمة ويضجر من السؤال. ومن علاماته حب الوحدة والإنس بالانفراد، ونحول الجسم دون حد يكون فيه ولا وجع مانع من التقلب والحركة والمشي. دليل لا يكذب ومخبر لا يخون عن كلمة في النفس كامنة.
والسهر من أعراض المحبين..
ويعرض للمحبين القلق عند أحد أمرين: أحدهما عند رجائه ملقاة من يحب فيعرض عند ذلك حائل.
وإني لأعلم بعض من كان محبوبه يعده الزيارة، فما كنت أراه إلا جاثياً وذاهباً لا يقربه القرار ولا يثبت في مكان واحد، مقبلاً مدبراً قد استخفه السرور بعد ركانة، وأشاطه بعد رزانة..
فعند ذلك يشتد القلق حتى توقف على الجليلة، فإما أن يذهب تحمله إن رجا العفو، وإما أن يصير القلق حزناً وأسفاً إن تخوف الهجر.
ويعرض للمحب الاستكانة لجفاء المحبوب عليه. وسيأتي مفسراً في بابه إنشاء الله تعالى.
ومن أعراضه الجزع الشديد والحمرة المقطعة تغلب عند ما يرى من إعراض محبوبه عنه ونفاره منه، وآية ذلك الزفير وقلة الحركة والتأوه وتنفس الصعداء..
ومن علاماته أنك ترى المحب يحب آهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته.
والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم الدمع..
ويعرض في الحب سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، وهذا أصل العتاب بين المحبين. وإني لأعلم من كان أحسن الناس ظناً وأوسعهم نفساً وأكثرهم صبراً وأشدهم احتمالا وأرحبهم صدراً، ثم لا يحتمل ممن يحب شيئاً ولا يقع له معه أيسر مخالفة حتى يبدي من التعديد فنوناً ومن سوء الظن وجوها..
وترى المحب، إذا لم يثق بنقاء طوية محبوبه له، كثير التحفظ مما لم يكن يتحفظ منه قبل ذلك، مثقفاً لكلامه، مزيناً لحركاته ومرامي طرفه، ولا سيما إن دهى بمتجن وبلى بمعربد.
ومن آياته مراعاة المحب لمحبوبه، وحفظه لكل ما يقع منه، وبحثه عن أخباره حتى لا تسقط عنه دقيقة ولا جليلة، وتتبعه لحركاته. ولعمري لقد ترى البليد يصير في هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً.
ولقد كنت يوماً بالمرية من مدن الأندلس قاعداً في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي، وكان بصيراً بالفراسة محسناً لها، وكنا في لمة، فقال له مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا؟ وأشار إلى رجل منتبذ عنا ناحية اسمه حاتم ويكنى أبا البقاء، فنظر إليه ساعة يسيرة ثم قال: هو رجل عاشق فقال له: صدقت، فمن أين قلت هذا؟ قال: لبهت مفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته، فعلمت أنه عاشق وليس بمريب.
من أحب بالوصف
وأكثر ما يقع هذا في ربات القصور المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال، وحب النساء في هذا أثبت من حب الرجال لضعفهن وسرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن، وتمكنه منهن…
كان بيني وبين رجل من الأشراف ود وكيد وخطاب كثير، وما تراءينا قط. ثم منح الله لي لقاءه، فما مرت إلا أيام قلائل حتى وقعت لنا منافرة عظيمة ووحشة شديدة متصلة إلى الآن.. ووقع لي ضد هذا مع أبي عامر بن أبي عامر رحمة الله عليه، فإني كنت له على كراهة صحيحة وهو لي كذلك، ولم يرني ولا رأيته، وكان أصل ذلك تنقيلاً يحمل إليه عني وإلي عنه، ويؤكده انحراف بين أبوينا لتنافسهما فيما كانا فيه من صحبة السلطان ووجاهة الدنيا، ثم وفق الله الاجتماع به فصار لي أود الناس وصرت له كذلك، إلى أن حال الموت بيننا..
من أحب من نظرة واحدة
وكثيراً ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة.. حدثني صاحبنا أبا بكر محمد بن أحمد بن إسحاق عن ثقة أخبره سقط عني اسمه، وأظنه القاضي ابن الحذاء، أن يوسف بن هارون الشاعر المعروف بالرمادي كان مجتازاً عند باب العطارين بقرطبة، وهذا الموضع كان مجتمع النساء، فرأى جارية أخذت بمجامع قلبه وتخلل حبها جميع أعضائه، فانصرف عن طريق الجامع وجعل يتبعها وهي ناهضة نحو القنطرة، فجازتها إلى الموضع المعروف بالربض. فلما صارت بين رياض بني مروان رحمهم الله المبنية على قبورهم في مقبرة الربض خلف النهر نظرت منه منفرداً عن الناس لا همة له غيرها فانصرفت إليه فقالت له: مالك تمشي ورائي؟ فأخبرها بعظيم بليته بها. فقالت له: دع عنك هذا ولا تطلب فضيحتي فلا مطمع لك في النية ولا إلى ما ترغبه سبيل فقال: إني أقنع بالنظر. فقالت: ذلك مباح لك. فقال لها: يا سيدتي: أحرة أم مملوكة؟ قالت: مملوكة. فقال لها: ما اسمك؟ قالت: خلوة. قال: ولمن أنت؟ فقالت له: علمك والله بما في السماء السابعة أقرب إليك مما سألت عنه، فدع المحال. فقال لها: يا سيدتي، وأين أراك بعد هذا؟ قالت: حيث رأيتني اليوم في مثل تلك الساعة من كل جمعة. فقالت له: إما أن تنهض أنت وإما أن أنهض أنا. فقال لها: انهضي في حفظ الله. فنهضت نحو القنطرة ولم يمكنه أتباعها لأنها كانت تلتفت نحوه لترى أيسايرها أم لا. فلما تجاوزت باب القنطرة أتى يقفوها فلم يقع لها على مسألة. قال أبو عمرو، وهو يوسف بن هارون: فوالله لقد لازمت باب العطارين والربض من ذلك الوقت إلى الآن فما وقعت لها على خبر ولا أدري أسماء لحستها أم أرض بلعتها، وإن في قلبي منها لأحر من الجمر. وهي خلوة التي يتغزل بها في أشعاره. ثم وقع بعد ذلك على خبرها بعد رحيله في سببها إلى سر قسطة في قصة طويلة. ومثل ذلك كثير..
والقسم الثاني مخالف للباب الذي يأتي بعد هذا الباب إن شاء الله، وهو أن يعلق المرء من نظرة واحدة جارية معروفة الإسم والمكان والمنشأ، ولكن التفاضل يقع في هذا في سرعة الفناء وإبطائه، فمن أحب من نظرة واحدة وأسرع العلاقة من لمحة خاطرة فهو دليل على قلة البصر، ومخبر بسرعة السلو، وشاهد الظرافة والملل. وهكذا في جميع الأشياء أسرعها نمواً أسرعها فناء. وأبطؤها حدوثاً أبطؤها نفاذاً.
من لا يحب إلا مع المطاولة
ومن الناس من لا تصح محبته إلا بعد طول المخافتة وكثير المشاهدة وتمادي الأنس، وهذا الذي يوشك أن يدوم ويثبت ولا يحيك فيه مُر الليالي فما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً، وهذا مذهبي. وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل قال للروح حين أمره أن يدخل جسد آدم، وهو فخار، فهاب وجزع: ادخل كرهاً واخرج كرهاً. حُدِثناه عن شيوخنا..
وإني لأطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة ولا أكاد أصدقه ولا أجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة، وأما أن يكون في ظني متمكناً من صميم الفؤاد نافذاً في حجاب القلب فما أقدر ذلك، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لي دهراً وأخذي معه في كل جد وهزل، وكذلك أنا في السلو والتوقي، فما نسيت وداً لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء، وقد استراح من لم تكن هذه صفته. وما مللت شيئاً قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس بشيء قط أول لقائي له، وما رغبت في الاستبدال الى سبب من أسبابي مذ كنت، لا أقول في الآلاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعت بعيش ولا فارقني الإطراق والانفلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشجي يعتادني وولوع هم ما ينفك يطرقني، ولقد نغص تذكري ما مضى كل عيش أستأنفه، وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا. والله المحمود على كل حال لا إله إلا هو..
ولا يظن ظان ولا يتوهم متوهم أن كل هذا مخالف لقولي المسطر في صدر الرسالة، أن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العلوي، بل هو مؤكد له. فقد علمنا أن النفس في هذا العالم الأدنى قد غمرتها الحجب، ولحقتها الأغراض، وأحاطت بها الطبائع الأرضية الكونية، فسترت كثيراً من صفاتها وإن كانت لم تحله، لكن حالت دونه فلا يرجى الاتصال على الحقيقة إلا بعد التهيؤ من النفس والاستعداد له، وبعد إيصال المعرفة إليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي خفيت مما يشابهها من طبائع المحبوب، فحينئذ يتصل اتصالاً صحيحاً بلا مانع.
وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سرَّ الشهوة ومعناها على الحقيقة فإذا غلبت الشهوة وتجاوزت هذا الحد ووافق الفصل اتصال نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس يسمى عشقاً. ومن هنا دخل الخلط على من يزعم أن يحب اثنين ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرنا آنفاً، وهي على المجاز تسمى محبة لا على التحقيق، وأما نفس المحب فما في الميل به فضل يصرفه من أسباب دينه ودنياه فكيف بالاشتغال بحب ثان..
وإني لأعرف فتى من أهل الجد والحسب والأدب كان يبتاع الجارية وهي سالمة الصدر من حبه، وأكثر من ذلك كارهة له لقلة حلاوة شمائل كانت فيه، وقطوب دائم كان لا يفارقه ولا سيما مع النساء، فكان لا يلبث إلا يسيراً ريثما يصل إليها بالجماع ويعود ذلك الكره حبا مفرطاً وكلفاً زائداً واستهتاراً مكشوفاً، ويتحول الضجر لصحبته ضجراً لفراقه. صحبه هذا الأمر في عدة منهن. فقال بعض إخواني: فسألته عن ذلك فتبسم نحوي وقال: إذاً والله أخبرك، أنا أبطأ الناس إنزالاً، تقضي المرأة شهوتها وربما ثنت وإنزالي وشهوتي لم ينقضيا بعد، وما فترت بعدها قط، وإني لأبقى بمنتي بعد انقضائها الحين الصالح. وما لاقى صدري صدر امرأة قط عند الخلوة إلا عند تعمدي المعانقة، وبحسب ارتفاع صدري نزول مؤخري.
فمثل هذا وشبهه إذا وافق أخلاق النفس ولد المحبة، إذا الأعضاء الحساسة مسالك النفوس ومؤديات نحوها.
من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها
واعلم أعزك الله أن للحب حكماً على النفوس ماضياً، وسلطاناً قاضياً، وأمراً لا يخالف، وحداً لا يعصى، وملكاً لا يتعدى، وطاعة لا تصرف، ونفاذاً لا يرد.. وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك. وأعرف من كان أول علاقته بجارة مائلة إلى القصر فما أحب طويلة بعد هذا. وأعرف أيضاً من هوى جارية في فمها فوه سعة في الفم لطيف فلقد كان يتقذر كل فم صغير ويذمه ويكرهه الكراهية الصحيحة..
وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تؤاتيني نفسي على سواه ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله.
وأما جماعة خلفاء بني مروان – رحمهم الله – ولا سيما ولد الناصر منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف. وقد رأيناهم ورأينا من رآهم من لدن دولة الناصر إلى الآن فما منهم إلا أشقر نزاعاً إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خلقة، حاشى سليمان الظافر رحمه الله، فإني رأيته أسود اللمة واللحية..
التعريض بالقول
ولا بد لكل مطلوب من مدخل إليه، وسبب يتوصل به نحوه فلم ينفرد بالاختراع دون واسطة إلا العليم الأول جل ثناؤه. فأول ما يستعمل طلاب أوصل وأهل المحبة في كشف ما يجدونه إلى أحبتهم التعريض بالقول، إما بإنشاد شعر، أو بإرسال، أو تعمية بيت، أو طرح لغز، أو تسليط كلام، والناس يختلفون في ذلك على قدر إدراكهم، وعلى حسب ما يرونه من أحبتهم من نفار أو أنس أو فطنة أو بلادة. وإني لأعرف من ابتدأ كشف محبته إلى من كان يحب بأبيات قلتها. فهذا وشبهه يبتدئ به الطالب للمودة، فإن رأى أنسا وتسهيلاً زاد، وإن يعاين شيئاً من هذه الأمور في حين إنشاده لشيء مما ذكرنا، أو إيراده لبعض المعاني التي حددنا، فانتظاره الجواب، إما بلفظ أو بهيئة الوجه والحركات، لموقف بين الرجاء واليأس هائل، وإن كان حيناً قصيراً، ولكنه إشراف على بلوغ الأمل أو انقطاعه.
ومن التعريض بالقول: جنس ثان، ولا يكون إلا بعد الاتفاق ومعرفة المحبة من المحبوب، فحينئذ يقع التشكي وعقد المواعيد والتغرير وإحكام المودات بالتعريض، وبكلام يظهر لسامعه منه معنى غير ما يذهبان إليه، فيجيب السامع عنه بجواب غير ما يتأدى إلى المقصود بالكلام، على حسب ما يتأدى إلى سمعه ويسبق إلى وهمه، وقد فهم كل واحد منهما عن صاحبه وأجابه بما لا يفهمه غيرهما إلا من أيد بحس نافذ، وأعين بذكاء، وأمد بتجربة، ولا سيما إن أحس من معانيهما بشيء وقلما يغيب عن المتوسم المجيد، فهنالك لا خفاء عليه فيما يريدان..
الإشارة بالعين
ثم يتلو التعريض بالقبول، إذا وقع القبول والموافقة، الإشارة بلحظ العين وإنه ليقوم في هذا المعنى المقام المحمود، ويبلغ المبلغ العجيب، ويقطع به ويتواصل، ويوعد ويهدد، وينتهر ويبسط ويؤمر وينهي، وتضرب به الوعود، وينبه على الرقيب، ويضحك ويحزن، ويسأل ويجاب، ويمنع ويعطي. ولكل واحد من هذه المعاني ضرب من هيئة اللحظ لا يوقف على تحديده إلا بالرؤية، ولا يمكن تصويره ولا وصفه إلا بالأقل منه. وأنا واصف ما تيسر من هذه المعاني: فالإشارة بمؤخر العين الواحدة نهى عن الأمر، وتفتيرها إعلام بالقبول وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها آية الفرح. والإشارة إلى إطباقها دليل على التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبيه على مشار إليه. والإشارة الخفية بمؤخر العينين كلتاهما سؤال، وقلب الحدقة من وسط العين إلى الموق بسرعة شاهد المنع، وترعيد الحدقتين من وسط العينين نهي عام. وسائر ذلك لا يدرك إلا بالمشاهدة.
المراسلة
ثم يتلو ذلك إذا امتزجا المراسلة بالكتب. وللكتب آيات. ولقد رأيت أهل هذا الشأن يبادرون لقطع الكتب وبحلها في الماء وبمحو أثرها، فرب فضيحة كانت بسبب كتاب..
وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأجناس.. وإن لرد الجواب والنظر إليه سروراً يعدل اللقاء، ولهذا ما ترى العاشق يضع الكتاب على عينيه وقلبه ويعانقه. ولعهدي ببعض أهل المحبة، ممن كان يدري ما يقول ويحسن الوصف ويعبر عما في ضميره بلسانه عبارة جيدة ويجيد النظر ويدقق في الحقائق، لا يدع المراسلة وهو ممكن الوصل قريب الدار آتى المزار، ويحكي أنها من وجوه اللذة. ولقد أخبرت عن بعض السقاط الوضعاء أنه كان يضع كتاب محبوبه على إحليله. وإن هذا النوع من الإغتلام قبيح وضرب من الشبق فاحش.
وأما سقي الحبر بالدمع فأعرف من كان يفعل ذلك ويقارضه محبوبه، يسقي الحبر بالريق.. ولقد رأيت كتاب المحب إلى محبوبه، وقد قطع في يده بسكين له فسال الدم واستمد منه وكتب به الكتاب أجمع. ولقد رأيت الكتاب بعد جفوفه فما شككت أنه بصبغ اللك (صبغ أحمر).
السفير
ويقع في الحب بعد هذا، بعد حلول الثقة وتمام الاستئناس، إدخال السفير. ويجب تخيره وارتياده واستجادته واستفراهه، فهو دليل عقل المرء، وبيده حياته وموته، وستره وفضيحته بعد الله تعالى. فينبغي أن يكون الرسول ذا هيئة، حاذقاً يكتفي بالإشارة، ويقرطس (يصيب الهدف) عن الغائب، ويحسن من ذات نفسه ويضع من عقله ما أغفله باعثه، ويؤدي إلى الذي أرسله كل ما يشاهد على وجهه كأنما كان للأسرار حافظاً، وللعهد وفياً، قنوعاً ناصحاً. ومن تعدى هذه الصفات كان ضرره على باعثه بمقدار ما نقصه منها..
وأكثر ما يستعمل المحبون في إرسالهم إلى من يحبونه، إما خاملاً لا يؤبه له ولا يهتدي للتحفظ منه، لصباه أو لهيئة رثة أو بدادة في طلعته. وإما جليلاً لا تلحقه الظنن لنسك يظهره أو لسن عالية قد بلغها. وما أكثر هذا في النساء ولا سيما ذوات العكاكيز والتسابيح والثوبين الأحمرين وإني لأذكر بقرطبة التحذير للنساء المحدثات من هذه الصفات حيثما رأيتها..
وإني لأعرف من كانت الرسول بينهما حمامة مؤدبة، ويعقد الكتاب في جناحها..
طي السر
ومن بعض صفات الحب الكتمان باللسان، وجحود المحب إن سئل، والتصنع بإظهار الصبر، وأن يُرى أنه عزهاة العازف عن اللهو والنساء خلى. ويأبى السر الدقيق، ونار الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهوراً في الحركات والعين، ودبيباً كدبيب النار في الفحم والماء في يبيس المدر. وقد يمكن التمويه في أول الأمر على غير ذي الحس اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال، وربما يكون السبب في الكتمان تصاون المحب عن أن يسم نفسه بهذه السمة عند الناس، لأنها بزعمه من صفات أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى، وما هذا وجه التصحيح، فبحسب المرء المسلم أن يعف عن محارم الله عز وجل التي يأتيها باختياره ويحاسب عليها يوم القيامة. وأما استحسان الحسن وتمكن الحب فطبع لا يؤمر به ولا ينهى عنه، إذ القلوب بيد مقلبها، ولا يلزمه غير المعرفة والنظر في فرق ما بين الخطأ والصواب وأن يعتقد الصحيح باليقين. وأما المحبة فخلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحه المكتسبة. وفي ذلك أقول:
يلوم رجال فيك لم يعرفوا الهوى * وسيان عندي فيك لا ح وساكت
يقولون جانبت التصاون جملة * وأنت عليهم بالشريعة قانت
فقلت لهم هذا الرياء بعينه * صراحاً وزي للمرائين ماقت
متى جاء تحريم الهوى عن محمد * وهل منعه في محكم الذكر ثابت
إذا لم أواقع محرماً أتقى به * محبي يوم البعث والوجه باهت
فلست أبالي في الهوى قول لأئم * سواء لعمري جاهر أو مخافت
وهل يلزم الإنسان إلا اختياره * وهل بخبايا اللفظ يؤخذ صامت
وإني لأعرف بعض من امتحن بشيء من هذا فسكن الوجد بين جوانحه، فرام جحده إلى أن غلظ الأمر، وعرف ذلك في شمائله من تعرض للمعرفة ومن لم يتعرض. وكان من عرض له بشيء نجهه النجه: هو أقبح الرد.. رد الرجل عن حاجته.. وقبحه. إلى إن كان من أراد الحظوة لديه من إخوانه يوهمه تصديقه في إنكاره وتكذيب من ظن به غير ذلك، فسر بهذا. ولعهدي به يوماً قاعداً ومعه بعض من كان يعرض له بما في ضميره، وهو ينتفي غاية الانتفاء، إذ اجتاز بهما الشخص الذي كان يتهم بعلاقته، فما هو إلا أن وقعت عينه على محبوبه حتى اضطرب وفارق هيئته الأولى واصفر لونه وتفاوتت معاني كلامه بعد حسن تثقيف، فقطع كلامه المتكلم معه. فلقد استدعى ما كان فيه من ذكره. فقيل له: ما عدا عما بدا. فقال: هو ما تظنون، عذر من عذر، وعذل من عذل..
وهذا إنما يعرض عند مقاومة طبع الكتمان، والتصاون لطبع المحب وغلبته، فيكون صاحبه متحيراً بين نارين محرقتين. وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع..
وربما كان سبب الكتمان توقي المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب.
ولقد قال بعض الشعراء بقرطبة شعراً تغزل فيه بصبح أم المؤيد رحمه الله. فغنت به جارية أدخلت على المنصور محمد بن أبي عامر ليبتاعها، فأمر بقتلها.
وربما كان من أسباب الكتمان الحياء الغالب على الإنسان، وربما كان من أسباب الكتمان أن يرى المحب من محبوبه انحرافاً وصداً ويكون ذا نفس أبية، فيستتر بما يجد لئلا يشمت به عدو، أو يريهم ومن يحب هوان ذلك عليه.
الإذاعة
وقد تعرض في الحب الإذاعة، وهو منكر ما يحدث من أعراضه، ولها أسباب، منها: أن يريد صاحب هذا الفعل أن يتزيا بزي المحبين ويدخل في عدادهم، وهذه خلافة لا ترضى، وتخليج بغيض، ودعوى في الحب زائفة.
وربما كان من أسباب الكشف غلبة الحب وتسور الجهر على الحياء. فلا يملك الإنسان حينئذ لنفسه صرفاً ولا عدلاً. وهذا من أبعد غايات العشق وأقوى تحكمه على العقل، حتى يمثل الحسن في تمثال القبيح، والقبيح في هيئة الحسن. وهنالك يرى الخير شراً، والشر خيراً. وكم مصون الستر مسبل القناع مسدول الغطاء قد كشف الحب ستره، وأباح حريمه، وأهمل حماه فصار بعد الصيانة علماً، وبعد السكون مثلاً..
وحدثني موسى بن عاصم بن عمرو قال: كنت بين يدي أبي الفتح والدي رحمه الله وقد أمرني بكتاب أكتبه إذ لمحت عيني جارية كنت أكلف بها، فلم أملك نفسي ورميت الكتاب عن يدي وبادرت نحوها. وبهت أبي وظن أنه عرض لي عارض. ثم راجعني عقلي فمسحت وجهي ثم عدت واعتذرت بأنه غلبني الرعاف..
وإني لأعرف من أهل قرطبة من أبناء الكتاب وجلة الخدمة من اسمه أحمد بن فتح، كنت أعهده كثير التصاون، من بغاة العلم وطلاب الأدب يبز أصحابه في الانقباض، ويفوتهم في الدعة.. جميل الطريقة، بائناً بنفسه، زاهياً بها ثم أبعدت الأقدار داري من داره، فأول خبر طرأ علي بعد نزولي شاطبة أنه خلع عذاره خلع حياؤه في حب فتى من أبناء الفتانين الفتان: الصائغ يسمى إبراهيم بن أحمد أعرفه، لا تستأهل صفاته محبة من بيته خير وتقدم؛ وأموال عريضة ووفر تالد المال التالد هو القديم الأصلي وعكسه الطارف..، وصح عندي أنه كشف رأسه وأبدى وجهه ورمى رسنه وحسر محياه وشمر عن ذراعيه وصمد صمد الشهوة، فصار حديثاً للسمار ومدافعاً بين نقلة الأخبار، وتهودى ذكره في الأقطار.. ولم يحصل من ذلك إلا على كشف الغطاء، وإذاعة السر، وشنعة الحديث. وفتح الأحدوثة وشرود محبوبه عنه جملة.. ولو طوى مكنون سره، وأخفى بليات ضميره لاستدام لباس العافية ولم ينهج برد الصيانة؛ ولكان له في لقاء من بلى به ومحادثته ومجالسته أمل من الآمال؛ وتعلل كاف..
ومن أسباب الكشف وجه ثالث وهو عند أهل العقول وجه مرذول وفعل ساقط؛ وذلك أن يرى المحب من محبوبه غدراً أو مللاً أو كراهة؛ فلا يجد طريق الانتصاف منه إلا بما ضرره عليه أعود منه على المقصود من الكشف والاشتهار. وهذا أشد العار وأقبح الشنار وأقوى بشواهد عدم العقل ووجود السخف.. وقرأت في بعض أخبار الأعراب أن نساءهم لا يقنعن ولا يصدقن عشق عاشق لهن حتى يشتهر ويكشف حبه ويجاهر ويعلن وينوه بذكرهن، ولا أدري ما معنى هذا، على أنه يذكر عنهن العفاف، وأي عفاف مع امرأة أقصى مناها وسرورها الشهرة في هذا المعنى.
الطاعة
ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع ن يحبه وربما يكون المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة.. فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب.. فتعود الشراسة لياناً، والصعوبة سهلة والمضاء كلالة؛ والحمية استسلاماً..
ولا يقولن قائل إن صبر المحب على دلة الدلة: المنة المحبوب دناءة في النفس فهذا أخطأ، وقد علمنا أن المحبوب ليس له كفواً ولا نظيراً فيقارض بأذاه، وليس سبه وجفاه مما يُعيَّر به الإنسان ويبقى ذكره على الأحقاب.. وفي ذلك أقول:
ليس التذلل في الهوى يستنكر * فالحب فيه يخضع المستكبر
لا تعجبوا من ذلتي في حالة * قد ذل فيها قلبي المستبصر (أو “قبلي المستنصر”.. وهو أحد الخلفاء)
ليس الحبيب مماثلاً ومكافياً * فيكون صبرك ذلة إذ تصبر
تفاحة وقعت فآلم وقعها * هل قطعها منك انتصاراً يذكر
وحدثني أبو دلف الوراق عن ملسمة بن أحمد الفيلسوف المعروف بالمرجيطى أنه قال في المسجد الذي بشرقي مقبرة قريش بقرطبة الموازي لدار الوزير ابن عمرو أحمد بن محمد جدير رحمه الله: في هذا المسجد كان مربض مقدم بن الأصفرً أيام حداثته لعشق بعجيب، فتى الوزير أبي عمرو المذكور. وكان يترك الصلاة في مسجد مسرور وبها كان سكناه، ويقصد في الليل والنهار إلى هذا المسجد بسبب عجيب، حتى أخذه الحرس غير ما مرة في الليل في حين انصرافه عن صلاة العشاء الآخرة، وكان يقعد وينظر منه إلى أن كان الفتى يغضب ويضجر ويقوم إليه فيوجعه ضرباً ويلطم خديه وعينيه، فيسر بذلك ويقول: هذا والله أقصى أمنيتي والآن قرت عيني، وكان على هذا زماناً يماشيه..
وأشنع من هذا أنه كانت لسعيد بن منذر بن سعيد صاحب الصلاة في جامع قرطبة أيام الحكم المستنصر بالله رحمه الله جارية يحبها حباً شديداً، فعرض عليها ِأن يعتقها ويتزوجها. فقالت له ساخرة به، وكان عظيم اللحية: إن لحيتك أستبشع عظمها فإن حذفت منها كان ما ترغبه. فأعمل الجَلَمَين الجلمان: شفرتا المقض، المقراضان فيها حتى لطفت، ثم دعا بجماعة شهود وأشهدهم على عتقها، ثم خطبها إلى نفسه فلم ترض به. وكان في جملة من حضر أخوه حكم بن منذر فقال لمن حضر: اعرض عليها أني أخطبها أنا، ففعل فأجابت إليه. فتزوجها في ذلك المجلس بعينه ورضي بهذا العار الفادح على رورعه ونسكه واجتهاده.
فأنا أدكت سعيداً هذا وقد قتله البربر يوم دخولهم قرطبة عنوة وانتهابهم إياها وحكم المذكور أخوه هو رأس المعتزلة بالأندلس وكبيرهم وأستاذهم ومتكلمهم وناسكهم، وهو مع ذلك شاعر طيب وفقيه. وكان أخوه عبد الملك ابن منذر متهماً بهذا المذهب أيضاً.. وكان أبوهم قاضي القضاة منذر بن سعيد متهماً بمذهب الاعتزال أيضاً. وكان أخطب الناس وأعلمهم بكل فن وأورعهم وأكثرهم هزلاً ودعابة. وحكم المذكور في الحياة في حين كتابتي إليك بهذه الرسالة قد كف بصره وأسن جداً.
ومن عجيب طاعة المحب لمحبوبه أني أعرف من كان سهر الليالي الكثيرة ولقى الجهد الجاهد فقطعت قلبه ضروب الوجد ثم ظفر بمن يحب وليس به امتناع ولا عنده دفع، فحين رأى منه بعض الكراهة لما نواه تركه وانصرف عنه، لا تعففاً ولا تخوفاً لكن توقفاً عند موافقة رضاه، ولم يجد من نفسه معيناً على إتيان ما لم ير له إليه نشاطاً وهو يجد ما يجد. وإني لأعرف من فقل هذا الفعل ثم تندم لعذر ظهر من المحبوب. فقلت في ذلك:
غافص غافص الرجل مغافصة: أخذه على حين غرة الفرصة واعلم أنها * كمضي البرق تمضي الفرص
كم أمور أمكنت أهملها * هي عندي إذ تولت غصص
بادر الكنز الذي ألفيته * وانتهز صبراً كباز يقنص
ولقد سألني يوماً أبو عبد الله محمد بن كليب من أهل القيروان أيام كوني بالمدينة، وكان طويل اللسان جداً مثقفاً للسؤال في كل فن، فقال لي وقد جرى بعض ذكر الحب ومعانيه: إذا كره من أحب لقائي وتجنب قربي فما أصنع؟ قلت: أرى أن تسعى في إدخال الرَّوْح الراحة وأيضا الرحنة (لا تيأسوا من روح الله) على نفسك بلقائه وإن كره. فقال: لكني لا أرى ذلك بل أوثر هواه على هواي ومراده على مرادي، واصبر ولو كان في ذلك الحتف. فقلت له: إني إنما أحببته لنفسي ولإلتذاذها بصورته فأنا أتبع قياسي وأقود أصلي وأقفو طريقتي في الرغبة في سرورها..
العاذل
وللحب آفات، فأولها العاذل، والعذال أقسام، فأصلهم صديق قد أسقطت مؤونة التحفظ بينك وبينه فعذله أفضل من كثير المساعدات، وهو بين الحض والنهي، وفي ذلك زاجر للنفس عجيب، وتقوية لطيفة لها عرض، وعمل ودواء تشتد عليه الشهوة، ولا سيما إن كان رفيقاً في قوله حسن التوصل إلى ما يورد من المعاني بلفظه، عالماً بالأوقات التي يؤكد فيها النهي، وبالأحيان التي يزيد فيها الأمر..
ثم عاذل زاجر لا يفيق أبداً من الملامة، وذلك خطب شديد وعبء ثقيل..
ولقد رأيت من اشتد وَجْدُه وعظم كلفه حتى كان العذل أحب شيء إليه.. وفي ذلك أقول أبياتاً، منها:
أحب شيء إلي اللوم والعذل * كي أسمع اسم الذي ذكراه لي أمل
المساعد من الإخوان
ومن الأسباب المتمناة في الحب أن يهب الله عز وجل للإنسان صديقاً مخلصاً، لطيف القول، بسيط الطول. حسن المآخذ دقيق المنفذ. متمكن البيان، مرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة شديد الاحتمال صابراً على الإدلال الإجتراء، جم الموافقة، جميل المخالفة، مستوى المطابقة، محمود الخلائق، مكفوف البوائق الغوائل والشرور والمصائب، محتوم المساعدة، كارهاً للمباعدة.. مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس.. مضمون العون، كامل الصون، مشهورالوفاء، ظاهر الغناء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع.. يفاوضه في مكتوماته، وإن فيه للحب لأعظم الراحات، وأين هذا، فإن ظفرت به يداك فشدهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك البخيل.. فمعه يكمل الأنس، وتنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عوناً جميلاً، ورأياً حسناً، ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخلاء كي يخففوا عنهم بعض ما حملوه من شديد الأمور وطوقوه من باهظ الأحمال..
ولقد كان بعض المحبين، لعدمه هذه الصفة من الإخوان وقلة ثقته منهم لما جربه من الناس وأنه لم يعدم من باح إليه بشيء من سره أحد وجهين إما إزراء على رأيه وإما إذاعة لسره، أقام الوحدة مقام الأنس. وكان ينفرد في المكان النازح عن الأنيس، ويناجي الهوى، ويكلم الأرض، ويجد في ذلك راحة كما يجد المريض في التأوه والمحزون في الزفير؛ فإن الهموم إذا ترادفت في القلب ضاق بها، فإن لم ينض منها شيء باللسان، ولم يسترح إلى الشكوى لم يلبث أن يهلك غما ويموت أسفاً. وما رأيت الإسعاد المساعدة أكثر منه في النساء. فعندهن من المحافظة على هذا الشأن والتواصي بكتمانه والتواطؤ على طيه إذا اطلعن عليه ما ليس عند الرجال، وما رأيت امرأة كشفت سر متحابين إلا وهي عند النساء ممقوتة مستثقلة مرمية عن قوس واحدة. وإنه ليوجد عند العجائز في هذا الشأن ما لا يوجد عند الفتيات، لأن الفتيات منهن ربما كشفن ما علمن على سبيل التغاير، وهذا لا يكون إلا في الندرة. وأما العجائز فقد يئسن من أنفسهن فانصرف الإشفاق محضاً إلى غيرهن.
وإني لأعلم امرأة موسرة ذات جوار وخدم فشاع على إحدى جواريها أنها تعشق فتى من أهلها ويعشقها وأن بينهما معاني مكروهة، وقيل لها: إن جاريتك فلانة تعرف ذلك وعندها جلية أمرها. فأخذتها وكانت غليظة العقوبة فأذاقتها من أنواع الضرب والإيذاء ما لا يصبر على مثله جلداء الرجال، رجاء أن تبوح لها بشيء مما ذكر لها، فلم تفعل البتة.
وإني لأعلم امرأة جليلة حافظة لكتاب الله عز وجل ناسكة مقبلة على الخير، وقد ظفرت بكتاب لفتى إلى جارية كان يكلف بها، وكان في غير ملكها، فعرفته الأمر فرام الإنكار فلم يتهيأ له ذلك، فقالت له: مالك؟ ومن ذا عصم؟ فلا تبال بهذا فوالله لا أطلعت على سركما أحداً أبداً، ولو أمكنتني أن أبتاعها لك من مالي ولو أحاط به كله لجعلتها لك في مكان تصل إليها فيه ولا يشعر بذلك أحد؛ وإنك لترى المرأة الصالحة المسنة المنقطعة الرجاء من الرجال، وأحب أعمالها إليها وأرجاها للقبول عندها سعيها في تزويج يتيمة، وإعارة ثيابها وحليها لعروس مقلة. وما أعلم علة تمكن هذا الطبع من النساء إلا أنهن متفرغات البال من كل شيء إلا من الجماع ودواعيه، والغزل وأسبابه، والتآلف ووجوهه لاشغل لهن غيره ولا خلقن لسواه.. وقرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم يوكل ثقة له بنسائه يلقى عليهن ضريبة من غزل الصوف يشتغلن بها أبد الدهر؛ لأنهم يقولون: إن المرأة إذا بقيت بغير شغل إنما تشوق إلى الرجال، وتحن إلى النكاح. ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري؛ لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن. ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيل سمن، وفي طبعة أخرى تبقل أي خرج شعره.. وجهي. وهن علمنني القرآن وروينني كثيراً من الآشعار وردبنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جداً إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك. وأنا لا أنسى شيئاً مما آرى منهن، وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها، وسوء ظن في جهتهن فطرت به، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل. وسيأتي ذلك مفسراً في أبوابه إن شاء الله تعالى.
الرقيب
ومن آفات الحب الرقيب، وإنه لحمى باطنة.. والرقباء أقسام، فأولهم مثقل بالجلوس غير متعمد في مكان اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيء من سرهما والبوح بوجدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمحب من القلق بهذه الصفة ما لا يعرض له مما هو أشد منها، وهذا وإن كان يزول سريعاً فهو عائق حال دون المراد وقطع متوفِرَ الرجاء.
ولقد شاهدت يوماً محبين تفي مكان قد ظنا أنهما انفردا فيه وتأهبا للشكوى فاستحليا ما هما فيه من الخلوة، ولم يكن الموضع حِمي، فلم يلبثا أن طلع عليهما من كانا يستثقلانه، فرأنى فعدل إلي وأطال الجلوس معي، فلو رأيت الفتى المحب وقد تمازج الأسف البادي على وجهه مع الغضب لرأيت عجباً..
ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطرف، وتوجس من مذهبهما شيئاً، فهو يريد أن يستبين حقيقة ذلك، فيدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتخفى بالحركات، ويرمق الوجوه، ويحصل الأنفاس. وهذا أعدى من الجرب، وإني لأعرف من هم أن يباطش رقيباً هذه صفته..
ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلا بترضية. وإذا أرضى فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرته الشعراء في أشعارها.
ولقد شاهدت من تلطف في استرضاء رقيب حتى صار الرقيب عليه رقيباً له، ومتغافلاً في وقت التغافل، ودافعاً عنه وساعياً له.. ً
وإني لأعرف من رقب على بعض من كان يشفق عليه رقيباً وثق به عند نفسه، فكان أعظم الآفة عليه وأصل البلاء فيه.
وأما إذا لم يكن في الرقيب حيلة ولا وجد إلى ترضيه سبيل فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همساً وبالحاجب أحياناً والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك متعة وبلاغ إلى حين يقنع به المشتاق..
وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهى به وطالت مدته فيه ثم عرى عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانة من رقب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأبي منه، وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته.
الواشي
ومن آفات الحب الواشي، وهو على ضربين أحدهما واش يريد القطع بين المتحابين فقط، وإن هذا لأفترهما سوءة، على أنه السم الذعاف.. وأكثر ما يكون الواشي فإلى المحبوب، وأما الحب فهيهات، حال الجريض دون القريض الجريض الغصص والقريض الشعر. ومنع الحرب من الطرب، شغله بما هو مانع له من استماع الواشي. وقد علم الوشاة ذلك، وإنما يقصون إلى الخلي البال، الصائل بحوزة الملك، المتعتب عند أقل سبب.
وإن للوشاة ضروباً من التنقيل، فمنها أن يذكر للمحبوب عمن يحب أنه غير كاتم للسر، وهذا مكان صعب المعاناة، بطيء البرء.. وربما ذكر الواشي أن ما يظهر المحب من المحبة ليست بصحيحة، وأن مذهبه في ذلك شفاء نفسه وبلوغ وطره.. وربما نقل الواشي أن هوى العاشق مشترك وهذه النار المحرقة والوجع الفاشي في الأعضاء، وإذا وافق الناقل لهذه المقالة أن يكون المحب فتى حسن الوجه حلو الحركات مرغوباً فيه مائلاً إلى اللذات دنياوي الطبع، والمحبوب امرأة جليلة القدر سرية المنصب، فأقرب الأشياء سعيها في إهلاكه وتصديها لحتفه. فكم صريع على هذا السبب، وكم من سقى السم فقطع أمعاءه لهذا الوجه. وهذه كانت ميتة مروان بن أحمد بن حدير، والد أحمد المتنسك، وموسى وعبد الرحمن، المعروفين بابني لبنى، من قبل قطر الندى جاريته. وفي ذلك أقول محذراً لبعض أخواتي قطعة، منها:
وهل يأمن النسوان غير مغفل * جهول لأسباب الردي متأرض التأرض: التأني والإنتظار.. تأرض بمكان مكث فيه
والثاني واش يسعى للقطع بين المحبين لينفرد بالمحبوب ويستأثر به وهذا أشد شيء وأقطعه وأجزم لاجتهاد الواشي واستفادة جهده.
ومن الوشاة جنس ثالث، وهو واش يسعى بهما جميعاً ويكشف سرهما، وهذا لا يلتفت إليه إذا كان المحب مساعداً..
ولا بد أن أورد ما يشبه ما نحن فيه، وإن كان خارجاً منه، وهو شيء في بيان التنقيل والنمائم.. وما في جميع الناس شر من الوشاة، وهم النمامون، وإن النميمة لطبع يدل على نتن الأصل ورداءة الفرع وفساد الطبع وخبث النشأة، ولا بد لصاحبه من الكذب، والنميمة فرع من فروع الكذب ونوع من أنواعه، وكل نمام كذاب، وما أحببت كذاباً قط، وإني لأسامح في إخاء كل ذي عيب وإن كان عظيماً، وأكل أمره إلى خالقه عز وجل، وآخذ ما ظهر من أخلاقه، حاشى من أعلمه يكذب فهو عندي ماح لكل محاسنه، ومُعَفِّ ماح على جميع خصاله، ومذهب كل ما فيه، فما أرجو عنده خيراً أصلاً، وذلك لأن كل ذنب فهو يتوب عنه صاحبه وكل ذام فقد يمكن الاستتار به والتوبة منه، حاشى الكذب فلا سبيل إلى الرجعة عنه ولا إلى كتمانه حيث كان. وما رأيت قط ولا أخبرني من رأى كذاباً ترك الكذب ولم يعد إليه، ولا بدأت قط بقطيعة ذي معرفة إلا أن أطلع له على الكذب، فحينئذ أكون أنا القاصد إلى مجانبته والمتعرض لمتاركته..
وقد قال بعض الحكماء: آخ من شئت واجتنب ثلاثة: الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، والملول فشأنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكدها يخذلك، والكذاب فإنه يجني عليك آمن ما كنت فيه من حيث لا تشعر.
وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حسن العهد من الإيمان”. وعنه عليه السلام: “لا يؤمن الرجل بالإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح” حدثنا بهذا أبو عمر أحمد بن محمد عن محمد بن علي بن رفاعة عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد القاسم بن سلام عن شيوخه، والآخر منهما مسند إلى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما.
والله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل هل يكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن جباناً؟ فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا. حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد عن أحمد بن سعيد عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك بن أنس عن صفوان بن سليم. وبهذا الإسناد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا خير في الكذب” في حديث سئل فيه. وبهذا الإسناد عن مالك أنه بلغه عن ابن مسعود أنه كان يقول: “لا يزال العبد يكذب وينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب فيكتب عن الله من الكذابين”.
وبهذا الإسناد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر ويهذي إلى الجنة وإياكم والكذب فإنه يهذي إلى الفجور والفجور يهذي إلى النار”. وروى أنه أتاه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، إني أستتر بثلاث الخمر والزنا والكذب. فمرني أيهما أترك. قال: اترك الكذب فذهب منه. ثم أراد الزنا ففكر فقال: آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألني: أزنيت؟ فإن قلت. نعم، حدني، وإن قلت: لا. نقضت العهد، فتركه. ثم كذلك في الخمر. فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني تركت الجميع.
فالكذب أصل كل فاحشة، وجامع كل سوء، وجالب لمقت الله عز وجل. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال كل الخلال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ثلاث من كن فيه كان منافقاً: من إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان”.
وهل الكفر إلا كذب على الله عز وجل، والله الحق وهو يحب الحق وبالحق قامت السموات والأرض. وما رأيت أخزى من كذاب، وما هلكت الدول ولا هلكت الممالك ولا سفكت الدماء ظلماً ولا هتكت الأستار بغير النمائم والكذب، ولا أكدت البغضاء والإحن المردية إلا بنمائم لا يحظى صاحبها إلا بالمقت والخزي والذل، وأن ينظر منه الذي ينقل إليه فضلاً عن غيره بالعين التي ينظر بها من الكلب. والله عز وجل يقول: (ويل لكل همزة لمزة). ويقول جل من قائل: (يا أيها الذين آمنوا إذ جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا). فسمى النقل باسم الفسوق. ويقول: (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم). والرسول عليه السلام يقول: (لا يدخل الجنة قتات). ويقول: (وإياكم وقاتل الثلاثة) يعني المنقل والمنقول إليه والمنقول عنه. والأحنف يقول: “الثقة لا يُبَلّغ، وحق لذي الوجهين ألا يكون عند الله وجيهاً”. وهو ما يجعله من أخس الطبائع وأرذلها..
وليس من نبه غافلاً، أو نصح صديقاً، أو حفظ مسلماً، أو حكى عن فاسق وأحدث عن عدو ما لم يكن يكذب ولا يكذب، ولا تعمد الضغائن، متنقلاً. وهل هلك الضعفاء وسقط من لا عقل له إلا في قلة المعرفة بالناصح من النمام، وهما صفتان متقاربتان في الظاهر متفاوتتان في الباطن، أحدهما داء والأخرى دواء، والثاقب القريحة لا يخفى عليه أمرهما، لكن الناقل من كان تنقيله غير مرضى في الديانة، ونوى به التشتيت بين الأولياء، والتضريب بين الإخوان، والتحريش والتوبيش التخليط والترقيش. فمن خاف إن سلك طريق النصيحة أن يقع في طريق النميمة، ولم يثق لنفاذ تمييزه ومضاء تقديره فيما يرده من أموره دنياه ومعاملة أهل زمانه، فليجعل دينه دليلاً له وسراجاً يستضيء به، فحيثما سلك به سلك وحيثما أوقفه وقف. فشارع الشريعة وباعث الرسول عليه السلام ومرتب الأوامر والنواهي أعلم بطريق الحق وأدري بعواقب السلامة ومغبات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه؛ وباحث بقياسه في ظنه.
الوصل
ومن وجوه العشق الوصل، وهو حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع. بل هو الحياة المجدة، والعيش السني، والسرور الدائم ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني؛ ومنتهى الأراجي. ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروح على المال، من الموقع في النفس ما للوصل؛ لا سيما بعد طول الامتناع، وحلول الهجر حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء. وما أصناف النبات بعد غب القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات في الزمان السجسج ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه. وأنه لمعجز ألسنة البلغاء، ومقصر فيه بيان الفصحاء، وعنده تطيش الألباب، وتعزب الأفهام. وفي ذلك أقول:
وسائل لي عما لي من العمر * وقد رأى الشيب في الفودين والعذر
أجبته ساعة لا شيء أحسبه * عمراً سواها بحكم العقل والنظر
فقال لي كيف ذا بينه لي فلقد * أخبرتني أشنع الأنباء والخبر
فقلت إن التي قلبي بها علق * قبلتها قبلة يوم على خطر
فما أعد ولو طالت سني سوى * تلك السويعة بالتحقيق من عمري
ومن لذيذ معاني الوصل المواعيد، وإن للوعد المنتظر مكاناً لطيفاً من شغاف القلب، وهو ينقسم قسمين، أحدهما الوعد بزيارة المحب لمحبوبه وفيه أقول قطعة، منها:
أسامر البدر لما أبطأت وأرى * في نوره من سنا إشراقها عرضاً
فبت مشترطاً والود مختلطاً * والوصل منبسطاً والهجر منقبضاً
والثاني انتظار الوعد من المحب أن يزور محبوبه، وإن لمبادئ الوصل وأوائل الإسعاف لتولجاً على الفؤاد ليس لشيء من الأشياء. وإني لأعرف من كان ممتحنا بهوى في بعض المنازل المصاقبة فكان يصل متى شاء بلا مانع ولا سبيل إلى غير النظر والمحادثة زماناً طويلاً، ليلا متى أحب ونهاراً، إلى أن ساعدته الأقدار بإجابة، ومكنته بإسعاد بعد يأسه، لطول المدة ولعهدي به قد كاد أن يختلط عقله فرحاً، وما كاد يتلاحق كلامه سروراً، فقلت في ذلك:
برغبة لو إلى ربي دعوت بها * لكان ذنبي عند الله مغفوراً
ولو دعوت بها أسد الفلا لغدا * إضرارها عن جميع الناس مقصوراً
فجاد باللثم لي من بعد منعته * فاهتاج من لوعتي ما كان مغموراً
كشارب الماء كي يطفي الغليل به * فغص فانصاع في الأجداث مقبوراً
وقلت:
جرى الحب مني مجرى النفس * وأعطيت عيني عنان الفرس
ولي سيد لم يزل نافراً * وربما جاد لي في الخلس
فقبلته طالباً راحة * فزاد أليلا بقلبي اليبس
وكان فؤادي كتبت هشيم * يبيس رمى فيه رام قبسي
ومنها:
ويا جوهر الصين سحقاً فقد * عنيت بياقوتة الأنداس
خبر: وإني لأعرف جارية اشتد وجدها بفتى من أبناء الرؤساء، وهو لا علم عنده، وكثر غمها وطال أسفها إلى أن ضنيت بحبه، وهو بغرارة الصبي لا يشعر. ويمنعها من إبداء أمرها إليه الحياء منه لأنها كانت بكراً بخاتمها، مع الإجلال له عن الهجوم عليه بما لا تدري لعله لا يوافقه. فلما تمادى الأمر وكانا إلفين في النشأة، شكت ذلك إلى امرأة جزلة الرأي كانت تثق بها لتوليها تربيتها، فقالت لها: عرضي له بالشعر. ففعلت المرة بعد المرة وهو لا يأبه في كل هذا، ولقد كان لقناً ذكياً لم يظن ذلك فيميل إلى تنتيش الكلام بوهمه، إلى أن عيل صبرها وضاق صدرها ولم تمسك نفسها في قعدة كانت لها معه في بعض الليالي منفردين، ولقد كان يعلم الله عفيفاً متصاوناً بعيداً عن المعاصي، فلما حان قيامها عنه بدرت إليه فقبلته في فمه ثم ولت في ذلك الحين ولم تكلمه بكلمة، وهي تتهادى في مشيها، كما أقول في أبيات لي:
كأنها حين تخطو في تأودها * قضيب نرجسة في الروض مياس
كأنما خلدها في قلب عاشقها * ففيه من وقعها خطر ووسواس
كأنما مشيها مشي الحمامة لا * كد يعاب ولا بطء به باس
فبهت وسقط في يده وفت في عضده ووجد في كبده وعلته وجمة، فما هو إلا أن غابت عنه ووقع في شرك الردى واشتعلت في قلبه النار وتصعدت أنفاسه وترادفت أرجاله وكثر قلقه وطال أرقه، فما غمض تلك الليله عيناً، وكان هذا بدء الحب بينهما دهراً، إلى أن جذت جملتها يد النوى. وإن هذا لمن مصائد إبليس ودواعي الهوى التي لا يقف لها أحد ألا من عصمه الله عز وجل.
ومن الناس من يقول: إن دوام الوصل يودي بالحب، وهذا هجين من القول، إنما ذلك لأهل الملل، بل كلما زاد وصلاً زاد اتصالاً.
وعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظلماً. وهذا حكم من تداوى برأيه وإن ربه عنه سريعاً. ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى، فما وجدتني إلا مستزيداً، ولقد طال بي ذلك فما أحسست بسآمة ولا رهقتني فترة، ولقد ضمني مجلس مع بعض من كنت أحب فلم أجل خاطري في فن من فنون الوصل إلا وجدته مقصراً عن مرادي وغير شاف وجدي ولا قاض أقل لبانة من لباناتي، ووجدتني كلما ازددت دنواً ازددت ولوعاً، وقدحت زناد الشوق نار الوجد بين ضلوعي، فقلت في ذلك المجلس:
وددت بأن القلب شق بمدية * وادخلت فيه ثم أطبق في صدري
فأصبحت فيه لا تحلين غيره * إلى مقتضى يوم القيامة والحشر
تعيشين فيه ما حييت فإن أمت * سكنت شغاف القلب في ظلم القبر
وما في الدنيا حالة تعدل محبين إذا عدما الرقباء، وأمنا الوشاة، وسلما من البين، ورغبا عن الهجر، وبعدا عن الملل، وفقدا العذال، وتوافقا في الأخلاق، وتكافيا في المحبة، وأتاح الله لهما رزقاً دارا، وعيشاً قاراً، وزماناً هادياً، وكان اجتماعهما على ما يرضي الرب من الحال، وطالت صحبتهما واتصلت إلى وقت حلول الحمام الذي لا مرد له ولا بد منه، هذا عطاء لم يحصل عليه أحد، وحاجة لم تقض لكل طالب، ولو لا أن مع هذه الحال الإشفاق من بغتات المقادير المحكمة في غيب الله عز وجل، من حلول فراق لم يكتسب؛ واخترام منية في حال الشباب أو ما أشبه ذلك، لقلت إنها حال بعيدة من كل آفة، وسليمة من كل داخلة. ولقد رأيت من اجتمع له هذا كله إلا أنه كان دهى فيمن كان يحبه بشراسة الأخلاق، ودالة على المحبة، فكانا لا يتهنيان العيش ولا تطلع الشمس في يوم إلا وكان بينهما خلاف فيه، وكلاهما كان مطبوعاً بهذا الخلق. لثقة لك واحد منهما بمحبة صاحبه، إلى أن دنت النوى بينهما فتفرقا بالموت المرتب لهاذ العالم، وفي ذلك أقول:
كيف أذم النوى وأظلمها * وكل أخلاق من أحب نوى
قد كان يكفي هوى أضيق به فكيف إذ حل بي نوى وهوى
وروى عن زياد بن أبي سفيان رحمه الله أنه قال لجلساته: من أنعم الناس عيشة? قالوا: أمير المؤمنين. فقال: وأين ما يلقى من قريش? قيل: فأنت. قال: أين ما ألقى من الخوارج والثغور? قيل فمن أيها الأمير. قال: رجل مسلم له زوجة مسلمة لهما كفاف من العيش قد رضيت به ورضى بها لا يعرفنا ولا نعرفه.
وهل فيما وافق إعجاب المخلوقين، وجلا القلوب، واستمال الحواس. واستهوى النفوس، واستولى على الأهواء، واقتطع الألباب، واختلس العقول، مستحسن يعدل إشفاق محب على محبوب ولقد شاهدت من هذا المعنى كثيراً، وإنه لمن المناظر العجيبة الباعثة على الرقة الرائقة المعنى لا سيما إن كان هوى يتكتم به. فلو رأيت المحبوب حين يعرض بالسؤال عن سبب تغضبه بحبه، وخجلته في الخروج مما وقع فيه بالإعتذار، وتوجيهه إلى غير وجهه، وتحليله في استنباط معنى يقيمه عند جلسائه، لرأيت عجباً ولذة مخيفة لا تقاومها لذة، و رأيت أجلب للقلوب ولا أغوص على حياتها ولا أنفذ للمقاتل من هذا الغفل، وإن للمحبين في الوصل من الاعتذار ما أعجز أهل الأذهان الذكية والأفكار القوية. ولقد رأيت في بعض المرات هذا فقلت:
إذا مزجت الحق بالباطل * جوزت ما شئت على الغافل
وفيهما فرق صحيح له * علامة تبدو إلى العاقل
كالتبر إن تمزج به فضة * جازت على كل فتى جاهل
وأن تصادف صائغاً ماهراً * ميز بين المحض والحائل
وإني لأعلم فتى وجارية كان يكلف كل واحد منهما بصاحبه، فكانا يضطجعان إذا حضرهما أحد وبينهما المسند العظيم من المساند الموضوعة عند ظهور الرؤساء على الفرش ويلتقي رأساهما وراء المسند ويقبل كل واحد منهما صاحبه ولا يريان، وكأنهما إنما يتمدادن من الكلل. ولقد كان بلغ من تكافئهما في المودة آمراً عظيماً، إلى أن كان الفتى المحب ربما استطال عليها. وفي ذلك أقول:
ومن أعاجيب الزمان التي * طمت على السامع والقائل
رغبة مركوب إلى راكب * وذلة المسؤل للسائل
وطول مأسور إلى آسر * وصولة المقتول للقاتل
ما إن سمعنا في الورى قبلها * خضوع ممول إلى آمل
هل هاهنا وجه تراه سوى * تواضع المفعول للفاعل
ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنه شاهدت فتى وجارية كان يجد كل واحد منهما بصاحبه فضل وجد، قد اجتمعا في مكان على طرب، وفي يد الفتى سكين يقطع بها بعض الفواكه، فجراها جراً زائداً فقطع إبهامه قطعاً لطيفاً ظهر فيه دم، وكان على الجارية غلالة قصب خزائنية لها قيمة، فصرفت يدها وخرقيتها وأخرجت منها فضلة شد بها إبهامه. وأما هذا الفعل للمحب فقليل فيما يجب عليه، وفرض لازم وشريعة مؤداة، وكيف لا وقد بذل نفسه ووهب روحه فما يمنع بعدها.
خبر: وأنا أدركت بنت زكريا بن يحيى التميمي المعروف بابن برطال، وعمها كان قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن يحيى، وأخوه الوزير القائد الذي كان قتله غالب وقائدين له في الوقعة المشهورة بالثغور، وهما مروان بن أحمد بن شهيد ويوسف ابن سعيد العكي، وكانت متزوجة بيحيى بن محمد ابن الوزير يحيى بن إسحاق، فعاجلته المنية وهو في أغض عيشه وأنضر سرورهما، فبلغ من أسفها عليه أن باتت معه في دثار واحد ليلة ما ت وجعلته آخر العهد به وبوصله، ثم لم يفارقها الأسف بعده حين موتها.
وإن للوصل المختلس الذي يخاتل به الرقباء ويتحفظ به من الحضر، مثل الضحك المستور، والنحنحة، وجولان الأيدي، والضغط بالأجناب، والقرص باليد والرجل، لموقعاً من النفس شهياً. وفي ذلك أقول:
إن للوصل الخفي محلاً * ليس للوصل المكين الجلي
لذة أمرها بارتقاب * كمسير في خلال النقي
خبر:
ولقد حدثني ثقة من إخواني جليل من أهل البيوتات أنه كان علق في صباه جارية كانت في بعض دور آله، وكان ممنوعاً منها فهام عقله بها. قال لي: فتنزهنا يوماً إلى بعض ضياعناً بالسهلة غربي قرطبة مع بعض أعمامي، فتمشينا في البساتين وأبعدنا عن المنازل وانبسطنا على الأنهار. إلى أن غيمت السماء وأقبل الغيث، فلم يكن بالحضرة من الغطاء ما يكفي الجميع. قال: فأمر عمي ببعض الأغطية فأليقى علي وأمرها بالإكتنان معي، فظن بما شئت من التمكن على أعين الملأ وهم لا يشعرون، ويالك من جمع كخلاء، واحتفال كانفراد. قال لي: فوالله لا نسيت ذلك اليوم أبداً. ولعهدي به وهو يحدثني بهذا الحديث وأعضاؤه كلها تضحك وهو يهتز فرحاً على بعد العهد وامتداد الزمان. ففي ذلك أقول شعراً، منه:
يضحك الروض والسحائب تبكي * كحبيب رآه صب معنى
خبر: ومن بديع الوصل ما حدثني به بعض إخواني أنه كان في بعض المنازل المصاقبة له هوى، وكان في المنزلين موضع مطلع من أحدهما على الآخر، فكانت تقف له في ذلك الموضع، وكان فيه بعض البعد، فتسلم عليه ويدها ملفوفة في قميصها. فخاطبها مستخبراً لها عن ذلك. فأجابته: إنه ربما أحس من أمرنا شيء فوقف لك غيري فسلم عليك فرددت عليه، فصح الظن، فهذه علامة بيني وبينك فإذا رأيت يداً مكشوفة تشير نحوك بالسلام فليست يدي فلا تجاوب.
وربما استحلى الوصال واتفقت القلوب حتى يقع التخلج في الوصال، فلا يلتفت إلي لائم ولا يستتم من حافظ ولا يبالي بناقل، بل العذل حينئذ يغري. وفي صفة الوصل أقول شعراً، منه:
كم درت حول الحب حتى لقد * حصلت فيه كحصول الفراش
ومنه:
تعشو إلى الوصل دواعي الهوى * كماسرى نحو سنا النار عاش
ومنه:
عللني بالوصل من سيدي * كمثل تعليل الظلماء العطاش
ومنه:
لا توقف العين على غاية * فالحسن فيه مستزيد وباش
وأقول من قصيدة لي:
هل لقيل الحب من وادي * أم هل لعاني الحب من فادي
أم هل لدهري عودة نحوها * كمثل يوم مر في الوادي
ظللت فيه سابحاً صادياً * يا عجباً للسابح الصعادي
ضنيت يا مولاي وجداً فما * تبصرني ألحاظ عوادي
كيف اهتدي الوجد إلى غائب * عن أعين الحاضر والبادي
مل مداواتي طبيبي فقد * يرحمني للسقم حسادي
الهجر
ومن آفات الحب أيضاً الهجر، وهو على ضروب: فأولها هجر يوجبه تحفظ من رقيب حاضر؛ وإنه لأحلى من كل وصل، ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يوجب إدخاله في هذا الباب لرجعت به عنه ولأجللته عن تسطيره فيه. فحينئذ ترى الحبيب منحرفاً عن محبه مقبلاً بالحديث على غيره معرضاً بمعرض لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته. وترى المحب أيضاً كذلك. ولكن طبعه له جاذب، ونفسه له صارفة بالرغم، فتراه حينئذ منحرفاً كمقبل، وساكناً كناطق، وناظراً إلى جهة نفسه في غيرها. والحاذق الفطن إذا كشف بوهمه عن باطن حديثهما علم أن الخافي غير البادي، وما جهر به غير نفس الخبر، وأنه لمن المشاهد الجالبة للفتن والمناظر المحركة للسواكن الباعثة للخواطر المهيجة للضمائر الجاذبة للفتوة…
يتبع